أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كاظم حسن سعيد - ديوان العقارب السوطية كتاب كامل















المزيد.....



ديوان العقارب السوطية كتاب كامل


كاظم حسن سعيد
اديب وصحفي


الحوار المتمدن-العدد: 8517 - 2025 / 11 / 5 - 11:54
المحور: الادب والفن
    





ديوان( العقارب السوطية)
قصائد
كاظم حسن سعيد
2025





1
( مدرسة الاصرار)

حين نمر على بيوتنا الركام
نحن نبحث حتى عن الخرق المهملة
عن القطط
عن بيوت النمل
عن الضجر في ليالي الارق
عن رسائل العشق وعقود الزواج..
عن بصمة الاصابع للمكتاب
ورغم ان قذيفة واحدة ازهقت خمسة آلاف من أجنة أطفال الأنابيب،
فنساؤنا ستنتج البديل.
المدينة الساحلية الجميلة
احرقت ثم زلزلت بالمقذوفات
حشرونا تحت المطر والمجاعة
في انتظار استعادتها
اتركونا نبني سرادق من الخرق فوق بيوتنا
لا نحتمل ( المدينة القديمة ماتت)
كل شيء يذكر بالف شيء
اتركونا نحيا على الانقاض
سنعيدها نحن حجرا حجرا
سيمزق ارواحنا التحديث
نحن الذين اتفق العالم كله
لقلع جذورنا
لمسخنا لاذلة
تعلمنا من العشب ان نتكاثر
ومن الجبال الثبات
ومن التاريخ سحق الطغاة
نحن بخير
لان ارواحنا لم تتثلم من قبضة المسخ
نحن مدرسة الاصرار
سنحيا سننتصر
رغم ان العالم كله تآمر على سحقنا.
2025
-------------















2
( مشهد لكبار السن)

يمرون
كبار السن يسحون اجسادهم الثقيلة كحجر صلب
انت ترقبهم على تخت في مقهى
حيث اختفت الشناشيل
وحيث انفقت السنوات حتى قبيل موسم الرشد
يمرون
احد يمسك بكيس الادوية
واخر على عصا
يمرون بدشداشاتهم الحائلة
وعيونهم المطفأة
التي لا ترى سوى شبح المقبرة.
يشغلهم سحل جثثهم
يمرون كما لوحة شوهت
تتدفق في الحدقات المرارة
تتصور ايام اعراسهم
الحماس والشغف بالاناقة
شجاعتهم في الجبهات
خططهم للحياة
الاشعار والاغاني التي حفظوها بمواسم العشق
لهفتهم للقاء
يمرون منطفئين
لا يستقطبهم قبح ولا جمال
لا يبالون لو اصابت الاخرين محرقة او فاجعة
ربما الصبح موعدهم للرحيل
او بعد ساعة
ارهقهم الفقد وسلسلة النكبات
وخانتهم الاجساد
اسمع انينهم الخفي
هزلت تلك الزنود السمر
بعدما قهرت الحديد
واتعبت المراود والطرقات
انهم في انتظار احتظار مؤجل
واللحظة الصاعقة
2025
كاظم حسن سعيد
-------












3
( جينات الحكام /،المتقين،/)

لان اللغة
كائن قد يقودك للوهم
والدليل
اخطبوط
فلا بد ان تتقدم نحو الرقاب السيوف
والدماء تسيل...
( اجتمع الحكام المتقون الذين تناسلوا لالف سنة،في قمة تشاورية مغلقة...وهندسوا الحياة، وابتكروا الطقوس التي تتشعب... حيث اكتملت جيناتهم.).
ولكنه ربهم وحدهم...
سنينا شغلوك بلولا
وانت تلوك المسامير تبحث عن قطعة من رغيف.
ساطوك خلال الف عام ،لتخوض حروبا لاجل السماء
والحقيقة لتعصم تيجانهم المتعفنة.
الامم التقية المتحاربة انشغلت بانتاج الشهداء والاوسمة...
مغلولا تخوض حروب الازارقة
والخوارج
والفتوحات تلبية لنداء السماء
لتتضخم ثروات التيجان الموسومة بالتقوى.
لكل هذا اصبحت ترتعد كلما اتاك امير معتم يحمل اسم الله.
2025
كاظم حسن سعيد






