أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - رياض قاسم حسن العلي - الباباوات السيئون: قراءة تاريخية نقدية في فساد السلطة الكنسية















المزيد.....


الباباوات السيئون: قراءة تاريخية نقدية في فساد السلطة الكنسية


رياض قاسم حسن العلي

الحوار المتمدن-العدد: 8547 - 2025 / 12 / 5 - 18:11
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


في عام 1969 أصدر الباحث والصحافي البريطاني إريك رَسِل تشامبرلين (1926–2006) كتابه الشهير "باباوات السوء" The Bad Popes، وهو عمل أثار جدلاً واسعاً عند صدوره لأنه خاض مباشرة في أكثر المناطق حساسية في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية حيث تاريخ الانحرافات الأخلاقية والسياسية لدى بعض الباباوات، الذين شغلوا منصباً يُفترض أنه يمثل القمة الروحية والأخلاقية للمسيحية الغربية.
قدّم تشامبرلين عملاً تاريخياً متماسكاً، اعتمد فيه على مصادر كنسية وأوروبية متنوعة، ليعيد رسم سِيَر ثمانية باباوات شكّلوا – برأيه – أكثر الفصول ظلاماً وإثارة للجدل في تاريخ البابوية.
وُلِد إريك رسل تشامبرلين في 25 أيار 1926 في كينغستون، جامايكا، وتوفي في 8 كانون الأول 2006. كان مؤرخاً وكاتباً.
كتب تشامبرلين العديد من الكتب التاريخية الشعبية التي تناولت فترات متنوعة من التاريخ، بدءاً من روما القديمة وحتى بريطانيا في القرن العشرين. وعلى الرغم من ولادته في جامايكا، إلا أنه عاد إلى إنجلترا مع والده خلال فترة الكساد الكبير.
ترك تشامبرلين المدرسة عندما كان في الرابعة عشرة من عمره، وعمل متدرّباً في صناعة الجلود. وعندما أصبح في السن المناسب، غادر هذا العمل بشغف ليلتحق بـ البحرية الملكية البريطانية عام 1944، وخدم في الجيش حتى عام 1947، ثم وجد عملاً في مكتبة نورويتش العامة. وهنا بدأت رحلته التعليمية الحقيقية، حيث استغل فرصته في العمل بقراءة الكتب التاريخية بشغف.
عمل لاحقاً في مكتبة هولبورن العامة، ثم في قسم الكتب لدى مجلة القراء.
صدر كتابه الأول بعنوان "الكونت الفاضل: جيانغاليتساو فيسكونتي، دوق ميلانو" عام 1965.
تبع ذلك أكثر من ثلاثين كتاباً خلال العقود الثلاثة التالية، من أبرزها:
(الباباوات السيئون) 1969و (نهب روما) 1979و (القرن التاسع عشر) 1983و (الإمبراطور شارلمان) 1986و (برج لندن: تاريخ مصور) 1989
كان تشامبرلين نشطاً أيضاً في مشاريع الحفاظ على التراث التاريخي، حيث ساهم في إنقاذ مبنى معهد جيلدفورد من الهدم عام 1982، وأشرف على إنشاء نصب تذكاري للأدميرال هوراشيو نيلسون على جبل إتنا في إيطاليا.
وبفضل جهوده في مشروع إنقاذ مبنى معهد جيلدفورد، مُنح تشامبرلين درجة فخرية من جامعة ساري عام 1982.

فيما يلي عرض لهؤلاء الباباوات، وللسياقات الدينية والاجتماعية التي أحاطت بهم:

1. ستيفان السادس (896–897م): "محاكمة الجثة"… اللحظة الأكثر سوريالية في تاريخ الكنيسة

