|
بين الصّمت والمقاومة: قراءة في رواية -لتكن مشيئتك-
أحمد كامل ناصر
الحوار المتمدن-العدد: 8486 - 2025 / 10 / 5 - 16:13
المحور:
الادب والفن
تُعَدّ الكتابة الأدبيّة الفلسطينيّة، ولا سيّما في تجلّياتها النسويّة، منبرًا للتعبير عن الهويّة الفرديّة والجماعيّة، كما تكشف عن التداخل المعقّد بين التجربة الشخصيّة للمرأة وظروفها الاجتماعيّة والسياسيّة. فقد شكّلت الكاتبات الفلسطينيّات خلال العقود الأخيرة رافدًا مهمًّا للأدب العربيّ الحديث، من خلال معالجة قضايا المرأة والحرّيّة والمقاومة، ومزج الهمّ الوطنيّ بالذاتيّ، وبين التجربة الفرديّة والجماعيّة. في هذا السياق، تبرز رواية لتكن مشيئتك للكاتبة الفلسطينيّة دعاء زعبي (2025) كإضافة نوعيّة إلى المشهد الأدبيّ النسويّ الفلسطينيّ المعاصر، لما تتّسم به من جرأة في تناول القضايا الاجتماعيّة والنفسيّة للمرأة، وقدرة على توظيف اللّغة الشعريّة والرمزيّة لتجسيد الصوت الداخليّ للذّات النسويّة. لا تقف الرواية عند حدود السرد الواقعيّ فحسب، بل تنفتح على مستويات وجدانيّة وجماليّة تمنح النصّ بعدًا عميقًا يُتيح للقارئ التفاعل معه على أكثر من صعيد. ومن هنا، يهدف هذا المقال إلى مقاربة الخصائص الفنيّة والنفسيّة والاجتماعيّة في رواية لتكن مشيئتك، من خلال تحليل بنيتها السرديّة وأبعادها الرمزيّة، ومقارنتها بتجارب بارزة في الأدب النسويّ الفلسطينيّ مثل: أعمال سحر خليفة، وليانة بدر، وحُزامة حبايب، وذلك في إطار قراءة نقديّة تستكشف موقع الرواية ضمن سياق الكتابة النسويّة الفلسطينيّة المعاصرة. تبدأ الرواية بسرد رحلة البطلة منى في سعيها لفهم ذاتها وتحديد موقعها داخل شبكة العلاقات العائليّة والاجتماعيّة التي تخنق حريّة المرأة وتحدّ من قدرتها على اتخاذ القرار. منذ الصفحات الأولى، يظهر أنّ منى تعيش حالة انقسام داخليّ بين طموحها الشخصيّ في تحقيق ذاتها ورغبتها في التحرّر من القيود، وبين إكراهات الواقع الذي يفرض عليها أدوارًا نمطيّة باعتبارها ابنة وأختًا وامرأة في مجتمع محافظ. هذا الصراع الداخليّ يتجلّى في مونولوجاتها الطويلة، حيث نسمع صوتها وهي تحاور نفسها: "أقف بين المرآة والباب، بين أن أكون كما يريدون أو كما أريد أنا" (زعبي، 2025، ص. 47). ومن خلال هذه الرحلة النفسيّة، ترسم زعبي خريطة معقّدة لتجربة المرأة الفلسطينيّة المعاصرة، إذ يتداخل الفرديّ بالجمعيّ، ويتحوّل السرد إلى مساحة لمساءلة الموروث الاجتماعيّ والسياسيّ. كما أنّ شخصيّة منى لا تُقدَّم بوصفها ضحيّة فحسب، بل أيضًا بوصفها باحثة عن معنى لحياتها، تسعى لخلق توازن بين صوتها الداخليّ وضغوط المحيط، وهو ما يضفي على الرواية بعدًا إنسانيًّا عامًّا يتجاوز حدود التجربة الفرديّة ليعكس مأزق المرأة الفلسطينيّة في زمن الاحتلال والتقاليد. ما يميّز رواية لتكن مشيئتك هو تركيزها على الصوت الداخليّ للمرأة، إذ يصبح متن الرواية الأساسيّ ومحرّكها السرديّ الأوّل، ويعكس وعيًا عميقًا بالذات الفرديّة في مواجهة القيود الاجتماعيّة والسياسيّة. يظهر هذا الصوت ليس في شكل حوارات خارجيّة فحسب، بل من