أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كاظم حسن سعيد - ازهار فوق تل جماجم كتاب كامل















المزيد.....



ازهار فوق تل جماجم كتاب كامل


كاظم حسن سعيد
اديب وصحفي


الحوار المتمدن-العدد: 8532 - 2025 / 11 / 20 - 01:57
المحور: الادب والفن
    


ازهار فوق تل جماجم
قصائد

كاظم حسن سعيد
202


1
( اكتشاف السعادة)
الخزاف يقطن في بيت منفرد كشجرة ماء لا يعرفها احد في صحراء.
لا تشغله حروب اهلية
او طرقات على باب
اكتشف لقاحات الضجر
ونياب افاع للمزعجات
مرة واحدة
اقتحم منزله هدهد فقبض عليه
وقص اجنحته.
لا تظهر شاشته الا عري نساء.
تكلس في روحه صدى الماضي
من خيبات وانتصارات.
تقنّع عن الطفيليات
فهو رجل لا مرئي
رجل تمكن من اكتشاف سعادة مطلقة
يصحو ليبث روحا في الطين
مستمتعا بدورانه على عجلة الفخار
لا يتذكر احلامه..
يمضي كل مساء في الظلمة
فتصادفه الاضواء
يلتقط فتاة فاتنة
فيطعم روحه حتى المنتصف
بازهار التأوهات.
ثم ينام عميقا.
2025
---------–

2
( بيت الاثرياء )
في هذا البيت
لن تجد رسائل الهوى
هاجمتها الارضة والنمل ومخالب الزمن
تحولت لغبار مظلم ساكن
ربما كتبوها مثل بعضنا باسلوب بدائي
واشعار رائجة بلا فن
لكنها شديدة الانتقاء اليهم، اليهن،للمترفين.
البيت الثري الذي نجا من الزوال
يلتف في سحابة معتمة
بين صف من البنايات الشاهقة
والمحال المزخرفة المضاءة
شيخا متهالكا بين صبية يحثهم الحماس
كل عصر يغادره فتى انيق واثق عاشق
يجتاز الجسر فيتوقف
يتكيء على عجلته الكحلية
يفترس ضجره بحركات شبه ممسرحة
في انتظارها. ..
الشقراء فائقة الجمال
تجتاز الجسر دون ان تنظر اليه
او تظهر ردة فعل جسدية
فيمضي جوار دارها يصطاد الطيور ببندقية صيد ،
ممدودا على الاسفلت...
منتظرا يوما آخر.
كتبوا على قطعة نحاسية اسم صاحب الدار ،على الباب ، قرب سياج مشبك منخفض،قبل ان تستر البيوت خلف جدران ثقيلة ومئات الاقفال.
كانت مائدتهم طقس متعة.
في الجهة الثانية من النهر تجتمع الاسر
زادهم على الحصران وشهيتهم افتراسية.
ازيلت بيوتهم الصفيح والقصب
ونجا بيت الطابوق العتيق
شاهدا على جمال هندسي
لا تراه الان الا في اطلس البيوت التراثية
وذاكرة المسنين.
طللا لاناس احتفظوا باسرارهم للابد.
2025
كاظم حسن سعيد
--------------------















3
قبل عصر الكهوف
1
افنت المقذوفات بيته وعائلته
الصبي ينزح وحيدا
صارخا بعويل ( يا امي)
حاملا اخاه الصغير على كتفيه.
2
( انقذونا)
تصرخ بهيكل حجري
باسلاب مرقعة
وحلية اللون
كأنها انبثقت من اعماق القبور
( انقذونا فقد فتك بنا الجوع والرصاص)
تعول بحدقات انطفأت
تستغيث بالمتحجرين
بعد ان يأست من السماء.
3
يحاولون انقاذه بالايدي
تحت جبل من الركام
الصغير المذهول المتكلس
يظهر وجهه المدمى
بين كتل الحجر والقضبان
عيناه فقط تقذف رسائل استغاثة.
4
جاهدت لتوفر لهم غذاءهم الاعشاب
قبيل وصولها
طوحت عاصفة المطر
خيمتهم الخرق.
المسيرات تظللهم.
2025
-------–----–--–-




4
( هواية الجرافات)
منهمكة. ..
يتقدم شجعان برماحهم للتصدي للرصاص
مئات يتقدمون فتقبرهم في حفرة شاسعة
ثم تتقدم الحادلة لتمحو الاثار..
مساء تنحب النساء
فيما الرجال يتلون الايات المحفزة وقصائد الحماسة..
في الصباح الثاني هي منهمكة
بطمر الكنانات والجماجم
وتأتي الحادلة
تعود النساء ليلا للنحيب
واطعام الايتام
برؤوسهم المشعثة
وبشرتهم السوداء..
على الشاشة كتابة باردة ( قتل نصف مليون فردا هذا اليوم).
سائق الحادلة لا يزعجه الضجيج ولا يبالي بجمال الوجوه ولا بركان الحماس
يجتمع الرجال كل ظلمة يشحذون رماحهم ويغنون ( اقول لها وقد طارت شعاعا...)
ليقبروا ثم يمحوا من الوجود
يظهر على الشاشة( ندين الانتهاكات والاغتصاب التي استمرت شهورا ).
جبل الذهب وحده من سينتصر في لعبة التعدين.
2025











5
( جنازة)
التابوت على الاكتاف تتقدمه دشداشات سود وشبه ملثمين واجمين
تلحقهم عباءات نادبات
واجمات او صارخات
او متباكيات
الصوت خافت ثم يعلو ( لا اله الا الله) يتكاثر الجمع
وهو مستقر في تابوته ،مستسلم، لا يفقه شيئا.
فجأة تكون مكانه
في التابوت لخوض تجرية غامضة
كنت بين ضغط الخشب تضحك
لقد نجوت من احتراق يومي
عليهم ان يفرحوا
وحين تكون بلحدك تشرع بالاكتشاف
تفكر بالتبغ وفنجان شاي.
اخيرا نجوت من الضجيج
من محبة كاذبة
من خسائر تبث الندم احيانا
من تسوق يومي للمزعجات
من جحيم يسمى حياة
ومن اهداف تكشّفت عن عرين
2025













6
( هل تستطيع)
1
المتقاعد الكهل في الباص
متانق ومعطر
يستمتع بسرد ذكرياته
مع لصيقه الغريب
( عشر سنوات حب بالنظرات...)
حين ترجل كان صاحبه قد سرق معاشه
هل تتخيل نظراته؟!
او عمق ندمه ؟!!
2
العروس الصغيرة
بعد شهرين اشترت مزهرية حلمت بها
حين دخلت المنزل تهشمت على البلاط
هل تتخيل رماد وجهها؟!
3
البومة اعلى الجبل تحتضن طفلتها
تدفئها في الجو المثلج
السقف حجر
والارتفاع امان
مطمئنة تماما في الظلمة
في انتظار الشروق
حيث سترفرف الاجنحة
فجأة ينقض صقر جائع
ويحلق بصغيرتها
بافتراس برقي
هل تتمكن من سماع صرختها
واتساع حدقاتها
وحيدة تقيم مأتما للروح
في اعالي الجبال
2025





7
( مذكرات رجل مسن)
تتثلج نشوة الانتصارات بروحه
تعوّد ان تتكسر الرماح بمعاركه
بلغ الطموح ولن يسكن ضجيج الوجدان
تقبل الخسارات لكثرتها
لم يعد الجمال الانثوي يفترسه
وحيدا في الفجر يصحو
ولا احد يصغي
وحيدا تخنقه حجر الجدران ليلا
ولا يد على الكتف
وحيدا يصنع المرجان
ولا احد يشاهد
يعالج سعلاته فجرا
ويفكر بنسمة للروح
2025

7
( ما وراء الجمال)
انحناء الرقبة
واسنادها
على الكف
في اشد الاماكن بهجة
تكفن العيون البهية بمويجات قلق
انت لا ترى ذلك
تسحرك تقوسات الاجساد ورقتها
الشعور البنية التي تشاكس الريح
سحر العيون
شموخ الجيد ظهر فيه خال بارز
خطورة صدر يسح حدقاتك سحا
لا ترى تلك النظرات السحيقة القلقة او خدودا تنحني على كف
كل لمسة جاذبة على جسد انثوي
تنحر مالا واياما من المحاولات
لكن الكف على الخد
واضطرابا خاطفا في الحدقات
تكشف التوتر الروحي
وافتراس الافكار لمخلفات الكرنفال والاعياد
فهن ممزقات بالغليان
ومتجذرات باللاجدوى
ومحتلات بالاسئلة التي لن تحظى بجواب
2025
















الجزء الثاني
قراءات نقدية للقصائد

















لامية عويسات

قراءة مضيئة لنص بيت الاثرياء
( ليس لانه نص كتبته من ايام بل لان الكاتبة لامية عويسات تمكنت من الغوص عميقا وهي تتناوله كاشفة ما وراء السطور..كاظم حسن سعيد)
"بيتُ الأثرياء" في قراءة تأويلية.
عن العتبة والعنوان:

أنطوجيا العنوان بسيط، حادّ، معرفٌ بـ"ال" التي تؤطّر نموذجا لا حالة: "بيت الأثرياء" ليس مجرد سكن، بل نموذج ثقافيّ هو واجتماعيّ، من هذه العتبة يبدأ نصّ أستاذنا في العمل: لا يروي لنا كوصف للمكان فحسب بل يفتّش في "معنى البقاء" داخل بنية طبقيّة.
العنوان: هو مفتاح دلالي يشير إلى تراث حضاريّ صار رمزا للثروة، ولكنه أيضا مرآة لتفكّك الجوهر.

