|
|
خسائر حنظلية كتاب كامل
كاظم حسن سعيد
اديب وصحفي
الحوار المتمدن-العدد: 8539 - 2025 / 11 / 27 - 09:23
المحور:
الادب والفن
خسائر حنظلية قصائد 2025
ديوان(الخسائر الحنظلية) 1 ( خطوات الى المدرسة ) ستواجه صخب الطلاب واهمالهم وثرثرة الزميلات ظهرت بجبة وحجاب سوداوين وسجل في الشارع الساكن حيث يشتغل الكساد غادروا محالهم لينظروها سائقو العجلات تلتف رقابهم اليها ظهرت تستقطب كشجار عنيف يندلع فجأة امها ودعتها بحرارة فهو يوم استلام المرتب.. واثقة وهادئة مرت كزهرة تنبثق من ارضية غرفتك فجأة في جمود الليل كنهر صغير فرح بالشروق تحصّنت عن غرائزهم بمظهرها لكنهم ذئاب منفردة يفتكهم جوع متراكم في العشرين وعيناها من الحزن مدينة منكوبة هل تفكر باقتران تأخر او كشفت خيانة فاتكة هل تحاول ابعاد شبح تقدم العمر او صحت من حلم مرعب هل تذكرت غدرا لا تستحقه قابل وفاءها او انها فقدت للابد اخا وفيا او تذكرت قبر ابيها لا احد يعلم من اين اتى كل هذا الحزن الذي لا تطيقه المعلمة الصغيرة غارقة عنهم بعالمها الغامض. 2025 .......... 2 في محل الحلاقة) يثرثرون عن مشاريعهم، جفاء اولادهم ، بطالتهم ،ومعقّلون يسردون حضورهم الديات وبطولات القبائل.. يختنق المحل بهم لضيقه وجدران احاديثهم التي تضٌيق المساحة يجز الشعر باصابع مجهدة الشفرة كأنها معطلة قال ( لا لكن يدي ما عادت كالامس..وهنت). يقضي لياليه مفكرا بالوجود ،بصخب التاريخ بالشعر والروايات ويبكر لهم ،لثرثرتهم. اطلق لحيته ، خالطها بعض الثلج ، وقارا فكسب القابا ( الحاج..الاستاذ..العم) اقساها الاخيرة حين تطلقها فتيات يانعات ( اهلا عمي) فتشعره بفداحة السنوات وتشل مشاعره. عليه ان يبتسم لهم ،ويجاري احط الكلام تفاهة.. عليه ان ينسى افكاره وقلقه يتكيف مع المستنقعات ويصف القنافذ بالجمال ويؤكد مثلهم بان الضفادع تحلّق.. مع كل هذا الاختناق حين ينفضّون ينقض على دفتره ليرسم قصائده. 2025 ........ 3 اغتيال بستان ) اهذا ما تبقى من بستانك النضر ؟!! شجيرات شوكية ونخلات متيبسة واشجار مبتورة وسدرة غير مطعمة تنحني حزينة لخارج البستان المسوّر بالسعف والاسلاك الرديئة. حتى الصغار لا يلتفتون اليها فهي محملة بحبيبات حصى اخضر... كانت الكروم تمتد على طول مئات من الامتار، واللوبياء سعيدة على ضفاف الانهار، وعطر الريحان يجذبك من بعيد. كنت ترمي صنارتك وفي نصف تصطاد من السمك ما يكفيك حيث يشوى بعناية في تنور الطين. .. تنام عميقا لا يقلقك الغد. ولا وقت للضجر... اهذا كل ما تبقى من بستانك موقد صديء كان غنيا بصنع الشاي الذي يصفّي الجمجمة واجزاء مقطعة من مراودك ومنجل مكسور. كانت الجلسات عصرا في الربيع هنا رحلة في عالم مزدهر حيث تنطلق الحكايا عن العشيقات،وتطوير حرفة الزراعة ، وشيء من الانباء عن رداءة الحكام او بعض شكوى من الزوجات امام هذا الموقد السحيق. تمر منحني الظهر : منجل في الحزام لجز حشائش للبقرات ،تجتاز الاشواك وحفر الجرذان ،والقصب المتيبس كما السعفات.. بلا جليس ، بلا نشوة بعد ملامستها، بلا انتظار للمد لتسقي،بلا فزاعة للطيور،بلا دفاترك المدرسية الاولى. فكل الاشياء غادرتك وغادرته،مذ احتلت البيوت الحجرية ثلثي البستان : الزوجة التي تمتص روعك... والصغار وعبثهم قبل ان تسرقهم الزوجات.. والاصدقاء قبل رحلتهم الاخيرة... والذكريات المبهجة قبل قبضة النسيان... والاحلام قبل الاستستلام لموتها.. كانت الارض والانهار لحظة الكري تئن من قسوة مسحاتك ومجرفتك. وحين زجوك في الجبهات كنت تحلم بالفيضان الذي ينضّج الارض قبل الربيع اكثر من حلمك بزبد ساقيها، كنت تحرسه ، فتبات جوار شجر الرمان موسم نضوج الرطب خشية السراق بانتظار قدوم الزوارق التي تقلها. اطرق عليك الباب ،تتاخر،ثم تدب على عصا ، محتفلا بقدومي، وتشكرني لاني اتيت : ( فضل ان تفقّدك بهذا الزمن انسان)، تقول بحزن عميق... فمذ نحروا بستانك وطمرت الترع، لم تعد تنتظر احدا ولا احد يزورك. 2025 كاظم حسن سعيد العراق/ البصرة ....... 4 لوحات لمشانق) مبكرا وصل الصبي الساحة الموج البشري الهادر يمنع عنه الرؤيا كان يسمع ( يعيش)..(يسقط) ولا يفقه شيئا الاسلفت يغرق في العرق والحناجر تعول بالهتافات وجد اخيرا مكانا مرتفعا ورآهم معلقين بالحبال في الحديقة المسوّرة... تلك اول مرة يقترب من رؤية الموت الريح تؤرجح الجثث الخامدة لكن لماذا؟!! لا احد في تلك اللحظة يتمكن من التفسير له او التبرير... 2 سيتذكرهم بعد ست سنوات فقد زار صديقه السجين وفي لحظة المغادرة رأى من الثقب غرفة مقبرة حبل مشنقة يتدلى ، معفرة بالغبار احس باقسى انقباض شهده 3 لثلاثين سنة سيظل يسمع ( يعيش)..(يسقط) اخيرا لم تسقط الا الحناجر وعاش الاعداء الخناجر 4 حينما نضج زجوه في غرف الاعدام فرآهم ليلة تعليقهم بالحبال غروبا يقتربون من القضبان وبكل ايمان يشهقون رافعين ايديهم الى السماء يستغيثون فربما هي ساعاتهم الاخيرة الا فتى مصفرا نحيلا من الاهوار نسي التبرم والجزع فامسك علبة رسمت عليها سمكة كان يشمها جوعا الى الاسماك حدّث ( انا سعيد، كنت في ضلال حتى افهموني معنى الشهادة). 5 حاول ان تتحاشى المجزرة وان اكرهت فيها فتقدم الى حبل مشنقتك ببسالة 2025 ...... 5 ( قطع لسان) اتوا به معصوبا ميتا تقريبا قبل الموت مقيدا ومعصوبا ورموه من فوق السطح فتهاوى كومة خرق رثة جعلوه ممدودا على كتلة اسمنت مرتفعة وسحبوا رأسه عنها المخلص شهر مديته فتضبب المشهد كفارسين يتقاتلان يضيعان بسورة غبار ثم اشرق المشهد ولانه شبه ميت لم يصرخ حين اخرج لسانه ثم قطعه. يحدث مثل هذا مئات المرات يوميا فيما المدينة عروس قبل اول تجربة. 2025 .....
الجزء الثاني
دكتورعادل جودة 🖼️ المشانق والذاكرة: قراءة في نص كاظم حسن سعيد (لوحات لمشانق) ✒️د. عادل جوده /العراق/ كركوك
✨ يُعَدّ نص الشاعر كاظم حسن سعيد (لوحات لمشانق) شهادة أدبية مُكثّفة ومُؤلمة، تتجاوز حدود الواقعة السياسية لتلامس الجوهر الإنساني في مواجهة العنف والعدم. هو ليس مجرد قصيدة أو نص نثري، بل مجموعة من "اللوحات" السردية المتتابعة، تفصل بينها سنوات من الذاكرة والترقب، لتشكل سيرة ذاتية مُضنية تبدأ ببراءة الشاهد وتنتهي بمصير الضحية. النص، بجزئياته الست المُرقمة، يشتغل على تيمة الموت السياسي باعتباره نقطة ارتكاز تُعيد تشكيل وعي الفرد ومصيره. ١ الصبي الشاهد: براءة مُنتَهكة تبدأ السردية من لحظة الولادة البصرية للوعي؛ "مبكراً وصل الصبي الساحة". هذا التبكير ليس زمنياً فحسب، بل هو تبكير في مواجهة الحقيقة القاسية. المشهد الأول (اللوحة الأولى) يتميز بالضبابية الحسية، حيث يغلب الصوت المجهول على الرؤيا الواضحة. "الموج البشري الهادر يمنع عنه الرؤيا"، والصبي "لا يفقه شيئاً". الموت هنا ليس حدثاً، بل ضجيج مُبهم يُغرِق الأسفلت بالعرق، ليصبح الجسد المتألم هو السطح الذي تُرسَم عليه الفاجعة. حين يعثر الصبي على مكان مرتفع، يتحول المشهد من الهتاف إلى الصمت القاتل، حيث الجثث "الخامدة" تُرجّحها الريح. اللحظة المحورية هي السؤال الوجودي البريء: "لكن لماذا؟!!" إنه سؤال البراءة الذي يفتقر إلى التفسير أو التبرير، وتلك هي الفجوة التي سيحاول النص أن يملأها، أو بالأحرى، يُعاني في سبيل فهمها على مدى ثلاثين عاماً. وفي اللوحة الثانية، تتأكد الصدمة البصرية، حيث تختزل غرفة السجين وحبل المشنقة المُعفّر بالغبار، كل فظاعة التجربة في أيقونة مكانية مرعبة، ما يُفضي إلى "أقسى انقباض شَهِده". ٢ مفارقة الدورة السيزيفية (اللوحة الثالثة) تُمثّل اللوحة الثالثة قفزة زمنية مريرة هي ثلاثون سنة من "يعيش.. يسقط"؛ تلك الهتافات التي شكّلت خلفية طفولة الصبي. هنا، يقدّم الشاعر المفارقة المأساوية التي تُلخّص تاريخاً كاملاً من النضال والصراع: "أخيراً لم تسقط الا الحناجر وعاش الأعداء الخناجر". هذا التكثيف اللغوي الفذ يحوّل الحدث السياسي إلى قدر كوني لا مفر منه، حيث يفنى الصوت ويبقى السلاح، وتصبح المعركة عبثية سيزيفية لا يُجنى منها سوى الهلاك. لقد سقط رمز التعبير، وبقي رمز القمع حيّاً ومُتجذراً. ٣ - الإيمان بين الالتماس والشهادة (اللوحة الرابعة) يبلغ النص ذروته المأساوية حين يتحول الشاهد إلى ضحية؛ "حينما نضج زجّوه في غرف الإعدام". تتجسد الرؤية الأولى في مشهد الرعب الإيماني: المساجين يقتربون من قضبان الزنزانة، ويرفعون أيديهم إلى السماء، طالبين الغوث من الله "كأن الله لا يراهم إلا من فسحة قضبانية". هذه الصورة تعبّر عن أقصى درجات اليأس، حيث يتحول الإيمان إلى أداة لحظية لدفع الفزع، ليصبح وجود الخالق مشروطاً بفتحة صغيرة في سجن بشري. في المقابل، يظهر نموذج "الفتى المصفّر النحيل من الأهوار" الذي يمثل حالة "الشهادة" المتسامية على الألم. هذا الفتى لم ينسَ الإيمان فحسب، بل نسي "التبرّم والجزع"، مُستبدلاً الهلع بشيء بسيط وعميق: علبة سمك فارغة يشمّها جوعاً للحياة والوطن. كلمته الأخيرة: "أنا سعيد، كنت في ضلال حتى أفهموني معنى الشهادة"، تحوّل المشنقة من أداة إعدام إلى بوابة خلاص ووعي، مقدّماً النقيض المطلق للحالة السابقة، ومؤكداً أن الإيمان الحقيقي يكمن في التصالح مع المصير لا في التوسل من أجل تأجيله. ٤ - وصية البسالة ونهاية الرعب (اللوحتان الخامسة والسادسة) تأتي اللوحة الخامسة بصيغة الأمر المباشر، وكأنها وصية أخيرة من السارد الذي عاين التجربتين: الشاهد والضحية. "حاول أن تتحاشى المجزرة وان أكرهت فيها فتقدم إلى حبل مشنقتك ببسالة". هذه الدعوة ليست تهوّراً، بل هي خلاصة الفهم العميق لضرورة حفظ الكرامة الإنسانية في آخر لحظات العمر، واختيار الموقف النبيل بدلاً من التراخي والانهيار. أما اللوحة السادسة فتُقدّم أشدّ صور النص تأثيراً، حيث يتم تفكيك الرعب ذاته: "عيونهم قبل حبالهم أشد اللحظات رعباً في الكون." يُصعّد النص مستوى الرعب من الأداة المادية (الحبل) إلى الأداة البشرية (العيون). إن النظرة، أو التجرّد من الإنسانية في عين الجلّاد، هي ما يُفزع الضحية أكثر من حبل الموت. إنه اعتراف بأن القتل السياسي يكمن في فاعله البشري الذي تجرّد من التعاطف، قبل أن يكمن في آلة الإعدام الصمّاء.