خلال المونولوج الداخليّ، والتداعي الحرّ، والاسترجاع، ما يضع القارئ مباشرةً في مواجهة أعماق البطلة ومخاوفها وتطلّعاتها. تقول منى في أحد المقاطع: "أسمع صوتي مكتومًا تحت جدار البيت، لكنّه يعود أقوى كلّما حاولوا إسكاتي" (زعبي، 2025، ص. 52)، وهو تعبير لا ينقل المعاناة فقط، بل يرسم صورة رمزيّة لصراع المرأة من أجل الاعتراف بوجودها. هذا التركيز على الداخل النفسيّ يميّز أسلوب زعبي عن كثير من الأعمال الفلسطينيّة الأخرى التي تنشغل بالصراع الخارجيّ مع الاحتلال أكثر من انشغالها بالبعد النفسيّ للشخصيّة. ففي رواية الصّبّار لسحر خليفة، تسعى البطلات إلى التغيير عبر الفعل الاجتماعيّ والمقاومة (راجع خليفة، 2002، ص. 74)، بينما تجعل زعبي من الصوت الداخليّ مسرحًا لمقاومة صامتة، لكنّها متجذّرة في الأعماق. بهذا، يصبح النصّ أكثر قربًا من التجربة الإنسانيّة العامّة، إذ يجد القارئ نفسه في مساحة داخليّة تعكس قلقه وأسئلته أيضًا. علاوة على ذلك، يتيح الصوت الداخليّ التعبير عن المسكوت عنه، بما في ذلك الرغبات والهواجس والخيبات العاطفيّة التي غالبًا ما يتمّ تجاهلها في الأدب الفلسطينيّ ذي الطابع السياسيّ المباشر. وبهذا المعنى، تقدّم الرواية محاولة لإعادة تعريف مفهوم المقاومة، ليس فقط كفعل جماعيّ، بل كرحلة فرديّة داخل الذّات نحو التحرّر من القيود النفسيّة والاجتماعيّة. من جهة أخرى، تقدّم سحر خليفة في رواية الصبّار بطلاتٍ يسعين إلى استعادة هويتهنّ عبر الفعل الاجتماعيّ المباشر والانخراط في المقاومة السياسيّة، حيث تُصوَّر المرأة بوصفها جزءًا فاعلًا في معركة التحرّر الوطنيّ. يظهر ذلك في تحوّل الشخصيّات النسويّة إلى رموز للصمود والعمل الجماعيّ، فيذوب صوتها الفرديّ داخل الهمّ العامّ، لتغدو المرأة المناضلة تجسيدًا للقضيّة الوطنيّة أكثر من كونها ذاتًا تبحث عن خلاصها الخاصّ (خليفة، 2002، ص. 74). أمّا ليانة بدر في نجوم أريحا، فتميل إلى إبراز الشخصيّات النسويّة في مواجهة مزدوجة: الاحتلال من جهة، والبنيّة الاجتماعيّة التقليديّة من جهة أخرى. غير أنّ تركيزها الأوضح ينصبّ على تصوير التوتّرات الخارجيّة، أي الصراع مع الاحتلال وتبعاته المباشرة، في حين تظلّ الأصوات الداخليّة للشخصيّات حاضرة، ولكنّها غير متقدّمة في بناء السرد، إذ تندرج غالبًا في إطار الحكاية الكبرى عن النكبة والشتات (أنظر بدر، 2015، ص. 112). في المقابل، تأتي دعاء زعبي في لتكن مشيئتك لتكسر هذا النمط، عبر جعل الصوت الداخليّ للمرأة متن السرد الأساسيّ، لا مجرد عنصر مكمّل. فهي تغوص في تفاصيل الذات الأنثويّة وتناقضاتها، لتكشف عن الهواجس والرغبات والصراعات الصامتة التي تشكّل جوهر التجربة النسويّة. ومع ذلك، لا يُلغى البعد الاجتماعيّ والسياسيّ، بل يُعاد صياغته من خلال منظور الذّات، ما يخلق توازنًا بين الحميميّ والعامّ، بين النفس الفرديّة والقضيّة الجماعيّة. وهنا تتجلّى فرادة زعبي في قدرتها على جعل البوح الداخليّ قوّة سرديّة تعادل في أهميتها حضور المقاومة الخارجيّة. وإذا كانت زعبي تنحت عالمها من الدّاخل، فإنّ حُزامة حبايب في