|
|
مصيدة الوجوم كتاب كامل
كاظم حسن سعيد
اديب وصحفي
الحوار المتمدن-العدد: 8536 - 2025 / 11 / 24 - 10:32
المحور:
الادب والفن
مصيدة الوجوم 2025
ديوان ( مصيدة الوجوم) 1 ( جدار) تثلج شيء فيها لم يعد همسه يشعلها غير مبالية هي الان بعدّ الثواني حتى تحين وجبة السرير. لم يتسمر سعيره لحظة رغم السنوات ينتظر تلك اللحظة التي فيها تنادي.. هي الان تفضل الشكوى على سكر الحوار الانين خفيا او ظاهرا على لعبة الذوبان ذبول الاجفان لحظتها ودوي الآهات نغم يهزه اذ يتذكر في الليالي المطيرة في عرق الهاجرة يتعالى بينهما جدار يحاول تهديمه تنشغل بتدعيمه يبتكر الوان الجمر لكن الثلج تخلد في جسدها. 2025 ............. 2 ( انسحاقات) الشحاذات الصغيرات ،اثنتان محجبتان،حنطاويتان الثالثة شقراء سمّرها الغبار هي التي استكشفت فضولك ونظرتك نظرة لا تفسر كأن ابتسامة تبرعمت منها الشحاذات يجاورن علب المقوى ويحصين النقود ،مبتهجات قرب مقهى يدخنون 2 صاحب العربة شاب يجمع الكارتون المقوى تمتليء عربته يعلوها ويكبس يغيب لحظات تفقد العربة توازنها،ترتفع، يعود يضيف ويكبس يبتسمن المترفات المزينات بالذهب، وهن يشاهدنه.. لا يبالي يفكر بافواه جياع. 3 تحمل حملها الثقيل ،حبة رز تقطع مسافات بلا شكوى النملة سعيدة رغم الاجهاد تمر عجلة عجلى تسحقها قبل مخبأها الحفرة 4 تعودت على المشي توا تتأرجح ،تتوازن ببالغ الصعوبة تغطي قطا رماديا نائما يرفع رأسه ، يخفض رأسه تمضي الصغيرة لتغطي ذيله اخيرا بذات المنشفة 5 القطة الرمادية المتعبة قرب القمامة تتدلى اثداؤها من لصغارها لو استهدفها صبي بحجر في رأسها واجهزها ارضا.؟!! 2025 ............
3 ( الحاج) فلاح في الثمانين ، كان يقطع الفيافي مسافة اميال مشيا وخضاره على ظهر دابته منذ المنتصف فيصل المدينة فجرا ترك بساتينه لورثة اهملوها فرطوا بها للاصهار كان يعلق فاتورات الكهرباء من ستين عاما بمسمار على الحائط الطوب صدئت تلك الفاتورات قبل رحيله بشهر على الكرسي عصاه بيده عيناه ناطقتان بدشداشة ناصعة البياض قال هازا دشداشته مشيرا اليها ( هذا كل ما تبقى. ..ولكنها ستسلب منا ذات يوم). 2025 ...........
1 ( انكسارات) الشقي المرعب لم تفارق يده يوما مديته ملك الاسواق والمشارب والغجر ومخصي الاثرياء قطعت يده... عندها تمكن صبي خجول من غرس خنجره عميقا في خاصرته. 2 الثري الثري الوسيم بعضلاته وجرأته كان يشل بنظراته الاخرين ينحنون له انى مضى وربما يهتفون وحين يرحل للعاصمة ، مع خادمه زوجته تستمتع بالسرير. 3 كانوا يسجدون لجمالها هي الان وحيدة في الخمسين تفتش عن رجل وان كان قردا. ......... 4 الغزالة انقذها النهر من الضباع قبيل بلوغها الضفة يفترسها تمساح مخلفا الموج الدموي 2025 .............
5 ( ليس هو) هو ليس هو انهم يرون ظله الذي لا يشبهه قط انه جزر لم تكتشف هو ليس هو انه التاقلم الاضطراري مع نقاوتهم مع معتقداتهم هو ليس هو انه النهر الذي ضل اراضيه وجرى مثلما يشاؤون وفيما يتحاورون ويؤمنون بمطلقات يتأرق ممتدا لقرن لا يتخيلونه مسكينة قتّالة الرجال حسنا جعلتهم عبيدها وهي تئن من سوق النخاسة مسكين ذلك الشاعر ، نشوان بتصفيقهم سيصعرون خدهم عنه كخرقة بالية مسكين ذلك الثوري نصف عمره بالمعتقل والنصف الاخر بالفاقة والاهمال مسكين ذلك المؤمن ابلى عمره ركوعا وبالتسبيح ثم لا يجد جنة. مسكين ذلك الاديولوجي فرح بالهتافات ثم تحول عطارا كسدت بضاعته 2025 .................
6 ( صانع الاختام) يغلق محله في زقاف رث ، ليلا ، ويمضي. ضحى يسلم اختامه يستمتع بلياليه السعيدة مع فاتنة او اصدقاء لم يفكر كيف تطورت صناعتها او تاريخها (ظهرت اولا في بلاد ما بين النهرين في الألفية السادسة قبل الميلاد، وتطورت إلى الأختام الأسطوانية واستُخدمت لتنظيم المعاملات وتصديق العقود وإضفاء الطابع الرسمي على الوثائق وصنعت من مواد مثل الحجر واستعانوا بالعسل وبعض النحاس ونقشت عليها رموز ورسومات تعكس الحياة اليومية والدينية، وكانت تُرتدى حول الرقبة أو المعصم. ) ختمت بها ارداف العبيد والحبيبات بيوم الحب يسرقها لص فيهجم بيوت.. فرقت بها زوجات صغيرات نهبت بها بساتين وثروات هو لا يدري او لا يهتم صدفة قادته لقريبه صانع الاختام اتقن مهنته وحل ازمته في زمن البطالة. حين نهب ثلثا المملكة الاعظم كانت الاختام صاعقة عليها. ذات يوم دخل عليه وهو يأكل الرز ، نبي مستحدث.. وطلب ختما فصيره له ... ومضى هذا النبي يبصم بالختم الذهبي على الاف التعاليم المكتوبة على ورق البردي والجلود او المنقوشة على الحجر ويرسخها بملايين الاتباع. 2025 ......
7
متفرقات 1 صنعت سجلا لاسماء عشاقها لم تتوقف لحظة شراهتها امتلأ الدفتر بعد الاربعين لم يرد فيه عاشق لروحها ولم تعشق احدا ............ 2 استغرقت ربع ساعة لتهبط من السيارة المرأة البدينة الانيقة الشرسة ساعدتها اربع ايد. ..... هجرت دارها لكثرة الزوار عادت اليه بعد عقدين استغربت من صمت الباب .......... 3 مر عليهما الكلبان الشقراوان ينامان متقابلين على قمامة حين مر جوارهما حركا جفونا ثقيلة ثم عادا يحلمان بنباحهما...بحروبهما طيلة الليل. ....... 4 الحلمة الصناعية مسحوقة على طريق ترابي هل وضعوا له فيها حنظلا ليهجرها او قتلته الحصبة او سيمر عليها مجهدا من حقيبته المدرسية الثقيلة .... 5 الحفيد يشاهد فلم اطفال في عربته مضت سنة منذ ابصر النور انه يستكشف الحياة غير مدرك انه سيحتاج قرونا ليدرك ذرات من الحقائق الفلم يعرض جروا يستل بفمه مصاصة رضيع يلتفت لجده مشيرا ومستغربا غير مدرك بان الحياة مركب كيميائي من الانتهاكات ........... 6 السلحفاة تحصنت بدرعها عن الضباع حاولوا حتى بلغوا الخيبة فمضوا عندها اسفرت عن رأسها ودبت مغرورة على العشب. ..........