سينوغرافيا النصّ يعمل كسيناريو مُحكَم: لقطات متعاقبة، تصوير بانوراميّ يتخلّله مشهدان-مضامين مركزيتان:

الأولى؛ تعلن عن افتتاح الفقد: في قوله "في هذا البيت لن تجد رسائل الهوى هاجمتها الأرضة والنمل ومخالب الزمن" ليبدأ النصّ بالنفي، ثم يتحوّل إلى تصوير تآكليّ؛ النفي هنا ليس خبرا موضوعيا بل تكثيف حالة: العاطفة مُستأكل والذاكرة مهشَّمة.
والثانية؛ تفصل المشهد المركزي البيت وبيئته: بنايات شاهقة، محالّ مضاءة، سحابة معتمة تلفّ البيت الثري، لوحة نحاسية تذكر باسم صاحبه: هذا التفصيل يُنشئ علاقة بين السطح- الموضوع (البيت) والخلفية الزمنية-المعنوَنة.

شخصنة المشهد في الفتى الأنيق، الشقراء، الصائد على الأسفلت: هنا يتحوّل المكان إلى مسرح إنسانيّ ويُختبر التباين الطبقي في حضور البشر، ليس المال فقط.

إزاحة البيوت الفقيرة في مقطعه الختامي؛ بقاء بيت الطابوق العتيق كطللٍ/ذاكرة: في النهاية يحقّق المفارقة: من "هُدم" ماديا يظلّ رمزيا؛ ومن "نجا" مادّيا صار طِللا ذاكرة جامدة.

هذا الترتيب أكسب النصّ بنية درامية دالّة: في الانتقال من الخواء العاطفي إلى التمثيل الطبقي، ثم إلى إثراء الأفق التأملي بذاكرة العتيق.

لغة وبلاغة: يضعنا الكاتب بين التوثيق والرمز ، الأسلوب جدا متماسك بين نبرة وثائقية (كتبوا على قطعة نحاسية اسم صاحب الدار) ونبرة رثائية-رمزية (تحولت لغبار مظلم ساكن) هذه الثنائية منحت النصّ ثقلا معرفيّا وحرارة وجدانية في آن واحد: التوثيق أثبت الحدوث؛ والرمزية وسّعت بحذاقة دلالاته.

التكرارات اللفظية والحركية مثل "يجتاز… يتكئ… يفترس… في انتظارها" ولّدت إيقاعا شعريّا داخل تنضيدة الأستاذ كاظم، وعملت كسلسلة نبض تُحسّن إدراك القارئ للحالة النفسية: اللّهاث، التجهّد، الانتظار. تراكيب فعلية متتابعة تُشبه تركيبا سينمائيا: جعلنا ضمن مشهد حركي متلاحق بدل السرد المضغوط.

استعارة "مخالب الزمن" تجعل الزمن فاعلًا عضويا: لا يمرُّ بسكون، بل يفترس، يتآكل، يلتهم. هذه الشحنة الحيوية للزمن رفعت القراءة بسياسة الرمزية: ليس الزمن سياقا بل خصما

كما نلاحظ أنّ النصّ تميّز بأنواع لغوية: وجوهٌ "بدائية" لشعر رائج و"نحاسية" لأسماء الأغنياء. اللغة هنا كانت مؤشرا طبقيا: كيف تُكتب الأشياء للأغنياء وتُكتب للناس؟ التباين اللغوي أبرز الشرخ بين جسد المجتمع وواجهاته.

دلاليا في تجلي لأبرز رموز النص ووظائفها:
البيت: ليس مجرد مكان؛ هو كيان إنسانيّ يأخذ صفة "شاهد" و"قبر" في الوقت نفسه، بيت "نجا من الزوال" هو جسد محفوظ ماديا لكنه "يتلفّ بسحابة معتمة"؛ السحابة هنا قناع زمانيّ، تورية عن هشاشة البقاء.

اللوحة النحاسية التي تحمل الاسم: وثيقة خلود ماديّ، لكنها بمثابة لصقة على سطح يتصدع. النحاس كمعدن يرمز إلى المتانة، لكن في النص يصبح شاهدا بلا حياة: خلود محكم لاسم فارغ.

الجسر: هنا رمز عبور-حاجز؛ الفتى "يجتاز الجسر فيتوقف" إذا فالجسر ليس للعبور وحده بل لاختبار القربو البعد، ورمز للتمايز الاجتماعي الذي لا يُسدّ بسهولة.

الفتاة الشقراء: جمال لا تبادل لاتبالي، رمز للترف المتعالي؛ ردة فعلها الغيابية هي علاوة معبرة: لا نظرة ولا تماس، إشارة إلى انفصال الطبقات عن بعضها.

ثم الأسفلت-العجلة الكحلية: حيث نشوز الحداثة ولامبالاة الحركة، ولغة استعراضية عن التمتع والركون.

توقفنا عند الطلل وذاكرة المسنين: ما هو مُهدم ماديا ربما أكثر صدقا في الذكر؛ الطلل في نصه الأستاذ كاظم حسن سعيد يُصبح حاملا للذاكرة، بينما البيت الباقي محفوظ ماديا لكنه فاقد للكينونة الداخلية.
هذه الرموزجميعا تعمل في شبكة دلالية متشابكة تُعيد رسم العلاقة بين المادة والروح، بين الزيف والصدق، بين صلابة الشكل وسقوط المعنى.
اجتماعيا وسياسيا؛ النصّ لا يستهدي بنبرة اجتماعية ظاهرة فحسب، بل يمارس نقدا ضمنيا لهيمنة الرأسمالية الثقافية: البيت الذي "نجا" يقف كدليل على قدرة المال على الصمود المادي، لكنَّه يُكشَف كفن يفتقد للمعنى
ففي مقارنة موجزة للنص مع تصورات النقد الاجتماعي نجده:
مُحايدا منهجيا في القراءة الماركسية: البيت هو "قيمة مادية" محفوظة، أما العلاقات البشرية فهي سلعة: الفتى الأنيق والشقراء، صيغ من العرض الاجتماعي والبيت لا يعطي منزلا، إنما موقعا طبقيا.

أما ثقافيا: فالنص يعالج الذاكرة كحق ملكيّ ممتلك وضائع؛ البيوت الطينية والقصبية أُزيلت، لكن ذاكرتها باقية بين المسنين، هنا نجدنا بالقراءة نتجاوز المادة إلى ما يُسمّى "ذاكرة منازعتية": حيث الشعبية تقاوم الزوال، بينما النصب النحاسي يُؤسس لخلد مدنّي زائف.

النص بين أيدينا يعرض نقدا أخلاقيّا لا يمارس الإدانة الخطابية، بل يعري: البذخ ليس رقيا إنما نفيٌ لجوهرٍ إنساني، هذه القدرة على الازدراء دون صخب تُبرز نضوج الرؤية النقدية لدى الشاعر- الراوي الأستاذ كاظم حسن سعيد.

طبعا لا تخلوا روائعه من التناصّات والدعائم النظرية
حيث نطرق باب التناصّ مع باشلار في جماليات المكان:
الفكرة؛ أن المكان يحمل ذاكرته، وأن البيت مرآة لداخل الإنسان، توافق باشلار الذي رأى في البيت "مخزنا للأحلام" لكن أ كاظم يقلب المعادلة: "البيتُ أصبح مخزنا لأموات الأحلام"

لنحط الرحال بصدى أدونيسيّ-حداثي: حيث عمل على تجريد الواقع وإظهار خرابه متقاطعا مع رؤية أدونيس عن المدينة الحديثة والهوية، تشابه في الوظيفة الرمزية: تدمير الدلالة داخل المدينة المعاصرة.
ثم نتذكر كانط وهايدغر في أنطولوجيا الأشياء: فيما يتصل بسؤال "ما البقاء؟" و"ما الحقيقي؟" يلمح النص إلى قضايا أنطولوجية حول الوجود والعدم، بارتباط مع فكرة هايدغر.
لنحط الرحال بصدى أدونيسيّ-حداثي: حيث عمل على تجريد الواقع وإظهار خرابه متقاطعا مع رؤية أدونيس عن المدينة الحديثة والهوية، تشابه في الوظيفة الرمزية: تدمير الدلالة داخل المدينة المعاصرة.
ثم نتذكر كانط وهايدغر في أنطولوجيا الأشياء: فيما يتصل بسؤال "ما البقاء؟" و"ما الحقيقي؟" يلمح النص إلى قضايا أنطولوجية حول الوجود والعدم، بارتباط مع فكرة هايدغر: الأشياء تظهر كوجودات لها حضور ومعنىٌ أعمق من مجرد شكل مادّي.

أسلوبيا:
قوله "في هذا البيت لن تجد رسائل الهوى…" النفي هنا يُحكم الموضوع ويقدم فرضية البحث: المكان قد يحجبُ ما يحفظ الدفء الإنساني ثم:
"هاجمتها الأرضة والنمل ومخالب الزمن" جمع الحيوان (الأرضة والنمل) مع تجسيد الزمن (مخالب) يصوغ صورة لا تُتخذ إلا كقوة تلتهم آثار الحب والحميمية.. هذه العبارة وحدها تُعطي مفتاح تفسير كلّي: "الزوال ليس حادثا عابرا بل عملية تدمير عضوية".

ثم قوله "يجتاز الجسر فيتوقف - يتكئ على عجلته الكحلية -يفترس ضجره بحركات شبه ممسرحة - في انتظارها" كسرد مشهدي حركي في ثلاثية أفعال متتابعة تُصور طقوس انتظار مسجونة في الحركة، الحركةُ هنا مسرحية؛ الفتى يمارس دورًا أمام جمهور غائب، هو انتظار العاطفة التي لا تأتي
ثم"يفترس ضجره" عبارة مركبة: الضجر يُؤكل؛ فعل انتظار استهلاكيّ في ذاته.

تكرار الأصوات الساكنة (ط، ب، ر) في عبارات مركزة أنشأ موجة داخلية من الثقل؛ على مستوى بلاغيّ فالنص لم يعتمد على رقة لفظية بل على كتلة صوتية هي أشبه بالكتل الحجرية للبيوت، تجلى من خلالها تقابل بين الشكل والبلاغة.

النص أمامنا طرح سؤال البقاء! ليس ليستبيح شكل البقاء المادي، بل ليكشف أن البقاء الحقّ هو ذاكرةٌ حية، إسهام إنسانيّ لا لوحة نحاسية ولا واجهة مرصّعة. عبارته الختامية "طللًا لأناس احتفظوا بأسرارهم إلى الأبد" تختزل هنا معنىً فلسفيًا: حيث الأسرار باقية لأنها حيوات دفينة، والبيت الثري باق لأنه بلا ذات تملأه.