4
( كورونا)
اكرهتنا على الكمامات
الحذر من كل شيء
حتى من الفتاة الاثيرة
علمتنا العزلة
وبدلا من التآزر مع مقرب يحتضر
نبقى على مسافة منه في انتظار الاسعاف
دخلنا مرحلة طب الحروب لاكتضاض المستشفيات
نسينا عادة المصافحة
عاد من هجروا بساتينهم اليها هربا من الوباء
وانشغل بعض بالقراءة
وهلكت اسر جوعا
تصدرت المواضيع الوقائية
مراجعة الاطباء بالمبايل ،
وتذكر بعضنا الاوبئة التي ازهقت الملايين، منذ الازمنة السحيقة...
تذكرنا التدرج اللوني للمصابين بالطاعون
والسؤال اليومي عن لون اجسادهم.
ستباع معامل التسليح في سوق الخردة
وتكون الاوبئة اسلحة المستقبل الفتاكة...
حين كدنا ننساها داهمتنا محورة
نحن الان بحذر ونخشى بعضنا
منعزلون
ندعٍّم الجدران
ولا نفتح الابواب
نخون ذاكرتنا
نخدع بعضنا ببصمة زهرة صباحية
ولا نطيقهم جوارنا لحظة
مولعون بتطوير طقوس المقابر
وحلولنا بالادعية
نخرت الارواح وحذفنا المباهج من القاموس...
نلهث في متاهات معتمة
مجردون منا..
وبدلا من انقاذ الغرقى
نقف لتصويرهم...
الازهار في مأتم
لا وقت لشمها ولا حدقات تستمتع..
ضياع كلي
لا تزيله تلاوة ولا يضيؤه صليب.
وبعيدا في كهفه انزوى الحكيم.
تتضخم الفاجعة
والليالي المؤرقة الصاعقة
ورغم كل هذا
نفكر بصنع الحياة.
2025
---------





5
( لسعات متكررة)

توقف عن القراءة
فيما كان الليل مكتمل السكون
صوت فأر يقرض
جال ببصره في زوايا الغرفة
الصوت يتنقل
اختفى الصوت
عاد للكتاب
تناول قليلا من الماء وقرأ( ان تغاضيت عن الحقيقة فستواجهك)..
عاد الصوت
عاد للبحث عنه
سم الليل انغرز عميقا في الاشياء
عليك اجتياز مئات الاصوات المستفزة قبل ان تبلغ وسادتك :
الجدل العقيم ،
النصائح البالية ،
اصوات الشحاذين ظهرا وغروبا ،
الوان الباعة بمكبرات صوت مفزعة،تطرق على رأسك،
زمجراتهم الاقتحامية وهم يرسمون مسار حياتك.
استأنف القراءة
تدفق الصوت شبه القارض من السقف
كانت جرادة تحوم حول المصباح المتدلي ، تفترس الحشرات.
2025
----------–




6
( مشهدان)

صاحب العربة وسط الزحام يفرق السيل البشري
الرجل القصير شبه البدين يضع طاقية دينية على راسه
يخطو عكس الفتاة
شعرها ذيل حصان
تشق طريقها بخطى عسكرية
رشاشة معلقة بالكتف
تتارجح على كتفها
غاية الاناقة والرشاقة
النساء يحمين الصدور اذ يتخطين الرجال..
يدهشك لا يتصادمون
ولا احد
ينظر لاخر
البنايات شاهقة
الاضاءة ناضجة الهيمنة
يتكرر المشهد: يمر مطئطئا رجل الدين بطاقية ( الكيباه) جوار الفتاة
شعرها المتقافز اشد قلقا من رشاشها وهي تمسك علبة العصير
هدوؤها الحذر قد يتحول لشراسة فاتكة
باية لحظة..
للجمال وجهان
في ذات اللحظة ،الشارع البعيد ملحمة من الفزع
ينقلون قتلاهم والجرحى بالخرق
يتكورون على برك الدماء
او يتسابقون لاطفال تحت الانقاض
2025
------------


7

(شرار في نظرة)
الرجل المسمر الستيني
غادر كرسي الحلاق
وقف مهيبا فارع الطول يزيل بقايا الشعر
بدا كحداد محترف او بحار حنكته الجزر والبحار
خبرة عميقة متراكمة تتدفق من عينيه الواسعتين...
دخل ثلاثة مراهقين صاخبين
تتشظى منهم الخفة والبذاءات
التفت صامتا محدقا اليهم الرجل الستيني
مشتعلا في عينيه صراع الاجيال
الفجوة الشاسعة بين الاخلاق
هم لا يبالون به وهم يتسلون بتفسخ الشتم والسباب
تتضخم في حدقات الرجل صرخة الاحتجاج
يراهم مشهدا خرافيا
سلوكا لقبائل بدائية
يتذكر عصا ابيه تقومه لهفوة طارئة.
2025
كاظم حسن سعيد
----------



