8 ( ابو مسلم الخرساني) الفتى السري يعبر النهر بجيشه الفتاك علبوا الرحمة والتردد واتوا ينزفون بسالة. 2 كان الجيش الاموي في خدر استبدلوا الحصى للسلوى في جعبهم ونسوا رماحهم. اضعفتهم الفاقة والاهمال كانوا يعلكون السعف فيما يفكر الخليفة بفراش زئبقي مبتهجا بجواريه تركهم ظمأى تطحنهم الشمس فهم نعل تراب لديه عببد باسماء منمقة( فرسان). لهذا حين مر بهم الخرساني شاكسوا قليلا ثم مدوا رقابهم اذلة لسيوفه 3 ( كان قصير القامة، أسمر، جميلًا وذا لحية حسنة وشعر طويل.عريض الجبهة، أحور العين، حسن الهيئة، ولديه صوت خفيض. لم يُرَ ضاحكًا أو مازحًا إلا نادرًا، ولم يظهر عليه السرور في الفتوحات أو الحزن في الشدائد. ذا هيبة عظيمة في عسكره ورعيته، وكان حازمًا وشجاعًا. عيناه كأنهما ناطقتان). 4 فعادت الأنَفة إلى أبي مسلم فقال وصوته يرتجف من الغضب: «دع هذا. لقد أصبحت لا أخاف سوى الله.» فغضب المنصور وصفَّق بيده على الأخرى، فخرج عليه الحرس فضربه أحدهم فقطع حمائل سيفه، فصاح أبو مسلم: «أبقني لعدوك يا أمير المؤمنين.» فقال: «لا أبقاني الله إذن؛ أي عدوٍّ أعدَى منك لي؟» فصاح: «العفو، العفو، يا أمير المؤمنين.» وما من مجيب، فتساقطت السيوف عليه، فخرَّ على الأرض صريعًا.) 5 السيوف السيوف تحاورك الان والندم قطرة بعد دهر ظمأ كنت جزارهم ومهندس دولتهم واول كبش ليمضوا يصوغوا النجوم. 6 سيذوقون مثلك تلك السيوف.
( صانع الاختام) يغلق محله في زقاف رث ، ليلا ، ويمضي. ضحى يسلم اختامه يستمتع بلياليه السعيدة مع فاتنة او اصدقاء لم يفكر كيف تطورت صناعتها او تاريخها (ظهرت اولا في بلاد ما بين النهرين في الألفية السادسة قبل الميلاد، وتطورت إلى الأختام الأسطوانية واستُخدمت لتنظيم المعاملات وتصديق العقود وإضفاء الطابع الرسمي على الوثائق وصنعت من مواد مثل الحجر واستعانوا بالعسل وبعض النحاس ونقشت عليها رموز ورسومات تعكس الحياة اليومية والدينية، وكانت تُرتدى حول الرقبة أو المعصم. ) ختمت بها ارداف العبيد والحبيبات بيوم الحب يسرقها لص فيهجم بيوت.. فرقت بها زوجات صغيرات نهبت بها بساتين وثروات هو لا يدري او لا يهتم صدفة قادته لقريبه صانع الاختام اتقن مهنته وحل ازمته في زمن البطالة. حين نهب ثلثا المملكة الاعظم كانت الاختام صاعقة عليها. ذات يوم دخل عليه وهو يأكل الرز ، نبي مستحدث.. وطلب ختما فصيره له ... ومضى هذا النبي يبصم بالختم الذهبي على الاف التعاليم المكتوبة على ورق البردي والجلود او المنقوشة على الحجر ويرسخها بملايين الاتباع. 2025
الجزء الثاني قراءات نقدية للقصائد
د.عادل جودة
⚔️ أبو مسلم الخرساني: سيرة على حد السيف ⚔️ نص الاستاذ كاظم حسن سعيد. ✒️ د. عادل جوده/ العراق/ كركوك.
تتجسد في سيرة أبي مسلم الخرساني (ت. 137 هـ) واحدة من أعقد وأكثر صفحات التاريخ الإسلامي إثارة للجدل، مُشكّلةً بذلك نسيجًا روائيًا يتراوح بين أسطورة البطل الفاتح ونهاية المخطط الدموي. إن النص الذي بين أيدينا، للكاتب كاظم حسن سعيد، لا يكتفي بسرد الوقائع، بل يغوص في تحليل عميق لشخصية هذا "الفتى السري" وللمفارقات التاريخية التي أحاطت به، مُستخدماً لغة جزلة وصوراً شعرية مكثفة. يبدأ المشهد بهالة من القوة القاصمة، حيث يصف المقطع الأول عبور "الفتى السري" النهر بـ "جيشه الفتاك"، مُعلناً عن ميلاد قوة لا تعرف التردد أو الرحمة. هذه البداية هي إعلان عن قدوم التغيير المزلزل، فالجيش لا يكتفي بالقتال، بل "ينزف بسالة"، وهي صورة بلاغية تُحيل إلى فيض لا ينضب من الشجاعة والتصميم، وهو النقيض المطلق لما كان عليه الخصم. في المقابل، يرسم المقطع الثاني لوحة بالغة القتامة للجيش الأموي، الذي كان "في خدر"، وهو وصف يوحي بالترف والرخاوة وغياب الوعي بالخطر الداهم. لقد استبدلوا أدوات القتال "الحصى للسلوى" و"نسوا رماحهم"، في دلالة على تحول جندي المعارك إلى عاطل عن القتال، منهك بالـ "فاقة والإهمال". يستعرض النص مشهدًا مؤلماً لهم وهم "يعلكون السعف" في ظل إهمال الخليفة الذي كان مشغولاً بـ "فراش زئبقي" و"جواريه". هنا، يُلخص النص جوهر الصراع: هو ليس صراعاً بين جيشين متكافئين، بل بين قوة دافعة مؤمنة بالتغيير، وكيان منهك بالفساد والاستبداد. ويصل الكاتب إلى ذروة التوصيف حين يصف جنود الأمويين بأنهم "نعل تراب لديه" و"عبيد بأسماء منمقة (فرسان)"، مبرراً بذلك الهزيمة السريعة: "شاكسوا قليلا ثم مدوا رقابهم إذلة لسيوفه". إن الاستبداد يقتل الروح القتالية قبل أن يقتلها السيف.
🧐 هيبة القائد وعبء المصير
يأتي المقطع الثالث ليرسم بورتريه لافتًا لشخصية أبي مسلم، متجاوزاً بذلك الإنجاز العسكري إلى العمق النفسي. يصفه بأنه "قصير القامة، أسمر، جميلًا"، لكن الأهم هو ما يتجاوز المظهر: "لم يُرَ ضاحكًا أو مازحًا إلا نادرًا"، و"لم يظهر عليه السرور في الفتوحات أو الحزن في الشدائد". هذه الصفات تُشير إلى رجل ذي إرادة فولاذية، يختزل عواطفه خلف قناع الهيبة والصرامة. "عيناه كأنهما ناطقتان" هي العبارة المفتاحية، إذ تجعل منه شخصية صامتة لكنها معبرة عن عمق البصيرة والتدبير. أبو مسلم هو المهندس الأيديولوجي والسياسي، وليس مجرد قائد عسكري.
🩸 من مؤسس دولة إلى فريسة: سخرية القدر
يتحول المشهد في المقطع الرابع إلى اللحظة المأساوية، نهاية الحلم العباسي على يد من أسسه. الحوار بين أبي مسلم والمنصور هو فصل درامي بامتياز، يُظهر فيه المنصور الغدر السياسي القائم على مقولة "الملك عقيم". عندما صاح أبو مسلم: «أبقني لعدوك يا أمير المؤمنين.» جاء الرد الحاسم القاطع: «لا أبقاني الله إذن؛ أي عدوٍّ أعدَى منك لي؟». في نظر الخليفة الجديد، فإن من يمتلك القدرة على إسقاط دولة، يمتلك القدرة على إسقاط أخرى، ولذلك كان يجب التخلص من مصدر القوة نفسه. إن تساقط السيوف عليه وخروره "صريعًا" ينهي قصة القوة المطلقة في مواجهة المكر المطلق.
⏳ العدالة التاريخية والندم
في المقطعين الخامس والسادس، يصل الكاتب إلى ذروة القراءة الأدبية والفلسفية للتاريخ. السيوف التي حصد بها أبو مسلم رؤوس الأمويين، هي ذاتها التي "تحاورك الآن". هذه السيوف تمثل العدالة التاريخية الغادرة، التي لا تفرق بين الجلاد والمؤسس. لقد كان "جزارهم" (الأمويين) و"مهندس دولتهم" (العباسيين)، لكنه تحول إلى "أول كبش" فداء ليمضوا "يصوغوا النجوم". والندم هنا ليس قطرة ماء تروي ظمأه فحسب، بل هو "قطرة بعد دهر ظمأ"، دلالة على إدراك المصير بعد فوات الأوان. ويختتم النص بتنبؤ قاسي ودائري: "سيذوقون مثلك تلك السيوف." وهي الخلاصة الفلسفية التي تؤكد أن العنف هو بذرة عنف، وأن كل من يبني ملكه على دم المؤسس، فإن سيف الغدر سيعود ليذوق دمه في نهاية المطاف. إن نص كاظم حسن سعيد هو مرثية بليغة للرجال الذين غيروا التاريخ ثم ابتلعهم التاريخ، مُقدمًا قراءة راقية لأبي مسلم الخرساني بوصفه ضحية لنفس أدوات العنف التي استخدمها.