🌟 خاتمة يُشكل نص كاظم حسن سعيد (لوحات لمشانق) صرخة أدبية عالية في وجه التاريخ المُلطّخ بالدم. إنه عمل يتميّز بتكثيفه المذهل، حيث يتم اختصار سيرة جيل كامل في ست لقطات حادة. النص ليس مجرد رثاء للضحايا، بل هو تشريح عميق لمراحل الوعي بالظلم، من البراءة المصدومة إلى الفهم المتسامي. لقد نجح الشاعر في تحويل المشنقة، وهي رمز النهاية، إلى أيقونة للذاكرة المُثقلة والبسالة الأخيرة، ليظل صدى السؤال البريء: "لكن لماذا؟!"، هو المحرّك الدائم للبحث عن العدالة في تاريخ الشعوب.
رد محمد بسام العمري على نقد دكتور عادل جودة يُعدّ نص «خطوات إلى المدرسة» للشاعر كاظم حسن سعيد من النصوص التي تستثير القارئ بمشهديتها الحسية المكثفة، وقد تناول الدكتور عادل جودة هذا النص بقراءة احتفائية تجمع بين الحسّ الإنساني والرؤية التأملية. غير أن القراءة، على جمالها، تظل قابلة للنقد والتساؤل، خصوصاً حين تُقارب بمنظور أكاديمي يستدعي المنهج والصرامة التحليلية إلى جانب الانفعال الوجداني. فالقراءة تماهت كثيراً مع النص، حتى بدت أقرب إلى قصيدة ثانية تُحيّي القصيدة الأصلية بدل أن تحاكمها جمالياً وفنياً. وهذا ما يدفع إلى التساؤل عن موقع النقد في هذه القراءة: هل نحن أمام تحليل للنص، أم أمام إعادة إنتاج شعورية له؟ وما حدود الانطباعية حين تتحول إلى نقد؟ تقوم قراءة الدكتور عادل جودة على إبراز الصورة الإنسانية في النص بوصفها المحور المركزي، مع التركيز على ثنائية النقاء والتدنيس، والجسد والروح، والصخب والسكينة. وقد أجاد الناقد في الكشف عن الطابع السينمائي للنص، وفي رصد المشهد بوصفه انتقالاً من دائرة الحياة اليومية المتكررة إلى فضاء رمزي تتداخل فيه الوجوه، الأعين، الحزن، وذاكرة المرأة الصامتة. غير أن هذا الاشتغال المكثّف على البعد الإنساني والعاطفي كشف في الوقت نفسه عن غياب واضح للمنهج النقدي الصارم، إذ لم تُحدَّد المقاربة المتّبعة: أهي قراءة سيميائية؟ نفسية؟ أسلوبية؟ اجتماعية؟ أم أنها مجرد قراءة انطباعية تستند إلى الذائقة والحدس؟ يفتقر التحليل إلى مسار تقني يشتغل على بنية النص الداخلية، مثل العلاقات الصوتية، والانزياحات اللغوية، والحقول الدلالية، ووظيفة العنوان، وطبيعة السرد، وتوزيع الضمائر، والتوتر الإيقاعي، والسياق الثقافي للنص. كما أنّ تشبيهات الشاعر من قبيل «زهرة تنبثق من أرضية غرفتك» أو «عيناها مدينة منكوبة» و«نهر صغير فرح بالشروق» لم تُحلّل بوصفها انتقالاً من الواقعية الحسية إلى الواقعية السحرية، بل اكتُفيَ بوصفها بوصف جمالي دون تفكيكٍ لبنيتها الرمزية أو طريقة توظيفها في بناء الفضاء النفسي للنص، وهو ما يفتح الباب لقراءة تأويلية لم تُستثمر بالكامل. لقد تم التركيز على ما هو مُضمر في الحزن الأنثوي، لكن دون سبر الآلية النفسية التي تنتج هذا الحزن؛ هل هو قمع اجتماعي؟ أم خيانة شخصية؟ أم اغتراب وجودي؟ أم مجرد استعارة للمدينة العربية الجريحة؟ فالسؤال بقي معلّقاً في فضاء التحليل دون خريطة منهجية توضّح مساراته الممكنة. ويُلاحظ كذلك أن القراءة تتجه نحو تضخيم رمزية المعلمة إلى حدّ تحويلها إلى “أيقونة”، بحيث يفقد الجسد فرديته ويتحول إلى نموذج مجرّد لكل أنثى تحمل ألماً داخلياً. هذا الانزلاق من الخصوصي إلى المطلق يضعنا أمام إشكالية نقدية معروفة: إذا أفرط النص في الرمزية، هل يظل فنياً أم يتحول إلى بوست شعوري عام؟ إنّ مقاربة مثل هذه تستدعي موازنة بين الشخصي والكوني، بين التجريب الفني والألم الإنساني، وهو ما لم تلتفت إليه القراءة بالشكل الكافي. بل إنّ السؤال الأهم الذي لم يُطرح هو: هل الشاعر منح المرأة صوتاً؟ أم جعلها موضوعاً للمشاهدة؟ هل النص نافذة على روح المعلمة؟ أم كاميرا تتلصص عليها وتلتقطها مشهداً فنياً؟ هنا تحديداً تبرز ضرورة تفعيل المنهج النسوي أو النفسي في التحليل، ولو على مستوى اقتراح أسئلة تُسائل سلطة السارد ونظرته إلى الأنثى. إن النص الأصلي يمنح فرصة للتداخل مع نصوص عالمية وعربية انفردت بتناول المرأة في لحظات عبورها الحافة الرقيقة بين الحلم والقمع؛ فثمة أثرٌ يمكن مقارنته بملامح من شعر محمود درويش حين يتقاطع الجسد مع معاني الوطن، أو في الأدب النسوي عند مي زيادة ونتالي ساروت حين يصبح الصمت لغة تخاطب، أو في سرد فرجينيا وولف حين تطالب بـ«غرفة تخص المرء وحده» ليصبح الوجود حقاً لا وصفاً. غير أن القراءة الحالية لم تفتح هذه المسارات الحوارية، فاكتفت بتأمل داخلي مغلق، وهو ما جعلها قراءة جميلة ولكن محدودة الامتداد الثقافي. النقد – حين يكون أكاديمياً – لا يكتفي بالإعجاب ولا يندفع إلى الهدم، بل يكشف ثغرات النص ويقترح قراءات بديلة. لهذا، يمكن القول إن قراءة الدكتور عادل جودة مفعمة بالحس الإنساني لكنها في حاجة إلى قراءة موازية تُعيد تفكيك البنية النصية بمنهج واضح، لعلها قراءة سيميائية تشتغل على تفاصيل الصورة، أو قراءة أسلوبية تكشف اقتصاد اللغة وتوتر الإيقاع، أو قراءة نفسية تلاحق جذور “المدينة المنكوبة” في العينين، لا مجرد توصيفها. أي أنّ النص ما زال ثريّاً بما يكفي ليُعاد فتحه من جديد، لا بوصفه مشهداً حزيناً فحسب، بل بوصفه بنية فنية تُريد أن تُقرأ بعيون أخرى، ربما أقل حنيناً وأكثر صرامة. وهكذا يبقى النص الأصلي فضاءً متعدد المداخل، وتبقى قراءة الدكتور عادل جودة إضافة مهمة لكنها لا تُغلق باب التأويل، بل تفتحه على احتمال منهج جديد قادر على رسم خريطة أكثر دقة لجمالية الألم في هذا النص الذي يمشي فيه الحزن على قدمين، في طريقٍ إلى المدرسة، وربما… إلى أبعد من المدرسة بكثير. محمد بسام العمري
المشانق والذاكرة: قراءة في نص كاظم حسن سعيد (لوحات لمشانق) ✒️د. عادل جوده /العراق/ كركوك
✨ يُعَدّ نص الشاعر كاظم حسن سعيد (لوحات لمشانق) شهادة أدبية مُكثّفة ومُؤلمة، تتجاوز حدود الواقعة السياسية لتلامس الجوهر الإنساني في مواجهة العنف والعدم. هو ليس مجرد قصيدة أو نص نثري، بل مجموعة من "اللوحات" السردية المتتابعة، تفصل بينها سنوات من الذاكرة والترقب، لتشكل سيرة ذاتية مُضنية تبدأ ببراءة الشاهد وتنتهي بمصير الضحية. النص، بجزئياته الست المُرقمة، يشتغل على تيمة الموت السياسي باعتباره نقطة ارتكاز تُعيد تشكيل وعي الفرد ومصيره. ١ الصبي الشاهد: براءة مُنتَهكة تبدأ السردية من لحظة الولادة البصرية للوعي؛ "مبكراً وصل الصبي الساحة". هذا التبكير ليس زمنياً فحسب، بل هو تبكير في مواجهة الحقيقة القاسية. المشهد الأول (اللوحة الأولى) يتميز بالضبابية الحسية، حيث يغلب الصوت المجهول على الرؤيا الواضحة. "الموج البشري الهادر يمنع عنه الرؤيا"، والصبي "لا يفقه شيئاً". الموت هنا ليس حدثاً، بل ضجيج مُبهم يُغرِق الأسفلت بالعرق، ليصبح الجسد المتألم هو السطح الذي تُرسَم عليه الفاجعة. حين يعثر الصبي على مكان مرتفع، يتحول المشهد من الهتاف إلى الصمت القاتل، حيث الجثث "الخامدة" تُرجّحها الريح. اللحظة المحورية هي السؤال الوجودي البريء: "لكن لماذا؟!!" إنه سؤال البراءة الذي يفتقر إلى التفسير أو التبرير، وتلك هي الفجوة التي سيحاول النص أن يملأها، أو بالأحرى، يُعاني في سبيل فهمها على مدى ثلاثين عاماً. وفي اللوحة الثانية، تتأكد الصدمة البصرية، حيث تختزل غرفة السجين وحبل المشنقة المُعفّر بالغبار، كل فظاعة التجربة في أيقونة مكانية مرعبة، ما يُفضي إلى "أقسى انقباض شَهِده". ٢ مفارقة الدورة السيزيفية (اللوحة الثالثة) تُمثّل اللوحة الثالثة قفزة زمنية مريرة هي ثلاثون سنة من "يعيش.. يسقط"؛ تلك الهتافات التي شكّلت خلفية طفولة الصبي. هنا، يقدّم الشاعر المفارقة المأساوية التي تُلخّص تاريخاً كاملاً من النضال والصراع: "أخيراً لم تسقط الا الحناجر وعاش الأعداء الخناجر". هذا التكثيف اللغوي الفذ يحوّل الحدث السياسي إلى قدر كوني لا مفر منه، حيث يفنى الصوت ويبقى السلاح، وتصبح المعركة عبثية سيزيفية لا يُجنى منها سوى الهلاك. لقد سقط رمز التعبير، وبقي رمز القمع حيّاً ومُتجذراً. ٣ - الإيمان بين الالتماس والشهادة (اللوحة الرابعة) يبلغ النص ذروته المأساوية حين يتحول الشاهد إلى ضحية؛ "حينما نضج زجّوه في غرف الإعدام". تتجسد الرؤية الأولى في مشهد الرعب الإيماني: المساجين يقتربون من قضبان الزنزانة، ويرفعون أيديهم إلى السماء، طالبين الغوث من الله "كأن الله لا يراهم إلا من فسحة قضبانية". هذه الصورة تعبّر عن أقصى درجات اليأس، حيث يتحول الإيمان إلى أداة لحظية لدفع الفزع، ليصبح وجود الخالق مشروطاً بفتحة صغيرة في سجن بشري. في المقابل، يظهر نموذج "الفتى المصفّر النحيل من الأهوار" الذي يمثل حالة "الشهادة" المتسامية على الألم. هذا الفتى لم ينسَ الإيمان فحسب، بل نسي "التبرّم والجزع"، مُستبدلاً الهلع بشيء بسيط وعميق: علبة سمك فارغة يشمّها جوعاً للحياة والوطن. كلمته الأخيرة: "أنا سعيد، كنت في ضلال حتى أفهموني معنى الشهادة"، تحوّل المشنقة من أداة إعدام إلى بوابة خلاص ووعي، مقدّماً النقيض المطلق للحالة السابقة، ومؤكداً أن الإيمان الحقيقي يكمن في التصالح مع المصير لا في التوسل من أجل تأجيله. ٤ - وصية البسالة ونهاية الرعب (اللوحتان الخامسة والسادسة) تأتي اللوحة الخامسة بصيغة الأمر المباشر، وكأنها وصية أخيرة من السارد الذي عاين التجربتين: الشاهد والضحية. "حاول أن تتحاشى المجزرة وان أكرهت فيها فتقدم إلى حبل مشنقتك ببسالة". هذه الدعوة ليست تهوّراً، بل هي خلاصة الفهم العميق لضرورة حفظ الكرامة الإنسانية في آخر لحظات العمر، واختيار الموقف النبيل بدلاً من التراخي والانهيار. أما اللوحة السادسة فتُقدّم أشدّ صور النص تأثيراً، حيث يتم تفكيك الرعب ذاته: "عيونهم قبل حبالهم أشد اللحظات رعباً في الكون." يُصعّد النص مستوى الرعب من الأداة المادية (الحبل) إلى الأداة البشرية (العيون). إن النظرة، أو التجرّد من الإنسانية في عين الجلّاد، هي ما يُفزع الضحية أكثر من حبل الموت. إنه اعتراف بأن القتل السياسي يكمن في فاعله البشري الذي تجرّد من التعاطف، قبل أن يكمن في آلة الإعدام الصمّاء.