رواية مخمل تتّجه إلى تصوير القهر الاجتماعيّ والسياسيّ من زاوية أكثر واقعيّة وقسوة، حيث تتجلّى معاناة المرأة الفلسطينيّة في المخيم بكلّ تفاصيلها المعيشيّة القاسية: الفقر، الاغتراب، الجسد بوصفه ساحة للخذلان والمقاومة في آن واحد. تطرح حبايب نماذج نسويّة واقعيّة غارقة في الجراح اليوميّة، لتؤكّد على أنّ مأساة المرأة الفلسطينيّة لا تقتصر على الاحتلال، بل تمتدّ إلى البنية الاجتماعيّة ذاتها (راجع حبايب، 2016، ص. 89). بالمقارنة مع هذا التوجّه الواقعيّ الصارخ، تبدو زعبي أكثر ميلاً إلى الرمزيّة والشاعريّة في التعبير عن الألم والأمل، إذ تستعيض عن المباشرة السياسيّة والاجتماعيّة بلغة ذات طابع داخليّ تأمليّ، حيث يصبح المطر والنبعة رموزًا للتطهّر والتجدّد والأمل المستقبليّ. إنّ هذه المقارنة بين خليفة وبدر وحبايب تكشف عن موقع زعبي المميّز في الأدب النسويّ الفلسطينيّ المعاصر: فهي لا تذيب صوت البطلة في الهمّ الجماعيّ كما عند خليفة، ولا تجعلها مجرّد جزء من الحكاية الوطنيّة الكبرى كما عند بدر، ولا تحصرها في واقعيّة الجسد الجريح كما عند حبايب، بل تمنحها مساحة داخليّة عميقة تُعيد صياغة العلاقة بين الذات والآخر، بين الداخل والخارج، في مزيج يجمع التجربة الفرديّة بالهمّ الجمعيّ. إلى جانب ذلك، توظّف زعبي الرمزيّة الذكيّة في النصّ لتقوية البُعد النفسيّ والاجتماعيّ، حيث يمثّل المطر والنبعة رموزًا للتطهير والتجدّد والأمل، فيتحوّل المطر إلى فعل وجوديّ يوازي ولادة جديدة. تقول البطلة: "انهمر المطر على وجهي كغسلٍ للعار الذي ألصقوه بي" (زعبي، 2025، ص. 123). هنا لا يتوقّف المطر عند بعده الطبيعيّ، بل يصبح رمزًا لإزالة ثِقل القهر الاجتماعيّ وتطهير الذات من أحكام الآخرين، ما يربط بين الطبيعة والبعد الداخليّ للشخصيّة. هذه الرمزيّة تنقل القارئ من الحسيّ الملموس إلى التجريديّ النفسيّ، لتُظهر كيف يمكن للعناصر الكونيّة أن توازي رحلة الذات في البحث عن خلاصها. هذا الاستخدام الرمزيّ قريب ممّا نراه عند رضوى عاشور في الطنطوريّة، حيث يتحوّل المكان إلى أكثر من مجرد إطار للسرد، بل يصبح حاملاً للذاكرة الجماعيّة ووسيلة لإحياء المقاومة (عاشور، 2010، ص. 114). غير أنّ الفرق الجوهريّ بين الكاتبتين يكمن في أنّ عاشور تنحاز إلى جماعيّة الذاكرة، أي أنّ المكان ينهض بوظيفة تأكيد الانتماء والصمود، بينما تركّز زعبي على الفرديّة العاطفيّة والوجوديّة، بحيث يُعاد توظيف الرموز الطبيعيّة (المطر، النبعة، الضوء) لإبراز لحظة التجدّد الداخليّ للمرأة بعيدًا عن التوظيف المباشر للرموز في خدمة السرد الوطنيّ. يمكن القول: إنّ زعبي تعيد صياغة الرمزيّة بما يخدم البنية النفسيّة للنصّ، فلا تتحوّل الرموز إلى شفرات مغلقة أو إلى علامات أيديولوجيّة، بل تبقى متجذّرة في التجربة الفرديّة للشخصيّة. هذا ما يمنح الرواية خصوصيّة وفرادَة، إذ تنفتح على المشترك الإنسانيّ من خلال خصوصيّة التجربة النسويّة الفلسطينيّة، وتقدّم نموذجًا أدبيًّا يوازن بين المحليّ والإنسانيّ. من ناحية أخرى، تتميّز لتكن مشيئتك بالثراء الشعوريّ والبلاغة التصويريّة، حيث تمزج الكاتبة بين السرد الواقعيّ واللّغة الشعريّة في بناء النصّ. تقول البطلة: "أشعر أنّ المطر حين يطرق نافذتي ليس ماءً، بل أصابع أمي التي لمست وجهي يوم وداعها الأخير" (زعبي، 2025، ص. 124). في هذا المقطع، يتجلّى كيف تُحوّل زعبي تفاصيل الحياة اليوميّة إلى صور ذات بعد وجدانيّ عميق، بحيث يتجاوز المطر معناه الطبيعيّ ليصبح جسرًا بين الحاضر والماضي، بين الواقع الخارجيّ والذاكرة الداخليّة، وبين الوجود الفرديّ والحنين إلى الآخر الغائب. إنّ هذا التوظيف للغة يبرز قدرة الكاتبة على إعادة تشكيل الحواسّ عبر الاستعارة الشعريّة، ما يمنح التجربة السرديّة قوّة إيحائيّة تتجاوز السرد المباشر. ولعلّ هذا الأسلوب يقارب ما نراه عند سحر خليفة التي تميل أحيانًا إلى استخدام نبرة شعريّة في الصبار، غير أنّها غالبًا ما تُسخّر اللّغة الشعريّة في خدمة الفعل الاجتماعيّ والجماعيّ (خليفة، 2002، ص. 74). أمّا عند زعبي، فتنصبّ الشاعريّة على العالم الداخليّ للبطلة، لتكشف عن مشاعر دقيقة يصعب التعبير عنها بلغة نثريّة عاديّة. هنا تتضح الفوارق في التوجّه: خليفة تكتب شعريّة المقاومة، بينما زعبي تكتب شعريّة الذّات. وإذا وسّعنا دائرة المقارنة، نجد أنّ ليانة بدر في نجوم أريحا تميل إلى لغة شاعريّة أيضًا، لكنّها ترتبط بالفضاء المكانيّ، بالقدس وأريحا وما تحمله من رمزيّة تاريخيّة (بدر، 2015، ص. 119). بينما في لتكن مشيئتك، تظلّ الشاعريّة متجذّرة في المشاعر الفرديّة: (الحنين، الألم، التوق إلى الطمأنينة). إنّ هذا التركيز يجعل القارئ يتفاعل مع النصّ على مستوى وجدانيّ مباشر، كأنّه يشارك البطلة إحساسها الشخصيّ، لا مجرد قراءة حكايتها. يمكن القول: إنّ اللّغة الشعريّة عند زعبي ليست زينة جماليّة فحسب، بل أداة بنائيّة أساسيّة تضفي عمقًا على الشخصيّات والمحاور النفسيّة، وتحوّل التجربة الروائيّة إلى نصّ يتأرجح بين السرد الواقعيّ والقصيدة النثريّة، في مزيج يميّزها عن كثير من كاتبات جيلها. وفي سياق متّصل، تؤدّي الشخصيّات الثانويّة أدوارًا محوريّة في لتكن مشيئتك، ليس فقط بوصفها عناصر مكمّلة للسرد، بل كمرآة تكشف جوانب خفيّة من تجربة البطلة وتسلّط الضوء على التحديّات التي تواجهها المرأة الفلسطينيّة. تصف البطلة أمّها بقولها:" كانت أمّي تصمت كثيرًا، لكنّ صمتها كان أبلغ من خطب طويلة، كنت أقرأ في عينيها ما لم تجرؤ على قوله" (زعبي، 2025، ص. 89). هذا الوصف يضع الأمّ في موقع رمزيّ مزدوج: فهي من جهة تمثل الصمت المجتمعيّ الموروث، الذي يفرض على النساء الانسحاب من التعبير العلنيّ، ومن جهة أخرى تتحوّل إلى صوت خفيّ ينعكس في أعماق البطلة، فيشكّل جزءًا من بنيتها النفسيّة وتناقضاتها. بهذا المعنى، لا تبدو الشخصيّات الثانويّة عند زعبي مجرّد أدوات تحريك للأحداث، بل تتحوّل إلى عناصر فاعلة في بناء العمق النفسيّ والرمزيّ للنصّ. الأمّ رمز لصمت الأجيال السابقة، والأب يحضر كظلّ قمعيّ يثقل الحاضر، والأصدقاء أو الزملاء يظهرون كإشارات إلى احتمالات التغيير، لكنّها تظلّ احتمالات مؤجّلة أو مهدّدة. إنّ هذه الشبكة من الشخصيّات تمنح الرواية بعدًا دراميًّا داخليًّا يجعل القارئ يشارك البطلة قلقها وارتباكها الوجوديّ. بالمقارنة، نجد أنّ ليانة بدر في نجوم أريحا تميل إلى جعل الشخصيّات الثانويّة تمثيلات اجتماعيّة مباشرة: (الجارة، العجوز، الرفيق)، كلّ منهم يعكس موقفًا من الاحتلال أو من البنية التقليديّة (بدر، 2015، ص. 115). هذه الشخصيّات غالبًا ما تُستخدم لتوسيع أفق الرواية الخارجيّ، لكنّها لا تُعطى مساحة كافية لتجسيد تعقيدات نفسيّة عميقة. أمّا سحر خليفة، فتستثمر الشخصيّات الثانويّة كأدوات لبلورة الصراع السياسيّ والاجتماعيّ، بحيث تتحول إلى رموز للعمل الجماعيّ، دون التوغّل في مساحاتها الوجدانيّة الخاصّة. هنا يتضح التمايز الذي تحققه زعبي: إذ تمنح الشخصيّات الثانويّة بعدًا حميميًّا ووجدانيًّا يجعلها قادرة على التفاعل مع البطلة على مستوى داخليّ، لا مجرد خارجيّ. وبهذا، تتجاوز الرواية التوظيف التقليديّ لهذه الشخصيّات لتصبح جزءًا من البنية الرمزيّة والنفسيّة للنصّ، مما يعكس رؤية أدبيّة ترى في كلّ شخصيّة، مهما كانت ثانويّة، صدى لتجربة إنسانيّة كاملة. بالإضافة إلى ذلك، تتناول لتكن مشيئتك الصراع المعقّد بين المرأة والمجتمع التقليديّ، حيث تُصوَّر البطلة وكأنّها تعيش تحت مجهر اجتماعيّ لا يرى إلا أخطاءها، في حين تُهمّش إنجازاتها أو لحظات قوتها. تقول البطلة: "هم لا يرونني إلّا حين أخطئ، وحين أصيب يمرون بي كما يمرّ الغريب بباب بيت مهجور" (زعبي، 2025، ص. 51). هذا التعبير المكثّف لا يعبّر عن تجربة فرديّة فحسب، بل يكشف عن صورة معمّقة لواقع المرأة الفلسطينيّة في ظلّ مجتمع ذكوريّ محافظ، يفرض عليها التقييم الدائم ويقيّد حركتها بين العيب والواجب، وبين الطموح والرقابة. يظهر هنا وعي الكاتبة بالنقد الاجتماعيّ، حيث تنقل صورة مأزق المرأة بين توقها إلى الاعتراف وواقع التجاهل الممنهج. في هذا السياق، تلتقي زعبي مع حُزامة حبايب في مخمل، حيث تواجه الشخصيّات النسائيّة قيود المجتمع القاسي في المخيم، لكنّ حبايب تركّز بدرجة أكبر على تجسيد الصراع في فضاء خارجيّ ملموس: (الفقر، الاحتلال، والخيبات اليومية)، إذ تتحوّل الجغرافيا المكانيّة إلى مسرح لتجسيد قهر المرأة (حبايب، 2018، ص. 92). غير أنّ زعبي تذهب أبعد في تفكيك البنية النفسيّة لهذا الصراع، حيث لا تكتفي بتصوير القيود الموضوعيّة، بل تغوص في الطريقة التي تتغلغل بها هذه القيود في وعي البطلة ووجدانها، لتصبح جزءًا من حديثها الداخليّ وهواجسها الدفينة. أما سحر خليفة، فتميل في الصّبّار إلى إبراز الصراع الاجتماعيّ كجزء من الفعل المقاوم، بحيث يتحوّل تمرّد المرأة على المجتمع إلى خطوة في مسار تحرّر وطنيّ أشمل (خليفة، 2002، ص. 76). بالمقابل، تتعامل زعبي مع هذا الصراع بصفته رحلة شخصيّة أكثر منه خطوة سياسيّة، فتركّز على الأبعاد النفسيّة الدقيقة: (شعور التهميش، صعوبة التعبير، والخوف من الانكسار أمام سلطة الجماعة). إنّ هذه المقارنة تكشف عن خصوصيّة أسلوب زعبي في تقديم صورة المرأة الفلسطينيّة: فهي لا تُختزل في رمز جماعيّ أو ضحيّة ظرف