الجزء الثاني قراءات نقدية للقصائد
قراءة تحليلية في "متفرقات" كاظم حسن سعيد: سخرية الوجود وتكثيف اللحظة ✒️عادل جوده /العراق/ كركوك 🕊تُشكل نصوص "المتفرقات" للشاعر العراقي كاظم حسن سعيد -على قصرها الشديد- مدونة متفردة من القصائد الومضة أو القصائد النثرية المكثفة، التي لا تعتمد على الإيقاع التقليدي بقدر اعتمادها على الصدمة البصرية والمفارقة السردية. إنها نصوص تتخلى عن البلاغة الزخرفية لصالح لغة مباشرة تُخبئ خلف بساطتها شحنة هائلة من السخرية واليأس الفلسفي. يبدو سعيد هنا كناحتٍ حذقٍ يقتطعُ لحظاتٍ وجودية من نسيج الحياة اليومية، ثم يعرضها عارية لتكشف عن تناقضات الإنسان والمجتمع. 🌟 ١ - مفارقة العشق والاستهلاك الروحي يفتتح الشاعر مجموعته بمفارقة حادة في الومضة الأولى والثانية. ففي النص الأول، نرى امرأة كرّست حياتها لـ "صنع سجل لأسماء عشاقها"، وصل بهم العدد إلى أربعين عاشقاً دون أن تتوقف "شراهتها". لكن ذروة السخرية تكمن في الجملة الأخيرة: "لم يرد فيه عاشق لروحها ولم تعشق أحداً". هذه الجملة تُلخص مأساة العصر الحديث في العلاقات، حيث يتحول العشق إلى استهلاك كمي، وتُصبح الأجساد سجلاً يُوثق الانتصار الزائف، بينما تظل الروح معزولة وجائعة. إنه نقد لاذع لفراغ العلاقات السطحية التي تُشيّد مجداً وهمياً على حساب العمق الروحي. أما النص الثاني، فيقدم صورة أنثوية مضادة، لكنها لا تقل تعقيداً: "المرأة البدينة الأنيقة الشرسة" التي تحتاج إلى "أربع أيدٍ" لتهبط من السيارة، في إشارة إلى ثقل المظهر المادي وسطوته، وتناقضه مع الضعف الجسدي المتخفي. تتجلى المفارقة الوجودية في هجرها لدارها "لكثرة الزوار"، وعند عودتها بعد عقدين تفاجأ بـ "صمت الباب". إنه تحول من ضجيج الحضور الاجتماعي الصارخ إلى فراغ الغياب الموحش، وكأن الحياة لا ترحم أولئك الذين بنوا وجودهم على الانتباه الخارجي. ✨ ٢ - إرهاق الكينونة وعبثية الصراع في الومضة الثالثة، يرسم الشاعر مشهداً شديد القتامة للكلاب الشقراوين اللذين "ينامان متقابلين على قمامة". هذا التناقض البصري بين لون الكينونة (الشقراء) وموضعها (القمامة) يرمز إلى التدهور والتلاشي. إن الكلبين، اللذين لا يزالان يتبادلان حلماً مشتركاً بـ "نباحهما... وحروبهما طيلة الليل"، هما تجسيد لإرهاق الكائنات التي أُنهكت في صراعات لا طائل منها. ما تبقى لهما هو مجرد حلم مستعاد للعدوانية، ينبع من "جفونهما الثقيلة" التي بالكاد تحركت عند مرور المار، ما يدل على بلوغ مرحلة اليأس الوجودي حيث لا يُجدي اليقظة نفعاً. كما يُعد النص الرابع، الذي يركز على "الحلمة الصناعية المسحوقة على طريق ترابي"، أيقونة رمزية لفقدان البراءة. هذا الغرض البسيط، الذي يمثل أقصى درجات الحاجة والاعتماد في مرحلة الرضاعة، يتحول إلى أثر مادي مهمل يثير تساؤلات وجودية حول مصير مالكه: هل نبذه عمداً (بالحنظل)، هل قضى عليه المرض (الحصبة)، أم سيأتي إليه طفلاً منهكاً من ثقل "حقيبته المدرسية"؟ إنها استعارة بليغة لانتهاء مرحلة الطفولة القسرية، وولادة مبكرة للإنسان في عالم قاسٍ يسحق الاحتياج البسيط. 💫 ٣ - مركب الانتهاكات وادعاء النصر تُقدم الومضة الخامسة أعقد المفارقات، وهي مفارقة إدراك الحقيقة. الحفيد، الذي لم يمضِ على ولادته سنة، يشاهد "فلماً للأطفال" في عربته، ويُبدي استغرابه البريء من مشهد سرقة جرو لمصاصة الرضيع. لكن الجد، المتشبع بمرارة التجربة، ينظر إلى المشهد بعينٍ مختلفة، ملخصاً جوهر الحياة بعبارة صادمة ومكثفة: "مركب كيميائي من الانتهاكات". هنا، يُقدم سعيد رؤية تشاؤمية تفيد بأن الانتهاك ليس مجرد سلوك عارض، بل هو المكون الأساسي لتركيبة الوجود، وأن الإدراك يتطلب "قروناً" من المعاناة لفك شيفرة هذه الحقيقة الأليمة. ويُختتم النص بمشهد السلحفاة في الومضة السادسة، التي نجت من الضباع بتحصنها وراء درعها، وعندما غادروا الخيبة، "أَسفرت عن رأسها ودبّت مغرورة على العشب". هذا الختام الساخر يحمل نقداً لاذعاً لمن يخلط بين النجاة وبين النصر. فالسلحفاة لم تنتصر بشجاعة أو مواجهة، بل بالانسحاب والتمنع، لكنها تخرج مُتبجحة وكأنها حققت إنجازاً. إنها رمز للغرور الذي يعقب مجرد البقاء، ويوحي بأن حتى لحظات الأمان والهدوء ما بعد العاصفة يُمكن أن تُلطخها آفة الغطرسة والتوهّم. في المجمل، تتميز "متفرقات" كاظم حسن سعيد بأسلوب التكثيف والشفافية المريرة. إنها صور فوتوغرافية التقطها الشاعر لمآزق الإنسان الوجودية، واستخدم لغة يومية شائعة ليجعلها تحمل عمقاً فلسفياً. النصوص دعوة للتأمل في البون الشاسع بين مظهر الحياة الخارجي وحقيقتها الداخلية التي لا تتوانى عن سحق البراءة والروح.
عادل اختام قراءة أدبية لنص "صانع الأختام" للكاتب كاظم حسن سعيد. بقلم :د.عادل جوده/ العراق/ كركوك ✒️ "صانع الأختام": وميضٌ بين الحرفة ودهاليز التاريخ المُهمل يُقدم لنا الكاتب كاظم حسن سعيد في نصه "صانع الأختام" قطعة سردية مكثفة، تتجاوز مجرد وصف مهنة قديمة، لتغوص في مفارقة العلاقة بين الحرفة والتاريخ والسلطة. إنها لوحة آسرة تضع القارئ في مواجهة مباشرة مع أسئلة جوهرية حول وعي الصانع بتأثير صنعته على مصير الأمم والأفراد. 🌓 المفارقة: الوعي الغائب والأثر العابر للأجيال يبدأ النص بتصوير حميمي وبسيط لحياة الصانع: "يغلق محله في زقاق رث، ليلاً، ويمضي... يستمتع بلياليه السعيدة". هذا التصوير يرسخ شخصية محورية مُنعزلة عن البُعد التاريخي والوجودي لمهنته. الصانع، في بساطته، هو فنان لحظته، يمارس مهنته ببراعة (ضحى يُسلم أختامه)، لكنه "لم يفكر كيف تطورت صناعتها أو تاريخها". هذا الجهل السعيد أو اللامبالاة المُتعمّدة هو مفتاح النص. في مقابل هذه اللامبالاة الشخصية، يقتحم النص فجأة بفقرة معلوماتية مُدهشة عن تاريخ الأختام، وكأنها صوت التاريخ الذي يُعاتب الصانع على نسيانه: (ظهرت أولاً في بلاد ما بين النهرين...). هذا التداخل بين السرد القصصي والتوثيق التاريخي يخلق عمقاً رمزياً، ويُذكرنا بأن هذه الأداة البسيطة وُلدت من رحم أقدم الحضارات لتكون أداة التنظيم والسلطة والتوثيق. ⛓️ الختم: أداة الخطيئة والسلطة ينتقل الكاتب بعدها إلى استعراض الوظائف المزدوجة والمتباينة للختم، كاشفاً عن سُلطته المُطلقة: »• الخطيئة والعبودية: "ختمت بها أرداف العبيد... نهبت بها بساتين وثروات". هنا، الختم ليس مجرد رمز، بل هو آلية للاستعباد والنهب، أداة تكرس الظلم وتفصل الأفراد عن حريتهم وممتلكاتهم. »• الحب والفتنة: "والحبيبات بيوم الحب". هذا التناقض يوضح أن الختم يتجاوز القانون والمال ليلامس أعمق المشاعر الإنسانية وأكثرها خصوصية، سواء بالوعد أو بالوشم. »• الجريمة: "يسرقها لص فيهجم بيوت... فرقت بها زوجات صغيرات". الختم يمنح الشرعية للباطل، ويُلبس السارق ثوب المالك، ويُشرّع الفراق، مما يجعله شريكاً صامتاً في كل الجرائم المُوَثقة. الصانع، الذي "لا يدري أو لا يهتم"، هو مجرد قناة مُحايدة تمر من خلالها سُلطة هائلة، سُلطة قادرة على قلب موازين "المملكة الأعظم" بأسرها. ✨ الذروة الرمزية: الختم الذهبي والنبي المُستحدث تصل القصة إلى ذروتها الرمزية بمشهد دخول "نبي مُستحدث" على الصانع وهو في أبسط حالاته: "وهو يأكل الرز". هذا المشهد يجمع بين روحانية مُدّعاة وبساطة الحياة اليومية. الختم المطلوب ليس عادياً، بل "ختم ذهبي"، يرمز إلى القوة الروحية المُتصوّرة والسُلطة الإلهية الجديدة. النبي يستخدم الختم الذهبي لـ "يبصم على آلاف التعاليم... ويرسخها بملايين الأتباع". هنا، يتبلور المعنى الأعمق للنص: الختم هو أداة الشرعية المطلقة. إنه لا يوقع عقداً مادياً فحسب، بل يُصادق على عقيدة. صانع الأختام، الذي بدأ قصته بـ "زقاق رث" وبطالة، ينتهي به الأمر مُشاركاً في تأسيس إمبراطورية روحية أو مذهبية جديدة. 🌟 الخلاصة: الفن في خدمة المصير "صانع الأختام" هو نقد مبطن للعلاقة بين الفن (أو الحرفة) والسُلطة. إنه يُلخّص كيف يمكن لأداة صُنعت لسد "أزمة في زمن البطالة" أن تتحول إلى قوة دافعة للتاريخ، دافعة بالفساد أو بالإصلاح، بالعبودية أو بالرسالة. النص يُثير تساؤلاً حول مسؤولية الحرفي: هل يكفيه إتقان مهنته، أم يجب عليه إدراك الأثر الكوني لصنعته؟ يبقى صانع الأختام، ببساطته، هو الشاهد الصامت على أن أعظم التحولات في التاريخ البشري، من نهب الثروات إلى ظهور الديانات، بدأت بـ بصمة، صُنعت في زقاق رث، على يد رجل كان شغله الشاغل هو إتقان مهنته والاستمتاع بلياليه السعيدة. هذه الأجزاء من ديوان "مصيدة الوجوم" للشاعر كاظم حسن سعيد. نصوص غنية بالتصوير والمشاعر، وتلامس قضايا إنسانية واجتماعية . سأقدم قراءة أدبية تحليلية للنصوص ، مركزًا على الجوانب الفنية والموضوعية، مع الالتزام باللغة الراقية . يُرجى العلم أنني سألتزم بحدود المضمون الذي قدمته، وسأركز على تحليل البنية والصور والموضوعات المتناولة في هذه المقاطع الخمسة. ✒️ د. عادل جوده/ العراق/ كركوك 🎭 قراءة في "مصيدة الوجوم": صدى الانكسار وتجليات التناقض الإنساني يقدم الشاعر كاظم حسن سعيد في ديوانه "مصيدة الوجوم" – عبر هذه المقتطفات المختارة – نسيجًا شعريًا مكثفًا، يتسم بحدة الرؤية ومرارة التعبير عن التناقضات الكبرى في الحياة الإنسانية والاجتماعية. الديوان، في مقاطعه الخمسة هذه، أشبه بـ "بانوراما" عاطفية واجتماعية، تُلتقط فيها لحظات الوجوم والانكسار كأنها مصائد حقيقية تستدرج الروح وتفضح هشاشة الوجود. 🧊 أولاً: "جدار" – وجم العلاقة وتثلج الروح تبدأ المقطوعة الأولى بعنوانها المكثف "جدار"، لتؤسس مناخًا من الاغتراب داخل العلاقة الحميمة ذاتها. الجدار هنا ليس ماديًا بالضرورة، بل هو جدار وجوم عاطفي يرتفع بين طرفين كان بينهما سعير. يبدع الشاعر في نقل تحول الحب إلى "ثلج تخلد في جسدها"، مقابلاً له بـ "سعير" الطرف الآخر الذي لم يخمد. هذا التناقض بين السعير والثّلج هو قلب المأساة؛ فبينما يبتكر ألوان الجمر محاولًا هدم الجدار، تنشغل هي "بتدعيمه". الزمن في المقطوعة مباغت؛ إنه "عدّ الثواني حتى تحين وجبة السرير"، ما يشير إلى تبلد الإحساس وتحول العلاقة إلى روتين جسدي خالٍ من الروح. التحول من "سكر الحوار" و"لعبة الذوبان" إلى "الشكوى" و"الأنين" هو رثاء لجسد العلاقة المتبقي دون قلبها، مما يجعل هذا النص افتتاحية قوية لثيمة الاغتراب الداخلي التي ستتكرر لاحقًا. 💔 ثانيًا: "انسحاقات" – سادية المشهد اليومي تنتقل المقطوعة الثانية، "انسحاقات"، إلى فضاء الشارع والمشهد الاجتماعي، مقدمة أربع لوحات قصيرة شديدة القسوة، تجمع بين البراءة والسحق، الجمال والقبح، اللامبالاة والتفكير بالفقر. >• لوحة الشحاذات: يبدأ الشاعر بوصف دقيق للشحاذات الصغيرات، ليقف عند "نظرة لا تفسر" و"ابتسامة تبرعمت منها"، وهي اللحظة الإنسانية الخاطفة التي يستكشف فيها الراوي فضوله إزاءهن. التناقض واضح بين فرحتهن بحصاد النقود وبين حالة المترفات اللاتي "يبتسمن" وهن يشاهدن بؤس الآخر. >• لوحة صاحب العربة: هنا يتجسد الكدح الصامت. الشاب الذي "لا يبالي" بالازدراء، يمثل وعيًا أعلى بقيمة جهده، إذ يفكر بـ "أفواه جياع". العربة المتراكمة التي تفقد توازنها وتعود لتُكبس هي صورة بصرية للمسؤولية التي تتجاوز قدرة حاملها. >• لوحة النملة: في قمة الإيجاز، يقدم الشاعر رمزًا للسحق العبثي. النملة التي تحمل "حبة رز" وتقطع المسافات "سعيدة رغم الإجهاد"، تسحقها "عجلة عجلى" قبل بلوغ الهدف. هذه اللحظة ترفع مستوى القسوة من الاجتماعي إلى الميتافيزيقي، حيث يتدخل القدر الأعمى لينهي الجهد البريء. >• لوحة القطة الرمادية: تختتم المقطوعة بأسئلة وجودية موجهة للقارئ حول مصير القطة المتعبة التي تتدلى أثداؤها، في إشارة إلى دورة الحياة القاسية والهشة للضعيف. السؤال الافتراضي عن إجهاز صبي عليها يكشف عن قسوة محتملة كامنة في تفاصيل الحياة اليومية. ⏳ ثالثاً: "الحاج" – زمن يصدأ وانهيار القيم مقطوعة "الحاج" هي مرثية لزمن مضى ولإنسان كان عمودًا صلبًا للقيم الأصيلة. الحاج، فلاح الثمانين، يمثل الماضي المنتج والمنضبط، الذي كان يقطع "الفيافي" بخضاره. لكن المشهد يتحول إلى حطام: "ترك بساتينه لورثة أهملوها فرطوا بها للأصهار". هذا التفريط هو تعبير عن انهيار أخلاقي واجتماعي يتجاوز ضياع الأرض. الصورة الأبلغ هي صورة "الفاتورات الصدئة" المعلقة على الحائط الطوب منذ ستين عامًا. هي رمز لتاريخ من المسؤولية والوفاء بالدين، صارت الآن مجرد أوراق صدئة لا قيمة لها في زمن التفريط. المشهد الختامي قوي وبليغ: الحاج بعصاه و"عيناه ناطقتان" يشير إلى دشداشته الناصعة بالبياض، قائلًا: ( هذا كل ما تبقى... ولكنها ستسلب منا ذات يوم). هذه الجملة ليست نبوءة شخصية بالرحيل فحسب، بل هي خلاصة مريرة لخسارة كل شيء حتى الرمز الأخير (البياض/الطهر). 🔪 رابعاً: "انكسارات" – سقوط الأقوياء تعود "انكسارات" لتكمل ثيمة الانهيار، لكنها تركز هذه المرة على سقوط رموز القوة والسيطرة. الشاعر يقدم أربع صور للسقوط: >• الأول (الشقي المرعب): سقوط رجل القوة المطلقة الذي كان "ملك الأسواق والمشارب والغجر ومخصي الأثرياء". هذا السقوط يحدث عندما تُقطع يده، رمز قوته وسلطته، ليتمكن منه "صبي خجول". القوة كانت زائفة، ومجرد إزالة رمزها (اليد) جعلت منه هدفًا سهلاً لأضعف من كان يخافه. >• الثاني (الثري الوسيم): الثري الذي يشل الآخرين بنظراته، يُقابَل بـ خيانة زوجته مع خادمه لحظة غيابه. القوة المادية والجسدية لا تمنع الخواء العاطفي ولا تحمي العائلة. إنه انكسار داخلي أشد مرارة من الخسارة المادية. >• الثالث (الجميلة): المرأة التي "كانوا يسجدون لجمالها" تقع في فخ الزمن والوحدة، لتصبح في الخمسين تفتش عن رجل "وإن كان قردًا". الانكسار هنا هو تحول الجمال الذي كان قوة مطلقة إلى عبء ووحدة قاتلة. >• الرابع (الغزالة والتمساح): يعود الشاعر إلى رمزية الطبيعة ليختم بقسوة بالغة. النهر الذي كان أداة نجاة للغزالة من الضباع، يصبح فخًا آخر للتمساح. الهروب من مصيبة لا يعني النجاة، فالموت يتخذ أشكالًا متعددة، والموج الدموي هو بصمة الخسارة النهائية. 🎭 خامساً: "ليس هو" – اغتراب الذات والوجود الزائف تُعدّ المقطوعة الخامسة والأخيرة هي ذروة التأمل الفلسفي والاجتماعي في الديوان. العنوان "ليس هو" يركز على انفصال الذات عن صورتها الخارجية. هو ليس ظله، بل هو "جزر لم تكتشف"، أي جوهر عميق خفي لم يُفهم بعد. الشاعر يصف حالة التأقلم الاضطراري مع نقاوة الآخرين ومعتقداتهم، وتحول الذات إلى "النهر الذي ضل أراض يتبع لطفا// ضل أراضيه وجرى مثلما يشاؤون". هذا اغتراب عن الذات الحقيقية، والتظاهر بالانسجام مع محيط زائف. تتوالى في الختام سلسلة من المراثي لـ "مساكين"، كل منهم سقط في مصيدة خاصة به، مصيدة الوجوم: قتّالة الرجال: التي كانت قادرة على الاستعباد، لكنها تئن من "سوق النخاسة"؛ رمز لسطوة ظاهرها مقابل ضعف حقيقي. الشاعر: الذي نشوان بتصفيق الجمهور، ليتحول إلى "خرقة بالية"؛ رمز لزوال الهتاف وسرعة النسيان. الثوري: الذي أبلَى عمره في المعتقل والفاقة..رمز لخيانة الثورة وعبثية التضحية. المؤمن: الذي أبلى عمره ركوعًا، لكنه "لا يجد جنة"؛ أعمق صورة للاشتباه في الجزاء النهائي. الأيديولوجي: الذي تحول من هتاف الجموع إلى "عطّار كسدت بضاعته"؛ رمز لتحول الفكرة الحماسية إلى سلعة مهملة. الديوان في هذه المقطوعات هو صرخة في وجه العبث، وتأمل في الانكسارات المتعددة للذات الإنسانية – في الحب، والعمل، والسلطة، والإيمان. كاظم حسن سعيد يستخدم لغة مكثفة وصورًا صادمة ليضع القارئ وجهًا لوجه أمام "مصيدة الوجوم" التي لا ينجو منها قوي أو ضعيف.
نادية فلاح "الحاج" سردية الذاكرة بين الأرض والخذلان قراءة نقدية تأويلية في نص الأستاذ كاظم حسن سعيد نادية الإبراهيمي في نص موجز بطول تجربة حياة يقف "الحاج" عند آخر خطواته، محاطا بعصاه ودشداشته البيضاء وفواتيره الصدئة، ليكتب لنا الأستاذ كاظم حسن سعيد حكاية كاملة عن جيل بكامله. نص يتيح للقارئ ليس فقط أن يرى رجلا شيخا يحكي ببساطة ما تبقى له من عمره، بل أن يصغي لصوت أرض تسلب وذاكرة تقاوم، وقيم تنهار بصمت في أيدي غير أمينة. في بداية النص يطل علينا الحاج فلاحا تجاوز الثمانين، يقطع الفيافي مشيا ليحمل خضاره على ظهر دابته. هذا الاستهلال لا يكتفي بوصف حركة جسدية، إنما يقدم صورة حية لإيقاع حياة كاملة عاشها الرجل. كل خطوة تمثل سنوات من العطاء وكل مسافة هي صفحة من سجل لامرئ حمل حياته على كتفيه حرفيا ومجازيا. إن استخدام الفعل المضارع "كان يقطع" يعيدنا إلى زمن حي، لم يمت بعد بتمامه داخل ذاكرته. هذا المشهد — ومن قبله البساتين، ومن بعده الدشداشة — لا تتجاور فيه التفاصيل اعتباطا، بل تبنى فيه رموز النص بشكل تدريجي، فيدرك القارئ منذ البداية أنه أمام حكاية ذات نبرة وجودية أكثر منها اجتماعية فقط. في جملة تكاد تكون عابرة يقول النص: "ترك بساتينه لورثة أهملوها، فرّطوا بها للأصهار" هنا يحدث الانشطار فالبساتين التي تمثل الجذر، والورثة الذين كانوا يفترض أنهم الامتداد الطبيعي لذاكرة الأرض، يفرّطون بها بسهولة فادحة. هذا لا يعني مجرد بيع مُلك مادي، إنما يمثل خيانة كاملة لعصر من القيم، وهدما لعمود الهوية لا يحقّقه الزمن وحده، بل يحقّقه الجفاء وضعف الانتماء. النص ينقلك هنا من مساحة الرحمة إلى مساحة الصدمة. لم يعد الحاج هو الذي يفقد أرضه، بل الأرض هي التي تفقد صاحبها دون وداع، والغرس الذي كرّسه بعرق جبينه يُقتل من أقرب الناس. النص يعتمد بناء سرديا ثلاثي الطبقات: جذر من الماضي يمتد عبر سطور قليلة لكنه عميق المنافذ. معالجة للصدمة في الحاضر، عبر مشهد الورثة. وخاتمة تحمل وجعا متفجرا في جملة واحدة، حيث يقول الحاج مشيرا إلى ثوبه الأبيض: "هذا كل ما تبقى… ولكنها ستسلب منا ذات يوم". هذه الجملة الختامية تشكل قلب النص ليس لأنها تمثل الخسارة الكاملة، بل لأنها تستشرف ما بعد الخسارة؛ آخر ما يملكه الإنسان هو رمزه، ثوبه، نقاوته، ذاته. فإذا سُلب ذلك، فلم يبق شيء. النص إذن هو بكاء على ما سُلب وما سيُسلب، على ما كان يجب أن يُصان وما لم يُصن. النص غني برموزه التي تحمل دلالات عميقة تتوزع بين المادي