🌟 خاتمة يُشكل نص كاظم حسن سعيد (لوحات لمشانق) صرخة أدبية عالية في وجه التاريخ المُلطّخ بالدم. إنه عمل يتميّز بتكثيفه المذهل، حيث يتم اختصار سيرة جيل كامل في ست لقطات حادة. النص ليس مجرد رثاء للضحايا، بل هو تشريح عميق لمراحل الوعي بالظلم، من البراءة المصدومة إلى الفهم المتسامي. لقد نجح الشاعر في تحويل المشنقة، وهي رمز النهاية، إلى أيقونة للذاكرة المُثقلة والبسالة الأخيرة، ليظل صدى السؤال البريء: "لكن لماذا؟!"، هو المحرّك الدائم للبحث عن العدالة في تاريخ الشعوب.
د. عادل جودة قراءة أدبية في نص "قطع لسان" لكاظم حسن سعيد ✒️ عادل جوده/العراق/كركوك
هذا النص ليس مجرد سرد لحدث عنيف، بل هو قصيدة نثر موجعة تستخدم العنف الجسدي الصارخ كرمز للبطش والقمع وتكميم الأفواه في سياق اجتماعي أو سياسي أوسع. الشاعر، بكثافة لغوية مذهلة، يختزل فظاعة الواقع في مشهد واحد أيقوني: قطع اللسان.
🎨 العناصر الجمالية والدلالية
• ١ ـ التجريد والرمزية: • "ميتا تقريبا قبل الموت": هذه الجملة تضع القارئ فوراً في أجواء الموت البطيء، حيث يفقد الكائن الحي إنسانيته قبل أن تفارقه روحه. هو حي بالجسد، ميت بالإرادة والكرامة. • "كومة خرق رثة": تحويل الجسد البشري إلى مجرد أشياء مهملة (خرق رثة) يؤكد على نزع الصفة الإنسانية (Dehumanization) عن الضحية، وهي خطوة أولى ضرورية في ممارسة العنف المطلق. • "المدينة عروس قبل أول تجربة": هذا السطر هو مفتاح النص. يضع التناقض الصارخ بين وحشية الفعل وجمالية الحلم. المدينة هي المستقبل المأمول (العروس)، الطاهر والجديد، لكن هذا المستقبل يُداس تحت أقدام العنف المتكرر قبل أن تبدأ الحياة حقاً. • ٢ ـ التصوير السينمائي (المشهدية): • يستخدم الشاعر لغة بصرية حادة: "رموه من فوق السطح"، "كتلة اسمنت مرتفعة"، "سحبوا رأسه عنها". هذه المشاهد متعاقبة وسريعة، تمنح النص إحساسًا بالتوثيق المروع. • ٣ ـ الإبهام المعتمد: • "كفارسين يتقاتلان يضيعان بسورة غبار": هذا التشبيه يكسر سردية العنف لبرهة. "سورة الغبار" ترمز للتشويش، ربما للنسيان أو محاولة طمس الحقيقة، وكأن الفاعلين يحاولون الاختفاء، أو أن المشهد برمته يغيب عن الوعي الجمعي للحظة. • "المخلص شهر مديته": هذه العبارة غامضة ومبهمة، قد تشير إلى انتظار طويل ليوم الخلاص أو لوقف هذا العنف، ولكنه انتظار عبثي لم يتحقق.
🔇 دلالة "قطع اللسان"
قطع اللسان هو الذروة المأساوية، وهو يرمز إلى: • القمع السياسي/الاجتماعي: عقاب المتحدث، الناقد، أو المعارض. • إلغاء الصوت والاعتراض: عندما لا يملك المرء القدرة على الصراخ (لأنه شبه ميت)، يصبح الفعل الجسدي لتكميم فمه كاملاً ومطلقاً. • انتصار الصمت على الحقيقة: قطع اللسان هو إعلان لانتهاء زمن الكلام وبدء زمن الخضوع.
💔 النهاية المفتوحة والوخز الوجودي
الختام صادم وعام: "يحدث مثل هذا / مئات المرات يوميا". هذا التعميم يحوّل الحدث الفردي إلى ظاهرة مؤسسية ومألوفة. المأساة ليست في حدوث الفعل، بل في تكراره، وفي اعتياد المجتمع عليه. يترك الشاعر القارئ مع وخز وجودي: كيف يمكن للمدينة أن تكون "عروساً" بينما هذه الفظائع هي روتين يومي؟ باختصار: هذا النص قطعة أدبية عميقة، تلخص تجربة القهر العربي المعاصر في مشهد واحد لا يُنسى، مشهد يجمع بين جمالية الصورة الشعرية وقسوة الحقيقة الموثقة.
إن النص الأدبي الذي قدمه الكاتب كاظم حسن سعيد (في محل الحلاقة) هو نص قصصي قصير مؤثر وعميق جداً، ويحمل في طياته دلالات اجتماعية ونفسية وفنية غنية. هنا قراءة أدبية تحليلية للنص، مع التركيز على جمالياته الفنية ومضامينه المؤثرة: ✒️د.عادل جوده/ العراق/ كركوك
💈 قراءة تحليلية: "في محل الحلاقة" لكاظم حسن سعيد
يُعدّ نص "في محل الحلاقة" للكاتب كاظم حسن سعيد قطعة أدبية مكثفة تتجاوز مجرد سرد مشهد يومي، لترسم بورتريه داخلياً مؤثراً لشخصية تختنق بالواقع المبتذل وتجد ملاذها الأخير في الإبداع. إنه صرخة هادئة تعكس الصراع الأبدي بين الضرورة المعيشية والروح المتمردة.
١ ـ ⚔️ ثنائية الصراع والمكان الخانق
يبدأ النص بتحديد دقيق للمكان: محل الحلاقة. هذا المكان، الذي يُفترض به أن يكون مساحة للجمالية والتهذيب، يتحول فوراً إلى سجن خانق. • الاختناق المزدوج: يتم تصوير الاختناق على مستويين. الأول هو الاختناق الفيزيائي ("يختنق المحل بهم لضيقه"). والثاني هو الاختناق المعنوي، المتمثل في "جدران أحاديثهم التي تضيق المساحة". هذه الأحاديث - من ثرثرة عن "مشاريعهم، جفاء أولادهم، بطالتهم" إلى سرديات "الدِيّات وبطولات القبائل" - تشكل طبقة سميكة من التفاهة والسطحية التي تعزل الحلاق عن عالمه الداخلي. • رمزية الحلاق: الحلاق هنا ليس مجرد عامل، بل هو فيلسوف مكبّل. مهمته تقضي بـ"جز الشعر بأصابع مجهدة"، بينما عقله منشغل بـ"الوجود، بصخب التاريخ، بالشعر والروايات". هو يقدّم خدمة خارجية لتلبية حاجات الجسد والمظهر، لكنه يعيش حياة داخلية كاملة ومنفصلة عن زبائنه.
٢ ـ 💔 الشيخوخة والوهن الجسدي والنفسي
يُصعّد الكاتب من إحساس الوهن واليأس من خلال وصف الحلاق ومهنته. • الأداة المعطّلة: عند تساؤل الزبون عن الشفرة "كأنها معطلة"، يكون الرد عميقاً ومؤثراً: "لا، لكن يدي ما عادت كالأمس... وهنت". هذا الوهن ليس فقط في عضلات اليد؛ إنه وهن الروح التي تعبت من المقاومة والتكيّف. • لقب الوجاهة القاسية: "أطلق لحيته، خالطها بعض الثلج، وقاراً فكسب ألقاباً (الحاج.. الأستاذ.. العم)". هذه الألقاب تمنحه الاحترام الاجتماعي (الوقار)، لكنها تتحول إلى سكين تنهش شبابه ومشاعره عندما تطلقها "فتيات يانعات" بكلمة: "أهلاً عمي". هذه الكلمة تشل مشاعره وتشعره بـ"فداحة السنوات"، وهي تجسيد بليغ لمرور العمر وقسوة الأجيال الجديدة التي ترى فيه مجرد تاريخ منقضٍ.
٣ ـ 🎭 فرضية التكيّف القاتل (قناع الابتسامة)
الجزء الأكثر إيلاماً في النص هو وصف التكيّف القسري الذي يفرضه الواقع على هذا المثقف المضطهد: • الالتزام بالنفاق: "عليه أن يبتسم لهم، ويجاري أحط الكلام تفاهة... عليه أن ينسى أفكاره وقلقه". هنا يتحول الحلاق إلى ممثل يرتدي قناعاً اجتماعياً، يتطلب منه الإلغاء التام للذات من أجل البقاء. • التكيّف مع المستنقعات: يبلغ الهبوط الذاتي ذروته في مشهد التكيّف مع المستنقع: > "يتكيف مع المستنقعات... ويصف القنافذ بالجمال... ويؤكد مثلهم بأن الضفادع تحلّق." > هذه الجمل توازي بين مستوى الكلام التافه والواقع الذي يجب مجاراته. إنه إعلان عن الموت الرمزي للعقل النقدي، حيث يُطلب منه أن يرى القبح جمالاً (القنافذ)، وأن يصدّق المستحيل (الضفادع تحلق)، فقط ليحافظ على سلام اجتماعي زائف. >
4. 🎨 النجاة الإبداعية: الخلاص في القصيدة
يأتي الختام ليمنح النص انفراجة بطولية ومحزنة في الوقت نفسه. الإبداع هو المنقذ والمهرب الوحيد. • الانقضاض على الدفتر: بعد "كل هذا الاختناق"، و"حين ينفضّون" (أي ينتهي المشهد القسري)، يعود الحلاق إلى ذاته المفقودة: "ينقض على دفتره ليرسم قصائده". • الرسم بدلاً من الكتابة: استخدام فعل "يرسم" بدلاً من "يكتب" القصيدة يحمل دلالة فنية عميقة. القصيدة هنا ليست مجرد كلمات، بل هي شكل مرئي ومجسد لجوهر وجوده وفلسفته التي لم يستطع التعبير عنها بالكلام المبتذل. القصائد هي المساحة الحقيقية حيث يمكن أن "تطير الضفادع" بشكل رمزي، وحيث يمكن أن تكون "القنافذ" جميلة حقاً.
