أحمد كامل ناصر
الحوار المتمدن-العدد: 8522 - 2025 / 11 / 10 - 16:55
المحور:
الادب والفن
حين قرأت قصّة "الأستاذ وحصّة النهايات" لجمال أسدي، شعرت أنني لا أقرأ مجرّد حكاية عن التقاعد أو عن أستاذ بلغ الثامنة والستين فودّع طلابه، بل كنت أقرأ عن نفسي، عن كلّ من وجد نفسه على حافة ما يُسمّى “النهاية”، يلتفت وراءه ليحصي السنوات، ثم يكتشف أنّه ما زال قادرًا على الحلم. وجدت في هذه القصّة شيئًا يشبه النَفَس الأخير الذي يسبق الولادة، شيئًا يشبه الشعر المكتوب على جسد الزمن، وجدت إنسانًا يشيّع عمره القديم وهو يزرع بذورًا لعمر آخر في التربة ذاتها. شعرت أنّ الشيخوخة في هذا النصّ ليست مرحلة من الحياة، بل صيغة أخرى للوعي، لغة ثانية نتعلمها ببطء ونحن نحاول ترجمة العالم من جديد.
جمال أسدي لا يكتب عن التقاعد، بل عن لحظة الاصغاء إلى الصمت حين يبتلع الأصوات اليوميّة. هو لا يرثي أستاذًا غادر الجامعة، بل يحتفي بإنسانٍ اكتشف أنّ التعليم الحقيقيّ يبدأ حين لا يعود ملزمًا بالجداول واللجان والمواعيد. هذا التبدّل هو قلب النصّ، وهو ما جعلني أتباطأ أثناء القراءة كمن يخاف أن ينهي شيئًا جميلًا قبل أوانه.
منذ الجملة الأولى، شدّتني نبرة الراوي: “بلغتُ الثامنة والستين، لا بفعل الزمن، بل بفعل خطأٍ حسابيٍّ في دوائر الدولة.” هنا يبدأ النصّ بمزحة خفيفة، لكنّها تخفي خلفها سخرية مريرة من عبث الزمن ومن المؤسسات التي تقيس العمر بالأرقام لا بالنبض. هذه النبرة الساخرة رافقتني حتى النهاية، وكنت أجد فيها نوعًا من المقاومة الهادئة للذبول. حين قال الراوي: “ضحكتُ، لكنّ ركبتَيّ لم تضحكا”، شعرت أنّه يكتب الجملة عن كلّ من يشعر بأنّ جسده بدأ يخونه بينما تظلّ روحه يقظة ترفض الانطفاء. إنّ هذه المفارقة بين الضحك والعجز الجسديّ هي المفتاح الذي يفتح باب النصّ كلّه، فهي تجعلنا نرى الشيخوخة لا كعطبٍ، بل كحكمة مكتوبة على جسدٍ لم يعد مرنًا لكنّه صار شفافًا.
ما أحببته في هذا النصّ أنّه لا يستجدي التعاطف، ولا يقع في فخّ الحنين المبتذل. الأستاذ هنا لا يبكي شبابه، بل يدرّس شيخوخته كما لو كانت مادة علميّة جديدة. يقول: “قررت أن أتعامل مع الشيخوخة كمشروع بحثيٍّ أخير أسميته معجم النهايات.” في هذه الجملة شعرت أنني أمام إنسانٍ يحوّل فقدانه إلى منهج. كلّ ما ينقصه يسجّله في دفتر كي يصير معرفة. إنّ الشيخوخة، في هذا المعنى، ليست موتًا بطيئًا، بل نوع من القراءة الجديدة للحياة. الأستاذ يدوّن “آخر مرة ضحك، وآخر قهوة دفع ثمنها، وآخر مناداةٍ بـ يا برفسور بلا سؤالٍ عن الواجب”. هذه التفاصيل الصغيرة هي التي منحت القصّة طعمها الإنسانيّ، إذ جعلتني أرى أنّ المعنى يسكن في اليوميّ، في تلك اللحظات التي تبدو هامشيّة لكنّها تختصر وجودًا كاملًا.