النص حقق عمليتين معا: الاولى كانت محكمة الثراء من الداخل: إذ لا يحكم الشاعر بصوت مرتفع، بل يُظهر تشققاته الرمزية.
والثانية في تقعيد الذاكرة الشعبية: أنّ البيوت التي هُدمت قد تعيش في ذاكرة أكثر صدقا مما عاشته البيوت المحفوظة.

"بيتُ الأثرياء" للكاتب الكبير كاظم حسن سعيد نصّ يقرأُ التاريخ في صورة مصغرة: هو تأريخ الرفاه في زمن صناعي، وتوثيق للفراغ الذي يخلّفه العيش في واجهات لامعة.
الأستاذ كاظم حسن سعيد لا يهاجم علامات الثراء بالخطاب الإنشائي، بل يقوّضها بالوصف ويجعل من المكان دليلا أخلاقيا، وبحنكة يحول النصّ إلى "محكمة ذاكرة" لا تُصدر أحكاما نهائية بل تترك للمتلقي فعل التأمل والوعي وبهذا يصبح النقد مرآة للشاعر والشارع معا.
لامية عويسات.

محمد بسام العمري : بيت الاثرياء
في بيتٍ يختبئ فيه الغبار كما تختبئ الأسرار في صدور العجائز، يبدأ النص رحلته لا كحكاية، بل كأنفاس مدينةٍ فقدت ذاكرتها. كاظم لا يكتب بيتًا من طابوقٍ عتيق، بل يكتب مرثيةً للروح وهي تُهدم من الداخل، تمامًا كما قال بودلير: “كل حجرٍ في المدينة القديمة يحمل خطيئةَ إنسانٍ نسي نفسه.”
في “بيت الأثرياء” لا نسمع صدى الثراء، بل صدى الفقد. الرسائل التي التهمتها الأرضة ليست أوراق حب، بل رموز لزمنٍ تآكلت فيه المشاعر مثلما تتآكل الأخشاب في رطوبة النسيان. كأن النصّ يفتتح من ركام الرسائل حوارًا مع العدم، فتبدو الكلمات غبارًا مظلمًا ساكنًا، ذلك الغبار الذي وصفه كامو يوم قال إن الإنسان “كائن يبحث عن المعنى وسط صمتٍ كثيف”.

البيت الثري الذي نجا من الزوال ليس نجاته فخرًا، بل لعنته. إنّه كجسدٍ مُحنّط، باقٍ في الزمن بلا حياة. يلتفّ بسحابةٍ معتمة وسط أبراجٍ مضاءة، كما يلتفّ الماضي حول عنق الحاضر، خانقًا أنفاسه. هذا التناقض بين الثبات والزوال، بين الضوء والعتمة، يذكّرنا بما رآه ت. س. إليوت في الأرض الخراب حين قال: “ما بين الفكرة والواقع، يسكن الظل.” فالنص هنا لا يرصد تحوّل المكان فحسب، بل يرصد اغتراب الإنسان في عصرٍ صار الضوء فيه شكلاً آخر من أشكال الظلمة.

وفي الفتى الأنيق الذي يعبر الجسر، عاشقًا واثقًا لكنه ينتظر عبثًا، يستيقظ الوجدان النفسي في النص؛ هو سيزيفٌ آخر، يدفع صخرة الانتظار صعودًا كل يوم، فقط لتتدحرج مع غروبٍ جديد. الشقراء التي تعبر دون نظرةٍ واحدة ليست امرأةً، بل تجسيد لفكرة الجمال اللامبالي، ذاك الذي يسير بخفةٍ على جراح العشاق، كما في أسطورة نرسيس الذي عشق انعكاسه ونسي من يحبّه. أما الصيد الذي يمارسه العاشق بعد انصرافها، فليس ترفيهًا، بل تعويض غرائزيّ عن فشلٍ عاطفي، وكأن الجسد يحاول أن ينتقم للحبّ الذي لم يُولد.

ثم يواصل النص سرده بهدوءٍ مؤلم: اسم صاحب الدار محفور على النحاس، رمزٌ للملكية التي تأبى الزوال، لكنها لا تحمي ساكنيها من الفناء. إنّها ذاكرة مادية لأناسٍ عاشوا خلف الأقفال، ظنّوا أن الأمان في الجدران، بينما تسلّل الخراب إلى دواخلهم. المائدة التي كانت طقسًا للمتعة صارت ذكرى احتفالاتٍ منطفئة، تقابلها مائدة الفقراء على الحصران، حيث “شهيتهم افتراسية” لا لأنها جائعة فحسب، بل لأن الفقر يوقظ الغرائز، ويكشف الإنسان على طبيعته الأولى. هنا يتجلّى التحليل الاجتماعي بوضوح: نصّ يرصد الفوارق الطبقية كمن يرصد صدعًا في الروح الجماعية. فالبيت الثري ليس سوى قناعٍ للزمن الحديث، زمنٍ محا البساطة تحت طبقاتٍ من الزخرفة والضوء الصناعي.

التحليل الفلسفي لا يلبث أن يظهر في ظلّ هذه المفارقة. فالبيت الذي نجا من الزوال يقف شاهدًا على عبث الخلود المادي، لأن النجاة في ظاهرها هزيمة في جوهرها. هذا ما عبّر عنه نيتشه حين قال: “من أراد أن يخلُد، عليه أن يقبل التفتّت.” والبيت هنا يخلّد نفسه بالتفتّت ذاته، بالتحوّل إلى طللٍ، إلى أثرٍ متآكل يثير فينا أسئلة الوجود والعدم أكثر مما يثير الإعجاب بجماله التراثي.

من الناحية البنيوية، النص مبني على مفارقاتٍ متكرّرة: قديم/حديث، غني/فقير، حياة/موات، ضوء/ظلمة، حب/لامبالاة. هذه الثنائيات لا تعمل كزخارف فكرية، بل كأعمدةٍ سرّية تشدّ النص من الداخل، تجعله يتنفس إيقاعًا خفيًا بين الحنين والرفض، بين الإعجاب والسخرية. الأسلوب هنا مشهديّ، يتكئ على الصورة الحسية لا على الخطاب، وهذا ما يجعله أقرب إلى الشعر منه إلى السرد الواقعي. إنّ الكاتب يُصوّر لا ليحكي، كما فعل مارسيل بروست حين كتب: “الأمكنة تحفظ الوقت في جدرانها.”

وفي قراءةٍ سيميائية، يمكن لكل تفصيلٍ أن يُقرأ كعلامة: الجسر علامة عبورٍ نحو الآخر المستحيل، العجلة الكحلية حركةٌ في فراغ، النهر فاصلٌ بين عالمين، والنحاس شاهدُ موتٍ يلمع. كل إشارةٍ في النصّ تنطق بمعناها المضاد، كأن اللغة نفسها تحاول الهروب من بريقها لتفضح زيفه.

أما في بعدها التاريخي، فالبيت العتيق يمكن أن يكون استعارةً لمدينةٍ عربيةٍ أكلها التمدن، مدينةٍ تحوّل تراثها إلى “أطلس” يُعرض للسياح بينما ينسى أبناؤها رائحته. هذا البعد يوثّق الذاكرة الجمعية كما وثّقها محفوظ في “خان الخليلي” أو كما بكى السياب بيوت البصرة القديمة في “أنشودة المطر”.

وهكذا يصبح النصُّ لوحةً بانورامية لإنسانٍ عربيّ معاصر، يقف على الجسر ذاته كلّ يوم، ينتظر شقراءً لا تأتي، ويصطاد فراغه في نهاية المطاف. بيت الأثرياء هنا ليس مجرّد مكان، بل استعارة عن حضارةٍ بأكملها: نجت من الزوال المادي لكنها فقدت القدرة على الحب، على الدهشة، على التواصل. لقد احتفظت بأسرارها إلى الأبد، كما قال ريلكه: “الجميل ليس سوى بداية الرعب الذي نستطيع احتماله.”

إنه نصّ يذكّرنا بأن الطلل لم يمت، بل تغيّر شكله. فبدلَ الأعمدة الرومانية والأقواس الحجرية، صارت الأطلال اليوم ناطحات سحابٍ تلمع من الخارج، ويسكنها من الداخل فراغٌ لا يُطاق. ومن بين ذلك الفراغ، يمرّ عاشقٌ بدراجته الكحلية، يشبه شاعرًا قديمًا ضلّ طريقه إلى القرن الحادي والعشرين، لا يبحث عن امرأةٍ بعينها، بل عن معنى، عن لحظة تبرّر الانتظار.
محمد بسام العمري


سامية عرموش : بيت الاثرياء



*من قصيدة إلى شاشة: كيف أصبح "بيت الأثرياء" مادة لفيلم إثارة؟*

تحليل واقتراح لفيلم تشويقي بعنوان: *"البيت في السحابة المعتمة"*

(مستوحى من قصيدة *بيت الأثرياء* للشاعر كاظم حسن سعيد)



مقدمة: إبداع يتجاوز الكلمات

هذا التحليل السينمائي يستمد روحه وعمقه من الرؤية الفريدة للشاعر العراقي كاظم حسن سعيد وقصيدته الملهمة "بيت الأثرياء". إن إبداعه يتجلى في قدرته على التقاط التفاصيل الدقيقة التي تحمل ثقلاً اجتماعياً ونفسياً هائلاً. فالقصيدة ليست مجرد وصف لـ "البيت"، بل هي تشريح فني دقيق لثنائية الطبقات، والهوس الصامت، وذاكرة الأجيال. لقد نجح كاظم حسن سعيد ببراعة في خلق عالم بصري يجمع بين فخامة "البيت الحجري الملتف في سحابة معتمة" وبين "الشهية الافتراسية" المدفونة في تربته. إنها براعة شاعر يستطيع أن يحول المشهد العادي إلى مشهد قوطي مثير، حيث يختلط الجمال البارد بالزوال المأساوي.