💡 الخلاصة الفنية
نص "في محل الحلاقة" هو نص بالغ العبقرية في إيجازه. يستخدم التناقض الصارخ بين الفضاء الداخلي الثري للشخصية والفضاء الخارجي المليء بالثرثرة والتفاهة. إنه يجسد مأساة المثقف أو الفنان الذي يُجبر على خدمة المجتمع مادياً ويُحرم من حقه في التعبير الفكري، ليجد في النهاية أن الورقة والقلم هما ملاذه الأخير وسلاحه لمقاومة الوهن وفداحة السنوات. إنه نص يستحق النشر لعمقه الإنساني وتركيزه الفني... ( قطع لسان)
اتوا به معصوبا ميتا تقريبا قبل الموت مقيدا ومعصوبا ورموه من فوق السطح فتهاوى كومة خرق رثة جعلوه ممدودا على كتلة اسمنت مرتفعة وسحبوا رأسه عنها المخلص شهر مديته فتضبب المشهد كفارسين يتقاتلان يضيعان بسورة غبار ثم اشرق المشهد ولانه شبه ميت لم يصرخ حين اخرج لسانه ثم قطعه. يحدث مثل هذا مئات المرات يوميا فيما المدينة عروس قبل اول تجربة. 2025 .. دكتور عادل جودة 🔪 قراءة أدبية في نص "قطع لسان" لكاظم حسن سعيد ✒️ عادل جوده/العراق/كركوك
هذا النص ليس مجرد سرد لحدث عنيف، بل هو قصيدة نثر موجعة تستخدم العنف الجسدي الصارخ كرمز للبطش والقمع وتكميم الأفواه في سياق اجتماعي أو سياسي أوسع. الشاعر، بكثافة لغوية مذهلة، يختزل فظاعة الواقع في مشهد واحد أيقوني: قطع اللسان.
🎨 العناصر الجمالية والدلالية
• ١ ـ التجريد والرمزية: • "ميتا تقريبا قبل الموت": هذه الجملة تضع القارئ فوراً في أجواء الموت البطيء، حيث يفقد الكائن الحي إنسانيته قبل أن تفارقه روحه. هو حي بالجسد، ميت بالإرادة والكرامة. • "كومة خرق رثة": تحويل الجسد البشري إلى مجرد أشياء مهملة (خرق رثة) يؤكد على نزع الصفة الإنسانية (Dehumanization) عن الضحية، وهي خطوة أولى ضرورية في ممارسة العنف المطلق. • "المدينة عروس قبل أول تجربة": هذا السطر هو مفتاح النص. يضع التناقض الصارخ بين وحشية الفعل وجمالية الحلم. المدينة هي المستقبل المأمول (العروس)، الطاهر والجديد، لكن هذا المستقبل يُداس تحت أقدام العنف المتكرر قبل أن تبدأ الحياة حقاً. • ٢ ـ التصوير السينمائي (المشهدية): • يستخدم الشاعر لغة بصرية حادة: "رموه من فوق السطح"، "كتلة اسمنت مرتفعة"، "سحبوا رأسه عنها". هذه المشاهد متعاقبة وسريعة، تمنح النص إحساسًا بالتوثيق المروع. • ٣ ـ الإبهام المعتمد: • "كفارسين يتقاتلان يضيعان بسورة غبار": هذا التشبيه يكسر سردية العنف لبرهة. "سورة الغبار" ترمز للتشويش، ربما للنسيان أو محاولة طمس الحقيقة، وكأن الفاعلين يحاولون الاختفاء، أو أن المشهد برمته يغيب عن الوعي الجمعي للحظة. • "المخلص شهر مديته": هذه العبارة غامضة ومبهمة، قد تشير إلى انتظار طويل ليوم الخلاص أو لوقف هذا العنف، ولكنه انتظار عبثي لم يتحقق.
🔇 دلالة "قطع اللسان"
قطع اللسان هو الذروة المأساوية، وهو يرمز إلى: • القمع السياسي/الاجتماعي: عقاب المتحدث، الناقد، أو المعارض. • إلغاء الصوت والاعتراض: عندما لا يملك المرء القدرة على الصراخ (لأنه شبه ميت)، يصبح الفعل الجسدي لتكميم فمه كاملاً ومطلقاً. • انتصار الصمت على الحقيقة: قطع اللسان هو إعلان لانتهاء زمن الكلام وبدء زمن الخضوع.
💔 النهاية المفتوحة والوخز الوجودي
الختام صادم وعام: "يحدث مثل هذا / مئات المرات يوميا". هذا التعميم يحوّل الحدث الفردي إلى ظاهرة مؤسسية ومألوفة. المأساة ليست في حدوث الفعل، بل في تكراره، وفي اعتياد المجتمع عليه. يترك الشاعر القارئ مع وخز وجودي: كيف يمكن للمدينة أن تكون "عروساً" بينما هذه الفظائع هي روتين يومي؟ باختصار: هذا النص قطعة أدبية عميقة، تلخص تجربة القهر العربي المعاصر في مشهد واحد لا يُنسى، مشهد يجمع بين جمالية الصورة الشعرية وقسوة الحقيقة الموثقة.
دكتورعادل جودة 🖼️ المشانق والذاكرة: قراءة في نص كاظم حسن سعيد (لوحات لمشانق) ✒️د. عادل جوده /العراق/ كركوك
✨ يُعَدّ نص الشاعر كاظم حسن سعيد (لوحات لمشانق) شهادة أدبية مُكثّفة ومُؤلمة، تتجاوز حدود الواقعة السياسية لتلامس الجوهر الإنساني في مواجهة العنف والعدم. هو ليس مجرد قصيدة أو نص نثري، بل مجموعة من "اللوحات" السردية المتتابعة، تفصل بينها سنوات من الذاكرة والترقب، لتشكل سيرة ذاتية مُضنية تبدأ ببراءة الشاهد وتنتهي بمصير الضحية. النص، بجزئياته الست المُرقمة، يشتغل على تيمة الموت السياسي باعتباره نقطة ارتكاز تُعيد تشكيل وعي الفرد ومصيره. ١ الصبي الشاهد: براءة مُنتَهكة تبدأ السردية من لحظة الولادة البصرية للوعي؛ "مبكراً وصل الصبي الساحة". هذا التبكير ليس زمنياً فحسب، بل هو تبكير في مواجهة الحقيقة القاسية. المشهد الأول (اللوحة الأولى) يتميز بالضبابية الحسية، حيث يغلب الصوت المجهول على الرؤيا الواضحة. "الموج البشري الهادر يمنع عنه الرؤيا"، والصبي "لا يفقه شيئاً". الموت هنا ليس حدثاً، بل ضجيج مُبهم يُغرِق الأسفلت بالعرق، ليصبح الجسد المتألم هو السطح الذي تُرسَم عليه الفاجعة. حين يعثر الصبي على مكان مرتفع، يتحول المشهد من الهتاف إلى الصمت القاتل، حيث الجثث "الخامدة" تُرجّحها الريح. اللحظة المحورية هي السؤال الوجودي البريء: "لكن لماذا؟!!" إنه سؤال البراءة الذي يفتقر إلى التفسير أو التبرير، وتلك هي الفجوة التي سيحاول النص أن يملأها، أو بالأحرى، يُعاني في سبيل فهمها على مدى ثلاثين عاماً. وفي اللوحة الثانية، تتأكد الصدمة البصرية، حيث تختزل غرفة السجين وحبل المشنقة المُعفّر بالغبار، كل فظاعة التجربة في أيقونة مكانية مرعبة، ما يُفضي إلى "أقسى انقباض شَهِده". ٢ مفارقة الدورة السيزيفية (اللوحة الثالثة) تُمثّل اللوحة الثالثة قفزة زمنية مريرة هي ثلاثون سنة من "يعيش.. يسقط"؛ تلك الهتافات التي شكّلت خلفية طفولة الصبي. هنا، يقدّم الشاعر المفارقة المأساوية التي تُلخّص تاريخاً كاملاً من النضال والصراع: "أخيراً لم تسقط الا الحناجر وعاش الأعداء الخناجر". هذا التكثيف اللغوي الفذ يحوّل الحدث السياسي إلى قدر كوني لا مفر منه، حيث يفنى الصوت ويبقى السلاح، وتصبح المعركة عبثية سيزيفية لا يُجنى منها سوى الهلاك. لقد سقط رمز التعبير، وبقي رمز القمع حيّاً ومُتجذراً. ٣ - الإيمان بين الالتماس والشهادة (اللوحة الرابعة) يبلغ النص ذروته المأساوية حين يتحول الشاهد إلى ضحية؛ "حينما نضج زجّوه في غرف الإعدام". تتجسد الرؤية الأولى في مشهد الرعب الإيماني: المساجين يقتربون من قضبان الزنزانة، ويرفعون أيديهم إلى السماء، طالبين الغوث من الله "كأن الله لا يراهم إلا من فسحة قضبانية". هذه الصورة تعبّر عن أقصى درجات اليأس، حيث يتحول الإيمان إلى أداة لحظية لدفع الفزع، ليصبح وجود الخالق مشروطاً بفتحة صغيرة في سجن بشري. في المقابل، يظهر نموذج "الفتى المصفّر النحيل من الأهوار" الذي يمثل حالة "الشهادة" المتسامية على الألم. هذا الفتى لم ينسَ الإيمان فحسب، بل نسي "التبرّم والجزع"، مُستبدلاً الهلع بشيء بسيط وعميق: علبة سمك فارغة يشمّها جوعاً للحياة والوطن. كلمته الأخيرة: "أنا سعيد، كنت في ضلال حتى أفهموني معنى الشهادة"، تحوّل المشنقة من أداة إعدام إلى بوابة خلاص ووعي، مقدّماً النقيض المطلق للحالة السابقة، ومؤكداً أن الإيمان الحقيقي يكمن في التصالح مع المصير لا في التوسل من أجل تأجيله. ٤ - وصية البسالة ونهاية الرعب (اللوحتان الخامسة والسادسة) تأتي اللوحة الخامسة بصيغة الأمر المباشر، وكأنها وصية أخيرة من السارد الذي عاين التجربتين: الشاهد والضحية. "حاول أن تتحاشى المجزرة وان أكرهت فيها فتقدم إلى حبل مشنقتك ببسالة". هذه الدعوة ليست تهوّراً، بل هي خلاصة الفهم العميق لضرورة حفظ الكرامة الإنسانية في آخر لحظات العمر، واختيار الموقف النبيل بدلاً من التراخي والانهيار. أما اللوحة السادسة فتُقدّم أشدّ صور النص تأثيراً، حيث يتم تفكيك الرعب ذاته: "عيونهم قبل حبالهم أشد اللحظات رعباً في الكون." يُصعّد النص مستوى الرعب من الأداة المادية (الحبل) إلى الأداة البشرية (العيون). إن النظرة، أو التجرّد من الإنسانية في عين الجلّاد، هي ما يُفزع الضحية أكثر من حبل الموت. إنه اعتراف بأن القتل السياسي يكمن في فاعله البشري الذي تجرّد من التعاطف، قبل أن يكمن في آلة الإعدام الصمّاء.
🌟 خاتمة يُشكل نص كاظم حسن سعيد (لوحات لمشانق) صرخة أدبية عالية في وجه التاريخ المُلطّخ بالدم. إنه عمل يتميّز بتكثيفه المذهل، حيث يتم اختصار سيرة جيل كامل في ست لقطات حادة. النص ليس مجرد رثاء للضحايا، بل هو تشريح عميق لمراحل الوعي بالظلم، من البراءة المصدومة إلى الفهم المتسامي. لقد نجح الشاعر في تحويل المشنقة، وهي رمز النهاية، إلى أيقونة للذاكرة المُثقلة والبسالة الأخيرة، ليظل صدى السؤال البريء: "لكن لماذا؟!"، هو المحرّك الدائم للبحث عن العدالة في تاريخ الشعوب.