خارجيّ، بل تُقدَّم كذات فرديّة متوتّرة، تمزج بين الألم والرغبة في التحرّر، لتصبح الرواية فضاءً لعرض التناقضات الإنسانيّة في مواجهة البنية الاجتماعيّة التقليديّة. إلى جانب ذلك، تحمل الرواية بعدًا عاطفيًّا وإنسانيًّا، يتجلّى بوضوح في تصوير علاقة البطلة بالحبّ والخيانة والتعلّق العاطفيّ، وهو بعد يغذّي البنية النفسيّة للنصّ ويضفي عليه عمقًا إنسانيًّا يتجاوز القضايا السياسيّة والاجتماعيّة. تقول البطلة: "أحببته كمن يتشبّث بخشبة نجاة، لكنّه تركني وسط الغرق"(زعبي، 2025، ص. 144). في هذه الجملة المركّزة، تتجلّى الصراعات الداخليّة للبطلة: (التعلّق، الخيبة، الرغبة في الإنقاذ، والشعور بالخذلان)، وهي كلّها عناصر تجعل النصّ مأوى لتجربة وجدانيّة غنيّة. هذا البعد العاطفي يظهر حساسيّة الكاتبة الشديدة تجاه التجربة الإنسانيّة الفرديّة للمرأة، حيث لا تُعرض الحبّ والخيانة كمجرد أحداث، بل كمساحات للتعبير عن التوتّر النفسيّ والمعاناة الوجوديّة. ومن خلال هذا التركيز، تنجح زعبي في منح القارئ إمكانيّة التعاطف المباشر مع البطلة، والانغماس في مشاعرها، بحيث تصبح تجربة النصّ تجربة وجدانيّة متكاملة تتصل بكلّ مستويات الصراع الشخصيّ والاجتماعيّ. وبالمقارنة مع سحر خليفة في الصبّار، نجد أنّ الأخيرة تميل إلى تقديم الحبّ والعلاقات العاطفيّة ضمن إطار أوسع مرتبط بالمقاومة والتغيير الاجتماعيّ والسياسيّ (خليفة، 2002، ص. 78). بالمقابل، تركز زعبي على الجانب الحميميّ والذاتيّ للصراع العاطفيّ، فتجعل منه مرآة للذّات الداخليّة، لا أداة لدفع الحكاية السياسيّة أو الاجتماعيّة فقط. هذا التوجّه يعكس قدرة الكاتبة على مزج الانفعال الشخصيّ بالوعي الاجتماعيّ، ليصبح النصّ مساحة متكاملة تُعبّر عن الذات الفلسطينيّة بكلّ أبعادها: (العاطفيّة، النفسيّة، والاجتماعيّة). كما تمتاز الرواية بقدرتها على دمج الحاضر بالماضي واستدعاء الذكريات بطريقة تثري النصّ دون أن تفقد تماسكه السرديّ. تقول البطلة: "كلما مررت بالنبعة شعرت أنّ طفولتي تخرج من بين الحجارة، تضحك ثم تختفي" (زعبي، 2025، ص. 90). في هذا المقطع، تتحوّل الذكريات إلى عنصر فعّال في بناء الشخصيّة والنسيج النفسيّ للرواية، حيث يتيح القارئ رؤية البطلة في تواصل مستمر مع طفولتها وتجاربها السابقة، مما يجعل الصراع الداخليّ أكثر وضوحًا وعمقًا. يخلق هذا الأسلوب بعدًا زمانيًّا متشابكًا، يقدّم الماضي والحاضر كطبقات متداخلة، وليس كخلفيّات زمنيّة ثابتة، وهو ما يعزّز البعد النفسيّ ويقوّي الإدراك العاطفيّ للشخصيّات. هنا يمكن ملاحظة القرب الأسلوبيّ من رضوى عاشور في رواية الطنطوريّة، حيث يصبح المكان والذاكرة أدوات لاستحضار الماضي وربطه بالحاضر، لكنّ الفارق الجوهريّ يكمن في تركيز زعبي على الداخل النفسيّ الفرديّ للمرأة، بينما تركز عاشور أكثر على البعد الجماعيّ والذاكرة الوطنيّة (عاشور، 2010، ص. 117). بهذا، توفّر زعبي تجربة قراءة متعدّدة الطبقات: السرد الواقعيّ يتوازى مع الذاكرة الرمزيّة، والصوت الداخليّ للبطلة يقود القارئ عبر متاهة الماضي والحاضر، ليصبح الزمن في