ثم تدخل “مايا”، الطالبة التي تشبه هواء الربيع، لتقلب مسار النص من التأمل في الذات إلى اكتشاف الآخر. مايا لا تأتي لتؤدي دورًا تقنيًا في السرد، بل لتفتح للأستاذ نافذة على العالم الذي يغادره ببطء. عندما قالت: “جدّتي تنسى الكلمات… بعضها يعود بثيابٍ أخرى”، أحسست أنّ النسيان في النصّ ليس مجرّد عرضٍ من أعراض الشيخوخة، بل حالة لغويّة عميقة. النسيان هنا يشبه الترجمة: الكلمة لا تختفي، بل تعود بثوبٍ جديد. عندها أدرك الأستاذ، وأدركت معه أنّ اللغة ليست ثابتة، وأنّ الحياة نفسها نوع من الترجمة المستمرّة لما لا نستطيع قوله.
عبارة مايا الأخرى “تُناديْني جدّتي حبيبي، رغم أني لستُ رجلًا” كانت بالنسبة لي لحظة كشف. فيها يتجاوز النصّ حدود النحو نحو منطقة العاطفة الخالصة. الجدة التي تنسى القواعد وتتحدث من قلبها، تقول ما تعجز اللغة المعياريّة عن قوله. في هذه المفارقة البسيطة يختصر جمال أسدي رؤيته للعالم: الحبّ أصدق من القواعد، واللغة أحنّ من النحو. شعرت أنّ الكاتب يذكّرني بأنّ التعليم ليس في تصحيح الأخطاء فقط، بل في الإنصات إلى ما تقوله الأخطاء.
مايا لا تعيد للأستاذ شبابه، بل تعيد إليه صوته الداخليّ الذي كاد يصمت. حين تقول له: “لماذا تتقاعد؟ لديك نور في عينيك”، يتردّد في الإجابة، ثم يقول: “لأُفسح المكان لمن لم يتعلّم بعد كيف يفسح المكان.” في هذه الجملة وجدت نبلًا هادئًا يليق بالمعلّم الحقيقيّ، الذي يعلّم حتى وهو ينسحب. لقد أدركت أنّ البطولة في هذه القصّة ليست في البقاء، بل في القدرة على المغادرة بكرامة.
غير أنّ النصّ لا يكتفي بالتأمل، بل يقدّم أحداثًا صغيرة تتحوّل إلى رموز كبرى. حين ينزلق الأستاذ في الطريق ويُصاب بكاحله، يقول له الصيدليّ: “لفّه، ولكنّ لا تشدّ… بعض الأشياء تحتاج أن تنتفخ قبل أن تشفى.” هذه الجملة البسيطة صارت بالنسبة لي مفتاحًا فلسفيًا لفهم النصّ كلّه. كم من الجراح تحتاج أن تتورّم قبل أن تلتئم؟ وكم من الخسارات لا تُفهم إلا حين تكبر داخلنا حتى تصير درسًا؟ هنا يتحوّل الألم إلى معلم جديد، وتتحوّل الشيخوخة إلى مختبرٍ للتأمل في الجسد والزمن معًا.
أجمل ما في القصة أنّ كلّ حدث فيها يفتح على معنى إنسانيّ مضيء. حتى السرقة، وهي في ظاهرها فعل سلبيّ، تتحوّل إلى لحظة تربية. حين سرق الصبيّ حقيبة الأستاذ وفيها “معجم النهايات”، ركض خلفه لا ليعاقبه، بل لينقذه. يقول له بعد أن يسترجع دفتره: “تعال نتقاسم الغداء، وسأعلّمك كيف لا تُقبَض عليك ثانية.” في هذا الموقف رأيت المعلم في أنبل تجلياته: لا يعلّم بالسلطة، بل بالمحبة. الصبيّ يعيد إليه دفتره ويحتفظ بالكتاب، وكأنهما يتقاسمان الماضي والمستقبل. هنا تصل القصّة إلى قمتها الرمزيّة، إذ يصبح التعليم فعلَ مشاركة في الخسارة. الأستاذ لا يستعيد ما فُقد، بل يربحه مضاعفًا في وجهٍ جديد.
