أحمد كامل ناصر
الحوار المتمدن-العدد: 8524 - 2025 / 11 / 12 - 18:51
المحور:
الادب والفن
حين قرأت قصّة "الواتسآب في خدمة المتقاعدين" لكلارا سروجي - شجراوي، وجدتني أمام نصّ يثير القلق أكثر مما يثير الدهشة. قد يبدو في ظاهره نصًا ساخرًا عن مجموعة من الأصدقاء المتقاعدين الذين وجدوا في تطبيق الواتسآب وسيلتهم الجديدة للتسلية، لكنّ ما تخفيه السطور أعمق بكثير من الضحك أو المفارقة. إنّه نصّ عن الإنسان حين يصبح ظلًّا لصوته وصورةً لغيابه، عن جيل يحاول التشبّث بالحياة من خلال رموز رقميّة تحلّ محلّ المشاعر الحقيقية.
يبدو لي أنّ الكاتبة أرادت أن تقدّم نموذجًا رمزيًا للإنسان المعاصر، الذي يعيش في العالم الافتراضيّ أكثر مما يعيش في واقعه الماديّ، وقد اختارت شخصيات بلغت من العمر ما يجعلها أقرب إلى الحكمة والتأمّل، لكنّها أعادت إليها براءة الطفولة وسذاجتها في آن معًا. تقول الكاتبة: "عادوا أطفالًا مرحين، يبحثون عن صور جميلة فرِحة يرسلها كلّ صديقٍ منهم إلى المجموعة"، وهذه العبارة تجسّد المفارقة الأولى في النصّ: عودة الشيخ إلى الطفولة، ولكن لا من باب التجدد أو التجريب، بل من باب النكوص إلى الرموز السطحيّة، وكأنّ التقنيّة سلبتهم ما تبقّى من أصالة التواصل الإنسانيّ.
إنّ رمزيّة "الصورة" هنا لا تقف عند حدود كونها أداة تواصل، بل تتحول إلى بديل عن الكلمة وعن الصوت وعن الفكر. فالأصدقاء لم يكتبوا عبارة واحدة، كما تقول الكاتبة، "كأنّهم قد نسوا اللغة البشريّة وعادوا إلى لغة أجدادهم القدماء في التواصُل عبر الإشارات والرسومات". أستشعر في هذه الجملة نبرة أسى عميقة تتجاوز السخرية الظاهرة، فالقصّة ترصد حالة من الانحدار الرمزيّ نحو البدائية، حيث اللغة ــ أرقى أدوات الإنسان ــ تُستبدل بصور ملوّنة وقلوب حمراء وابتسامات إلكترونيّة. وكأنّ الكاتبـة تضعنا أمام مفارقة حضاريّة: كلّما تقدّم الإنسان تكنولوجيًا، تراجع لغويًا وإنسانيًا.
تتحوّل مجموعة المتقاعدين إلى ما يشبه "جماعة طقسيّة" تمارس طقوسها اليوميّة بانتظام مدهش، إذ تقول الكاتبة: "كان الإرسال منضبطًا، ملتزمًا، كأنّهم يقومون بواجباتهم المدرسيّة دون كلل أو تلكؤ." هذه الجملة لا تخلو من سخرية ذكيّة، فهي تصف جدّية زائفة في أداء فعل بلا معنى. إنّ هؤلاء الأصدقاء يعيشون في دائرة مغلقة من التكرار الآليّ، حيث تتحوّل الحياة إلى نظام روتينيّ من تبادل الصور الرمزيّة، وكأنّهم فقدوا القدرة على الاندهاش أو الحوار. يبدو لي أنّ الكاتبة تلمّح هنا إلى نوع من "الموت البطيء" الذي يُصيب الإنسان حين تُصبح التقنيّة غاية لا وسيلة، وحين يتحوّل التواصل إلى عادة شكليّة تخفي العزلة تحت غطاء المودّة المصطنعة.
ويأخذ النصّ بعدًا تراجيديًا حين يختفي أحد الأصدقاء، "خالد"، وهو الاسم الوحيد الذي تمنحه الكاتبة في النصّ، لتكشف من خلال غيابه عن مأساة الحضور الزائف. تقول: "اندَهشوا لأنّ صديقهم خالد لم يُرسل تحيّته المعتادة للغالين." هذه البداية البسيطة لمأساة الغياب تحمل في طيّاتها رمزيّة عميقة: فغياب الصورة يعني في هذا العالم غياب الوجود. إنّهم لا يقلقون لأنّ خالد مريض أو وحيد أو محتاج، بل لأنّ صورته لم تصل إلى المجموعة! هكذا تتحوّل الصورة إلى مقياس للحياة، وكأنّ الإنسان لا يُوجد إلا بقدر ما يُرسل من إشعارات وصور.
أدهشني هذا التحوّل الدلاليّ، لأنّه يُعيد تعريف الوجود الإنسانيّ في العصر الرقميّ. لم يعد "أنا أفكر إذن أنا موجود" كما قال ديكارت، بل أصبح "أنا أرسل إذن أنا موجود". من هنا، يبدو اختفاء خالد رمزًا لاحتضار الإنسان داخل منظومة رقميّة لا تعترف بالغياب الماديّ بل فقط بانقطاع الإشارة. وحين تقول الكاتبة: "أخذوا يقلّبون صفحات الإنترنت والصّحف أونلاين بحثًا عن خالد"، فإنّها تضعنا أمام مفارقة مأساويّة أخرى: يبحثون عن الإنسان في فضاءٍ افتراضيّ بينما جسده الواقعيّ قد يكون قريبًا منهم في شارعهم ذاته.
في هذا المشهد تتجلّى مأساة العصر الحديث، فالتقنيّة التي وُجدت لتقرّب المسافات صارت تزيد الهوّة بين البشر. يبدو لي أنّ الكاتبة تتعمّد أن تُظهر هذا التناقض بمهارة سرديّة عالية، فهي لا تُدين الشخصيات بشكل مباشر، بل تترك سلوكهم الساخر يكشف عن هشاشتهم. واللافت أنّ اللغة السرديّة تحافظ على نغمة خفيفة، خالية من الميلودراما، كأنّ المأساة تُروى ببرود، وهذا ما يجعلها أكثر وجعًا.
أُعجبت على نحو خاص بالمشهد الذي يخرج فيه أصغر الأصدقاء سنًّا للبحث عن خالد. هذا المشهد يحمل في طيّاته أبعادًا رمزيّة وإنسانيّة عميقة. تقول الكاتبة: "بصعوبة بالغة وصل الصديقُ الباحث الصغير إلى الشارع، لكنّه نسي إلى أيّ بناية يتّجه..."؛ هنا يتحوّل البحث عن الصديق إلى بحث عن المعنى نفسه. إنّ الشيخ الذي خرج من عالم الصور إلى العالم الواقعيّ يجد نفسه ضائعًا، لا يعرف العنوان ولا الاتجاه، وكأنّه فقد البوصلة الوجوديّة التي كانت التقنيّة تخفيها عنه.
يبدو لي أنّ هذا المشهد يُشكّل ذروة النصّ، لأنّه يكشف عن المفارقة الكبرى: العالم الافتراضيّ يمنحنا إحساسًا بالقدرة والسيطرة، لكنّه يجرّدنا من القدرة الحقيقيّة على الفعل. فالشيخ الذي يرسل الصور يوميًا دون تعب، يعجز الآن عن السير في الشارع والعثور على صديقه الحقيقيّ. وهنا تتجلّى عبقريّة الكاتبة في تحويل حدث بسيط إلى استعارة للإنسان المعاصر الذي يضيع في الواقع بعد أن تاه في العالم الرقميّ.
وحين تقول الكاتبة: "جلس على الأرض، ولم يُرسل لأصدقائه صورةً تثبت وجودَه في الحياة في ذلك المساء"، فإنّها تختزل المأساة في جملة واحدة عميقة: الإنسان الذي لا يُوثَّق وجوده بالرمز لا يُرى. هذه العبارة الموجعة تختصر تحوّل القيم الإنسانيّة إلى بيانات، وتحيلنا إلى سؤال فلسفيّ حول معنى "الحضور" في زمن الصورة. أليس في هذا الموقف تلميح إلى موت مجازيّ؟ إنّ الصديق الذي يجلس في الشارع وحيدًا يشبه "خالد" الغائب، فكلاهما غاب عن فضاء المجموعة، وكلاهما لم يُرسل صورة، وكلاهما محيَ من الذاكرة الرقميّة التي صارت ذاكرة جماعيّة بديلة عن الذاكرة الإنسانيّة.
أمّا المشهد الأخير في النصّ، حين يأتي آخر ويجلس إلى جانبه "يسأله إن كان يعرف رجلًا اسمه خالد، ثمّ أخرج بطاقة هويّة تظهر وجهًا يشبهه شبهًا كبيرًا"، فهو من أبلغ النهايات الرمزيّة التي قرأتها في قصّة قصيرة. هذا التوازي بين الوجهين والهويّة المكرّرة يفتح الباب أمام تأويلات متعدّدة. ربما خالد مات فعلاً، وربما الجميع في طريقهم إلى المصير ذاته، وربما الكاتبة تريد القول إنّنا جميعًا متشابهون في عالمٍ مسح وجوهنا وحوّلنا إلى صور متكرّرة لا تميّز بين الأحياء والأموات.
في تقديري، تتجاوز هذه القصة إطارها الواقعيّ لتصبح نصًا رمزيًا عن نهاية الإنسان ككائن لغويّ. فحين تستبدل الكاتبة الحوار بالرموز، والصوت بالصورة، واللغة بالإيموجي، فإنّها لا تصف فقط سلوك المتقاعدين، بل تصف تحوّل الوعي الإنسانيّ المعاصر. وهذا ما يمنح النصّ بعدًا فلسفيًا خفيًا، يُذكّرني بنصوص "ريموند كارفر" من حيث الاقتصاد اللغويّ الذي يخفي وراءه مأساة كاملة.