1. ملخص الفيلم (Synopsis)

"البيت في السحابة المعتمة" هو قصة عن "مخالب الزمن" التي تهاجم الأسرار المكبوتة. يركز الفيلم على قصر حجري قديم، "يلتف في سحابة معتمة" وسط مدينة ناطحات السحاب، شاهداً على ثراء مبني على خطيئة طبقية. "لن تجد رسائل الهوى" فيه، بل "غبار مظلم ساكن" يغطي الأسرار. كل ليلة، يُعاد طقس الانتظار المأساوي بين الفتى الأنيق الواثق العاشق والشقراء فائقة الجمال، ليكشف أن "البيت نجا من الزوال" لأنه ابتلع مصير من كانوا على "الجهة الثانية من النهر".

2. المشهد الرئيسي (The Core Scene)

المشهد مكثف ومضغوط، يجسد التوتر القوطي المعاصر. تظهر الكاميرا البيت الحجري المظلم محشوراً بين ناطحات السحاب المضيئة. يظهر الفتى على عجلته الكحلية، "يتكيء على عجلته الكحلية"، يمارس "حركات شبه ممسرحة" دلالة على الضجر القاتل.

ذروة المشهد في العبور البارد؛ حيث "الشقراء فائقة الجمال" تجتاز الجسر "دون ان تنظر اليه أو تظهر ردة فعل جسدية"، مؤكدةً على سيطرتها الصامتة. يتحول هوس الفتى إلى عنف رمزي، حيث "يمضي جوار دارها يصطاد الطيور ببندقية صيد، ممدودا على الأسفلت"، في انتظار "يوماً آخر". يختلط صوت طلقات البندقية بـ صوت همس داخلي يربط هذا العنف بالـ "الشهية الافتراسية" لـ "الأسر [التي] تجتمع زادهم على الحصران" على ضفة النهر الأخرى.

3. تحليل الشخصيات الرئيسية: محنطو الأسرار والضجر القاتل

تُعد هذه الشخصيات هي الأقطاب التي تحرك التوتر في الفيلم، فهي تجسيدات حية للماضي المأساوي للبيت:

الشقراء فائقة الجمال (السر المحنط)

ليست فقط "فائقة الجمال"، بل هي تجسيد للجمال القوطي البارد. حركتها تخلو من الحياة، فهي "تجتاز الجسر دون ان تنظر اليه أو تظهر ردة فعل جسدية"، مما يوحي بأنها ليست حرة. دورها الأساسي هو الأسيرة النبيلة التي تخدم البيت كـ "طللاً لاناس احتفظوا باسرارهم للابد". صمتها المطلق هو أقوى من أي صراخ؛ إنها تحمل عبء الخطيئة الأصلية.

الفتى الأنيق الواثق العاشق (الهوس المكبوت)

يمثل الفتى تصادماً عنيفاً بين الحماس الشبابي وعبء الانتظار. بالرغم من أن "يحثه الحماس"، إلا أنه يتحول إلى كائن مدمن على الرفض. أفعاله التي يسميها النص "حركات شبه ممسرحة" هي طقوس لقتل الضجر. عندما يفشل في الوصول إليها، يتحول هوسه إلى عنف رمزي: "يمضي جوار دارها يصطاد الطيور ببندقية صيد، ممدودا على الأسفلت". هذا السلوك يشي بـ الانهيار النفسي الوشيك.

الشيخ المتهالك (الذاكرة الفزعة)

الشيخ هو أضعف الشخصيات وأقواها في نفس الوقت؛ هو الشاهد الوحيد. بالرغم من مظهره البالي، فهو "ذاكرة المسنين" الوحيدة التي تتذكر الأسرار القذرة للنجاة. وجوده "بين صبية يحثهم الحماس" يجعله شبحاً في الحاضر. دوره في المشهد هو تذكير المشاهد بالثمن الباهظ لنجاة هذا البيت. الشيخ يرى ما لا يراه الآخرون؛ إنه يمثل الفزع المترسب من الماضي.

4. الدروس المستفادة

التناقض البصري: دمج البيت القوطي القديم مع محيطه الحديث يخلق توتراً فورياً (الماضي يغزو الحاضر).

الإثارة في الصمت: التوتر المكبوت والجمود الصامت للشخصيات أشد تأثيراً من الحوار المباشر.

العمق الاجتماعي: جعل الخطيئة مرتبطة بالصراع الطبقي يرفع القصة إلى دراما قوطية ذات ثقل تاريخي.

قوة الرمزية: الشخصيات مثل "الشيخ المتهالك" هي ذاكرة حية تضمن حضور الأسرار المنسية.

عادل الاثرياء
قراءة أدبية في قصيدة "بيت الأثرياء" لكاظم حسن سعيد
بقلم: د. عادل جوده/ العراق/ كركوك

تتجلّى في قصيدة "بيت الأثرياء" لكاظم حسن سعيد ملامح نقد اجتماعيّ عميق يمتزج بالحنين والأسى، في بناءٍ شعريّ يتأرجح بين الحضور والغياب، بين العُمران والخراب، وبين الذاكرة والزوال. فالبيت هنا ليس مجرّد مكان سكنيّ، بل رمزٌ لطبقةٍ اجتماعيةٍ ذات امتيازاتٍ ماديةٍ وأخلاقيةٍ، ولزمنٍ تبخّر تحت وطأة التحديث المُفرط والانفصال عن الجذور.
ويُقدّم الشاعر هذا البيت كشاهدٍ صامتٍ على تحوّلات مجتمعيةٍ عنيفةٍ، حيث لا ينجو من السقوط سوى ما كان أصلب مادّةً وأعمق رسوخًا في الذاكرة الجماعية.

يفتتح الشاعر قصيدته بنفيٍ حادّ: "في هذا البيت / لن تجد رسائل الهوى"، ليُشخّص بذلك فقدانَ العاطفةِ والحميمية، وليُشير في الوقت نفسه إلى تآكلِ القيم الإنسانية داخل فضاءٍ كان يُفترض أن يكون مهدًا للعشق والدفء. فالرسائل، وهي أرقى تجليات الشعور، قد أكلها السوسُ والزمن، وتحوّلت إلى "غبار مظلم ساكن"، وكأنّ الهوى ذاته قد مات أو طُرد من هذا العالم المترف. ويُلمّح الشاعر إلى أنّ ما كُتب في هذا البيت لم يكن خالصًا، بل "بأسلوب بدائيّ" و"أشعار رائجة بلا فن"، وهو انتقادٌ لاذعٌ لثقافة السطحية التي تسود في أوساط النخبة، حيث يُستَبدَلُ الجمالُ بالشكل، والعمقُ بالرياء.

ويبرز التناقض الصارخ في الصورة المركزية للقصيدة: "البيت الثري الذي نجا من الزوال / يلتف في سحابة معتمة / بين صف من البنايات الشاهقة".
ففي قلب التحديث والتضخّم العمراني، يبقى هذا البيتُ وحيدًا، كأنه شيخٌ "متهالك بين صبية يحثهم الحماس"، رمزٌ لزمنٍ آخر، زمنِ الرصانة والهندسة والسرّ. هذا التقابل بين القديم والجديد، بين ما يدوم وما يزول، يُضفي على القصيدة بعدًا فلسفيًّا حول طبيعة البقاء والفناء، ويطرح سؤالًا صامتًا:
ما الجدوى من التقدّم إذا كان يُنتج عالمًا بلا ذاكرة؟

ويُجسّد لقاءَ "الفتى الأنيق" بالـ"شقراء" لحظةً من العبث الوجودي. فالشابّ، رغم أناقته وثقته، يُقابل باللامبالاة المطلقة. ينتظر، يتكيّأ، يُمسرِح ضجره، لكنّ الحبيبةَ "تجتاز الجسر دون أن تنظر إليه".
ها هنا يتحوّل الحبّ إلى طقسٍ سينمائيّ فارغ، يفتقر إلى التفاعل الحقيقي. وعندما يلجأ الفتى إلى "اصطاد الطيور ببندقية صيد"، فإنّه لا يمارس هواية، بل يُمارس يأسه وانتقامه الصامت من عالمٍ لم يعد يُبالي بجماله ولا بمشاعره. إنه سلوكٌ يعكس الانفصال بين الذات والآخر، وبين الحلم والواقع.

وفي المقطع الختامي، تعود القصيدة إلى ذاكرة المكان الجماعية.
فقد "أُزيلت بيوتهم الصفيح والقصب"، بينما "نجا بيت الطابوق العتيق"، ليكون "شاهدا على جمال هندسي / لا تراه الآن إلا في أطلس البيوت التراثية / وذاكرة المسنين".
إنّ هذه الجملة تحمل في طيّاتها نعيًا لاذعًا لثقافة تُهمش الماضي، وتحوّله إلى موضوعٍ أثريّ جامد، لا حيًّا في الوجدان. والبيوت التي "احتفظت بأسرارها للأبد" تُشير إلى عوالمَ انطفأت، لا يُمكن استعادتها، سوى من خلال الشعر، وهو ما يجعل القصيدة نفسها عملًا مقاومًا للنسيان.

في الختام:
"بيت الأثرياء" ليست قصيدة حنينٍ عابرة، بل نصٌّ يحمل في طيّاته فلسفة المكان، ونقدًا للعصر، وتأمّلًا في مآلات الذاكرة في زمنٍ يُسرّع بكلّ ما هو عميق. وقد استطاع كاظم حسن سعيد، بحسٍّ بصريٍّ ودراميٍّ نادر، أن يصنع من البيت رمزًا يتجاوز حدوده المادية ليصبح مرآةً لما فقدناه، ونخاف أن ننساه.

دكتور عادل عودة : يا له من نص شعري عميق ومُدهش..

🎨 قراءة في :
"اكتشاف السعادة"
للشاعر كاظم حسن سعيد
️ د. عادل جوده/ العراق/ كركوك


💢. إن قصيدة "اكتشاف السعادة" ليست مجرد سرد لحياة شخص، بل هي رحلة فلسفية مكثفة في مفهوم التحرر الذاتي والبحث عن معنى الوجود في الانعزال، متجاوزة حدود الزمان والمكان.
يقدم الشاعر كاظم حسن سعيد نموذجًا إنسانيًا (الخزاف) يختار العزلة كفضاء لاكتشاف سعادة "مطلقة" تنبع من الداخل، لا من صخب العالم الخارجي.

