أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد كامل ناصر - حين يعود المكان قلبًا آخر: قراءة نقدية في قصة -وحلوة يا بلدي- للكاتبة دعاء زعبي















المزيد.....

حين يعود المكان قلبًا آخر: قراءة نقدية في قصة -وحلوة يا بلدي- للكاتبة دعاء زعبي


أحمد كامل ناصر

الحوار المتمدن-العدد: 8527 - 2025 / 11 / 15 - 12:21
المحور: الادب والفن
    


عندما بدأت قراءة قصّة "وحلوة يا بلدي…" للكاتبة دعاء زعبي، شعرت بأنّني أمام تجربة أدبيّة لا تقتصر على السرد أو الوصف، بل تتجاوز ذلك إلى فضاء وجدانيّ متكامل، حيث تتشابك الذاكرة مع الحاضر، والطفولة مع زمن البلوغ، والحنين مع اللحظة الحاضرة التي تعود إليها الكاتبة لتعيد اكتشاف نفسها والمكان معًا. منذ السطور الأولى، بدا النصّ وكأنّه ينبض من الداخل، حاملاً حرارة صادقة وصدقًا شعوريًا لم يأت من فراغ، بل من مساحة عميقة من التجربة الشخصيّة والذاكرة المشبعة بالعاطفة، وهو ما منح القصّة قوّة فوريّة جعلت القارئ يعيش معها لحظةً بلحظة.
ركزت دعاء زعبي في نصّها على فكرة العودة، ليس بوصفها مجرّد استرجاع لمكان، بل كحركة نحو الذات واستعادة لمشاعر ضائعة، وإحياء لجوانب من الشخصيّة الأولى التي تركت أثرها العميق على كيانها. هذه العودة لم تكن حركة سطحيّة، بل فعلًا شعوريًا وجسديًا وفكريًا في آن واحد، حيث يمتزج ما هو ماض بما هو حاضر ليخلق حالة من الاستمراريّة العاطفيّة، تجعل القارئ يشعر بأنّ الحنين ليس شعورًا ثابتًا أو جامدًا، بل موجة تتدفق وتتصاعد، تضحك وتبكي في الوقت نفسه، وتعيد تشكيل الذات عبر المكان والذاكرة واللغة.
قوّة النصّ تكمن أيضًا في حضوره الطفوليّ المستمر، الذي لم يظهر استدعاء للذكريات، بل كعنصر فاعل يوجه الانفعالات ويدير المشهد الداخليّ للقصّة. الطفلة التي خرجت من داخل الكاتبة مطالبة بالزلابية لم تكن مجرّد مشهد كوميديّ أو لحظة طفوليّة بسيطة، بل كانت صوت الذاكرة الصادق الذي يعكس النزعة الأساسيّة للنصّ: إنّ العودة الحقيقيّة تبدأ من الطفلة الداخليّة، ومن ذات لا تكذب ولا تتظاهر، تبوح بكلّ ما لم يقال في الماضي. وهنا، أعطت الكاتبة لحظة بسيطة عمقًا غير متوقع، حيث يتحوّل الحنين إلى فعل حيّ، والحركة اليوميّة البسيطة إلى حدث شعوريّ بالغ الأهميّة.
عندما انتقلت الكاتبة في نصّها إلى لقاء الصديقات والمبادرات في مشروع "إحياء سوق العرائس"، لاحظت توازنًا دقيقًا بين التجربة الفرديّة والبعد الاجتماعيّ، إذ لم يغلق النصّ على الذات وحدها، بل فتح مساحة لتداخل الذكريات مع الحضور الجماعيّ، وهو ما أعطى النصّ بعدًا أكثر اكتمالًا، إذ بدا السوق ليس مجرّد مكان للطفولة أو الذكريات، بل كيانًا حيًا يشارك في إعادة الحياة والتجربة. كان الشكر الذي تقدمه الكاتبة للمبادرات ولرفيقات القراءة صادقًا جدًا، ينبع من تقدير حقيقيّ، لا من مجاملة شكليّة، كما لو أنّ هذه الشبكة من العلاقات الإنسانيّة ساعدت في إعادة إحياء ذكريات المكان نفسه. هنا، يمتزج الحنين الفرديّ مع شعور المجتمع الصغير الذي يشترك في صون التراث الثقافيّ والوجدانيّ، وهو ما يعكس قدرة النصّ على ربط التجربة الشخصيّة بالسياق الأكبر للأماكن والروابط الإنسانيّة.
اللغة التي استخدمتها دعاء زعبي في نصّها كانت دقيقة جدًا، متدفّقة بلا تكلف، شاعريّة بلا مبالغة، قادرة على خلق صور حسيّة حيّة دون أن تفقد بساطتها وصدقها. لقد نجحت في الانتقال بين لغة السرد اليوميّة ولغة وجدانيّة عالية النبرة بسلاسة رائعة، من دون أن يتعرض النصّ لأيّ كسر أو فجوة في الإيقاع. هذه القدرة على التوازن بين البساطة والعمق، بين الحدث والمشاعر، بين المشهد الخارجيّ والعمق النفسيّ، هي ما منح النصّ قوّته، وسمح للقارئ بأن يعيش التجربة بكلّ حواسّه، يسمع السوق، يشمّ رائحة الأزقّة القديمة، يشعر بفرحة الطفولة، ويبكي معها أحيانًا.