إنّ اختيار الكاتبة لشخصيات متقاعدة ليس تفصيلاً عرضيًا، بل له دلالته النفسيّة والاجتماعيّة. فالمتقاعد هو رمز للإنسان الذي فقد وظيفته الاجتماعيّة، تمامًا كما فقد القدرة على إنتاج اللغة والتواصل الحقيقيّ. وهو أيضًا الإنسان الذي يعيش على هامش الزمن، يبحث عن معنى لوجوده بعد أن فقد دوره. لذلك يبدو انغماسهم في الواتسآب نوعًا من التعويض النفسيّ، كأنّهم يخلقون لأنفسهم عالمًا بديلًا يمنحهم شعورًا بالانتماء. غير أنّ هذا الانتماء هشّ، لأنّه قائم على تبادل صور لا مشاعر، وقلوب حمراء لا نبض حقيقيّ.
أجد في النصّ نقدًا غير مباشر للمجتمع الاستهلاكيّ الذي حوّل الإنسان إلى مستخدم، والعلاقة الإنسانيّة إلى منتج رقميّ. فالتطبيقات التي تدّعي التواصل تزرع فينا عزلة مضاعفة، لأنها تُغنينا عن اللقاء الحقيقيّ. لهذا السبب لم يخطر ببال أيٍّ من الأصدقاء أن يستخدم "الفيديو" ليرى وجه الآخر. تقول الكاتبة بوضوح: "لقد نسوا أنّ لهم وجوهًا إنسانيّة من كثرة التجاعيد التي غطّتها." هذه العبارة تجمع بين الصورة الواقعيّة والرمز النفسيّ، إذ تشير إلى فقدان الهويّة تحت طبقات من الزمن والرمز والافتراضيّة.
في هذا السياق، أرى أنّ الكاتبة تكتب نصًّا إنسانيًا قبل أن يكون تقنيًا أو اجتماعيًا. فهي لا تسخر من المتقاعدين بوصفهم جيلًا متأخّرًا، بل تراهم مرآة لنا جميعًا، نحن الذين نظن أنّنا نعيش بملء الحضور بينما نغيب في الشاشات الصغيرة. إنّهم الجيل الذي شهد بداية التكنولوجيا وشيخوخة المعنى، ولهذا فإنّ قصتهم ليست عنهم فقط، بل عن مصير الإنسان حين تُصبح "الرسالة المرسلة" بديلًا عن اللقاء، و"الستاتس" بديلاً عن الحوار.
ولعلّ أجمل ما في القصّة أنّها لا تصدر حكمًا مباشرًا، ولا تنتهي بوعظ أو خلاص، بل تترك النهاية مفتوحة، حين "بقي الصديقان ينتظران". هذه الجملة الختاميّة تحمل كلّ ما في النصّ من رمزيّة، فهما ينتظران خالدًا، أو ربما ينتظران عودتهما إلى الحياة، أو ينتظران من يرسل عنهما صورة جديدة تُثبت وجودهما. إنّ الانتظار هنا ليس انتظارًا للخلاص، بل انتظار للمعنى.
في النهاية، أستطيع القول إنّ "الواتسآب في خدمة المتقاعدين" نصّ قصير في حجمه، لكنّه واسع في أبعاده الرمزيّة. نصّ ينجح في تحويل اليوميّ البسيط إلى سؤال وجوديّ كبير حول معنى الإنسان في زمن الصورة. وقد استطاعت الكاتبة، بلغة هادئة وسردٍ ساخر رشيق، أن تُعرّي هشاشة التواصل الحديث وتُذكّرنا بأنّ التكنولوجيا، مهما بلغت، لا تُعيد للإنسان ما يفقده من دفء اللقاء الحقيقيّ.
القصّة، في رأيي، ليست مجرّد نقد للتقنيّة، بل تأمّل في الشيخوخة كمرحلة من الوعي والانكفاء. فحين يشيخ الإنسان ويجد نفسه أمام شاشة صغيرة، فإنّها تُصبح نافذته الأخيرة على العالم، لكنّه لا يدرك أنّ هذه النافذة لا تُطل على الحياة بل تعكس صورته هو، صورة الذاكرة والغياب.
وهكذا، يبقى السؤال الذي تطرحه الكاتبة معلقًا في نهاية النصّ: هل ما زال الإنسان قادرًا على أن يتواصل بوجهه وصوته ودفء حضوره، أم أنّنا جميعًا، مثل أصدقاء خالد، نعيش في دوائر الضوء البارد، نرسل الصور كل صباح ومساء كي نُثبت أنّنا ما زلنا أحياء؟
الطيرة- 12.11.2025
#أحمد_كامل_ناصر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