والمعنوي: العصا: ليست مجرد عكازة، هي الاتكاء على آخر ركن من التجربة الإنسانية. هي إصرار على الوقوف رغم الثقل، وهي كذلك رمز لتراكم التجربة ومواجهة الأقدار. الفواتير: المعلقة منذ ستين عاما، والتي صدئت قبل رحيله. إنها وثائق حياة، لكنها لم تسدد ربما لأنها لم تكن تستحق أن تسدد. الفواتير هنا هي فواتير الزمن التي لم تستوف قيمتها في العدل، فهي تصرخ من جدار الطوب مثلما تصرخ روح الحاج في النهاية. الدشداشة البيضاء: رمز للطهر والبساطة لكنها أيضا آخر حصن من حصون الهوية. وفي إشارته إليها، خطاب شفاف للعالم: "نحن لا نملك سوى الطهر، وإن أخذتموه، لن يبق لنا شيء." عند قراءة النص بمنظور التفكيك، تظهر ثنائيات تتصارع داخل النص: الأرض التي كانت ملكا للحاج، تُصبح ملكا للغريب. أعمال العمر تؤول إلى عبث الورثة. الثبات (الدشداشة البيضاء) يقف عاريا أمام الزوال (الفقد المتوقع). هذه الثنائيات تظهر هشاشة كل شيء، حتى ما كنا نظنه ثابتا. ومع ذلك هناك ضوء أخير في عيني الحاج حين يقول كلمته. هو ليس مستسلما بل واعيا بذكاء لعمق المتغيرات رغم تماسك مظهره. أعمق ما يطرحه النص أنه يقدم مأزقا إنسانيا يربط الفرد بالمجتمع. ففي زمن يعيد تشكيل القيم وفق حسابات الربح والخسارة، يكون الحاج — بكل رموزه ورواسبه العائدة — شاهدا على سلخ الأرض من أهلها، وتبدل الذات أمام الواقع الاقتصادي الجديد. يتبدى هنا البعد الوجودي للنص في كونه مرثية للإنسان، وقيمة الأرض، وثقافة الجذر. ليس الحاج مجرد شيخ قضى عمره، بل هو علامة طريق. يعلّمنا النص أن الوجع لا يأتي فقط من الفقد، بل من خذلان اليد التي مددت إليها الحياة. يقول الكثير في القليل، ويحمل صورة لواقع يعبرنا كل يوم في مختلف المدن والقرى، حيث يستبدل الذاهبون بالصامتين والموروث بالورق البارد. نص الأستاذ كاظم ينتمي إلى الأدب العميق، الذي لا يسعى فقط لاستعارة الجمال، إنما لكشف جرح الزمن في خاصرة الذاكرة. نص يجعلنا نتساءل: ماذا تبقى لنا إن فقدنا ما صنعناه؟ وهل أخطر أشكال الموت، هو أن نموت ونحن أحياء؟
د.عادل : الحاج تحليل أدبي: "الحاج" لكاظم حسن سعيد يا له من نصٍّ مكثّف ومُحمَّل بالدلالات، يقدّمه الشاعر كاظم حسن سعيد في صورة "بورتريه" مؤثر لشخصية فلاح مُسنّ. إنّ القراءة الأدبية المتأنية لهذه الكلمات القليلة تكشف عن عمق المأساة، وصدق المشاعر، وقوة الرمزية التي اعتمدها الشاعر، مما يجعله نصًا جديرًا بالنشر والتأمل. 🏡 الشخصية والمكان: بين الفلاحة وضياع الجذور يقدم الشاعر شخصيته المركزية بلقب "الحاج" (كما في العنوان) وبوصف "فلاح في الثمانين"، وهي بداية تضع القارئ أمام زمن (الشيخوخة والنهاية) ومكان (الأرض والفلاحة). * الفلاح الثمانيني: رمز جيل الكدح، والارتباط الأصيل بالأرض. الثمانون ليست مجرد رقم، بل هي حصيلة خبرة طويلة من العمل الشاق ("كان يقطع الفيافي مسافة أميال مشيًا")، مما يضفي على مأساته اللاحقة ثقلاً أكبر. * "الفيافي" و"المدينة": التناقض بين هذين المكانين يشير إلى نمط حياة كامل؛ حياة ريفية بسيطة، أساسها الإنتاج والاعتماد على الذات ("خضاره على ظهر دابته")، في مقابل حياة المدينة التي يرتادها فجراً، وكأنه يمدّها بشريان الحياة. _مأساة "ترك البساتين": هذه هي نقطة التحوّل الأشد إيلامًا. الفلاح الذي عاش لأرضه يجد نفسه مجبرًا على تركها لـ"ورثة أهملوها". وهنا فيها ف تبرز المفارقة المأساوية: >• الأجيال الجديدة (الورثة): رمز للتخلي عن القيمة الحقيقية للأرض مقابل الإهمال والمادية ("فرّطوا بها للأصهار"). هذا التفريط ليس ماديًا فقط، بل هو تفريط في الإرث والقيم. لقد أصبحت الأرض عبئاً بدلاً من أن تكون شرفاً. ⏳ الزمن الصدئ: شهادة الذاكرة على الجدار ينتقل النص ببراعة من مأساة الأرض إلى مأساة الذاكرة والزمن الشخصي، عبر لقطة فنية دقيقة: >• "كان يعلق فاتورات الكهرباء من ستين عامًا / بمسمار على الحائط الطوب / صدئت تلك الفاتورات" > الرمزية: الفواتير ليست مجرد إيصالات دفع، بل هي سجلّ زمني لحياة كاملة. ستون عامًا من الاستهلاك، الدفع، والاستمرارية. وجودها على "الحائط الطوب" يؤكد على بساطة المعيشة وأصالتها. * "صدئت تلك الفاتورات": الصدأ هو علامة الإهمال، التوقف، والتآكل بفعل الزمن. لقد تحولت الوثائق التي تشهد على وجوده وعمله إلى مجرد قطع معدنية متآكلة، وكأن الزمن نفسه قد "صدئ" من حوله. هذه الصورة البصرية مكثفة ومؤثرة، وتشي بحزن عميق يخصّ الذاكرة التي لم يعد أحد يلتفت إليها. 💡 اللحظة الحاسمة: النبوءة الأخيرة تأتي الخاتمة لتركّز على الفلاح في مشهد الاستسلام الهادئ والمؤلم قبل الرحيل بشهر: // المشهد الأخير: "على الكرسي عصاه بيده / عيناه ناطقتان / بدشداشة ناصعة البياض". العصا: رمز للضعف والعجز، لكنها أيضاً رمز للسلطة المتبقية. "عيناه ناطقتان": الصمت هنا أبلغ من الكلام. العينان تحملان كل تاريخ الستين عامًا، وكل خيبة الأمل في الورثة. دشداشة ناصعة البياض": هذا التباين قوي؛ فالبياض الناصع يرمز للنقاء، الطهارة، والاستعداد للرحيل (ككفن محتمل)، في مواجهة الإرث المتسخ بالخسارة. * الكلمات الختامية: > "قال هازًا دشداشته مشيراً إليها / ( هذا كل ما تبقى. ..ولكنها ستُسلب منا ذات يوم)." > هذه الجملة هي زبدة النص ونبوءته السوداء. لقد فقد الأرض، فقد الذاكرة المدونة (الفواتير الصدئة)، ولم يبق له سوى قطعة قماش يرتديها. لكن حتى هذا الرمز للنقاء الشخصي والذات المتبقية، هو مهدد بالزوال والسلب. هذا التصريح الأخير يرفع النص من حكاية فلاح فردية إلى نص رمزي عام يتحدث عن ضياع الهوية، وتبخّر الإرث، والإحساس بأن حتى الوجود الشخصي وممتلكاته الرمزية هي عرضة للسلب في زمن يتنكر للأصالة والماضي. 🖋️ خلاصة فنية إن نص كاظم حسن سعيد (الحاج) هو قصيدة نثر قصيرة، لكنها تحمل كثافة الحكاية الروائية. يعتمد الشاعر على: >• الاقتصاد اللغوي: جمل قصيرة ومباشرة لكنها موحية جدًا. > • التصوير البصري: استخدام رموز قوية (الفيافي، الفواتير الصدئة، الدشداشة البيضاء). >• تجسيد المأساة الكبرى: عبر التفاصيل الصغيرة والمهمَلة، ينتقل النص من قصة شخصية إلى مرآة لتدهور القيم الاجتماعية تجاه الأرض والإرث. بالنظر إلى قوته الرمزية وتأثيره العاطفي العميق، فإن النص يستحق النشر لما فيه من قراءة صادقة وبارعة لمأساة الإنسان المُسنّ في مواجهة التغيرات السريعة وتنازل الأجيال عن الأصول.
3لامية عويسات قراءة في نصوص "هل تستطيع" لكاظم حسن سعيد
تضعنا نصوص كاظم حسن سعيد الثلاثة ضمن دائرة الأسى الخافت؛ ذلك الأسى الذي لا يصرخ، بل يطعن، نصوص قصيرة لكنك تشعر أنّ ملامحها تخفي قارة كاملة من الوجع. إنها نصوص لا تقدّم الواقع بل تشرّحه، لا تروي الحدث بل تفجّر صمته.