من حيث البناء الفنيّ، تميّز النصّ بتماسك لافت؛ فالقصّة تبدأ بالعودة وتنتهي بها، ويظلّ المكان محور كلّ تفاصيل النصّ: الأزقة، السوق، الصديقات، الطفلة، الزلابية، والقصيدة التي تختمّ النصّ. وحتى حين توزعت التفاصيل، بقي الخطّ الدائريّ للنصّ واضحًا: العودة إلى الذات، واستعادة الذكريات، وعيش الحنين بشكل حيّ. وقد أضاف الحوار الداخليّ للطفلة المتكلمة عنصرًا من المرح والديناميكيّة، مكّن النصّ من أن يتحرّك بين الضحك والدمع، بين الخيبة والفرح، دون أن يفقد نبرة البوح الصادقة.
لقد جاءت القصيدة في نهاية النصّ امتدادًا طبيعيًا للحركة الشعوريّة، وليس زخرفة خارجيّة. صحيح أنّ المقطع طويل نسبيًا مقارنة بحجم النصّ، إلّا أنّه انسجم مع سياق الحنين وامتداد التجربة العاطفيّة. المطر في النصّ هنا ليس عنصرًا مناخيًا فحسب، بل استعارة للحياة نفسها، للحركة، للحنين الذي يهطل فوق القلب، ويعيد تشكيل العلاقة بين الماضي والحاضر، بين المكان والذاكرة. ومن خلال هذه اللحظة الشعريّة، يظهر النصّ في أوج قوّته، حيث يمتزج الصوت الشعريّ مع صوت الكاتبة، فتتلاقى لغة الحنين مع لغة الشعر، ويولد انفعال مركب يربط بين الجسد والروح، بين الطفل الذي كان والبالغ الذي صار.
حين نتمعن في النص بتأن يظهر بشكل جليّ دلالات المكان والزمن والطفولة؛ فسوق الناصرة القديم يبدو علامة رمزية للذاكرة المشتركة والطفولة الضائعة. الأزقّة العتيقة والرائحة القديمة والضجيج المألوف كلّها عناصر تعمل معًا على خلق شعور بالحنين الدائم والعودة الممكنة، وتجعل القارئ يتساءل عن العلاقة بين المكان والهويّة، بين الماضي والوعي، وكيف يمكن للذاكرة أن تعيد تشكيل الحاضر بطريقة فنيّة دقيقة.
كما أنّ النصّ يظهر براعة واضحة في المزج بين السرد والنبرة الشعريّة، بين اللحظة الواقعيّة والرمزيّة، وهو ما يجعله قريبًا من "المقطوعة القصصية" أو النصوص التي تتقاطع فيها السرديّة مع البعد الشعوريّ. استخدام الاقتباس الشعريّ في النهاية لم يكن اختيارًا عشوائيًا، بل شكّل استمرارًا للتجربة العاطفيّة، حيث تستعاد فيها الذكريات، وتحتفل الطفلة الداخليّة بالحياة، وتصبح العودة إلى السوق مجازًا للعودة إلى الذات وإلى كلّ ما هو جميل في الطفولة والذاكرة.
إنّ النصّ في مجمله يظهر قدرة عالية على خلق توازن بين المشهد الخارجي، السوق، الأزقة، الباعة، الزلابية وبين المشهد الداخليّ القلب، الطفلة، الذكرى، وهذا التوازن ليس سهلاً، إذ تتطلب الكتابة عن الحنين معرفة دقيقة بكيفيّة التعامل مع الوقت النفسيّ والزمان الواقعيّ، وقد نجحت دعاء زعبي في تحقيق هذا الانسجام ببراعة.
كما أنّ النصّ مكتمل من حيث النبرة الإنسانيّة؛ فهو تحليل جماليّ للمكان، بل تجربة حياتيّة، شعور حيّ، سرد وجدانيّ متكامل يتيح للقارئ أن يعيش معه ويستعيد هو الآخر ذكرياته الخاصّة. النصّ يكتب العلاقة بين الإنسان والمكان، بين الطفل والبالغ، بين الذات الأولى والذات الحاليّة، ويمنح القارئ فرصة الشعور بأنّ العودة رحلة جسدية وقلبية ووجدانية شاملة.
وبالنظر إلى كلّ ما سبق، يبدو جليًا أنّ قصّة "وحلوة يا بلدي…" تجربة نقديّة - وجدانيّة متكاملة تعيد تعريف العلاقة بين الإنسان ومكانه، بين الماضي والحاضر، بين الذات الأولى والبالغ الذي صار، وتكشف عن قوّة الذاكرة في صناعة الحنين وتجسيد العاطفة. النصّ لا يكتفي بإعادة الحياة إلى السوق أو الأزقة القديمة، بل يحوّلها إلى فضاء حيّ متفاعل مع شخصيّة الكاتبة، ويتيح للقارئ أن يلمس هذه العلاقة ويعيش معها تجربة معرفيّة وعاطفيّة معًا. من خلال استخدامه للغة سلسة، تصوير حيّ، دمج بين السرد والشعر، ووجود الطفلة الداخليّة كعنصر فاعل، يقدّم النصّ نموذجًا ممتازًا للكتابة التي تمزج بين الصدق العاطفيّ والدقة الفنيّة، ويثبت أنّ الحنين ليس شعورًا جامدًا، بل حركة مستمرّة في الزمن وفي القلب. لذلك، يمكن القول: إنّ "وحلوة يا بلدي…" نصّ مكتمل من الناحيّة الفنيّة والوجدانيّة، يفتح آفاقًا للنقد والتحليل، ويستحق أن يقرأ ويدرّس كنموذج للقصّة المعاصرة التي تجمع بين المكان، الذات، والذاكرة في انسجام تامّ.