الجزء الثاني
قراءات نقدية










د.عادل جودة
قراءة أدبية
في قصيدة "مدرسة الإصرار" للشاعر كاظم حسن سعيد
ليست القصيدة مجرد كلمات تُنظم، ولا مشاعر تُسكب، بل هي شهادة وجود، وصوت يقتحم صمت الموت، وهذا ما تجسده قصيدة "مدرسة الإصرار" للشاعر كاظم حسن سعيد، التي تنبض بقوة الصمود، وتتوهج بإرادة الحياة في وجه الدمار الشامل.
>•// من طقوس الذاكرة: البحث عن معنى في قلب الركام
تبدأ القصيدة بلحظة تأملية وجودية، لحظة المرور على "بيوتنا الركام". الركام هنا ليس مجرد دمار مادي، بل هو رمز لكل ما تحطم: الذكريات، الأحلام، الأمان. وفي قلب هذا الدمار، يبدأ البحث المحموم عن التفاصيل الصغيرة، عن "الخرق المهملة" و"القطط" و"بيوت النمل". إنه بحث عن أثر للحياة، عن بصمة تثبت أن هذه البيوت كانت يومًا تعج بالوجود. البحث عن "الضجر في ليالي الأرق" و"رسائل العشق وعقود الزواج" هو استعادة للزمن الإنساني الذي مزقته الحرب، واستدعاء للحظات الضعف والقوة التي تشكل نسيج الحياة. حتى "بصمة الأصابع للمكتاب" تصبح أثرًا مقدسًا، شاهدًا على حضور إنساني كاد أن يُمحى.
>•// إرادة الحياة:
التناسل في مواجهة الإبادة
ثم تأتي المفارقة الصادمة، المتمثلة في القوة التدميرية الهائلة التي لا تكتفي بتحطيم الحاضر، بل تمتد لإفناء المستقبل نفسه: "ورغم أن قذيفة واحدة أزهقت خمسة آلاف من أجنة أطفال الأنابيب". هذه الجملة تحمل دلالة مروعة على شمولية الدمار، الذي يطال حتى الأجنة في مختبرات الأمل الأخيرة. لكن الرد يأتي أقوى، من رحم المعاناة ذاتها: "فنساؤنا ستنتج البديل". إنها إرادة الحياة المتجددة، التي لا تقهر. إنها قوة الخلق الأنثوي في مواجهة آلة الموت، تأكيد أن دورة الحياة ستستمر، وأن الأمل سيُولد من جديد، مهما بلغت فظاعة التدمير.
>•// المكان المُستلب:
بين الحلم والواقع
تتحول "المدينة الساحلية الجميلة" إلى فضاء للمأساة، فهي "احترقت ثم زلزلت بالمقذوفات". تحولت من جمال ساحر إلى ركام مهول. والشعب حُشر "تحت المطر والمجاعة"، لكنه يظل "في انتظار استعادتها". الانتظار هنا ليس سلبية، بل هو يقظة وترقب لعودة الحق. ثم يأتي النداء الإنساني المؤثر: "اتركونا نبني سرادق من الخرق فوق بيوتنا". السرادق من الخرق هو أقوى تعبير عن التمسك بالأرض، هو رفض للرحيل، هو إعلان أن الحياة، ولو تحت أقذر الظروف، ستستمر. الرفض الأكبر يكمن في عدم القدرة على تحمل فكرة أن "المدينة القديمة ماتت"، فموتها يعني انقطاع الجذور وتمزق الهوية.
>•//التحدي والامتلاك: فلسفة البناء على الأنقاض
يقدم الشاعر فلسفة عميقة للتعامل مع المأساة: "اتركونا نحيا على الأنقاض، سنعيدها نحن حجرا حجرا". العيش على الأنقاض ليس استسلامًا لها، بل هو تأكيد على ملكيتها، والبناء حجرًا حجرًا هو استعادة للزمن والمكان معًا، هو عملية إحياء تبدأ من الصفر، لكنها تنبع من إرادة لا تعرف اليأس. هذه العملية ليست سهلة، فهي "ستمزق أرواحنا التحديث"، لأن إعادة البناء تتطلب جروحًا جديدة، ومعاناة متجددة، لكنها معاناة تلد الأمل.
>•//مدرسة الإصرار:
منهج حياة مستمد من الكون
ثم يعلن الشاعر عن الهوية الجديدة لهذا الشعب: "نحن مدرسة الإصرار". إنها ليست مجرد صفة، بل هوية متكاملة، منهج حياة وتعلم. لقد "اتفق العالم كله لقلع جذورنا، لمسخنا لإذلة"، لكنهم فشلوا. لماذا؟ لأن هذا الشرب تلقى علومه من معلمين عظام:
>•• من العشب:
تعلم "أن نتكاثر". قوة العشب تكمن في نموه رغم كل شيء، في انتشاره رغم محاولات اقتلاعه، إنه رمز للخصوبة والتواصل والاستمرار.
>•• ومن الجبال:
تعلم "الثبات". الجبل هو رمز الصلابة والثبات أمام العواصف، هو الرسوخ الذي لا تهزه رياح العدوان.
>•• ومن التاريخ:
تعلم "سحق الطغاة". التاريخ ليس سجلًا للماضي فقط، بل هو معمل لتجارب الأمم، وهو يثبت أن مصير الطغاة هو السحق والزوال، مهما طال زمانهم.
>•//النصر الداخلي:
حينما تبقى الروح سليمة
الخلاصة التي يصل إليها الشاعر هي جوهر القصيدة: "نحن بخير، لأن أرواحنا لم تتثلم من قبضة المسخ". النجاة هنا ليست في سلامة الجسد، بل في سلامة الروح من "التثلم" أي الكسر والتشوه. إنها انتصار الروح على آلة المسخ التي تهدف إلى تحويل الإنسان إلى كائن ذليل. هذا هو النصر الحقيقي، الذي تُوّج بذلك الإعلان الخالد:
"سنحيا سننتصر، رغم أن العالم كله تآمر على سحقنا".
ختامًا :
فإن قصيدة "مدرسة الإصرار" هي ملحمة شعرية تعيد تعريف النصر والهزيمة. النصر ليس مجرد انتصار عسكري، بل هو قدرة الروح على الصمود، وإرادة الحياة على الاستمرار، وقدرة الإنسان على البناء فوق أنقاض أحلامه. إنها قصيدة تخلق من الألم منارة، ومن المعاناة أملًا، وتؤسس لمدرسة إنسانية عظيمة، مدرسة لا تدرس فيها سوى مادة واحدة:
"كيف تنتصر الحياة على الموت".