يُعدّ عهد البابا ستيفان السادس أحد أكثر الفصول غرابة وإثارة للذهول في التاريخ الكنسي كله. فقد أقدم على خطوة لا تزال حتى اليوم تُدرّس بوصفها مثالاً صارخاً لاختلاط السلطة الدينية بالصراع السياسي الدموي.
الواقعة المعروفة باسم "محاكمة الجثة" – Cadaver Synod تمثل ذروة العبث في الصراع على كرسي البابوية في أواخر القرن التاسع الميلادي.
فبعد أشهر قصيرة من وفاة البابا فورموسوس ، أصدر ستيفان السادس أمراً بنبش جثته، وإحضارها من قبرها في حالة تحلل واضحة.
جرى بعد ذلك تنصيب الجثة على العرش البابوي داخل قاعة المحاكمة، وكأن صاحبها ما يزال حيّاً ، وتعيين شماس صغير ليؤدي دور "محامي الدفاع" عن الجثة، في مشهد شديد القسوة والسخرية وتم توجيه تهم رسمية للجثة، أبرزها انتهاك القوانين الكنسية، ونقل كرسيه الأسقفي دون وجه حق ، ثم بعد جرى إعلان الجثة "مذنبة" ثم قطع ثلاثة من أصابعها، وهي المعروفة بأصابع البركة، وإعادة دفن الجثة، ثم نبشها مرة أخرى بعد وقت قصير، وإلقاؤها في نهر التيبر.
هذا الفعل الغريب كان نتيجة مباشرة لصراع حاد بين العائلات والكتل السياسية في روما، خصوصاً أسرة سبوليتو التي دعمت ستيفان السادس،وأتباع فورموسوس الذين كانوا يمثلون تياراً سياسياً منافساً.
كانت تلك المرحلة من التاريخ البابوي تُعرف بـ "عصر الفوضى" (Saeculum obscurum)، وهي فترة اتّسمت بتنازع النفوذ بين الأسر الأرستقراطية، وتحوّل المنصب البابوي إلى ورقة في لعبة السلطة.
وبالتالي، محاكمة الجثة كانت تجلياً درامياً لانهيار الهيبة الروحية للبابوية وإغراقها في السياسة المحلية.
لاحقاً، سيعيد مؤرخو العصور الوسطى قراءة هذه الحادثة بوصفها علامة بارزة على التدهور الأخلاقي الذي بلغته المؤسسة الدينية، وعلى هشاشة الكنيسة في مواجهة نفوذ العائلات الإيطالية. وقد أصبحت الواقعة رمزاً – لا يتكرر – لطبيعة العنف الرمزي والجسدي الذي يمكن أن تبلغه الصراعات حين تتلبس ثوب القداسة.

2. يوحنا الثاني عشر (955–964م): البابا الذي حوّل قصر اللاتيران إلى مسرح للفضائح

يُعدّ البابا يوحنا الثاني عشر واحداً من أكثر الشخصيات إثارة للجدل في تاريخ الكنيسة اللاتينية بسبب سمعته الأخلاقية التي بلغت حداً غير مسبوق، حتى في عصرٍ كانت فيه البابوية نفسها غارقة في صراعات النبلاء الإيطاليين.
تولّى يوحنا الثاني عشر السدة البابوية وهو شاب في الثامنة عشرة فقط، بعد صراع محموم بين العائلات الأرستقراطية في روما، ولا سيما بيت توكلاني Tusculani الذي كان يضع يده على المدينة ويعامل البابوية كإقطاع وراثي. وبمجرد اعتلائه العرش البابوي، بدأ عهدٌ حافل بتصرفات صادمة تركت أثراً عميقاً في الذاكرة التاريخية.
حيث يروي عدد من المؤرخين المعاصرين له أن يوحنا الثاني عشر حوّل قصر اللاتيران، وهو المقر البابوي الرسمي، إلى مكان أشبه بالصالونات الليلية، تُقام فيه الحفلات الخاصة وتُستقبل فيه العشيقات.
من أشهر المرويات عنه أنه منح أراضي كنَسية واسعة لعشيقته في تصرف فاحش الدلالة على تداخل السلطة الدينية بالرغبات الشخصية.
وعُرف كذلك بإقامة الولائم الصاخبة داخل القصر، بحضور نساء لم يكنّ ذوات صلة بأي شأن كنسي.
وُثّقت حالات استغلال للنفوذ مقابل متع شخصية، وهو ما أوجد طبقة من "الطفيليين حول البلاط البابوي.

لم يقتصر الأمر على الفساد الأخلاقي؛ فقد كان يوحنا الثاني عشر شخصية متهورة وعنيفة.
حيث تشير المصادر إلى أنه قتل عدة أشخاص نتيجة خلافات شخصية تافهة أو لحظات غضب جامح ، ومارس الانتقام بشكل مفتوح، حتى داخل الدوائر الكنسية.
هذا السلوك أثار غضب الإمبراطور الجرماني أوتو الأول الذي رأى في البابا شاباً غير مسؤول يُسيء إلى هيبة الكنيسة والإمبراطورية على حد سواء.