🏠 الخزاف:
الأسطورة في العزلة

يبدأ النص بوصف بالغ الرمزية: "الخزاف يقطن في بيت منفرد كشجرة ماء / لا يعرفها أحد في صحراء". هذه الصورة تضعنا مباشرة أمام مفهوم الوحدة المختارة، حيث البيت ليس مكانًا عاديًا، بل هو "شجرة ماء"؛ أي مصدر حياة في قفر. هو كيان مُعجز ونادر، لا يشارك العامة في معرفته.
هذا الخزاف ليس منبوذًا، بل هو مكتشف ومنعزل بإرادته، يرفض الانخراط في "حروب أهلية" أو الانشغال بـ "طرقات على باب"، وهي استعارات لضجيج الحياة وصراعاتها التي لا تنتهي.
يُعلن الشاعر عن قوة هذا الخزاف النفسية بامتلاكه "لقاحات الضجر ونياب أفاع للمزعجات"، مما يجعله محصّنًا ضد العلل الروحية والآفات الاجتماعية. هو سيد عالمه الداخلي.

🕊️ التحرر من الأسر والماضي
حادثة "الهدهد" رمزية بامتياز:

"مرة واحدة / اقتحم منزله هدهد فقبض عليه / وقص أجنحته." الهدهد غالبًا ما يُرمز له في التراث (خاصة في قصة سليمان) بالرسول، أو الناقل للخبر، أو المكتشف. في هذا السياق، يمكن أن يمثل آخر محاولة لاقتحام العالم الخارجي لخصوصية الخزاف. وبقص أجنحته، يُعلن الخزاف عن إسكات صوت الخارج، أو ربما يُقصد به قتل فكرة الرحيل أو التجسس على سعادته. إن سعادته تتطلب أن يكون هو الرائي والفاعل الوحيد دون تدخل من أي رسالة أو دليل خارجي.
ثم تأتي الإشارة إلى الماضي الذي "تكلس في روحه صدى الماضي / من خيبات وانتصارات".
هذا الاعتراف يمنح الشخصية عمقًا؛ فسعادته لم تولد من العدم، بل هي حصيلة لتجارب سابقة، ربما قادته إلى قناعة أن السعادة المطلقة تكمن في الانفصال عن نتائج الماضي (خيباته وانتصاراته)، والتركيز على اللحظة الراهنة.
وبتقنعه عن الطفيليات، يصبح "رجلًا لا مرئيًا"؛ حرًا من عبء التوقعات والتقييم الاجتماعي.

✨ السعادة في الخلق
واللحظة

تكمن ذروة الاكتشاف في الفعل الإبداعي:
"يصحو ليبث روحًا في الطين / مستمتعًا بدورانه على عجلة الفخار". هنا، السعادة المطلقة هي "الإبداع الخالص".
الطين هو المادة، والعجلة هي الزمن، والخزاف هو الروح.
هو لا يصنع أواني فحسب، بل يصنع وجوده الخاص، يمنح الروح لحياة بلا شكل. هذا الاستمتاع بالدوران (رمزية الحركة الدائمة والتركيز) هو ما يجعله لا يتذكر أحلامه؛ فواقع يقظته أجمل وأكثر ثراءً من أي منام، ومركزه هو الطين المُبدع.

💖 لقاء الأنثى:
تجديد الروح

النهاية تضعنا أمام التوازن
المدهش بين العزلة والاحتياج الإنساني: "يمضي كل مساء في الظلمة / فتصادفه الأضواء". وكأن العالم الخارجي بكل ما يرفضه يخدم سعادته في النهاية. الظلمة هي منطقة الغموض والبحث، والأضواء هي اللقاء الأنثوي المتمثل في "فتاة فاتنة".
هذا اللقاء ليس هروبًا، بل هو تغذية للروح، "فيطعم روحه حتى المنتصف / بأزهار التأوهات".
هذه العبارة الشعرية المكثفة تجمع بين الغذاء الروحي والنشوة الجسدية (أزهار التأوهات)، وتجعل من هذا اللقاء تجديدًا حسيًا ضروريًا للخزاف الذي أفنى يومه في الخلق الذهني والعملي. بعد هذا التوازن بين الروح والجسد، بين العزلة واللقاء، بين الخلق والامتلاء، يستطيع أن "ينام عميقًا".

🗯️ الخلاصة:

إن الخزاف هو رمز للفنان/الفيلسوف الذي وجد السعادة المطلقة في معادلة دقيقة: التحصين من ضجيج العالم + الانغماس في عملية الخلق + تجديد الروح باللقاء الحسي المتقطع.
إنها سعادة متعالية عن الصغائر، ومُركّزة في جوهر الوجود والعمل.

اليوم، الساعة 4:48 م
4:48 م
دكتور عادل جودة :مشاهد قبل عصر الكهوف
🌟 هذه قصيدة موجعة ومؤثرة جداً للشاعر كاظم حسن سعيد، تستخدم إطاراً تاريخياً مجازياً عميقاً للتعبير عن مأساة الحاضر.

✒️ د. عادل جوده/ العراق/ كركوك


💔 قراءة في قصيدة "مشاهد قبل عصر الكهوف": مرارة البداية المتجددة
يُقدِّم الشاعر كاظم حسن سعيد في قصيدته "مشاهد قبل عصر الكهوف" نَصاً شعرياً قاسياً وصادماً، يتجاوز حدود الزمن والمكان ليصوّر مأساة إنسانية كبرى تبدو أزلية، ولكنها في جوهرها انعكاس لواقعنا المعاصر.
إن عنوان القصيدة بحد ذاته مفتاح بالغ الأهمية؛ فـ "ما قبل عصر الكهوف" هو زمن البداية المطلقة للوحشية والعجز، وكأن الشاعر يقول:
"لقد عدنا إلى نقطة الصفر، حيث لا مأوى ولا أمان ولا حتى وجود اجتماعي متماسك يوفر الحماية البدائية للإنسان."

١ المشهد الأول:
صرخة العويل الأزلية
يبدأ الشاعر ببنية سردية مباشرة ومؤلمة:

افنت المقذوفات بيته وعائلته / الصبي ينزح وحيدا / صارخا بعويل ( يا امي) / حاملا اخاه الصغير على كتفيه.


هذا المشهد هو أيقونة المأساة العصرية. "المقذوفات" كفاعل غامض ومحايد يرمز لقوة عسكرية عمياء. الشخصية المحورية هي "الصبي" الذي يتحمل عبء البقاء وحيداً ومسؤولية الحماية. صرخة "(يا أمي)" لا تحمل دلالة شخصية بقدر ما تحمل دلالة الاستغاثة بأصل الأمان المفقود. وهي صرخة تتجاوز اللغة، لتصبح عويلاً بدائياً يجمع بين الألم الجسدي والنفسي، ويضع الصبي في دور الأب والمنقذ الذي يحمل بقايا عائلته على كتفيه.

٢ المشهد الثاني:
الاستغاثة اليائسة من البشر والسماء
ينتقل الشاعر إلى صورة جماعية مروعة تجسّد اليأس المطلق:

( انقذونا) / تصرخ بهيكل حجري / باسلاب مرقعة / وحلية اللون / كأنها انبثقت من اعماق القبور... تستغيث بالمتحجرين / بعد ان يأست من السماء.


هنا يبرز التجسيد الأكثر قسوة. المستغيثون يصرخون بكلمة واحدة "انقذونا"، لكنهم يوجهون صرختهم إلى "هيكل حجري"، رمزاً للجمود وعدم الاكتراث العالمي، أو ربما إلى نظام فقد روحه الإنسانية. وصفهم بأنهم "انبثقوا من أعماق القبور" يُضفي عليهم صفة الموتى الأحياء، الذين فتك بهم "الجوع والرصاص" (ثنائية الحرب والحصار).
الذروة في هذا المقطع هي اليأس الوجودي: "بعد ان يأست من السماء". هذا السطر يختزل مرارة السائل الذي فقد إيمانه بالرحمة الأرضية والسماوية، ليتجه في النهاية إلى "المتحجرين" (البشر المتجمدي المشاعر)، وهو اختيار يائس ومحبط بحد ذاته.

٣المشهد الثالث:
الصغير بين الركام ولغة العيون
يُركز الشاعر على تفصيلة مؤلمة في مشهد الإنقاذ المادي:

يحاولون انقاذه بالايدي / تحت جبل من الركام / الصغير المذهول المتكلس / يظهر وجهه المدمى / بين كتل الحجر والقضبان / عيناه فقط تقذف رسائل استغاثة.


مشهد الإنقاذ "بالأيدي" يؤكد على بدائية العملية وقلة الحيلة، في مقابل ضخامة "جبل من الركام". يتميز الطفل بصفة "المتكلس"، التي تعني التجمد الذهني والعاطفي الناتج عن الصدمة. في هذا الوصف البارد والموضوعي لجسد مُحطَّم، تبقى "عيناه فقط" هي الفاعلة، وهي التي "تقذف رسائل استغاثة". العيون تتحول إلى سلاح أخير، إلى فعل حركي (القذف) يُعبّر عن عنف الاستغاثة المطلوبة. هي لغة اللحظة الأخيرة، حيث يصمت الفم وينطق الوجع.

٤ المشهد الرابع:
ضعف الطبيعة وقوة التكنولوجيا
يختتم الشاعر بمشهد كارثي يجمع بين اليأس البيئي والتهديد التكنولوجي:

جاهدت لتوفر لهم غذاءهم الاعشاب / قبيل وصولها / طوحت عاصفة المطر / خيمتهم الخرق. / المسيرات تظللهم.