تتواصل السخرية الشفيفة حين تأتي حفلة التقاعد، وتُزيّن الممرات بالبالونات الزرقاء، ويقف العميد يتلو كلماتٍ عن العطاء والإرث. يعلّق الأستاذ ساخرًا: “هكذا تُكافأ الأشجار بصفائحها.” حين قرأت هذه الجملة شعرت بطعنةٍ من الجمال، إذ تختصر كلّ النفاق المؤسسيّ الذي يغلف لحظات التوديع. المؤسسات تكرّمك حين تنتهي، لا حين تكون في أوج عطائك، كأنّها لا تراك إلا وأنت تغيب. لكنّ جمال أسدي لا يترك النصّ في هذا الظلّ، بل يفتح فجأة نافذة نور.
في الصف الأخير تجلس مايا وجدتها، وفي الباب يقف الصبيّ اللصّ حاملاً الكتاب. هناك، وسط الحفل الرسميّ، يدخل العالم الحقيقيّ: الطالبة، الجدة، واللصّ. كلّ من يمثل الحياة الحقيقيّة خارج أسوار الجامعة. وعندما يرفع الأستاذ ورقة الحضور ويقول: “هذه آخر ورقة حضور في حياتي، وقّعوا إن كنتم حاضرين”، تتحوّل اللحظة إلى طقس وداع مقدّس. الصبيّ يقترب ويوقّع بخطّ لا يُقرأ، ثم يقول: “قلتَ إنك ستعلّمني كيف لا يُقبض عليّ.” فيجيبه الأستاذ: “كُن جديرًا بأن يُقبض عليك.” لم أستطع أن أقرأ هذه العبارة دون أن أشعر برجفة. هي ليست نصيحة، بل وصية أخلاقية: أن تكون جديرًا بالمساءلة يعني أن تكون إنسانًا مسؤولًا عن فعلك. في هذه اللحظة يكتمل الدرس الأخير.
بعد ذلك ينتقل النصّ إلى مساءٍ هادئ في شقّة صغيرة، حيث يعلّم الأستاذ مجانًا “القراءة بصوت عالٍ لمن سئموا الصمت”. يقرأ معه العمّة زبيدة، وسائق الحافلة، ومايا وجدتها، وفادي اللصّ السابق. يضحكون حين يخطئون، ويوقّعون جميعًا على ورقة حضور جديدة يضعها في “معجم البدايات”. هنا تحققت المفارقة الكبرى: “معجم النهايات” تحوّل إلى “معجم البدايات”. شعرت وأنا أقرأ هذه الجملة الأخيرة أنّ النصّ كلّه كان رحلة من الضوء إلى الضوء، وأنّ الشيخوخة التي بدت في البداية خاتمة، صارت الآن افتتاحًا جديدًا لمعنى الحياة.
ما يجعل هذه القصة متفرّدة في نظري هو أنّها تجمع بين الفلسفة والبساطة، بين الدعابة والحكمة. جمال أسدي يكتب بلغة قريبة من القلب، لكنها مشبعة بالرمز. هو لا يصرخ، بل يهمس، ومع ذلك يصل صوته إلى الأعماق. اللغة عنده تشبه صوت معلمٍ يشرح لطلابه درسًا في النحو ثم يفاجئهم بأنّ الدرس الحقيقيّ عن الحبّ. الجمل القصيرة، التوازن بين الفصحى والحميميّة، والمجازات التي تخرج من تفاصيل الحياة اليوميّة كلّ ذلك جعلني أصدق أنّ الجمال يمكن أن يكون بسيطًا، وأنّ الأدب العظيم لا يحتاج إلى صخب.
وأنا أتنقل في ثنايا النصّ، وجدت نفسي أفكر في صورة “الأستاذ” كما يرسمها الأدب العربيّ عادة: ذلك الكائن الذي يعيش بين الورق واللوح الابيض، محاصرًا بالواجبات والنصوص. لكن في هذه القصّة يتحرّر الأستاذ من رمزيّته التقليديّة ليصير إنسانًا كاملاً، هشًا وقويًا في آن. هو لا يلقّن الدروس فقط، بل يتلقّاها من الحياة، من الطالبة، من الجدة، ومن اللصّ الصغير. في هذه التعدديّة وجدت معنى عميقًا للتعليم بوصفه فعل تبادل، لا فعل تلقين.