تنتهي سيرة يوحنا الثاني عشر نهاية تكاد تكون رمزية لطبيعة حياته كلها ،فقد قُتل على يد رجل ضبطه فوق فراشه مع زوجة ذلك الرجل. وتذكر بعض الروايات أن القاتل باغته أثناء اللقاء، فضربه حتى الموت.
مهما تكن التفاصيل الدقيقة، فإن موته أصبح مثالاً درامياً على سقوط السلطة البابوية في زمن كانت تفتقر فيه إلى الضبط الأخلاقي والسياسي.

مثّل عهد يوحنا الثاني عشر نقطة سوداء استُخدمت لاحقاً، خاصة في القرن السادس عشر، من قبل التيارات البروتستانتية الإصلاحية لتأكيد فساد الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى.
لقد كان رمزاً جاهزاً في خطاب مارتن لوثر وغيره ممن أرادوا تصوير المؤسسة البابوية ككيان بعيد عن قدسية رسالتها.
يظهر يوحنا الثاني عشر مثالاً متطرفاً على اللحظة التي فقدت فيها الكنيسة الغربية قدرتها على الفصل بين الروحي والزمني، فأُقحمت في صراعات الطبقة الأرستقراطية ودفعت ثمناً باهظاً من سمعتها وتاريخها.

3. بنديكت التاسع (1032–1044، 1045، 1047–1048): البابا الذي باع البابوية

يمثّل بنديكت التاسع واحدة من أكثر الحالات إرباكًا في تاريخ الكنيسة اللاتينية، لأن سيرته تحوّلت إلى مثال على اختلاط النفوذ العائلي بالسلطة الدينية إلى درجة غير مسبوقة. ينتمي بنديكت إلى أسرة توستيانّي الأرستقراطية في روما، وهي عائلة امتلكت نفوذًا واسعًا مكّنها من فرض أحد أبنائها على الكرسي البابوي وهو في العشرين من عمره تقريبًا، في سابقة تعكس هشاشة البنية السياسية للكرسي البابوي قبيل الإصلاحات الغريغورية.
تُجمع عدة مصادر كنسية، مثل كتابات القديس بطرس دامياني، على أنّ عهد بنديكت شهد ممارسات أثارت فضائح كبرى في الأوساط المسيحية. وترد في هذه النصوص إشارات إلى انغماسه في حياة بذخ ومجون، وإلى انشغاله بصراعات العائلات الرومانية الكبرى أكثر من انشغاله بإدارة المؤسسة الكنسية. ورغم أنّ بعض المؤرخين المعاصرين يدعون إلى قراءة هذه الروايات في إطار الصراع السياسي بين العائلات الرومانية والدوائر الإصلاحية، إلا أن كثافة الشهادات وتعددها تجعل صورته واحدة من أكثر الصور إثارة للجدل في تاريخ البابوية.
الحدث الأبرز في مسيرته، والذي جعله رمزًا لانحراف السلطة الكنسية، هو ما يوصف عادة بـ "بيع المنصب البابوي". ففي عام 1045، ونتيجة الفوضى السياسية التي أحاطت بحكمه، تنازل بنديكت عن البابوية لصالح قريبه غريغوري السادس مقابل مبلغ مالي، وفق ما يورده مؤرخو تلك الفترة. وقد برّر غريغوري السادس هذا الفعل باعتباره "شراءً للإصلاح" لا "بيعًا للمنصب"، مدعيًا أنه أراد إنهاء الفساد وإنقاذ الكنيسة من الفوضى. غير أنّ ذلك لم يمنع خصومه من اعتبار الحادثة واحدة من أكثر اللحظات فجاجة في تاريخ المؤسسة الدينية، لأنها وضعت الكرسي الرسولي في موقع المتاع القابل للبيع والشراء.
بعد هذا التنازل، عاد بنديكت إلى محاولة استعادة المنصب مرتين، مستفيدًا من الانقسامات داخل روما ومن الصراع بين القوى الإمبراطورية والبيوت الأرستقراطية. لكن البابوية، التي دخلت مرحلة اضطراب شديد، انتهى بها الأمر إلى الخضوع لتدخل إمبراطوري مباشر، ما مهد لاحقًا لبداية عصر الإصلاحات الكنسية الكبرى في منتصف القرن الحادي عشر.
تظلّ سيرة بنديكت التاسع مثالًا على كيفية تحوّل السلطة الدينية، حين تتشابك بالوراثة الطبقية والصراع السياسي، إلى مؤسسة قابلة للابتذال والانحراف، وهو ما جعل المؤرخين ينظرون إلى تلك الحقبة بوصفها نقطة الانطلاق التي دفعت الكنيسة لاحقًا إلى إعادة صياغة مفهوم السلطة الروحية وتنظيفه من شوائب النفوذ العائلي والبيع والشراء.