هذا المشهد يضع الإنسان في مواجهة العناصر الطبيعية والقوى العسكرية على حد سواء.
المرأة التي "جاهدت" لتوفر "غذاءهم الأعشاب" (رمز للحياة في أدنى صورها) تُهزَم من قبل "عاصفة المطر".
الطبيعة نفسها تخون الضعيف.
لكن الكارثة تكتمل مع الصورة الختامية المرعبة: "المسيرات تظللهم." هنا ينتهي الأمل في الغطاء والحماية؛ فـ "الخيمة الخرق" طوحتها العاصفة، ليحل محلها تظليل بارد، آلي، ومُهدِّد من الطائرات المُسيَّرة (الدرونز). إنه تظليل المراقبة والموت الوشيك، الذي يقف شاهداً على عودة الإنسان إلى وضع "ما قبل عصر الكهوف"، حيث لم يعد هناك مكان للاختباء من وحشية الحرب وتكنولوجيا الموت.












محمد بسام العمري
لقد شاء الكاتب محمد بسام العمري أن يبتكر جسرًا فنيًا
يجمع بين نصوص واقعية موجوعة
كتبها كاظم حسن سعيد،
وبين مقامتيّة تعتمد الصنعة البلاغية،
وتستحضر روح الهمذاني والحريري،
ثم تمزج الطرفين في نسيجٍ واحد
تخرج منه الرواية/المقامة
كأنها مرآةٌ ذات وجهين:. ...
وذلك استلهاما لنص / مشاهد قبل عصر الكهوف/..)

"مقامةُ الشاهدِ في زمنِ الوجع"
ليس هذا العملُ نصًّا يُروى ليمضي كما تمضي الحكايات،
ولا هو سردٌ يُطلب منه أن يُعقّب الحزنَ بالسلوان،
بل هو تجربةٌ أدبية مبتكرة،
يتشابك فيها الواقعيُّ بالحكائي،
وتلتقي شهاداتُ الألم الحيّة
بفنّ المقامة الهمذانية الذي طالما لمع بالسجع والبيان والمخيلة.
لقد شاء الكاتب أن يبتكر جسرًا فنيًا
يجمع بين نصوص واقعية موجوعة
كتبها كاظم حسن سعيد،
وبين مقامتيّة تعتمد الصنعة البلاغية،
وتستحضر روح الهمذاني والحريري،
ثم تمزج الطرفين في نسيجٍ واحد
تخرج منه الرواية/المقامة
كأنها مرآةٌ ذات وجهين:
وجهٌ يروي الحقيقة كما حدثت،
ووجهٌ آخر يصوغ ما حدث
ببلاغةٍ تحمي الحقيقة من الابتذال
وتمنحها حياةً ثانية في اللغة.
إنّ القارئ—قبل أن يدخل المجلس المتخيّل—
ينبغي أن يعلم أنه أمام نصّ
لا يكتفي بنقل الصورة،
بل يرفعها إلى مقام الفن،
ويجعل من كل مشهدٍ واقعي
حجرًا في بناءٍ بلاغي
يتقدّم خطوة نحو الرواية،
وخطوة نحو المقامة،
حتى يتجاور الأسلوبان
كما يتجاور الليلُ والمصباح.
والمقاطع الأربعة التي صاغها الكاتب كاظم حسن سعيد:
• صبيٌّ أفنت المقذوفات بيته وهو يصرخ “يا أمّي”.
• امرأةٌ تستغيث: “أنقذونا… فقد فتك بنا الجوع والرصاص”.
• طفلٌ يُنتزع من بين الأنقاض لا يتكلم إلا بعينيه.
• أمٌّ جاهدت لتطعم صغارها فأطاحت العاصفة خيمتهم.
كلّها شهادات واقعية تُنسب إليه نصًّا وروحًا،
ولم تُمسّ في معناها،
بل رُفع عنها الغبار،
وأُلبست حلّة أدبية
تتيح لها أن تدخل عالم المقامة
دون أن تفقد صدقها،
وتدخل عالم الرواية
دون أن تفقد جمرها.
بهذه “البدعة الفنية”—
وهي مزاوجةُ الحقيقة العارية
بـ البيان المزدان—
يتقدّم هذا النصّ للقارئ،
ليدعوه إلى قراءة الوجع،
لا بوصفه خبرًا يمرّ،
بل بوصفه فنًّا يقيم في الذاكرة،
ووثيقةً أدبية
تقول ما لم تعد السماء تقوله.
فهلمّ، أيها القارئ،
إلى مقامةٍ تبدأ من الشهادة
ولا تنتهي عند البلاغة،
إلى نصٍّ يكشف الجرحَ
ويجمّله بالمعنى،
ليصبح أدبًا وتاريخًا وشهادةً في آن.


المقامة الهمذانية في الزمنِ المهزوم
لِمَنْ عَرَفَ أنَّ الحكايةَ لا تكتبها الأقلام، بل الجراح
حدّثني قلبي—وكان يومئذٍ شيخًا أثقلتهُ الأسقام—
أنّ العقل إذا ضاقَ بالفواجع، تخيّل مجلسًا لا يُرى إلّا بالبصيرة،
ولا يُزارُ إلّا على صهوة الوجع الخطير.
فيا صاحِ،
ادنُ منّا نُحدّثك عن زَمانٍ انخلعتْ حضارته،
وانقلبتْ روحهُ على عقبيه،
حتّى عادَ البشرُ فيه إلى ما قبل الكهوف،
يستضيئون بلهيب المأساة،
ويستدفئون بخرابٍ لم يترك أحدًا ولا شيئًا إلّا ناله.
دخلتُ المجلسَ يومئذٍ،
والليلُ قد نشرَ سواده نشْرَ السِّجال،
ورفقةٌ على أطرافه كأنهم أطيافٌ تُساق إلى قدرها سوقًا،
وفي صدورهم من الحيرة ما لو عُصر لصار نهرًا.
وفي صدر المجلس شيخٌ،
لو أنّ الجبالَ لبست سيماء رجلٍ لكانت صورته،
ولو أنّ الحزنَ تمثّل بشرًا لما اختار غيره.
رفع رأسه، ومسح بلحيةٍ استوطنتها الأيامُ بقايا الرماد، وقال:
يا هؤلاء… حدّثتني الليالي حديثًا
لو سمعتهُ الصخورُ لتشقّقت،
ولو شهدتهُ الطيورُ لخلعت أجنحتها من الفزع.
فأصغينا إليه إصغاءَ ملهوف،
إذ ما في المجلس نفسٌ إلّا والهلعُ يحفّ بها حفًّا.
قال الشيخ:
خرجتُ في أرضٍ،
لا تُعرفُ فيها السماءُ إلّا شاهدًا على الموت،
ولا يعرفُ أهلُها من الجيران إلّا النار.
فأوّلُ ما لقيني—والعهدةُ على القلب—
صبيٌّ تمشي الجراحُ أمامه، ويجري الألمُ خلفه،
كأنه آخرُ شظايا الطفولة على وجه الأرض.
أفنت المقذوفاتُ بيته،
وأفنت معه أسرته،
وأفنت ما تبقّى من حلمٍ كان يُسمّى طفولة.
كان يحمل أخاه الصغير على كتفيه،
يمشي بين الركامِ مشيَ من لا يعرف الطريق
إلّا لأنَّ الخرابَ كلُّه طريق.
وكان يصيحُ صيحَ من سُرقت أمُّه من أحشائه:
يا أمّاه… يا أمّاه…
نداءٌ لو سمعته الصَّخرةُ لانشقَّت،
ولو سمعته الريحُ لاخضوْضَر هبوبُها من البكاء.
فناديته: إلى أين تمضي يا بُنيّ؟
فلم يجب؛
فإنّ من حمل قبرَه على كتفيه،
لا يحملُ جوابًا على لسانه.
ثم استجمع الشيخُ بقايا صوته،
وقال كمن ينزع الكلمةَ من قبر:
وبينا أنا في طريقي إذ برزت امرأةٌ
كأنها بقايا الهيكل بعد البعث القاسي،
ثوبٌ مخرّقٌ،
وجسدٌ ممزّقٌ،
وعينانِ لا ضوءَ فيهما إلّا ما بقي من رماد الإنسان.
مدّت يدها،
وصوتُها يتعثرُ في حلقها تعثّرَ العاصفة في شقوق الجبل، وقالت:
أنقذونا… فقد فتك بنا الجوعُ والرصاص!
يا صاحِ،
والله إنَّ صرختها لم تكن صرخة امرأة،
بل كانت تاريخًا يلطم جدار القدر.
كانت الكلماتُ تتهدّجُ منها
تهدّجَ الطير إذا رُمي بالسَّهام،
وكانت تستنجد بالبشرِ بعدما يئست من السماء،
فالسماء—يا صاحِ—قد امتلأتِ بالدعاء حتى ضاقت.
ثم قال الشيخ، وقد خيّم الصمتُ على المجلس:
وبينما نحن نُصلّي للرحمةِ أنْ تنزل،
ارتفعت صرخةٌ
كأنّ فمَ الأرضِ قد نطق.
فهرع قومٌ،
يحفرون بأظفارهم حفْرَ من يفتّش عن بقيّة عمره،
ويُزيحون الحجرَ والصفيحَ كأنهم يزيحون قدَرًا وُضع فوق صدورهم.
حتى بدا طفلٌ،
وجهُه مدرّجٌ بالدم،
وعيناهُ كنافذتين على خوفٍ لا يُكتب.
لم يتكلم،
فمن يختنقُ بالصدمة لا ينطق،
لكنّ عينيه—يا صاحِ—
كانتا كتابَ استغاثةٍ مكتوبًا بنار،
يخترقُ الهواء اختراقَ السهام.
وما كاد الشيخُ ينهي زفرته،
حتّى قال:
ورأيتُ امرأةً جاهدتْ لجمع الأعشابِ قوتًا لصغارها،
تركضُ بين الحجارة ركضَ من يطاردُهُ الجوعُ والقدر،
حتى إذا عادت،
وجدت العاصفةَ قد سبقتها إلى خيمتها الخَرِقة.
طوّحت الريحُ الخيمةَ
كما تطوَّحُ يدُ اليُتمِ شالَهُ الأخير،
وبقي صغارُها تحت المطر،
تظلّلهم المسيراتُ من فوق
ظلَّ الحديدِ لا ظلَّ الغيم.
يا صاحِ…
ما أقسى أن تنظر إليك السماء،
ثم لا تنظرُ إليك.
ثم نهض الشيخ وقال:
هذا زمنٌ مهزوم،
يُقتل فيه الحجرُ قبل أن يُقتل البشر،
وتُذبحُ فيه الرحمةُ من الوريد إلى الوريد،
وتعودُ الإنسانيةُ فيه إلى ما قبل الكهوف،
تحفرُ بأظفارها بحثًا عمّن ينقذها من نفسها.
فإن كتبتم عنه فاجعلوه مقامةً،
وإن سمعتموه فاتخذوه عِبرةً،
فإنّ الدهرَ يمضي،
ولا يبقى إلّا وجعٌ يكتبُ تاريخَه بحبرٍ من دم.