الرواية ليس مجرد إطار للأحداث، بل أداة لفهم الذات، والوعي بالنفس، والتفاعل مع المجتمع المحيط. تجدر الإشارة إلى أنّ بعض فقرات المونولوج الداخليّ في الرواية كثيفة وطويلة، ما قد يبطئ أحيانًا إيقاع السرد ويجعل الانتقال بين الأحداث أبطأ (راجع زعبي، 2025، ص. 123-125). غير أنّ هذا الأسلوب لا يمكن النظر إليه على أنّه عيب تقنيّ فحسب، بل هو خيار فنيّ واعٍ من قبل الكاتبة، يتيح للقارئ الغوص بعمق في الداخل النفسيّ للبطلة، وفهم تفاصيل صراعها العاطفيّ، النفسيّ والاجتماعيّ. فطول المونولوج يمكّن الرواية من استكشاف التوتّرات الداخليّة والهواجس الموروثة، ما يجعل تجربة القراءة أكثر حميميّة وتأمليّة. من منظور نقديّ، يمكن القول: إنّ هذا الأسلوب يعكس توازنًا بين الشكلّ والمضمون: على الرغم من البطء النسبيّ في حركة السرد، فإنّ المونولوج الداخليّ يثري النصّ، ويقدّم صورة كاملة عن البعد النفسيّ والعاطفيّ للمرأة الفلسطينيّة، ويجعل من الرواية مساحة متكاملة لاستكشاف الذات والهويّة والتجربة النسويّة. وهكذا، يصبح البطء أداة فنيّة تضيف عمقًا وجدانيًّا وتأمليًّا للنصّ، دون أن تهدّد تماسكه السرديّ. في الختام، تمثّل رواية لتكن مشيئتك إنجازًا بارزًا في الأدب النسويّ الفلسطينيّ المعاصر، إذ تبرز قوّة الصوت الداخليّ للمرأة، وعمق التجربة النفسية والاجتماعيّة، وحساسيّة العلاقة بين الفرد والبيئة والمجتمع. من خلال المزج بين اللّغة الشعريّة، الرمزيّة الذكيّة، التركيز على الصوت الفرديّ، البعد العاطفيّ، وتوظيف الماضي والحاضر في بناء سرد متشابك، تثبت الرواية قدرة المرأة الفلسطينيّة على التعبير عن ذاتها وتحديد مصيرها رغم القيود الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة. إن نصّ الكاتبة دعاء زعبي لا يقدّم مجرد سرد لتجربة شخصيّة، بل يقدم رحلة إنسانيّة متكاملة، يتيح من خلالها القارئ التعرف على التعقيدات النفسيّة للمرأة، ومواجهة القيود الاجتماعيّة، واستكشاف صراعها العاطفيّ والوجدانيّ، مع الحفاظ على تماسك السرد وغناه الفنيّ. كما أنّ الشخصيّات الثانويّة، والرموز الطبيعيّة، والمونولوجات الداخليّة، تضيف أبعادًا متبادلة بين الذات والمجتمع، فتخلق نصًا غنيًّا متعدد الطبقات. وبذلك، تصبح رواية لتكن مشيئتك دعوة للاعتراف بصوت المرأة الفلسطينيّة كفاعل أساسيّ في المجتمع، ومساهمة قويّة في إثراء الخطاب الأدبيّ العربيّ النسويّ، بما يجعلها نموذجًا معاصرًا للكتابة النسويّة الفلسطينيّة التي توازن بين الحريّة الفرديّة والوعي الاجتماعيّ والسياسيّ، وتؤكّد على أنّ التجربة النسويّة يمكن أن تكون في الوقت نفسه شخصيّة وجماعيّة، داخليّة وموضوعيّة، حميميّة وعامّة. الطيرة- 5.10.2025 ثبت بالمراجع زعبي ، 2025 زعبي، دعاء. (2025). لتكن مشيئتك. دمشق: دار ورد. خليفة(أ)، 2002 خليفة، سحر. (2002). الصبار. عمان: دار الآداب. عاشور، 2010 عاشور، رضوى. (2010). الطنطورية. القاهرة: دار الشروق بدر،2015 بدر، ليانة. (2015). نجوم أريحا. رام الله: دار الفجر. حبايب، 2018) حبايب، حزامة. (2018). مخمل. غزة: دار النهضة.