4. بونيفاس الثامن (1294–1303): البابا الذي هاجمه دانتي

برز بونيفاس الثامن باعتباره أحد أكثر البابوات حضوراً في المشهد السياسي الأوروبي خلال القرون الوسطى. كان لاعباً مركزياً في شبكة الصراعات بين الممالك والكنيسة، في زمن كانت فيه السلطة الروحية تتشابك بحدة مع السلطة الزمنية.
كان الصدام مع الملك الفرنسي فيليب الرابع نقطة التحول في مسيرته؛ إذ تمسّك البابا بحقوق الكنيسة في فرض نفوذها على الملوك، بينما سعى فيليب إلى الحد من سلطة روما على الشؤون الفرنسية، خصوصاً ما يتعلق بالضرائب وامتيازات رجال الدين. وقد بلغ النزاع ذروته عندما تعرض بونيفاس للإهانة والاعتقال في حادثة أنتاني الشهيرة، وهو ما مثّل ضربة مباشرة لهيبة البابوية.
لكنّ الإرث الأكثر رسوخاً لبونيفاس في الذاكرة الأوروبية جاء من خارج السياسة، ومن الأدب تحديداً. ففي "الكوميديا الإلهية"، وجّه دانتي ضربة رمزية لا تقل قسوة، إذ وضع البابا ضمن أرواح الخطاة في طبقات الجحيم السفلى، باعتباره رمزاً للفساد والمحسوبية. لقد رسم دانتي صورة بابا يتاجر بالسلطة الروحية ويستخدمها لتعزيز نفوذ عائلته، وهو تصوير عكس مزاجاً عاماً في إيطاليا رأى في بونيفاس ممثلاً لتجاوزات الكنيسة.
كان خصومه يتهمونه بمنح المناصب الرفيعة للمقربين منه، وبجمع ثروات كبيرة عبر استغلال الجهاز الكنسي، فيما رأى المدافعون عنه أنه حاول حماية وحدانية الكنيسة في وقت كانت أوروبا تشهد تصاعد نفوذ الملوك وتراجع سلطة البابوية.
بونيفاس الثامن كان تجسيداً لعصر مضطرب تتصارع فيه الشرعية الدينية مع القوة الدنيوية، وظل اسمه مثالاً على توتر العلاقة بين السياسي والروحي، وعلى قدرة الأدب—كما في حالة دانتي—على صياغة الذاكرة التاريخية أحياناً أكثر من الوثائق نفسها.

5. أوربــان السادس (1378–1389): البابا الذي أراد سماع صراخ المعذّبين

جاء أوربان السادس إلى الكرسي الرسولي في واحدة من أكثر اللحظات توتّراً في تاريخ الكنيسة حيث بداية الانشقاق الغربي (1378–1417)، حين انقسمت أوروبا الكاثوليكية بين بابا في روما وآخر في أفينيون. وقد كان انتخابه شرارةً أولى في هذا الانقسام، إذ رأى كثير من الكرادلة أنه ليس الشخص الذي أرادوه فعلاً، وأن الظروف الشعبية والسياسية هي التي فرضته.
تصفه المصادر المعاصرة بأنه كان حادّ الطبع، مندفعاً، شديد الشكّ بالآخرين. لم يكن الرجل مُهادِناً؛ على العكس، دخل في صدام مباشر مع الكرادلة أنفسهم، الذين اتهمهم بالتآمر عليه ومحاولة خلعه. وما إن حاول عدد منهم الفرار أو إعلان بطلان انتخابه، حتى لجأ إلى أساليب أكثر عنفاً.
تشير روايات موثّقة إلى أنه عندما أُلقي القبض على مجموعة من الكرادلة المتهمين بالخيانة، أمر بتعذيبهم. وحين قيل له إنهم يصيحون من الألم، أطلق عبارته التي صارت رمزاً للانحراف الأخلاقي في أعلى سلطة دينية: "لم أسمع صراخهم بما فيه الكفاية!"
كان ذلك مؤشراً على حجم الأزمة داخل المؤسسة الكنسية، التي باتت تعيش صراعاً داخلياً شرساً بين بابوين، ثم ثلاثة لاحقاً، وتبدو عاجزة عن فرض صورة موحّدة أمام أوروبا.
يمثّل عهد أوربان السادس نموذجاً صارخاً لمرحلة بلغت فيها السلطة الدينية ذروة التمزّق والعنف. فالرجل الذي كان يُفترض أن يكون رمزاً للسلام الروحي، تحوّل إلى بابا يثير الرعب بين أرفع رجال الكنيسة أنفسهم، في عصر تكسّر فيه هيبة البابوية بيد أبنائها.