فانفضَّ المجلس،
وما بقي منه إلا صدىً
يسأل سؤالًا يذيبُ الحجارة:
أيُّ زمانٍ هذا
إذا صار الصراخُ لغةَ الأرض،
وصار الأطفالُ أعمدةَ العالم
على أكتافٍ نحيلةٍ…
لكنّها لا تنكسر؟
محمد بسّام العمري












ايمن دراوشة :

(القطرة التي تروي: قراءة في التحول القصصي داخل نص شعري مكثّف)
سياقية الانزياح من الصورة إلى الحكاية
صاحب النص – كاظم حسن سعيد
قراءة سردية – أيمن دراوشة
--
النص الشعري من أصعب أنواع النصوص، لأنه يجمع بين الذات والشعور الشخصي، وبين الواقع والخيال (1) وبين الفرد والجماعة. بعض الشعراء لا زالوا يلتزمون بالوزن والقافية، لكن بأسلوب حديث وخفيف لا يثقل القارئ. مع ذلك، الشعر ليس فقط وزن وقافية، فهناك قصائد تعتمد على الإيقاع الداخلي. في قصيدته، ينجح الشاعر الشاب في تنويع الإيقاعات، سواء كانت لفظية أو حسية أو خارجية. لكنه في الوقت نفسه يمنح أبياته إيقاعًا داخليًا حقيقيًا (2) هذا الإيقاع الداخلي هو نبض الفكرة الإبداعية عند الكاتب، يعكس مدى حرارة مشاعره، وصدق فنه، وكمية الإلهام التي يفيض بها.
ولا ننسى اللغة الشفافة الموحية التي استخدمها الشاعر ليعبر عن "هذا الفيض بصورة فنية جميلة عالية المستوى". (3)
تتحدث القصيدة عن المقاهي الشعبية التي كانت يومًا ما مراكز حيوية تملؤها الحياة والوجوه المختلفة. هذه الأماكن لم تكن مجرد مقاهي عادية، بل كانت بمثابة مساحات تجمع الناس من كل الطبقات، وتحكي قصص المجتمع وتاريخه. مع مرور الزمن، تلاشت هذه الأماكن أو تحولت إلى بقايا تذكرنا بماضٍ كان نابضًا بالحيوية.
في البداية، يلمح النص إلى غياب هذه المقاهي، كأنها اختفت فجأة من الوجود. ثم يعيدنا إلى الماضي عبر مشاهد لأشخاص مختلفين كانوا يترددون عليها؛ طلاب يحملون همومهم، سياسيون يناقشون قضاياهم، فلاحون يشاركوا أحاديثهم، ومهرجون يضيفون لمسة من البهجة. بعد ذلك، ينتقل الشاعر إلى الحاضر حيث يصف مقهى واحدًا فقط بقي على قيد الحياة، لكنّه لم يعد كما كان، بل أصبح كأنه روح معلقة بين الحياة والموت، مكان هادئ وصامت، يذكّر بما كان.
في نهاية النص، يُختتم كاظم بصورة للمقهى الذي صار يكسوه الصدأ، محاطًا بذكريات قديمة، كأنه شاهد صامت على زمن مضى، يحمل في طياته قصص الناس الذين مروا عليه.
المكان انتهى بالصدأ وبقيت فيه ذكريات فقط، مع بعض الكهول الذين ما زالوا يتنفسون عبق الماضي. القصة تمشي كأنها قوس يبدأ بالاختفاء، ثم يمرّ بلحظات من الحنين، وفي النهاية يصل إلى الخراب.
أما الشخصيات، فهناك الرواد القدامى الذين كانوا يمثلون تنوع الناس وأفكارهم، وكأن المقهى كان مسرح صغير يعكس حياة المجتمع. والكهول اليوم، هم رمز للزمن الذي استنزف كل شيء، ولم يترك سوى الذكريات القديمة. حتى رقم الهاتف الخاص بخدمات الهدم، صار علامة واضحة على المصير المحتوم، وكأن الخراب يترصد المكان بلا رحمة.
المرأة البيضاء ذات القوام الممتلئ والأطفال المفعمون بالفرح، كلهم جزء من صورة قديمة لمنزل غني، لكنه تحول الآن إلى مقهى. المكان نفسه يحمل في طياته ذكريات طبقية واجتماعية متشابكة ومعقدة.
بالنسبة للغة والأسلوب، النص مليء بالصور الحية مثل "سهام نارية" و"تخوت متآكلة" و"شبح يعلو عن الأرض بمتر". هناك تداخل بين الواقع، مثل الحديث عن الضغوط والسكري، والرمزية، حيث يصبح المقهى شبحًا والذكريات تبدو وكأنها تتنفس. الأسلوب يميل إلى قصيدة نثرية تحكي قصة، تجمع بين الجمل الخبرية والصور الشعرية بشكل متجاور وغير متصل بشكل كامل.
إنها فكرة الزوال والذاكرة بطريقة عميقة. كيف تتحول الأماكن التي كانت مليئة بالحياة إلى أطلال مهجورة؟ وكيف يبقى الإنسان محاصرًا بين ذكرياته التي لا تنتهي؟ المقهى هنا يشبه الإنسان نفسه، يهرم ويضعف مع الزمن، لكنه يظل يتشبث بما تبقى من لحظات الماضي، وكأنها الهواء الذي يتنفسه.
الصور في القصيدة ممتزجة ومتناسقة مكونة كيانا شعريا مستقلا، وكل صورة لها نغمتها الخاصة. والنغمات مجتمعة تساهم في خلق عالم شعري، والشعر بالنهاية كما يقول روبتسن: "لغة الإحساس تصور ما لا قدرة لنا على تصويره من حدث لا طاقة لنا على وصفه، وإن علت مرتبة الشعر أو صغرت". (4)
ملاحظات فنية:
ممكن نشر النص كفصة قصيرة تحت عنوان شبح المقهى الأخير.
أو تستخدم النسخة المختصرة كقصيدة نثرية على السوشيال ميديا، مع صورة لمقهى قديم ومتآكل.
النص الأصلي: شعر / كاظم حسن سعيد
"شبح مقهى"
اختفت المقاهي الشعبية
الملبدة بازقة ضيقة او المشرعة على الأسواق السيالة التي تناست النوم
واختفت أساطيرها وقصصها وروادها:
من طلاب ثأر ملثمين نزحوا من مدن
جنوبية
وسياسيين منزوين بلعبة الدومينو مع جرائدهم
وفلاحين يطلقون طرائف إباحية. ..
مهربين وشقاة ،ورجال تلاوة وسحرة، ومهرجين..
يكفيك وضع ملعقة على قدح الشاي فيقودك عامل مقهى لبائعات يتكورن في انتظارك فتزيل فيهن ضغط طاقتك..
يتفرق منها قبيل الغروب المتقون والسكارى،
ويلتقون بود فيها صباحا..
صدفة وصديقي اكتشفت واحدة نجت من المحرقة :
في زقاق ضيّق
ثلاثة تخوت متآكلة متقابلة
يحتلها كهول
يتحدثون عن أحفادهم وزوجاتهم الفقيدات وسوء الطالع
وأدوية أعشاب للضغط والسكري
إنها شبح مقهى يرتفع عن الأرض مترا
يظهر فيها سلم صدئ ورفوف صغيرة تضم القداحات وعلب السجائر
ترتفع العيون لترى صاحبها يطل متفقدًا روادها المتكررين...
ويختفي فيما لا يرى
أعلى بابها الصغير رقم هاتف لخدمات التهديم...
كبار السن يعرفون بعضهم
ربما أساتذة متقاعدون
أو موظفون نكبتهم الحياة
يمضغون خيبات الظن ويحصون الخسائر.
يتغافى أحد الرواد ويصحو جوار أحد يكلم نفسه
يخترق التخوت شحاذون ومهرولون ،ومجانين..مثل سهام نارية
فيشتتون سلسلة الأحاديث والأحلام.
المقهى مدخل كان لبيت ثري
تغادره أو تعود إليه امرأة بيضاء بدينة
وأطفال مرحون وصبايا مترفات
كتلة بشرية من الأسرار.
صدئت الأشياء
مخلفة مقهى شبحيا نجا من المحرقة.
وكهولا خاملين
يتنفسون بالذكريات.
2025
الهوامش
1- حسن مخافي. حدود الشعر وحدود التربية: التجاور والتنافر. في:الشعر والتربية تنسيق وتقديم خالد بلقاسم، المغرب: منشورات بيت الشعر، ص 113.
2- مقابلة مع حسين مروة. في: جهاد فاضل، قضايا الشعر الحديث، بيروت- القاهرة: منشورات دار الشروق، د.ت، ص 427.
3- المرجع السابق نفسه.
4- يوسف عزّ الدين. التجديد في الشعر الحديث، مرجع سابق، ص 48.