قراءة نقدية وأدبية متأملة في نص "خطوات إلى المدرسة" للشاعر كاظم حسن سعيد، تسلط الضوء على جماليات النص وأبعاده الإنسانية المؤلمة. حين تمشي "المدينة المنكوبة" على قدمين: قراءة في نص (خطوات إلى المدرسة) بقلم: د.عادل جوده /العراق/ كركوك
في نصه المائز "خطوات إلى المدرسة"، لا يكتب الشاعر كاظم حسن سعيد قصيدة عابرة عن معلمة تسير في الشارع، بل يرسم لوحة سينمائية شديدة الكثافة، مكتظة بالتناقضات الصارخة بين (النقاء والتدنيس)، وبين (الصخب والسكينة)، وبين (الجسد والروح). إننا أمام مشهدية درامية تبدأ من الرصيف وتنتهي في أعماق النفس البشرية الجريحة. استهلال: الانبثاق المفاجئ للضوء يبدأ النص بتمهيد للبيئة التي ستقتحمها هذه الأنثى/الرمز. بيئة مدرسية تضج بـ "صخب الطلاب واهمالهم" و"ثرثرة الزميلات". إنه عالم ضجيج خالٍ من المعنى، عالم اعتيادي ومبتذل. ولكن، فجأة، تتغير العدسة لتلتقط لحظة "الظهور". يستخدم الشاعر تشبيهاً صادماً ومبتكراً جداً لوصف لحظة ظهورها في الشارع: "ظهرت تستقطب كشجار عنيف يندلع فجأة". هذا التشبيه يشي بأن جمالها أو حضورها لم يكن عادياً، بل كان حدثاً "جَلَلاً" كسر رتابة "الشارع الساكن". إنها ليست عنيفة، بل إن أثرها على المحيطين هو الذي كان بعنف الشجار؛ لأنها حركت الراكد، واستفزت "الكساد". جدلية الرداء والذئاب تظهر المعلمة متدثرة بالسواد (جبة وحجاب)، والسواد هنا ليس مجرد لون، بل هو "تحصين". يقول الشاعر: "تحصّنت عن غرائزهم بمظهرها". هي تحاول أن تختفي داخل ثيابها، أن تُلغي جسدها لتحمي روحها. ومع ذلك، يفشل هذا التحصين أمام "الجوع المتراكم" للشارع. يبرع الشاعر في وصف نظرات الرجال (السائقين، الباعة)، واصفاً إياهم بـ "ذئاب منفردة". هذا الوصف يحيلنا إلى حالة من التربص والوحشة. هؤلاء ليسوا مجرد معجبين، بل هم "جوعى" يفتك بهم الحرمان، فتتحول المعلمة في نظرهم من "مربية أجيال" إلى "فريسة". المفارقة المؤلمة هنا هي أن "أمها ودعتها بحرارة" ليس خوفاً عليها من الذئاب، بل "لأنه يوم استلام المرتب". هذه اللقطة الواقعية تزيد من عزلة الفتاة؛ فالمجتمع يريد منها جسدها (الذئاب)، والعائلة تريد منها وظيفتها (المال)، بينما هي تسير وحيدة بقلبها المحطم. الزهرة التي تنبت في الأسمنت في واحد من أجمل مقاطع النص وأكثرها شعرية، يصف الشاعر مرورها قائلاً:
"كزهرة تنبثق من ارضية غرفتك فجأة في جمود الليل" "كنهر صغير فرح بالشروق"
هنا ينتقل النص من الواقعية الفجة إلى "الواقعية السحرية". هي ليست مجرد امرأة، هي "نهر" و"زهرة". هذا التضاد بين (جمود الليل/أرضية الغرفة) وبين (الزهرة/النهر) يوضح كم هي غريبة عن هذا العالم. هي كائن نوراني يسير في "مدينة ظلام". هي "فرحة بالشروق" رغم الحزن الذي يسكنها، وكأنها تقاوم الموت بالحياة، وتقاوم القبح بالجمال الصامت. عيناها.. المدينة المنكوبة يصل النص إلى ذروته العاطفية والمأساوية حين يغوص الشاعر في عينيها. يترك الشارع والذئاب ليتأمل الوجه: "في العشرين وعيناها من الحزن مدينة منكوبة". يا له من تعبير موجع! كيف لفتاة في العشرين، في ربيع العمر، أن تحمل في عينيها دمار "مدينة كاملة"؟ كلمة "منكوبة" تحيلنا إلى الزلازل، الحروب، والدمار الشامل. عيناها ليست حزينة فقط، بل مدمرة. وهنا يفتح الشاعر باب التأويلات المشرعة على الوجع الإنساني، طارحاً أسئلة لا تنتظر إجابة، بل تعمق الجرح: •هل هو تأخر الزواج (اقتران تأخر) في مجتمع لا يرحم؟ •هل هي خيانة فاتكة كسرت قلبها الغض؟ •هل هو شبح العنوسة (تقدم العمر) الذي يطارد الفتيات ككابوس؟ * أم هو الموت؟ (فقدان أخ، أو ذكرى قبر أبيها). هذه الاحتمالات المتعددة تجعل من المعلمة رمزاً لكل أنثى تحمل جبلاً من الهموم خلف قناع الصمت والوقار. هي لا تصرخ، لا تشتكي، فقط تمشي. الخاتمة: العزلة المجيدة يختتم الشاعر نصه بحقيقة دامغة: "لا أحد يعلم من أين أتى كل هذا الحزن". تبقى مأساتها سراً، وتبقى هي "غارقة عنهم بعالمها الغامض". النص دعوة للتأمل في الوجوه التي نعبرها كل يوم. تلك الوجوه الصامتة، الملتزمة، التي نظنها قوية، بينما هي من الداخل "مدن منكوبة". لقد نجح كاظم حسن سعيد في تحويل مشهد يومي عابر لخطوات معلمة، إلى مرثية إنسانية شفافة، تفضح قسوة المجتمع، وتمجد صمود المرأة التي تسير كالنهر، وتزهر كالوردة، رغم أنف الذئاب ورغم أنف الحزن. إنه نص يكتب بمداد من دمع، ويُقرأ بقلب يرتجف، ليذكرنا أن خلف كل "جبة وحجاب" وسجل مدرسي، توجد إنسانة، وربما.. مدينة كاملة تبكي بصمت.
قراءة نقدية: مرثية البستان المغدور (اغتيال بستان)
🕊 يُقدّم لنا الشاعر كاظم حسن سعيد في نصه الموسوم بـ "اغتيال بستان" مرثية عميقة وموجعة، ليست للنبات والتراب فحسب، بل لزمن ولّى، ولأحلام قُتلت، ولإنسانٍ نُزع من جنّته. هذا النص الشاعري هو شهادة أدبية على تحوّلات المكان التي تعكس انكسار الروح، حيث تتداخل فاجعة الخراب البيئي مع مأساة الاغتراب الإنساني. إنها صرخة تُنادي على ما تبقّى من "بستانك النضر"، فلا تجد إلا الهشيم والصدأ.
💔 بلاغة الخراب واليباس الحزين
يبدأ النص بسؤال استنكاري يحمل ثقل الحسرة: "أهذا ما تبقى من بستانك النضر؟!!"؛ ليضع القارئ فوراً أمام مشهد "الخراب المستحكم" الذي أصبح عنواناً للمكان. تتبدّى البلاغة في استخدام مفردات ذات وقع قارس: "شجيرات شوكية"، "نخلات متيبسة"، "أشجار مبتورة"، "سدرة غير مُطعّمة". هذا المشهد البائس لا يحمل أي ثمرة أو حياة، بل هو مسوّر بـ "السعف والأسلاك الرديئة"، وكأن البستان قد تحوّل إلى سجن محزن، ينحني بخجلٍ ويأس، ولا يلقي له الصغار بالاً. حتى حبيبات الحصى الخضراء التي تحملها الأشجار لا تُغري، بل تُشير إلى استحالة الثمر وتحوّل الحياة إلى مجرد حجارة. هذا الحاضر المُرّ يكتمل بمشهد "موقد صديء" و"منجل مكسور"، وهي ليست مجرد أدوات معطّلة، بل هي رموز لمشروع حياة كامل تآكل واندثر. كانت تلك الأدوات شريكة في صناعة الحياة البهجة: الشاي الذي "يصفّي الجمجمة"، والجلسات التي كانت "رحلة في عالم مزدهر" حيث تُطلق الحكايا وتمتزج شؤون العشاق بالزراعة والشكوى من رداءة الحكام. اليوم، لم يبقَ من تلك الدفء الجماعي سوى قطعة معدنية صدئة وذكرى.
✨ فردوس الذكريات المُغتال
في مواجهة هذا اليباس، يستحضر النص ببراعة متدفقة "فردوس الذكريات"، مُظهراً التباين المؤلم بين الماضي والحاضر. كان البستان عالماً كاملاً من الوفرة والجمال: "الكروم تمتد على طول مئات من الأمتار"، و"اللوبياء سعيدة على ضفاف الأنهار"، وعطر الريحان الذي "يجذبك من بعيد". لم يكن البستان مصدراً للرزق فحسب، بل كان واحة للسلام الداخلي، حيث "تنام عميقاً لا يقلقك الغد. ولا وقت للضجر". ويبرز دور النهر كشريان حياة مركزية، فصيد السمك الذي يُشوى بعناية في "تنور الطين" يُجسّد اكتفاءً ذاتياً حميماً ومُطمئناً. هذه المشاهد لا تُصوّر فقط غِنى الطبيعة، بل تُصوّر غِنى التجربة الإنسانية، حيث كانت الأرض تستمد الحياة من قسوة أدوات الفلاّح "المسحات والمجرفة"، التي كانت حركتها في الكَدّ والعرق نشيداً للحياة وليس موتاً.
🔪 أدوات القتل وفاجعة الاغتراب
تتجه المرثية بعد ذلك لتحديد أدوات "اغتيال البستان"، التي لم تكن الطبيعة هي سببها، بل الإنسان نفسه وتحولاته القاسية. يضع النص سببان رئيسيان لهذا النحر: زحف العمران والحرب. "مذ احتلت البيوت الحجرية ثلثي البستان" إشارة واضحة إلى طغيان المادي على الروحي، وتغوّل الإسمنت على المساحات الخضراء، ممّا أدى إلى طمر الترع وقطع أوصال الأرض. أما زجّ الرجل في "الجبهات"، فهو تحويل قسري للمُزارع من حارس للخير إلى مُشارك في الموت، ليصبح حلمه بـ "الفيضان الذي ينضّج الأرض" أثمن من أي حلم شخصي آخر. نتيجة هذا الاغتيال المزدوج هي "المُغادرة" الشاملة: "فكل الأشياء غادرتك وغادرته". الزوجة، والصغار، والأصدقاء، والذكريات، والأحلام؛ كلها هجرت الرجل. تحوّل من حارس للموسم بـ "جوار شجر الرمان" إلى مُتجوّل وحيد، منحني الظهر، "بلا جليس، بلا نشوة، بلا انتظار للمد لتسقي، بلا فزاعة للطيور". لقد أصبح الرجل نفسه بقايا بستانه المُنتهك.
🚪 خاتمة الوحدة وعمق الحزن
يُختتم النص بمشهد مؤثّر يعكس العزلة القاتلة التي آل إليها صاحب البستان. عند طَرْق الباب، يتأخر الرجل "ثم يدبّ على عصا"، ليقابل الزائر بامتنانٍ مُفجع: "(فضل أن تفقّدك بهذا الزمن إنسان)". هذه الجملة ليست شُكراً عابراً، بل هي اعترافٌ عميق ومُحزن بأن الروابط الإنسانية قد انقطعت، وأن زيارة واحدة تُعدّ منقبة في زمن "نُحرت فيه البساتين وطُمرت فيه الترع". لقد نجح كاظم حسن سعيد في تقديم نصٍ مكثّف، يشتغل على الاستعارة بمهارة، حيث البستان هو الأنا المفقودة، والموقد الصدئ هو القلب المُتعب، واليَباس هو قدر الإنسان في مواجهة جُملة من الكوارث المعاصرة. إن "اغتيال بستان" ليس مجرد حكاية عن أرض ميتة، بل هو مرثية مؤثرة عن موت بهجة العيش، وفقدان الدفء الإنساني في عالم متسارع ومُتجاهل. ✒️ د. عادل جوده/ العراق/ كركوك
..... لقد أرسلت ( خطوات الى المدرسة ) ستواجه صخب الطلاب واهمالهم وثرثرة الزميلات ظهرت بجبة وحجاب سوداوين وسجل في الشارع الساكن حيث يشتغل الكساد غادروا محالهم لينظروها سائقو العجلات تلتف رقابهم اليها ظهرت تستقطب كشجار عنيف يندلع فجأة امها ودعتها بحرارة فهو يوم استلام المرتب.. واثقة وهادئة مرت كزهرة تنبثق من ارضية غرفتك فجأة في جمود الليل كنهر صغير فرح بالشروق تحصّنت عن غرائزهم بمظهرها لكنهم ذئاب منفردة يفتكهم جوع متراكم في العشرين وعيناها من الحزن مدينة منكوبة هل تفكر باقتران تأخر او كشفت خيانة فاتكة هل تحاول ابعاد شبح تقدم العمر او صحت من حلم مرعب هل تذكرت غدرا لا تستحقه قابل وفاءها او انها فقدت للابد اخا وفيا او تذكرت قبر ابيها لا احد يعلم من اين اتى كل هذا الحزن الذي لا تطيقه المعلمة الصغيرة غارقة عنهم بعالمها الغامض.