6. ألكسندر السادس (1492–1503): بورجيا وفضائح السلطة في قلب الكنيسة

يُعد البابا ألكسندر السادس من أكثر الشخصيات البابوية إثارة للجدل، لما مثّلته حياته من تجسيد لانحراف السلطة الدينية والانغماس في السياسة الدنيوية. ينتمي ألكسندر السادس إلى أسرة بورجيا الإسبانية، وهي عائلة اشتهرت بالدهاء السياسي والطموحات الممتدة داخل أوروبا الكاثوليكية.
تميز عهده بعدة سمات جعلت منه نموذجاً للفساد الأخلاقي والسياسي في تاريخ الكنيسة ، فهو قد استغل المنصب البابوي لتوزيع المناصب الكنسية على المقربين منه وأفراد أسرته، وهو ما يُعرف بـ شراء المناصب الكنسية، مما أضعف مصداقية البابوية كمؤسسة روحية.
واشتهر ألكسندر السادس بانغماسه في الملذات الشخصية، وتعدد علاقاته النسائية المثيرة للجدل، بما في ذلك علاقاته المعلنة مع عدد من النساء النبيلات ، أبرز مثال على ذلك ابنه سيزار بورجيا، الذي دعمته نفوذ الباباوي في صعوده العسكري والسياسي، ما أثار اتهامات صريحة بتسييس الكنيسة لخدمة مصالح شخصية وعائلية.
جمع ألكسندر السادس بين السياسة والديبلوماسية والدهاء الشخصي ليبني شبكة من النفوذ الأوروبي، جعلت من اسمه مرادفاً للدهاء والفساد في الوعي الأوروبي الحديث.
عند دراسة عهد ألكسندر السادس، يتضح التقاطع الحاد بين السلطة الدينية والسياسة العائلية، حيث تحولت الكنيسة إلى أداة لتمكين أفراد بعينهم على حساب المبادئ الروحية. وقد أصبح اسمه لاحقاً رمزاً للتحول الأخلاقي للبابوية في عصر النهضة، واستخدمه المؤرخون والنقاد لاحقاً كمثال على مخاطر دمج السلطة الدينية مع المصالح الشخصية.
يمكن اعتبار عهد ألكسندر السادس نقطة تحول في تاريخ الكنيسة، إذ كشف عن هشاشة المؤسسات الدينية أمام الطموحات العائلية والسياسية، كما مثّل درساً تاريخياً حول العلاقة بين النفوذ الأخلاقي والسياسي في القرن الخامس عشر الأوروبي.