#أحمد_كامل_ناصر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فاضل جمال علي: شاعر الطفولة وصوت الهويّة الفلسطينيّة في أدب
...
-
مِنَ الصَّوْتِ إِلى الصَّمْتِ إِسْتِرَاتِيجِيَّاتُ التَّعْبِ
...
-
المعلِّمُ العربيُّ: من مصدرٍ للمعلوماتِ إلى مُوَجِّهٍ للمعرف
...
-
جمال عبد الناصر القائد الذي سكن قلوب العرب
-
محمد علي طه: عميد القصّة الفلسطينيّة بين التجربة الإنسانيّة
...
-
الأطلال في الأدب الحديث: سرديّات الذاكرة والغياب
-
أدونيس ورؤاه في ثقافة الفرد والحاكم العربي: جدلية المصلحة وا
...
-
الأدباء بين التهميش والانتشار
-
أثر الكتابة الرقمية ووسائط التواصل الاجتماعي على الأجناس الأ
...
-
ردّ على مقال الدكتور رافع يحيى: الحداثة وما بعد الحداثة بين
...
-
الأحزاب العربية في الكنيست: حضور بلا تأثير!
-
المناهج التعليميّة لا تواكب العصر ولا تلبي احتياجات سوق العم
...
-
من الصمت إلى الصوت: إصلاح التعبير الشفوي في التعليم الابتدائ
...
-
تراجع الأدب العربي في مطلع القرن الحادي والعشرين: بين الواقع
...
-
ضعف تمثيل النساء العربيات في مواقع القرار في الداخل الفلسطين
...
-
هل الأدبُ يعكسُ الواقعَ النفسيّ أم يشكّله؟ قراءةٌ نقديّةٌ في
...
-
الإدمان الرقمي.. حياة مسروقة خلف الضوء الأزرق
-
الشعر في زمن الفيسبوك والواتساب وتحوّلات صورة الشاعر العربي
...
-
هل يمكن تحقيق الوحدة وإعادة بناء القائمة المشتركة
-
دور المرأة في التعليم بالداخل الفلسطيني: وقائع وفرص وتحديات
المزيد.....
-
منتدى الفحيص يحتفي بأم كلثوم في أمسية أرواح في المدينة بمناس
...
-
الطاهر بن عاشور ومشروع النظام الاجتماعي في الإسلام
-
سينما الجائحة.. كيف عكست الأفلام تجربة كورونا على الشاشة؟
-
فتح مقبرة أمنحتب الثالث إحدى أكبر مقابر وادي الملوك أمام الز
...
-
الفنان فضل شاكر يُسلم نفسه للسلطات اللبنانية بعد 13 عاما من
...
-
ابنة أوروك: قراءة أسلوبية في قصيدة جواد غلوم
-
الطيب بوعزة مناقشا فلسفة التاريخ: هل يمكن استخراج معنى كلي م
...
-
لبنانية تحقق حلمها الجامعي بعمر 74 عامًا وتلهم الأجيال في تخ
...
-
قبول حماس لخطة ترامب.. إشكالية تختبئ خلف -اللغة الحذرة-
-
ثبتها وتابع أحدث البرامج الثقافية على تردد قناة ناشيونال جيو
...
المزيد.....
-
مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
فرس تتعثر بظلال الغيوم
/ د. خالد زغريت
-
سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي
/ أبو الحسن سلام
-
الرملة 4000
/ رانية مرجية
-
هبنّقة
/ كمال التاغوتي
-
يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025
/ السيد حافظ
-
للجرح شكل الوتر
/ د. خالد زغريت
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
المزيد.....
|