قراءة نقدية وأدبية متأملة في نص "خطوات إلى المدرسة" للشاعر كاظم حسن سعيد، تسلط الضوء على جماليات النص وأبعاده الإنسانية المؤلمة. حين تمشي "المدينة المنكوبة" على قدمين: قراءة في نص (خطوات إلى المدرسة) بقلم: د.عادل جوده /العراق/ كركوك
في نصه المائز "خطوات إلى المدرسة"، لا يكتب الشاعر كاظم حسن سعيد قصيدة عابرة عن معلمة تسير في الشارع، بل يرسم لوحة سينمائية شديدة الكثافة، مكتظة بالتناقضات الصارخة بين (النقاء والتدنيس)، وبين (الصخب والسكينة)، وبين (الجسد والروح). إننا أمام مشهدية درامية تبدأ من الرصيف وتنتهي في أعماق النفس البشرية الجريحة. استهلال: الانبثاق المفاجئ للضوء يبدأ النص بتمهيد للبيئة التي ستقتحمها هذه الأنثى/الرمز. بيئة مدرسية تضج بـ "صخب الطلاب واهمالهم" و"ثرثرة الزميلات". إنه عالم ضجيج خالٍ من المعنى، عالم اعتيادي ومبتذل. ولكن، فجأة، تتغير العدسة لتلتقط لحظة "الظهور". يستخدم الشاعر تشبيهاً صادماً ومبتكراً جداً لوصف لحظة ظهورها في الشارع: "ظهرت تستقطب كشجار عنيف يندلع فجأة". هذا التشبيه يشي بأن جمالها أو حضورها لم يكن عادياً، بل كان حدثاً "جَلَلاً" كسر رتابة "الشارع الساكن". إنها ليست عنيفة، بل إن أثرها على المحيطين هو الذي كان بعنف الشجار؛ لأنها حركت الراكد، واستفزت "الكساد". جدلية الرداء والذئاب تظهر المعلمة متدثرة بالسواد (جبة وحجاب)، والسواد هنا ليس مجرد لون، بل هو "تحصين". يقول الشاعر: "تحصّنت عن غرائزهم بمظهرها". هي تحاول أن تختفي داخل ثيابها، أن تُلغي جسدها لتحمي روحها. ومع ذلك، يفشل هذا التحصين أمام "الجوع المتراكم" للشارع. يبرع الشاعر في وصف نظرات الرجال (السائقين، الباعة)، واصفاً إياهم بـ "ذئاب منفردة". هذا الوصف يحيلنا إلى حالة من التربص والوحشة. هؤلاء ليسوا مجرد معجبين، بل هم "جوعى" يفتك بهم الحرمان، فتتحول المعلمة في نظرهم من "مربية أجيال" إلى "فريسة". المفارقة المؤلمة هنا هي أن "أمها ودعتها بحرارة" ليس خوفاً عليها من الذئاب، بل "لأنه يوم استلام المرتب". هذه اللقطة الواقعية تزيد من عزلة الفتاة؛ فالمجتمع يريد منها جسدها (الذئاب)، والعائلة تريد منها وظيفتها (المال)، بينما هي تسير وحيدة بقلبها المحطم. الزهرة التي تنبت في الأسمنت في واحد من أجمل مقاطع النص وأكثرها شعرية، يصف الشاعر مرورها قائلاً:
"كزهرة تنبثق من ارضية غرفتك فجأة في جمود الليل" "كنهر صغير فرح بالشروق"
هنا ينتقل النص من الواقعية الفجة إلى "الواقعية السحرية". هي ليست مجرد امرأة، هي "نهر" و"زهرة". هذا التضاد بين (جمود الليل/أرضية الغرفة) وبين (الزهرة/النهر) يوضح كم هي غريبة عن هذا العالم. هي كائن نوراني يسير في "مدينة ظلام". هي "فرحة بالشروق" رغم الحزن الذي يسكنها، وكأنها تقاوم الموت بالحياة، وتقاوم القبح بالجمال الصامت. عيناها.. المدينة المنكوبة يصل النص إلى ذروته العاطفية والمأساوية حين يغوص الشاعر في عينيها. يترك الشارع والذئاب ليتأمل الوجه: "في العشرين وعيناها من الحزن مدينة منكوبة". يا له من تعبير موجع! كيف لفتاة في العشرين، في ربيع العمر، أن تحمل في عينيها دمار "مدينة كاملة"؟ كلمة "منكوبة" تحيلنا إلى الزلازل، الحروب، والدمار الشامل. عيناها ليست حزينة فقط، بل مدمرة. وهنا يفتح الشاعر باب التأويلات المشرعة على الوجع الإنساني، طارحاً أسئلة لا تنتظر إجابة، بل تعمق الجرح: •هل هو تأخر الزواج (اقتران تأخر) في مجتمع لا يرحم؟ •هل هي خيانة فاتكة كسرت قلبها الغض؟ •هل هو شبح العنوسة (تقدم العمر) الذي يطارد الفتيات ككابوس؟ * أم هو الموت؟ (فقدان أخ، أو ذكرى قبر أبيها). هذه الاحتمالات المتعددة تجعل من المعلمة رمزاً لكل أنثى تحمل جبلاً من الهموم خلف قناع الصمت والوقار. هي لا تصرخ، لا تشتكي، فقط تمشي. الخاتمة: العزلة المجيدة يختتم الشاعر نصه بحقيقة دامغة: "لا أحد يعلم من أين أتى كل هذا الحزن". تبقى مأساتها سراً، وتبقى هي "غارقة عنهم بعالمها الغامض". النص دعوة للتأمل في الوجوه التي نعبرها كل يوم. تلك الوجوه الصامتة، الملتزمة، التي نظنها قوية، بينما هي من الداخل "مدن منكوبة". لقد نجح كاظم حسن سعيد في تحويل مشهد يومي عابر لخطوات معلمة، إلى مرثية إنسانية شفافة، تفضح قسوة المجتمع، وتمجد صمود المرأة التي تسير كالنهر، وتزهر كالوردة، رغم أنف الذئاب ورغم أنف الحزن. إنه نص يكتب بمداد من دمع، ويُقرأ بقلب يرتجف، ليذكرنا أن خلف كل "جبة وحجاب" وسجل مدرسي، توجد إنسانة، وربما.. مدينة كاملة تبكي بصمت.
نقد لنص ( في محل الحلاقة ) د. عادل جودة ( يختنق المحل بهم لضيقه وجدران احاديثهم التي تضٌيق المساحة يجز الشعر باصابع مجهدة الشفرة كأنها معطلة قال ( لا لكن يدي ما عادت كالامس..وهنت). يقضي لياليه مفكرا بالوجود ،بصخب التاريخ بالشعر والروايات ويبكر لهم ،لثرثرتهم. اطلق لحيته ، خالطها بعض الثلج ، وقارا فكسب القابا ( الحاج..الاستاذ..العم) اقساها الاخيرة حين تطلقها فتيات يانعات ( اهلا عمي) فتشعره بفداحة السنوات وتشل مشاعره. عليه ان يبتسم لهم ،ويجاري احط الكلام تفاهة.. عليه ان ينسى افكاره وقلقه يتكيف مع المستنقعات ويصف القنافذ بالجمال ويؤكد مثلهم بان الضفادع تحلّق.. مع كل هذا الاختناق حين ينفضّون ينقض على دفتره ليرسم قصائده.) عادل جودة إن النص الأدبي الذي قدمه الكاتب كاظم حسن سعيد (في محل الحلاقة) هو نص قصصي قصير مؤثر وعميق جداً، ويحمل في طياته دلالات اجتماعية ونفسية وفنية غنية. هنا قراءة أدبية تحليلية للنص، مع التركيز على جمالياته الفنية ومضامينه المؤثرة: ✒️د.عادل جوده/ العراق/ كركوك
💈 قراءة تحليلية: "في محل الحلاقة" لكاظم حسن سعيد
يُعدّ نص "في محل الحلاقة" للكاتب كاظم حسن سعيد قطعة أدبية مكثفة تتجاوز مجرد سرد مشهد يومي، لترسم بورتريه داخلياً مؤثراً لشخصية تختنق بالواقع المبتذل وتجد ملاذها الأخير في الإبداع. إنه صرخة هادئة تعكس الصراع الأبدي بين الضرورة المعيشية والروح المتمردة.
١ ـ ⚔️ ثنائية الصراع والمكان الخانق
يبدأ النص بتحديد دقيق للمكان: محل الحلاقة. هذا المكان، الذي يُفترض به أن يكون مساحة للجمالية والتهذيب، يتحول فوراً إلى سجن خانق. • الاختناق المزدوج: يتم تصوير الاختناق على مستويين. الأول هو الاختناق الفيزيائي ("يختنق المحل بهم لضيقه"). والثاني هو الاختناق المعنوي، المتمثل في "جدران أحاديثهم التي تضيق المساحة". هذه الأحاديث - من ثرثرة عن "مشاريعهم، جفاء أولادهم، بطالتهم" إلى سرديات "الدِيّات وبطولات القبائل" - تشكل طبقة سميكة من التفاهة والسطحية التي تعزل الحلاق عن عالمه الداخلي. • رمزية الحلاق: الحلاق هنا ليس مجرد عامل، بل هو فيلسوف مكبّل. مهمته تقضي بـ"جز الشعر بأصابع مجهدة"، بينما عقله منشغل بـ"الوجود، بصخب التاريخ، بالشعر والروايات". هو يقدّم خدمة خارجية لتلبية حاجات الجسد والمظهر، لكنه يعيش حياة داخلية كاملة ومنفصلة عن زبائنه.
٢ ـ 💔 الشيخوخة والوهن الجسدي والنفسي
يُصعّد الكاتب من إحساس الوهن واليأس من خلال وصف الحلاق ومهنته. • الأداة المعطّلة: عند تساؤل الزبون عن الشفرة "كأنها معطلة"، يكون الرد عميقاً ومؤثراً: "لا، لكن يدي ما عادت كالأمس... وهنت". هذا الوهن ليس فقط في عضلات اليد؛ إنه وهن الروح التي تعبت من المقاومة والتكيّف. • لقب الوجاهة القاسية: "أطلق لحيته، خالطها بعض الثلج، وقاراً فكسب ألقاباً (الحاج.. الأستاذ.. العم)". هذه الألقاب تمنحه الاحترام الاجتماعي (الوقار)، لكنها تتحول إلى سكين تنهش شبابه ومشاعره عندما تطلقها "فتيات يانعات" بكلمة: "أهلاً عمي". هذه الكلمة تشل مشاعره وتشعره بـ"فداحة السنوات"، وهي تجسيد بليغ لمرور العمر وقسوة الأجيال الجديدة التي ترى فيه مجرد تاريخ منقضٍ.
٣ ـ 🎭 فرضية التكيّف القاتل (قناع الابتسامة)
الجزء الأكثر إيلاماً في النص هو وصف التكيّف القسري الذي يفرضه الواقع على هذا المثقف المضطهد: • الالتزام بالنفاق: "عليه أن يبتسم لهم، ويجاري أحط الكلام تفاهة... عليه أن ينسى أفكاره وقلقه". هنا يتحول الحلاق إلى ممثل يرتدي قناعاً اجتماعياً، يتطلب منه الإلغاء التام للذات من أجل البقاء. • التكيّف مع المستنقعات: يبلغ الهبوط الذاتي ذروته في مشهد التكيّف مع المستنقع: > "يتكيف مع المستنقعات... ويصف القنافذ بالجمال... ويؤكد مثلهم بأن الضفادع تحلّق." > هذه الجمل توازي بين مستوى الكلام التافه والواقع الذي يجب مجاراته. إنه إعلان عن الموت الرمزي للعقل النقدي، حيث يُطلب منه أن يرى القبح جمالاً (القنافذ)، وأن يصدّق المستحيل (الضفادع تحلق)، فقط ليحافظ على سلام اجتماعي زائف. >
4. 🎨 النجاة الإبداعية: الخلاص في القصيدة
يأتي الختام ليمنح النص انفراجة بطولية ومحزنة في الوقت نفسه. الإبداع هو المنقذ والمهرب الوحيد. • الانقضاض على الدفتر: بعد "كل هذا الاختناق"، و"حين ينفضّون" (أي ينتهي المشهد القسري)، يعود الحلاق إلى ذاته المفقودة: "ينقض على دفتره ليرسم قصائده". • الرسم بدلاً من الكتابة: استخدام فعل "يرسم" بدلاً من "يكتب" القصيدة يحمل دلالة فنية عميقة. القصيدة هنا ليست مجرد كلمات، بل هي شكل مرئي ومجسد لجوهر وجوده وفلسفته التي لم يستطع التعبير عنها بالكلام المبتذل. القصائد هي المساحة الحقيقية حيث يمكن أن "تطير الضفادع" بشكل رمزي، وحيث يمكن أن تكون "القنافذ" جميلة حقاً.
💡 الخلاصة الفنية
نص "في محل الحلاقة" هو نص بالغ العبقرية في إيجازه. يستخدم التناقض الصارخ بين الفضاء الداخلي الثري للشخصية والفضاء الخارجي المليء بالثرثرة والتفاهة. إنه يجسد مأساة المثقف أو الفنان الذي يُجبر على خدمة المجتمع مادياً ويُحرم من حقه في التعبير الفكري، ليجد في النهاية أن الورقة والقلم هما ملاذه الأخير وسلاحه لمقاومة الوهن وفداحة السنوات. إنه نص يستحق النشر لعمقه الإنساني وتركيزه الفني...
🔪 قراءة أدبية في نص "قطع لسان" لكاظم حسن سعيد ✒️ عادل جوده/العراق/كركوك
هذا النص ليس مجرد سرد لحدث عنيف، بل هو قصيدة نثر موجعة تستخدم العنف الجسدي الصارخ كرمز للبطش والقمع وتكميم الأفواه في سياق اجتماعي أو سياسي أوسع. الشاعر، بكثافة لغوية مذهلة، يختزل فظاعة الواقع في مشهد واحد أيقوني: قطع اللسان.
🎨 العناصر الجمالية والدلالية
• ١ ـ التجريد والرمزية: • "ميتا تقريبا قبل الموت": هذه الجملة تضع القارئ فوراً في أجواء الموت البطيء، حيث يفقد الكائن الحي إنسانيته قبل أن تفارقه روحه. هو حي بالجسد، ميت بالإرادة والكرامة. • "كومة خرق رثة": تحويل الجسد البشري إلى مجرد أشياء مهملة (خرق رثة) يؤكد على نزع الصفة الإنسانية (Dehumanization) عن الضحية، وهي خطوة أولى ضرورية في ممارسة العنف المطلق. • "المدينة عروس قبل أول تجربة": هذا السطر هو مفتاح النص. يضع التناقض الصارخ بين وحشية الفعل وجمالية الحلم. المدينة هي المستقبل المأمول (العروس)، الطاهر والجديد، لكن هذا المستقبل يُداس تحت أقدام العنف المتكرر قبل أن تبدأ الحياة حقاً. • ٢ ـ التصوير السينمائي (المشهدية): • يستخدم الشاعر لغة بصرية حادة: "رموه من فوق السطح"، "كتلة اسمنت مرتفعة"، "سحبوا رأسه عنها". هذه المشاهد متعاقبة وسريعة، تمنح النص إحساسًا بالتوثيق المروع. • ٣ ـ الإبهام المعتمد: • "كفارسين يتقاتلان يضيعان بسورة غبار": هذا التشبيه يكسر سردية العنف لبرهة. "سورة الغبار" ترمز للتشويش، ربما للنسيان أو محاولة طمس الحقيقة، وكأن الفاعلين يحاولون الاختفاء، أو أن المشهد برمته يغيب عن الوعي الجمعي للحظة. • "المخلص شهر مديته": هذه العبارة غامضة ومبهمة، قد تشير إلى انتظار طويل ليوم الخلاص أو لوقف هذا العنف، ولكنه انتظار عبثي لم يتحقق.
🔇 دلالة "قطع اللسان"
قطع اللسان هو الذروة المأساوية، وهو يرمز إلى: • القمع السياسي/الاجتماعي: عقاب المتحدث، الناقد، أو المعارض. • إلغاء الصوت والاعتراض: عندما لا يملك المرء القدرة على الصراخ (لأنه شبه ميت)، يصبح الفعل الجسدي لتكميم فمه كاملاً ومطلقاً. • انتصار الصمت على الحقيقة: قطع اللسان هو إعلان لانتهاء زمن الكلام وبدء زمن الخضوع.
💔 النهاية المفتوحة والوخز الوجودي
الختام صادم وعام: "يحدث مثل هذا / مئات المرات يوميا". هذا التعميم يحوّل الحدث الفردي إلى ظاهرة مؤسسية ومألوفة. المأساة ليست في حدوث الفعل، بل في تكراره، وفي اعتياد المجتمع عليه. يترك الشاعر القارئ مع وخز وجودي: كيف يمكن للمدينة أن تكون "عروساً" بينما هذه الفظائع هي روتين يومي؟ باختصار: هذا النص قطعة أدبية عميقة، تلخص تجربة القهر العربي المعاصر في مشهد واحد لا يُنسى، مشهد يجمع بين جمالية الصورة الشعرية وقسوة الحقيقة الموثقة. 🖼️ المشانق والذاكرة: قراءة في نص كاظم حسن سعيد (لوحات لمشانق) ✒️د. عادل جوده /العراق/ كركوك
✨ يُعَدّ نص الشاعر كاظم حسن سعيد (لوحات لمشانق) شهادة أدبية مُكثّفة ومُؤلمة، تتجاوز حدود الواقعة السياسية لتلامس الجوهر الإنساني في مواجهة العنف والعدم. هو ليس مجرد قصيدة أو نص نثري، بل مجموعة من "اللوحات" السردية المتتابعة، تفصل بينها سنوات من الذاكرة والترقب، لتشكل سيرة ذاتية مُضنية تبدأ ببراءة الشاهد وتنتهي بمصير الضحية. النص، بجزئياته الست المُرقمة، يشتغل على تيمة الموت السياسي باعتباره نقطة ارتكاز تُعيد تشكيل وعي الفرد ومصيره. ١ الصبي الشاهد: براءة مُنتَهكة تبدأ السردية من لحظة الولادة البصرية للوعي؛ "مبكراً وصل الصبي الساحة". هذا التبكير ليس زمنياً فحسب، بل هو تبكير في مواجهة الحقيقة القاسية. المشهد الأول (اللوحة الأولى) يتميز بالضبابية الحسية، حيث يغلب الصوت المجهول على الرؤيا الواضحة. "الموج البشري الهادر يمنع عنه الرؤيا"، والصبي "لا يفقه شيئاً". الموت هنا ليس حدثاً، بل ضجيج مُبهم يُغرِق الأسفلت بالعرق، ليصبح الجسد المتألم هو السطح الذي تُرسَم عليه الفاجعة. حين يعثر الصبي على مكان مرتفع، يتحول المشهد من الهتاف إلى الصمت القاتل، حيث الجثث "الخامدة" تُرجّحها الريح. اللحظة المحورية هي السؤال الوجودي البريء: "لكن لماذا؟!!" إنه سؤال البراءة الذي يفتقر إلى التفسير أو التبرير، وتلك هي الفجوة التي سيحاول النص أن يملأها، أو بالأحرى، يُعاني في سبيل فهمها على مدى ثلاثين عاماً. وفي اللوحة الثانية، تتأكد الصدمة البصرية، حيث تختزل غرفة السجين وحبل المشنقة المُعفّر بالغبار، كل فظاعة التجربة في أيقونة مكانية مرعبة، ما يُفضي إلى "أقسى انقباض شَهِده". ٢ مفارقة الدورة السيزيفية (اللوحة الثالثة) تُمثّل اللوحة الثالثة قفزة زمنية مريرة هي ثلاثون سنة من "يعيش.. يسقط"؛ تلك الهتافات التي شكّلت خلفية طفولة الصبي. هنا، يقدّم الشاعر المفارقة المأساوية التي تُلخّص تاريخاً كاملاً من النضال والصراع: "أخيراً لم تسقط الا الحناجر وعاش الأعداء الخناجر". هذا التكثيف اللغوي الفذ يحوّل الحدث السياسي إلى قدر كوني لا مفر منه، حيث يفنى الصوت ويبقى السلاح، وتصبح المعركة عبثية سيزيفية لا يُجنى منها سوى الهلاك. لقد سقط رمز التعبير، وبقي رمز القمع حيّاً ومُتجذراً. ٣ - الإيمان بين الالتماس والشهادة (اللوحة الرابعة) يبلغ النص ذروته المأساوية حين يتحول الشاهد إلى ضحية؛ "حينما نضج زجّوه في غرف الإعدام". تتجسد الرؤية الأولى في مشهد الرعب الإيماني: المساجين يقتربون من قضبان الزنزانة، ويرفعون أيديهم إلى السماء، طالبين الغوث من الله "كأن الله لا يراهم إلا من فسحة قضبانية". هذه الصورة تعبّر عن أقصى درجات اليأس، حيث يتحول الإيمان إلى أداة لحظية لدفع الفزع، ليصبح وجود الخالق مشروطاً بفتحة صغيرة في سجن بشري. في المقابل، يظهر نموذج "الفتى المصفّر النحيل من الأهوار" الذي يمثل حالة "الشهادة" المتسامية على الألم. هذا الفتى لم ينسَ الإيمان فحسب، بل نسي "التبرّم والجزع"، مُستبدلاً الهلع بشيء بسيط وعميق: علبة سمك فارغة يشمّها جوعاً للحياة والوطن. كلمته الأخيرة: "أنا سعيد، كنت في ضلال حتى أفهموني معنى الشهادة"، تحوّل المشنقة من أداة إعدام إلى بوابة خلاص ووعي، مقدّماً النقيض المطلق للحالة السابقة، ومؤكداً أن الإيمان الحقيقي يكمن في التصالح مع المصير لا في التوسل من أجل تأجيله. ٤ - وصية البسالة ونهاية الرعب (اللوحتان الخامسة والسادسة) تأتي اللوحة الخامسة بصيغة الأمر المباشر، وكأنها وصية أخيرة من السارد الذي عاين التجربتين: الشاهد والضحية. "حاول أن تتحاشى المجزرة وان أكرهت فيها فتقدم إلى حبل مشنقتك ببسالة". هذه الدعوة ليست تهوّراً، بل هي خلاصة الفهم العميق لضرورة حفظ الكرامة الإنسانية في آخر لحظات العمر، واختيار الموقف النبيل بدلاً من التراخي والانهيار. أما اللوحة السادسة فتُقدّم أشدّ صور النص تأثيراً، حيث يتم تفكيك الرعب ذاته: "عيونهم قبل حبالهم أشد اللحظات رعباً في الكون." يُصعّد النص مستوى الرعب من الأداة المادية (الحبل) إلى الأداة البشرية (العيون). إن النظرة، أو التجرّد من الإنسانية في عين الجلّاد، هي ما يُفزع الضحية أكثر من حبل الموت. إنه اعتراف بأن القتل السياسي يكمن في فاعله البشري الذي تجرّد من التعاطف، قبل أن يكمن في آلة الإعدام الصمّاء.
🌟 خاتمة يُشكل نص كاظم حسن سعيد (لوحات لمشانق) صرخة أدبية عالية في وجه التاريخ المُلطّخ بالدم. إنه عمل يتميّز بتكثيفه المذهل، حيث يتم اختصار سيرة جيل كامل في ست لقطات حادة. النص ليس مجرد رثاء للضحايا، بل هو تشريح عميق لمراحل الوعي بالظلم، من البراءة المصدومة إلى الفهم المتسامي. لقد نجح الشاعر في تحويل المشنقة، وهي رمز النهاية، إلى أيقونة للذاكرة المُثقلة والبسالة الأخيرة، ليظل صدى السؤال البريء: "لكن لماذا؟!"، هو المحرّك الدائم للبحث عن العدالة في تاريخ الشعوب.