7. ليو العاشر (1513–1521): بذخ آل ميديشي ودفع الكنيسة نحو الإصلاح

ينتمي البابا ليو العاشر إلى عائلة ميديشي الشهيرة في فلورنسا، التي جمعت بين القوة الاقتصادية والسلطة السياسية والثقافة الرفيعة. وقد أصبح عهده نموذجاً فريداً للترف والبذخ داخل الكرسي الرسولي، مع تأثيرات بعيدة المدى على تاريخ الكنيسة الأوروبية.
تميز عهد ليو العاشر بعدة سمات رئيسية منها الإسراف الباذخ حيث يُروى أنه أنفق ثروات سبعة من أسلافه الباباوات في حفل واحد، مجسداً ذروة الترف والترف المالي الذي بلغ حدّ الترفّع عن الشؤون الروحية الأساسية.
وكذلك الانغماس في الفن والثقافة فقد اهتم بتطوير الفنون والرعاية الثقافية، داعماً فنانين كباراً مثل ميكلانجيلو ورافائيل، ما جعل الفاتيكان مركزاً ثقافياً بارزاً، لكنه في الوقت نفسه أهمل إدارة شؤون الكنيسة الروحية والسياسية بشكل متوازن.
وأيضًا تأثير سياساته المالية في الإصلاح البروتستانتي فقد دفع الإسراف المالي المبالغ فيه، إلى جانب بيع صكوك الغفران، العديد من الأوساط الدينية إلى المطالبة بالإصلاح، وكان لذلك صدى مباشر في ظهور حركة مارتن لوثر الإصلاحية عام 1517.
أصبح عهد ليو العاشر رمزاً لما يمكن أن يُسمى "الترفيه الديني والسياسي"، حيث يظهر التناقض بين السلطة الروحية المفترضة والانغماس في الرغبات الدنيوية.
يمثل عهد ليو العاشر نقطة تحول تاريخية، إذ كشف عن هشاشة مؤسسات الكنيسة أمام البذخ والفساد المالي، وأسهم بشكل غير مباشر في اندلاع حركة الإصلاح البروتستانتي، التي فرضت على الكنيسة لاحقاً سلسلة إصلاحات من خلال الإصلاح المضاد الكاثوليكي (Counter-Reformation).

8. كليمنت السابع (1523–1534): سقوط روما وبداية الانشقاقات الكبرى

ينتمي البابا كليمنت السابع، مثل سلفه ليو العاشر، إلى عائلة ميديشي القوية والمثيرة للجدل، وقد تميّز عهده بفترات عصيبة على صعيد الكنيسة والسياسة الأوروبية.
تُعد فترة حكمه واحدة من أكثر الفترات اضطراباً في تاريخ البابوية، وتميزت بعدة أحداث بارزة منها نهب روما 1527 ففي واحدة من أكثر الكوارث دموية في تاريخ المدينة، اجتاحت قوات الإمبراطور شارل الخامس العاصمة الإيطالية، مدمرة الكنائس والقصور، وراح ضحية ذلك آلاف المدنيين. كان هذا الحدث بمثابة صدمة كبرى للكنيسة وأظهر هشاشة السلطة البابوية أمام الصراعات الأوروبية الكبرى.
وأفضت خلافاته مع الملك هنري الثامن إلى انفصال الكنيسة الإنجليزية عن روما، وهو حدث جسد تدهور الهيبة البابوية على الساحة العالمية، ومهد لظهور انقسامات دينية كبرى في أوروبا.
وُلد كليمنت السابع كابن غير شرعي، ثم جرى شرعنته لاحقاً، ما أثار كثيراً من الجدل بين معاصريه حول مشروعية توليه الكرسي البابوي، وأدى إلى تصاعد الانتقادات لصفته الرمزية والشرعية.
يمثل عهد كليمنت السابع لحظة حاسمة في تاريخ الكنيسة، إذ جمع بين الكوارث العسكرية، والانقسامات الدينية، والصراعات الشخصية والسياسية، مؤكداً مدى ضعف البابوية في مواجهة القوى الأوروبية الصاعدة. كما أن فترة حكمه تعتبر نهاية عصر الترف والفساد الفردي للبابوية في القرن السادس عشر، وفتحت الباب أمام إصلاحات لاحقة لمحاولة استعادة السلطة الدينية والروحية للكرسي الرسولي.
------------
مثل كتاب إريك رسل تشامبرلين (The Bad Popes, 1969) إسهاماً نقدياً تاريخياً وفكرياً في فهم تطور السلطة البابوية.
يوضح تشامبرلين كيف تحولت البابوية في فترات معينة من تاريخها إلى مؤسسة ذات أبعاد سياسية دنيوية، تتداخل فيها المصالح الروحية مع طموحات العائلات القوية، ما أدى إلى صراعات داخلية وخارجية مع القوى الملكية والأرستقراطية.
زيعرض الكتاب حالات محددة لأكثر الباباوات فساداً، موضحاً كيف انعكس انحرافهم الشخصي على سمعة الكنيسة كلها، وكيف استخدمت السلطة الروحية لخدمة المصالح العائلية والمالية، وهو ما ساهم لاحقاً في اندلاع حركات الإصلاح الديني.
يقدم تشامبرلين رؤية متعمقة للصراعات العائلية (كبورجيا وميديشي) وأثرها على تعيين أو عزل الباباوات، كما يبين تأثير التنافس الدولي والإقليمي على الاستقرار الكنسي، مسلطاً الضوء على الأبعاد السياسية والاجتماعية لهذه الأحداث.
وبالتالي أصبح الكتاب مادة غنية للأكاديميين والدارسين لتاريخ الكنيسة، خصوصاً في تحليل الانحرافات السياسية والأخلاقية للبابوية الوسيطة، وإظهار نقاط التحول التي دفعت الكنيسة لاحقاً إلى الإصلاحات الداخلية والخارجية.
باختصار، يقدم تشامبرلين قراءة نقدية للتاريخ البابوي، تجمع بين التحليل السياسي والاجتماعي والأخلاقي، ويكشف كيف يمكن للسلطة الدينية أن تتعرض للانحراف حين تتشابك مع الطموحات الدنيوية، مما يجعل كتابه مرجعاً أساسياً في دراسة تاريخ الكنيسة الأوروبية والفكر الكنسي.