القصّة كذلك نصّ عن اللغة بوصفها بيت الوجود. فالأستاذ، حين يصحّح اللافتات في الحرم الجامعيّ، لا يفعل ذلك بدافع المهنة، بل بدافع الإيمان بأنّ اللغة هي آخر ما يربطنا بالمعنى. حين يقول: “من يحمي الجمع من سطو المضاف إن لم أفعل أنا؟” يعلن انتماءه إلى عالمٍ ينهار نحوه بصمت. هذه العبارة جعلتني أتساءل: أليست اللغة آخر أشكال المقاومة؟ ربما لهذا كانت القصّة مشبعة بهذا الوعي اللغويّ الذي لا يفصل بين الدرس والحياة.
وحين فكّرت أكثر، أدركت أنّ “معجم النهايات” ليس دفترًا مادّيًا فحسب، بل استعارة للذاكرة ذاتها. كلّ إنسان يملك معجمه الخاصّ، يدوّن فيه ما فقده وما بقي منه. لكن جمال أسدي يذكّرنا بأنّ كلّ معجم نهايات يخبئ داخله معجم بدايات، وأنّ الكتابة نفسها ليست سوى محاولة لتأجيل الصمت. لهذا شعرت أنّ القصّة، في جوهرها، رسالة حبّ إلى اللغة، وإلى التعليم، وإلى الإنسان الذي يصرّ على أن يبقى معلّمًا حتى في عزلته.
ما يثير الإعجاب أيضًا هو حضور المرأة في النصّ. مايا وجدتها ليستا مجرّد شخصيتين ثانويتين، بل تشكّلان الجانب العاطفيّ واللغويّ معًا. الجدة تمثل الذاكرة التي تتفتّت لكنّها لا تموت، ومايا تمثّل الوعي الجديد الذي يترجم النسيان إلى لغة أخرى. الاثنتان تُعيدان للأستاذ ثقته بالحياة، وتكسران عزلته. في حضورهما تنقلب النهايات إلى بدايات، والدرس الأخير إلى وعدٍ بالاستمرار.
ولعلّ أجمل ما يميّز جمال أسدي هو هذا التوازن بين السخرية والحنين. فهو يسخر من كلّ شيء، لكنه يفعل ذلك بعينين دامعتين. ضحكه لا يجرح، بل يضمّد. وعندما يقول الأستاذ في ختام قصته: “آخر مرة ظننتُ النهاية جدارًا، وأول مرة عرفتُ أنها بوّابة”، أحسست أنني أمام خلاصة الحكمة الإنسانيّة كلّها. كلّ ما نراه نهايةً ليس سوى بابٍ يُفتح من جهة أخرى.
خرجت من القصة وأنا أحمل شيئًا يشبه العزاء الجميل. أحسست أنّ الكاتب لا يريد أن يقول لنا “لا تخافوا من النهاية”، بل يريد أن يعلّمنا كيف نحبّها لأنّها الطريق الوحيد إلى البدايات. شعرت أنّ الشيخوخة، في نظره، ليست انطفاءً بل لحظة صفاء. إنّ الجسد حين يتعب يصبح أصدق مرآة للروح، وحين يثقل المشي تتخفّف اللغة من الزخرف.
خاتمة القول: إنّ “الأستاذ وحصّة النهايات” ليست قصّة عن شخص واحد، بل عن كلّ من حاول أن يكتب معجمه الخاصّ قبل أن يُسرق منه. هي مرثية للمعنى، لكنّها أيضًا نشيدٌ للبدايات. وفيها يتجلّى جمال أسدي ككاتب يكتب بضمير المحبة، وبعينٍ تعرف أنّ النهاية ليست جدارًا، بل بوابة تُفتح كلّ صباح على ضوء جديد.
الطيرة- 10.11.2025
#أحمد_كامل_ناصر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