يُعدّ نص «خطوات إلى المدرسة» للشاعر كاظم حسن سعيد من النصوص التي تستثير القارئ بمشهديتها الحسية المكثفة، وقد تناول الدكتور عادل جودة هذا النص بقراءة احتفائية تجمع بين الحسّ الإنساني والرؤية التأملية. غير أن القراءة، على جمالها، تظل قابلة للنقد والتساؤل، خصوصاً حين تُقارب بمنظور أكاديمي يستدعي المنهج والصرامة التحليلية إلى جانب الانفعال الوجداني. فالقراءة تماهت كثيراً مع النص، حتى بدت أقرب إلى قصيدة ثانية تُحيّي القصيدة الأصلية بدل أن تحاكمها جمالياً وفنياً. وهذا ما يدفع إلى التساؤل عن موقع النقد في هذه القراءة: هل نحن أمام تحليل للنص، أم أمام إعادة إنتاج شعورية له؟ وما حدود الانطباعية حين تتحول إلى نقد؟ تقوم قراءة الدكتور عادل جودة على إبراز الصورة الإنسانية في النص بوصفها المحور المركزي، مع التركيز على ثنائية النقاء والتدنيس، والجسد والروح، والصخب والسكينة. وقد أجاد الناقد في الكشف عن الطابع السينمائي للنص، وفي رصد المشهد بوصفه انتقالاً من دائرة الحياة اليومية المتكررة إلى فضاء رمزي تتداخل فيه الوجوه، الأعين، الحزن، وذاكرة المرأة الصامتة. غير أن هذا الاشتغال المكثّف على البعد الإنساني والعاطفي كشف في الوقت نفسه عن غياب واضح للمنهج النقدي الصارم، إذ لم تُحدَّد المقاربة المتّبعة: أهي قراءة سيميائية؟ نفسية؟ أسلوبية؟ اجتماعية؟ أم أنها مجرد قراءة انطباعية تستند إلى الذائقة والحدس؟ يفتقر التحليل إلى مسار تقني يشتغل على بنية النص الداخلية، مثل العلاقات الصوتية، والانزياحات اللغوية، والحقول الدلالية، ووظيفة العنوان، وطبيعة السرد، وتوزيع الضمائر، والتوتر الإيقاعي، والسياق الثقافي للنص. كما أنّ تشبيهات الشاعر من قبيل «زهرة تنبثق من أرضية غرفتك» أو «عيناها مدينة منكوبة» و«نهر صغير فرح بالشروق» لم تُحلّل بوصفها انتقالاً من الواقعية الحسية إلى الواقعية السحرية، بل اكتُفيَ بوصفها بوصف جمالي دون تفكيكٍ لبنيتها الرمزية أو طريقة توظيفها في بناء الفضاء النفسي للنص، وهو ما يفتح الباب لقراءة تأويلية لم تُستثمر بالكامل. لقد تم التركيز على ما هو مُضمر في الحزن الأنثوي، لكن دون سبر الآلية النفسية التي تنتج هذا الحزن؛ هل هو قمع اجتماعي؟ أم خيانة شخصية؟ أم اغتراب وجودي؟ أم مجرد استعارة للمدينة العربية الجريحة؟ فالسؤال بقي معلّقاً في فضاء التحليل دون خريطة منهجية توضّح مساراته الممكنة. ويُلاحظ كذلك أن القراءة تتجه نحو تضخيم رمزية المعلمة إلى حدّ تحويلها إلى “أيقونة”، بحيث يفقد الجسد فرديته ويتحول إلى نموذج مجرّد لكل أنثى تحمل ألماً داخلياً. هذا الانزلاق من الخصوصي إلى المطلق يضعنا أمام إشكالية نقدية معروفة: إذا أفرط النص في الرمزية، هل يظل فنياً أم يتحول إلى بوست شعوري عام؟ إنّ مقاربة مثل هذه تستدعي موازنة بين الشخصي والكوني، بين التجريب الفني والألم الإنساني، وهو ما لم تلتفت إليه القراءة بالشكل الكافي. بل إنّ السؤال الأهم الذي لم يُطرح هو: هل الشاعر منح المرأة صوتاً؟ أم جعلها موضوعاً للمشاهدة؟ هل النص نافذة على روح المعلمة؟ أم كاميرا تتلصص عليها وتلتقطها مشهداً فنياً؟ هنا تحديداً تبرز ضرورة تفعيل المنهج النسوي أو النفسي في التحليل، ولو على مستوى اقتراح أسئلة تُسائل سلطة السارد ونظرته إلى الأنثى. إن النص الأصلي يمنح فرصة للتداخل مع نصوص عالمية وعربية انفردت بتناول المرأة في لحظات عبورها الحافة الرقيقة بين الحلم والقمع؛ فثمة أثرٌ يمكن مقارنته بملامح من شعر محمود درويش حين يتقاطع الجسد مع معاني الوطن، أو في الأدب النسوي عند مي زيادة ونتالي ساروت حين يصبح الصمت لغة تخاطب، أو في سرد فرجينيا وولف حين تطالب بـ«غرفة تخص المرء وحده» ليصبح الوجود حقاً لا وصفاً. غير أن القراءة الحالية لم تفتح هذه المسارات الحوارية، فاكتفت بتأمل داخلي مغلق، وهو ما جعلها قراءة جميلة ولكن محدودة الامتداد الثقافي. النقد – حين يكون أكاديمياً – لا يكتفي بالإعجاب ولا يندفع إلى الهدم، بل يكشف ثغرات النص ويقترح قراءات بديلة. لهذا، يمكن القول إن قراءة الدكتور عادل جودة مفعمة بالحس الإنساني لكنها في حاجة إلى قراءة موازية تُعيد تفكيك البنية النصية بمنهج واضح، لعلها قراءة سيميائية تشتغل على تفاصيل الصورة، أو قراءة أسلوبية تكشف اقتصاد اللغة وتوتر الإيقاع، أو قراءة نفسية تلاحق جذور “المدينة المنكوبة” في العينين، لا مجرد توصيفها. أي أنّ النص ما زال ثريّاً بما يكفي ليُعاد فتحه من جديد، لا بوصفه مشهداً حزيناً فحسب، بل بوصفه بنية فنية تُريد أن تُقرأ بعيون أخرى، ربما أقل حنيناً وأكثر صرامة. وهكذا يبقى النص الأصلي فضاءً متعدد المداخل، وتبقى قراءة الدكتور عادل جودة إضافة مهمة لكنها لا تُغلق باب التأويل، بل تفتحه على احتمال منهج جديد قادر على رسم خريطة أكثر دقة لجمالية الألم في هذا النص الذي يمشي فيه الحزن على قدمين، في طريقٍ إلى المدرسة، وربما… إلى أبعد من المدرسة بكثير. د . عادل جودة حروب المستقبل 🎭 قراءة في قصيدة: "حروب المستقبل" لكاظم حسن سعيد ✒️د. عادل جوده/ العراق/ كركوك إن نص "حروب المستقبل" للشاعر كاظم حسن سعيد (وإن كان أقرب إلى فن القصيدة النثرية أو الومضة السردية المكثفة) هو قطعة أدبية متفردة، تبدأ بمشهدٍ واقعي بسيط لتُحلّق بنا نحو أفقٍ فلسفيٍّ بعيد حول طبيعة الصراع البشري في الغد. الشاعر هنا لا يصف طفولةً عابرة، بل يضعنا أمام نبوءةٍ أدبية ترسم ملامح حربٍ "مثالية" خالية من الكارثة. 🎨 بنية المشهد ونقيض الواقع يبدأ النص برسمٍ دقيق للمشهد: "في نهاية الزقاق / كان جيشان من الصغار يتقاتلان". تستخدم القصيدة مفردات الحرب العنيفة ("يتقاتلان"، "رابض"، "ساتر"، "المنجنيق"، "الحجر") لتصادمها فوراً بملامح الطفولة والهشاشة. فالساتر ليس خندقاً محفوراً، بل "كارتون مقوى / تحمل علامات حلوى"، والأسلحة هي "بنادق من خشب". هذا التناقض الصارخ (بين فكرة الحرب المدمّرة ومادتها اللعوبة) هو أول مفتاح يفتحه الشاعر لدخول عالمه. الجنود الصغار "بغية الفرح وهما يجسّدان البطولة"، والفرح هنا ليس سذاجة، بل هو النقاء الفطري الذي لم تُلطّخه بعدُ مرارة التجربة الإنسانية. 📝 الإيقاع والسرد القصيدة تعتمد على السرد الخبري المتتابع، وهو ما يمنحها قوة المشاهدة والتوثيق. يسير الشاعر، بصفته الراوي والمشاهد، ليقدّم لنا نقطة التحول: "نهرتهما كي أتفادى الإصابة". هذا التدخل الخارجي السريع لا يُنهي الصراع بقوة قاهرة، بل بـخيار الإدراك الذي يملكه الطرفان. هنا يقع جوهر النبوءة. ✨ جوهر النبوءة: حرب بلا تبعات الجزء الأكثر تأثيراً في النص هو سلسلة النفي المتتابع التي تأتي بعد انسحاب أحد الجيشين. الشاعر لا يصف ما حدث، بل يصف ما لم يحدث، وما لم يكن ليحدث لو كانت هذه حرب الكبار: • "بلا إصابات" • "بلا دمع على القتلى" • "ولن يفكّروا بإنشاء مقابر" • "ولم تكن هناك مدن منكوبة" •"ولا ثكالى سيصرفن ما تبقى من العمر بالنحيب" • "وبلا ندبات في الأرواح ستعلَق للأبد" هذا السرد عبر النفي (استخدام "بلا"، و"ولم") يُبرز بشاعة الحرب الحقيقية عبر غيابها. القارئ، الذي تعوّد على صور الحرب، يجد نفسه أمام فراغٍ مُريح، وكأن الشاعر يُطهّر مفهوم الحرب من كل ما علق به من مأساة. إنه يُعيد تعريف "النصر" ليس كقضاءٍ على الآخر، بل كـخلاصٍ من الخسارة الوجودية. ⚽ التراجيديا والكوميديا الوجودية ذروة النص تأتي في الحوار القصير، الذي يختزل كل الفرق بين صراع الأطفال وصراع الكبار: • "( ألا تقاتلون)؟" • "(اكتفينا قال أحدهم) ومضى يسحب رفاقه لكرة القدم". كلمة "اكتفينا" هي مفتاح النص برمّته. إنها تعكس الاقتناع الفطري بالتوقف عندما تذهب المتعة وتظهر الحاجة لما هو "أجدى وأكثر تسلية". هذا الانتقال السلس من "الحرب" إلى "كرة القدم" يمثّل في نظر الشاعر الغاية الأسمى للتطور البشري. البطولة ليست في الصمود حتى النهاية الدموية، بل في القدرة على الانسحاب الحكيم نحو الأهم. 💡 الخاتمة يُنهي الشاعر القصيدة باستنتاجه المُعلَّق والمشروط: "هكذا، ربما، ستكون حروب المستقبل". إنها "قشعريرة عابرة" سرعان ما تزول، و"انسحاب من الميدان لما هو أجدى وأكثر تسلية". كاظم حسن سعيد، عبر هذا النص المكثف، لا يدعونا إلى الطفولة، بل يدعونا إلى فلسفة البراءة والوعي الانتقائي: الوعي الذي يُميّز بين اللعب الجاد والجنون الحقيقي، ويدرك أن قيمة الحياة أسمى من قيمة الصراع على أرض كرتونية. إنه نصٌ مؤثرٌ جداً لأنه يقدّم لنا الأمل في العقلانية البشريّة التي قد تدرك يوماً عبثيّة دمارها الذاتي.
#كاظم_حسن_سعيد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
غصن الياسمين قصيدة
-
حروب المستقبل ومشهدان رؤى نقدية عميقة
-
لحظتان ، سحر العابر والبحث عن السعادة المفقودة
-
لحظتان قصيدة
-
مصيدة الوجوم كتاب كامل
-
حروب المستقبل قصيدة
-
المشانق والذاكرة
-
خطوات الى المدرسة قصيدة
-
لوحات لمشانق قصيدة
-
في محل الحلاقة قصيدة
-
قراءة نقدية للدكتور عادل جودة
-
اغتيال بستان قصيدة
-
ابو مسلم الخرساني قصيدة
-
ازهار فوق تل جماجم كتاب كامل
-
صانع الاختام قصيدة
-
الفلاح
-
انسحاقات قصيدة
-
قراءتان لنص مشاهد
-
جنازة قصيدة
-
هل تستطيع قصيدة
المزيد.....
-
شاب من الأنبار يصارع التحديات لإحياء الثقافة والكتاب
-
-الشامي- يرد على نوال الزغبي بعد تعليقها على أغانيه
-
وثائقي -المنكوبون- التأملي.. سؤال الهروب من المكسيك أم عودة
...
-
فيلم -صوت هند رجب-.. حكاية طفلة فلسطينية من غزة يعرض في صالا
...
-
الأطفال في غزة يجدون السكينة في دروس الموسيقى
-
قرع جدران الخزّان في غزة.. قصيدة حب تقاوم الإبادة الجماعية ا
...
-
رعب بلا موسيقى ولا مطاردات.. فيلم -بطش الطبيعة- يبتكر لغة خو
...
-
-صوت هند رجب-: فيلم عن جريمة هزت ضمير العالم
-
وزارة الثقافة تنظم فعالية
-
لوحة لفريدا كاهلو تباع بـ54.7 مليون دولار محطمة الرقم القياس
...
المزيد.....
-
خرائط العراقيين الغريبة
/ ملهم الملائكة
-
مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال
...
/ السيد حافظ
-
ركن هادئ للبنفسج
/ د. خالد زغريت
-
حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني
/ السيد حافظ
-
رواية "سفر الأمهات الثلاث"
/ رانية مرجية
-
الذين باركوا القتل رواية
...
/ رانية مرجية
-
المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون
...
/ د. محمود محمد حمزة
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية
/ د. أمل درويش
-
مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز.
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|