في الرؤية الفنية: حين تتحوّل البساطة إلى فوهة جحيم، ينطلق الكاتب من تفاصيل صغيرة يومية مألوفة، لكنه يحوّلها إلى مجازات سوداء للحياة الإنسانية:
"رجل متقاعد في باص"
"عروس تحمل مزهرية"
"بومة فوق جبل"
تتحول هذه التفاصيل العادية بسرعة إلى نموذج مصغّر عن الخيبة الكبرى، كأن السارد يقول للقارئ: هل تستطيع أن تتحمّل الحقيقة حين تصاغ بلا تجميل؟
النبرة التي يسأل بها الكاتب: "هل تتخيّل؟" ليست استفهامًا، بل محاكمة؛ دفعٌ للقارئ ليصبح شريكا في الجرح لا متفرجا عليه.
البنية في النصوص الثلاثة واضحة وموحّدة:
-مشهد قصير مكثّف
-تحوّل مفاجئ (صدمة-خرق)
-سؤال نقل القارئ من المشهد إلى الوعي
هذه البنية المتكررة ليست تكرارا شكليا، بل إيقاع داخلي يؤسس جماليات النص. فالكاتب يعوّل على الاقتصاد اللغوي إلى الحدّ الذي تصبح فيه كل كلمة مسنونة جارحة، ضرورة لا زينة.
ففي المشهد الأول: سرقة الذاكرة
رجل متقاعد؛ يحكي، يلمع، يتجمّل… ثم تُسرق حياته في لحظة. البنية هنا تقوم على هشاشة الإنسان في حضرة ثقته. كل النص مشدود بين:
الامتلاء في ذكرياته
الفراغ في محفظته المسروقة
الدهشة ليست في السرقة، بل في المفارقة: أكثر لحظة كشف… جعل منها هي أكثر لحظة للخديعة.
نأتي على المشهد الثاني: المزهرية
هنا تتجلى شاعرية الخراب: العروس تشتري حلما… فيتحطم الحلم على البلاط. البنية هنا تقوم على اصطدام الرغبة بالواقع. الهشاشة ليست في المزهرية بل في وجه العروس.
وأخير المشهد الثالث: حيث البومة والصقر
أقصى مشاهد المجموعة كثافة، البنية هنا مبنية على توهّم الأمان: حجر، ارتفاع، دفء، انتظار… ثم ضربة برقية: اختطاف الصغير! الجمال هنا ليس في الصدمة، بل في مأتم الروح الذي أقامه الكاتب بجملة واحدة: "وحيدة تقيم مأتمًا للروح" إنها ذروة الجمال المأساوي.
هذه اللوحات الابداعية، ليست مجرد مشاهد؛ إنها اختبار لحدود التحمّل الإنساني: فلأول كان عذابا للوعي؛ الشيخ هنا ليس ضحية السرقة، بل ضحية الوعي بما فقده. الكاتب لا يريدنا أن نتخيل نظراته، بل يريدنا أن نكتشف أنّ الخسارات الكبرى لا تُرى بل تُحسّ.
والثاني سرد لهشاشة الأحلام:
المزهرية ليست غرضا؛ إنها جسد الحلم، جسد الهناء الذي لم يصمد لحظة دخوله البيت. إنه تأويل وجودي لـ: كل ما نتمناه هش، وكل ما نصل إليه قابل للكسر.
والنص الثالث ما حمل الأم الوجودية
كانت البومة فيه رمزا للأم التي تعيش في عتمتها كي تمنح النور لغيرها، وفجأة يُسحب النور من بين مخالبها. الصرخة التي يريد الكاتب أن نسمعها ليست صوتا، بل تجربة وجودية للفراغ؛ خيبة من على قمة الجبل.
النصوص الثلاثة للأستاذ كاظم حسن سعيد تريد أن تخبرنا: أن السعادة مؤقتة، الطمأنينة وهْم والألم قدر حيوي لكل ما يحيا.
في النص سؤال وجودي مهم يتكرر: “هل تتخيل؟ هل تتصور؟ هل تسمع؟”
هذه الأسئلة ليست موجهة للشخصية، بل للقارئ. إنها استدعاء استفزاز جرّ للقارئ داخل المشهد.
السؤال هنا ليس أداة لغوية، بل أداة أخلاقية: كأن الكاتب يقول للقارئ: إذا كنت لا تستطيع أن تتخيل؛ فهل تستحق أن تقرأ؟
بهذا يخلق ضمن نصوصه علاقة تداولية صارمة: يفرض عليك دون أن تدرك المشاركة في الألم، أن تكمّل الصورة التي لم يجليها.
أسلوبيا؛ الأستاذ كاظم حسن سعيد وكالعادة يكتب بــ:
جمل قصيرة
صور سريعة
مفردات غير منمّقة
حركة سردية حادة
هذا الأسلوب يجعل النصوص أشبه بـ ومضات صاعقة: لا تتيح لك التهيؤ، بل تضرب مباشرة في نقطة الإحساس.
الجمال هنا جمال الصدمة، جمال الشق وجمال الجرح لا اللمعة.
على عتبة الجمال حيث أدب الوجع الذي لا يعتذر، يمكن القول إن نصوص "هل تستطيع" ليست مجرد سرديات قصيرة، بل وثائق شعرية للألم الإنساني. ثلاث ومضات لكنها تُشكّل مسبحة:
نقدا للمجتمع
وحشة الوجود
سقوط الأحلام
وانهيار الحميمي أمام شر العالم
في دائرة مغلقة يعلن الكاتب عبر نصوصه الثلاثة:
أن هذه هي الحياة حين تُرى بلا رتوش… هل تستطيع أن تتحمّل النظر؟
وهنا تكمن قوة النص: إنه لا يطلب التعاطف، بل الاعتراف. لا يريد البكاء، بل الوعي. لا يكتب عن الوجع، بل يُشرّح الإنسان وهو يحاول النجاة من نفسه ومن العالم.
د. عادل جودة أبو مسلم الخرساني: سيرة على حد السيف ⚔️ نص الاستاذ كاظم حسن سعيد. ✒️ د. عادل جوده/ العراق/ كركوك.
تتجسد في سيرة أبي مسلم الخرساني (ت. 137 هـ) واحدة من أعقد وأكثر صفحات التاريخ الإسلامي إثارة للجدل، مُشكّلةً بذلك نسيجًا روائيًا يتراوح بين أسطورة البطل الفاتح ونهاية المخطط الدموي. إن النص الذي بين أيدينا، للكاتب كاظم حسن سعيد، لا يكتفي بسرد الوقائع، بل يغوص في تحليل عميق لشخصية هذا "الفتى السري" وللمفارقات التاريخية التي أحاطت به، مُستخدماً لغة جزلة وصوراً شعرية مكثفة. يبدأ المشهد بهالة من القوة القاصمة، حيث يصف المقطع الأول عبور "الفتى السري" النهر بـ "جيشه الفتاك"، مُعلناً عن ميلاد قوة لا تعرف التردد أو الرحمة. هذه البداية هي إعلان عن قدوم التغيير المزلزل، فالجيش لا يكتفي بالقتال، بل "ينزف بسالة"، وهي صورة بلاغية تُحيل إلى فيض لا ينضب من الشجاعة والتصميم، وهو النقيض المطلق لما كان عليه الخصم. في المقابل، يرسم المقطع الثاني لوحة بالغة القتامة للجيش الأموي، الذي كان "في خدر"، وهو وصف يوحي بالترف والرخاوة وغياب الوعي بالخطر الداهم. لقد استبدلوا أدوات القتال "الحصى للسلوى" و"نسوا رماحهم"، في دلالة على تحول جندي المعارك إلى عاطل عن القتال، منهك بالـ "فاقة والإهمال". يستعرض النص مشهدًا مؤلماً لهم وهم "يعلكون السعف" في ظل إهمال الخليفة الذي كان مشغولاً بـ "فراش زئبقي" و"جواريه". هنا، يُلخص النص جوهر الصراع: هو ليس صراعاً بين جيشين متكافئين، بل بين قوة دافعة مؤمنة بالتغيير، وكيان منهك بالفساد والاستبداد. ويصل الكاتب إلى ذروة التوصيف حين يصف جنود الأمويين بأنهم "نعل تراب لديه" و"عبيد بأسماء منمقة (فرسان)"، مبرراً بذلك الهزيمة السريعة: "شاكسوا قليلا ثم مدوا رقابهم إذلة لسيوفه". إن الاستبداد يقتل الروح القتالية قبل أن يقتلها السيف.