الطيرة 15.11.2025



#أحمد_كامل_ناصر (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البحث عن المعنى في مرايا الوجود: قراءة نقديّة موسّعة في قصيد ...
- الإنسان بين الصورة والغياب في قصّة -الواتسآب في خدمة المتقاع ...
- قراءة في قصّة -الأستاذ وحصّة النهايات- للكاتب جمال أسدي
- سخرية الموت واللغة في قصَّة -الجنازة- للأديب الفلسطينيّ محمد ...
- قراءة نقديّة في قصيدة -أكل الولد التفاحة- للشاعر تركي عامر
- الذكاء الاصطناعيّ بين الرفض والقبول
- جماليّات اللهجة العاميّة في القصّة الفلسطينيّة المعاصرة: بين ...
- النقد في غرفة الإنعاش: أزمة العلاقات الاجتماعيّة تقتل الجدلي ...
- بين الصّمت والمقاومة: قراءة في رواية -لتكن مشيئتك-
- فاضل جمال علي: شاعر الطفولة وصوت الهويّة الفلسطينيّة في أدب ...
- مِنَ الصَّوْتِ إِلى الصَّمْتِ إِسْتِرَاتِيجِيَّاتُ التَّعْبِ ...
- المعلِّمُ العربيُّ: من مصدرٍ للمعلوماتِ إلى مُوَجِّهٍ للمعرف ...
- جمال عبد الناصر القائد الذي سكن قلوب العرب
- محمد علي طه: عميد القصّة الفلسطينيّة بين التجربة الإنسانيّة ...
- الأطلال في الأدب الحديث: سرديّات الذاكرة والغياب
- أدونيس ورؤاه في ثقافة الفرد والحاكم العربي: جدلية المصلحة وا ...
- الأدباء بين التهميش والانتشار
- أثر الكتابة الرقمية ووسائط التواصل الاجتماعي على الأجناس الأ ...
- ردّ على مقال الدكتور رافع يحيى: الحداثة وما بعد الحداثة بين ...
- الأحزاب العربية في الكنيست: حضور بلا تأثير!


المزيد.....




- مصر.. إصابة الفنان أحمد سعد في ظهرة ومنطقة الفقرات بحادث سير ...
- أول تعليق لترامب على اعتذار BBC بشأن تعديل خطابه في الفيلم ا ...
- من الوحش إلى البطل.. كيف غير فيلم -المفترس: الأراضي القاحلة- ...
- من الوحش إلى البطل.. كيف غير فيلم -المفترس: الأراضي القاحلة- ...
- لقاء خاص مع الممثل المصري حسين فهمي مدير مهرجان القاهرة السي ...
- الممثل جيمس فان دير بيك يعرض مقتنياته بمزاد علني لتغطية تكال ...
- ميرا ناير.. مرشحة الأوسكار ووالدة أول عمدة مسلم في نيويورك
- لا خلاص للبنان الا بدولة وثقافة موحدة قائمة على المواطنة
- مهرجان الفيلم الدولي بمراكش يكشف عن قائمة السينمائيين المشار ...
- جائزة الغونكور الفرنسية: كيف تصنع عشرة يوروهات مجدا أدبيا وم ...


المزيد.....

- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد كامل ناصر - حين يعود المكان قلبًا آخر: قراءة نقدية في قصة -وحلوة يا بلدي- للكاتبة دعاء زعبي