#رياض_قاسم_حسن_العلي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تأثير مدرسة الحوليات الفرنسية في الفكر التاريخي العربي: نحو ...
- مدرسة الحوليات الفرنسية: ثورة منهجية أعادت كتابة الماضي
- نعوم تشومسكي: العقل النقدي بين اللسانيات والسياسة
- جوليان بارنز
- الإشراقية: فلسفة النور بين العقل والذوق وميراث الحكمة الشرقي ...
- المثقفون الجدد
- العقل بين الازدهار والانكسار: مسار المعرفة في الحضارة الإسلا ...
- الإنسان على حافة الهاوية: بين ذئابية هوبز وألوهية فويرباخ – ...
- تجربة ابن سينا مع كتاب -ما بعد الطبيعة- لأرسطو
- الفلسفة وقيمة السؤال: نحو فهم جديد لمعنى التفكير الفلسفي
- انطباع ضد الموضوعية: دفاع عن الذات القارئة
- السرد، القارئ، والأنطولوجيا الإنسانية
- باروخ سبينوزا: الفيلسوف الذي عاش منفياً من معابد البشر
- عودة إلى سبينوزا مرة أخرى ورؤيته في علم الأخلاق
- الفردية والإيديولوجيا: قراءة فلسفية ونفسية في فكر كارل يونغ
- أفول أوروبا: بين النقد الجذري لأونفراي والسخرية الاستراتيجية ...
- القنفذ والشعر: دريدا وبلاغة المأزق
- حين تتحول الكلمات إلى أصنام: رؤية فلسفية للغة والفكر
- التسعينات: نوستالجيا الخراب هوامش غير مكتملة
- رافاييل: الجمال والانسجام


المزيد.....




- واشنطن تصنف جماعة الإخوان المسلمين منظّمة إرهابية: هل يُؤثّر ...
- عمر: خدعة -البرهان ينفي الإخوان- لم يعد يصدقها أحد
- خطاب البرهان في مأزق.. دلائل تناقض رواية غياب الإخوان
- الإغاثة الإسلامية تنتصر على قناة بريطانية بتعويض واعتذار عن ...
- قناة بريطانية تدفع تعويضات لـ-الإغاثة الإسلامية- بعد اتهامات ...
- بدء المرحلة الثانية من مناورات القوات البحرية لحرس الثورة ال ...
- النمسا تتحرك لقطع -أذرع الإخوان- سياسيا وماليا
- -اليهود في ذروة البياض-: منشور لماسك على -إكس- عن -انقراض ال ...
- بعد -هجوم 2020-.. النمسا تشدد الخناق على تنظيم الإخوان
- حرس الثورة الاسلامية يحذر السفن الأمريكية خلال مناورات بالخل ...


المزيد.....

- رسالة السلوان لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي ... / سامي الذيب
- الفقه الوعظى : الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- نشوء الظاهرة الإسلاموية / فارس إيغو
- كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان / تاج السر عثمان
- القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق ... / مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - رياض قاسم حسن العلي - الباباوات السيئون: قراءة تاريخية نقدية في فساد السلطة الكنسية