🧐 هيبة القائد وعبء المصير
يأتي المقطع الثالث ليرسم بورتريه لافتًا لشخصية أبي مسلم، متجاوزاً بذلك الإنجاز العسكري إلى العمق النفسي. يصفه بأنه "قصير القامة، أسمر، جميلًا"، لكن الأهم هو ما يتجاوز المظهر: "لم يُرَ ضاحكًا أو مازحًا إلا نادرًا"، و"لم يظهر عليه السرور في الفتوحات أو الحزن في الشدائد". هذه الصفات تُشير إلى رجل ذي إرادة فولاذية، يختزل عواطفه خلف قناع الهيبة والصرامة. "عيناه كأنهما ناطقتان" هي العبارة المفتاحية، إذ تجعل منه شخصية صامتة لكنها معبرة عن عمق البصيرة والتدبير. أبو مسلم هو المهندس الأيديولوجي والسياسي، وليس مجرد قائد عسكري.
🩸 من مؤسس دولة إلى فريسة: سخرية القدر
يتحول المشهد في المقطع الرابع إلى اللحظة المأساوية، نهاية الحلم العباسي على يد من أسسه. الحوار بين أبي مسلم والمنصور هو فصل درامي بامتياز، يُظهر فيه المنصور الغدر السياسي القائم على مقولة "الملك عقيم". عندما صاح أبو مسلم: «أبقني لعدوك يا أمير المؤمنين.» جاء الرد الحاسم القاطع: «لا أبقاني الله إذن؛ أي عدوٍّ أعدَى منك لي؟». في نظر الخليفة الجديد، فإن من يمتلك القدرة على إسقاط دولة، يمتلك القدرة على إسقاط أخرى، ولذلك كان يجب التخلص من مصدر القوة نفسه. إن تساقط السيوف عليه وخروره "صريعًا" ينهي قصة القوة المطلقة في مواجهة المكر المطلق.
⏳ العدالة التاريخية والندم
في المقطعين الخامس والسادس، يصل الكاتب إلى ذروة القراءة الأدبية والفلسفية للتاريخ. السيوف التي حصد بها أبو مسلم رؤوس الأمويين، هي ذاتها التي "تحاورك الآن". هذه السيوف تمثل العدالة التاريخية الغادرة، التي لا تفرق بين الجلاد والمؤسس. لقد كان "جزارهم" (الأمويين) و"مهندس دولتهم" (العباسيين)، لكنه تحول إلى "أول كبش" فداء ليمضوا "يصوغوا النجوم". والندم هنا ليس قطرة ماء تروي ظمأه فحسب، بل هو "قطرة بعد دهر ظمأ"، دلالة على إدراك المصير بعد فوات الأوان. ويختتم النص بتنبؤ قاسي ودائري: "سيذوقون مثلك تلك السيوف." وهي الخلاصة الفلسفية التي تؤكد أن العنف هو بذرة عنف، وأن كل من يبني ملكه على دم المؤسس، فإن سيف الغدر سيعود ليذوق دمه في نهاية المطاف. إن نص كاظم حسن سعيد هو مرثية بليغة للرجال الذين غيروا التاريخ ثم ابتلعهم التاريخ، مُقدمًا قراءة راقية لأبي مسلم الخرساني بوصفه ضحية لنفس أدوات العنف التي استخدمها.
ذكاء صناعي : ليس هو النقطة الجوهرية. العلاقة بين "الحسناء" و "سوق النخاسة" في القصيدة ليست وصفًا لجمال سطحي، بل هي مفارقة عميقة تكشف عن نقد لاذع للقوة والاستعباد. الشاعر لم يصف الحسناء نفسها، بل وصف أثرها ومصيرها المأساوي. 🎭 تحليل مفارقة الحسناء وسوق النخاسة في النص: "مسكينة قتّالة الرجال حسنا / جعلتهم عبيدها / وهي تئن من سوق النخاسة" هذا المقطع يحمل ثلاث طبقات من العمق: 1. ⚔️ الجمال كقوة فاعلة وقاتلة (السلطة السامة) "قتّالة الرجال حسنا": الحسناء ليست مجرد جميلة، بل هي قوة مهلكة؛ جمالها سلاح، ونظراتها قضاء. هي هنا رمز للقوة الجذابة التي تسلب الرجال إرادتهم وتجعلهم "عبيدها". هذا يعكس النظرة القديمة والحديثة للجمال باعتباره قوة تخريبية وقاهرة، قادرة على قلب الموازين الاجتماعية والسيطرة على الأفراد. 2. ⛓️ مفارقة السيطرة والاستعباد (الضحية-الجلاد) هنا يكمن العمق الحقيقي: السيطرة الظاهرية: هي ناجحة في دورها كـ "قتّالة"؛ إنها المتحكمة، والرجال هم العبيد. العبودية الحقيقية: رغم قوتها وسيطرتها على الأفراد، تظل هي نفسها أسيرة لنظام أكبر وأكثر قسوة: "سوق النخاسة". سوق النخاسة هنا هو رمز لـ: النظام الأبوي/الاجتماعي: الذي يرى المرأة الجميلة كسلعة أو أداة قابلة للبيع والشراء والاستغلال. سوق القيمة/الجسد: الذي يقيّمها بناءً على جمالها وقدرتها على الفتنة، مجردًا إياها من إنسانيتها وحريتها. 3. 😭 الأنين الصامت (الاغتراب المتبادل) "وهي تئن من سوق النخاسة": هذا الأنين يكشف أن القوة الظاهرية التي مارستها (جعل الرجال عبيدها) لم تجلب لها الخلاص، بل إنها هي نفسها تعاني. إنها ضحية الاغتراب المتبادل: هي تغترب عن إنسانيتها لتكون "قتّالة"، وتجعل الآخرين يغتربون عن إرادتهم ليكونوا "عبيدها"، وفي النهاية، كلتا الحالتين هما جزء من نظام استعبادي أوسع. الخلاصة: الشاعر لم يمجّد جمالها، بل استخدمه كنموذج يبرهن على أن كل قوة في هذا العالم هي قوة نسبية. حتى الشخصية الأكثر سيطرة وإغراءً (الحسناء القاتلة) هي في نهاية المطاف مجرد بضاعة في سوق القيمة الاجتماعية القاسية، وهي تئن من عبوديتها حتى وهي تمارس الاستعباد. هذا هو جوهر النقد العميق لهذه المفارقة. هل تلاحظ كيف أن هذا الأنين يربطها ببقية الشخصيات "المساكين" في القصيدة (الشاعر، الثوري، المؤمن)؟
#كاظم_حسن_سعيد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حروب المستقبل قصيدة
-
المشانق والذاكرة
-
خطوات الى المدرسة قصيدة
-
لوحات لمشانق قصيدة
-
في محل الحلاقة قصيدة
-
قراءة نقدية للدكتور عادل جودة
-
اغتيال بستان قصيدة
-
ابو مسلم الخرساني قصيدة
-
ازهار فوق تل جماجم كتاب كامل
-
صانع الاختام قصيدة
-
الفلاح
-
انسحاقات قصيدة
-
قراءتان لنص مشاهد
-
جنازة قصيدة
-
هل تستطيع قصيدة
-
ما وراء الجمال قصيدة
-
هواية الجرافات قصيدة
-
مقامة الشاهد في زمن الوجع
-
مشاهد قبل عصر الكهوف قصيدة
-
الاسطورة في العزلة قراءة في اكتشاف السعادة
المزيد.....
-
عمى الذاكرة.. قصة احتفاء بإنسان يُبعث من رماد الحرب
-
حوار بين نخلةٍ إماراتية وأرزةٍ لبنانية
-
فيلم -Wicked: For Good- من أكثر الأفلام ذات الطابع السياسي ف
...
-
ندوة (تجربتي) تستنيربـ -لمسات في الكتابة الإبداعية للأدب وال
...
-
-ليفربول في حالة فوضى-.. الأسباب الفنية لسقوط الريدز
-
إيليا أبو ماضي: شاعر التفاؤل وصاحب الطلاسم
-
نور الدين بن عياد: تونس تودع فنان الفكاهة والبساطة، من هو؟ و
...
-
إيران: العلماء الناقدون غير مرحب بهم ولا مرغوب فيهم
-
إجراءات جديدة لتسهيل تصوير الأفلام الأجنبية في مصر
-
عرض خاص لفيلم -أطياف ذلك الضوء- عن الشاعر سلطان العويس
المزيد.....
-
يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال
...
/ السيد حافظ
-
ركن هادئ للبنفسج
/ د. خالد زغريت
-
حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني
/ السيد حافظ
-
رواية "سفر الأمهات الثلاث"
/ رانية مرجية
-
الذين باركوا القتل رواية
...
/ رانية مرجية
-
المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون
...
/ د. محمود محمد حمزة
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية
/ د. أمل درويش
-
مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز.
...
/ السيد حافظ
-
إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
المرجان في سلة خوص كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
المزيد.....
|