لامية عويسات
ما يضعه أمامنا الأستاذ كاظم حسن سعيد اليوم؛ هو نص يخرج اللغة من حيادها، ويستفز السرد ليغدو شهادة على زمن ينهش أبناءه: "هواية الجرّافات" نص من هذا الطراز: يبدو للوهلة الأولى وصفا باردا لمشهد دموي، لكنه في العمق لائحة اتهام للواقع، ومرثية جيل تُطمرُ أحلامه كما تُطمر الجماجم.
هنا لا يتكلّم الشاعر، بل تتكلم الأرض التي ألفت الدم، والليل الذي خَبِر النحيب، والآلة التي تحترف المحو كأنها متعةٌ يومية، إنّه نصّ تراجيدي مصاغ بلغة مشذّبة، مقتصدة، مُخاتِلة، تعطي الرعب شكله الحقيقي: ألا وهو البساطة.
النص بني على جمل قصيرة، تقريرية باردة عمدا، هذه البساطة ليست عجزا لغويا بل مقصودة: إنها تقنية "التجريد الواقعي" حيث تُعرّى الفاجعة من أي انفعال مباشر، لتصبح اللغة مرآة جريمة تُرتكب بلا ضجيج.
كما نتوقف معها في البناء الحلقي والتكرار المعمَّد بالدم، وتكرار الثنائيات:
النهار - الليل
القتل - الطمر
النحيب - الحماسة
الحياة - الشاشة الباردة
إذ يعيدنا إلى إنتاج دورة عنف لا تنتهي: كل يوم قتل، كل ليلة نحيب، كل صباح طمر… حتى تصبح الحركة دائرية، كأن التاريخ يدور في مكانه.
لنقف على حضور الآلة مقابل غياب الإنسان، حيث تتوزع الكائنات في النص على مستويين:
الآلة: الجرّافات، الحادلة، الشاشة - حاضرة، فاعلة، منتصرة.
والبشر في: تُقبر، تُطمر، تُمحى، تُبكى.
هذا التقابل مقصود: لأن الإنسان مستهلك، والآلة مُنتِجة، وهذا قلب للمألوف احتيالا من كاتبنا على الدهشة لخلق صدمة دلالية.
السرد السينمائي، في نصه مبني على لقطات:
نجده في لقطة قريبة (يتقدم شجعان برماحهم)
لقطة بانورامية (مئات… حفرة شاسعة)
لقطة متتابعة (تتقدم الحادلة… تمحو الآثار)
ولقطة ليلية (تنحب النساء…)
ثم لقطة تلفزيونية (على الشاشة كتابة باردة…)
الكاتب وهنا يخلق "مونتاجا" لا رحمة فيه، كأنه يُخرج فيلما وثائقيا لحرب، لكن بلا موسيقى بلا تعليق بلا رحمة.
وجوديا الاستاذ كاظم حسن سعيد يقدّم الحرب بوصفها لعبة، أو "هواية" وهو العنوان الأكثر قسوة.
الجرّافات لا تقتل، لكنها تمارس هواية: المحو.
وهذه التسمية تُعرّي منطق الحرب:
ليست بطولة، ولا عقيدة، بل عادة جهنمية تحترف ابتلاع البشَر.
كما يبرز دورة الألم الأنثوي، حيث النساء في النص يمثلن ذاكرة الألم المتجددة:
النحيب
إطعام الأيتام
مواصلة الحياة رغم الموت
إعادة إنتاج الوجع كل ليلة
فالأنثى هنا جسر البقاء الوحيد في عالم يُعاد تدويره بالموت.
ليحيلنا إلى العبث الذكوري في وجه الفناء حين يجعل الرجال "يشحذون رماحهم" "يتلون الآيات" "يغنون" ثم يعودون للقتال ويقبرون.
كأنهم جزء من آلة الفناء، لا ضحاياها فقط.
وهذا يخلق مفارقة وجودية: إذالإنسان يقف ضد موته، لكنه يشارك في صنعه أيضًا.
نعرج إلى العبارة الأخيرة لنحط بفلسفة النص:
"جبل الذهب وحده من سينتصر في لعبة التعدين"
هنا تصل الرسالة إلى أعلى مستويات السخرية السوداء:
الحرب ليست قضية… بل تجارة.
الموت ليس بطولية… بل مادة خام.
الذهب وحده ينجو… البشر يُستنزفون.
ثم قوله: "على الشاشة كتابة باردة"
هذه إشارة تدين الإعلام المحايد زائفا، الذي يتعامل مع المأساة كإحصاء.
الكتابة الباردة تجرد الحدث من قيمته الإنسانية، وتحوّله إلى رقم يمكن تجاوزه.
وخطاب اللامبالاة في: "سائق الحادلة لا يزعجه الضجيج"
رغم الفاجعة يوجد شخص يمارس عمله بلا إحساس.
هذا يُجسّد الأخطر:
تطبيع العنف وتحوّله إلى روتين يومي.
"أقول لها وقد طارت شعاعا" خطاب تراثي، يستدعي أبيات قطري بن الفجاءة في جوّ دموي يوحي بمفارقة قاسية:
الحماسة القديمة تُستدعى كأنها لازمة محفوظة، بينما الواقع يطمر البشر بلا معنى، وهذا يكشف فجوة الخطاب البطولي بين الماضي والواقع.
النص بلاغيا لا يعتمد الاستعارات الثقيلة؛ بل يترك الصورة الواقعية تتكلم.
هذه البلاغة "التجريدية" تخلق أثرا أقوى من الزخرف.
في التوازي والبناء الطبقي للصورة:
كل مقطع يُبنى على الآخر:
قتل؛ طمر؛ محو
نحيب؛ أيتام؛ شاشة
هذه المعمارية تُحكم النص وتجعله كتلة واحدة متماسكة.
كذا الكناية القاتلة: "بشرتهم السوداء"
لا يهدف اللون هنا للتوصيف الجمالي بل لتكثيف البؤس والكدورة، وكأنه ظلّ الحرب مطبوع على أجسادهم.
"هواية الجرّافات"
للأستاذ كاظم حسن سعيد؛ نصٌّ يقف بين الشعر والسرد والسينما، لكنه يرفض الانتماء لأي جنس، لأن جنسه الحقيقي هو الاحتجاج.
إنه بيانٌ مضاد للحرب، مكتوب بيد شاعر يعلم أن المأساة لا تحتاج لمجازات طنانة، بل تحتاج إلى لغة باردة كالمشرط.
النصّ يعرّي لعبة الموت، ويفضح دورة القتل التي تكرّسها الأنظمة والآلات والإعلام والانتظار.
ليصرخ الكاتب في النهاية، بصوت خافت حادقائلا:
"في لعبة التعدين، ينتصر الذهب… ويُدفن الإنسان"
ذلك كلّه يجعل النص واحدا من أقسى الشهادات الشعرية المعاصرة عن الحروب، وأكثرها توهّجا بلاغيا رغم برود لغتها.











نادية الابراهيمي
ذاكرة القلوب لا تتغير..
وما كان الحلم منسيّا، نحن الذين خبّأناه في الزوايا المعتمة من أرواحنا، كي لا يفضح ارتباك خطواتنا حين نمشي فوق جمر الكذب الذي دثّرنا به الحقيقة.

تركنا صدقنا في العتمة
ثم بكينا على نوره حين خذلنا الظلام،
لم نفكر أن الحلم لم يمت، بل تراجع قليلا فقط...احتراما لضعفنا.

صارت أعماقنا غرفا مغلقة، وجدرانها تكتظ بنقوش لم نجرؤ على لمسها، كأننا نخاف أن نتذكر أننا كنا يوما أطفالا... نركض بخفة
نحو سماوات لم تقيدها الأسلاك.

والأنين...
أصبح موسيقى خافتة تمر في الأجساد،
موجة تلامس ولا تُرى، فيغمرنا صمت ثقيل،
فضيلته الوحيدة أنه يجنبنا الاعتراف:
نحن نسمع...
لكننا لا نريد أن ننصت.

لقد تغوّلت فينا المسافات
حتى بين ملامحنا ووجوهنا في المرآة،
صرنا ننظر ولا نرى، نعيش ولا نحيا،
نحن الذين أغلقنا الأبواب على أرواحنا
ورمينا مفاتيحنا في بئر النسيان.

ومع ذلك...
الحلم لا يزال ينتظر، لا يزال ينبض في تلك الزاوية الخفية التي لم تصل إليها خيباتنا بعد،
كصوت بعيد ينادي:
أيمكن لركن صغير من القلب
أن يظل وفيّا للدهشة... مهما طال الغياب؟



#كاظم_حسن_سعيد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صانع الاختام قصيدة
- الفلاح
- انسحاقات قصيدة
- قراءتان لنص مشاهد
- جنازة قصيدة
- هل تستطيع قصيدة
- ما وراء الجمال قصيدة
- هواية الجرافات قصيدة
- مقامة الشاهد في زمن الوجع
- مشاهد قبل عصر الكهوف قصيدة
- الاسطورة في العزلة قراءة في اكتشاف السعادة
- اكتشاف السعادة قصيدة
- بيت الاثرياء مادة لفلم سينمائي
- بيت الاثرياء قناع
- العقارب السوطية كتاب كامل
- قراءتان في نص بيت الاثرياء
- قراءة في نص لسعات متكررة
- بيت الاثرياء قصيدة
- تحليل سينمائي ل شبح مقهى
- ديوان العقارب السوطية كتاب كامل


المزيد.....




- مهرجان الفيلم الدولي بمراكش يكشف عن تشكيلة لجنة تحكيم دورته ...
- اتحاد الأدباء يحتفي بالشاعر عذاب الركابي
- من أرشيف الشرطة إلى الشاشة.. كيف نجح فيلم -وحش حولّي- في خطف ...
- جدل بعد أداء رجل دين إيراني الأذان باللغة الصينية
- هل تحبني؟.. سؤال بيروت الأبدي حيث الذاكرة فيلم وثائقي
- الأخوان ناصر: إنسان غزة جوهر الحكاية.. ولا نصنع سينما سياسية ...
- الأخوان ناصر: إنسان غزة جوهر الحكاية.. ولا نصنع سينما سياسية ...
- -سيرة لسينما الفلسطينيين- محدودية المساحات والشخصيات كمساحة ...
- لوحة للفنان النمساوي غوستاف كليمت تصبح ثاني أغلى عمل فني يُب ...
- معاناة شاعر مغمور


المزيد.....

- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كاظم حسن سعيد - ازهار فوق تل جماجم كتاب كامل