---------------
نادية الابراهيمي
قراءة في قصيدة "جينات الحكام المتقين "
للشاعر كاظم حسن سعيد
* كلمة قبل الغوص في أعماق القصيدة :
نص الأديب كاظم حسن سعيد موضوع شديد الحساسية لأنّه يلامس منطقة محظورة بين الدين والسياسة، حيث تتقاطع القداسة مع السلطة.
الكاتب لم يهاجم الدين إطلاقا، بذكاء استخدم الجرأة الأدبية والفكرية ليفضح توظيف الخطاب الديني لخدمة مصالح الحكّام، وهو موضوع طالما كان من أخطر ما يمكن تناوله في الأدب العربي، لأنه يتحدى “الخطوط الحمراء” التي تحيط بما يسمى المقدّس السياسي.
المضمون إذا يقوم على نقد التديّن المزيف لا الإيمان الحقيقي.
الشاعر يطرح رؤية إنسانية ترى أن الظلم لا يمكن أن يكون باسم الله، وأن كل من يرفع راية السماء ليبرّر بها حروبه وثرواته إنما يزور جوهر الدين نفسه.
لهذا يبدو النص جريئا من الناحية الفكرية، لكنه متّزن من الناحية الأخلاقية، لأنه لا يهاجم العقيدة بل يدافع عنها من الاستغلال السياسي.
إنه نصّ يدين الفساد باسم التقوى، لا التقوى ذاتها — وهذه نقطة فارقة تجعل عمل الأديب كاظم حسن سعيد نصّا نقديا عميقا لا تجديفيا.
في نصّه المكثّف والمحمّل بالرموز «جينات الحكام المتقين»، يقودنا الأديب كاظم حسن سعيد إلى عتمة التاريخ وإلى مختبر الطغيان، حيث تتوالد السلالات الحاكمة من جينات مبرمجة على احتكار القداسة واستثمار الإيمان لا من رحم الشعوب . منذ العنوان نستدرج إلى المفارقة، كيف تجتمع الجينات والحكم والتقوى في بنية واحدة؟ هذه المفارقة تشكّل نواة النص، إذ يعرّي الكاتب ذلك التزاوج الشاذ بين السلطة والدين، وبين الوراثة والقداسة.
في قوله «اللغة كائن قد يقودك للوهم»، يضع الشاعر إصبعه على جرح الحقيقة. فاللغة كما يراها لم تعد وسيلة طاهرة للكشف، بل مخلوقا مراوغا يتبدّل لونه كالأخطبوط يخدم من يمتلكه. حين تتلوّث الكلمات تفقد قدرتها على نقل النور وتتحوّل إلى حجابٍ من الوهم.
لقد خاضت الشعوب حروبها تحت رايات من كلمات وآمنت بوعود صاغها الحاكم بلسان التقوى. وهنا يكمن رعب اللغة حين تغدو أداة طغيان لا أداة وعي. إن الشاعر لا يهاجمها، هو يخشاها لأن الكلمة — في يد غير صادقة — قادرة أن تقتل كما السيف وأن تبرّر الدم باسم الله.
النص يستحضر مشهدا أسطوريا اجتماع الحكام "المتقين" الذين تناسلوا لألف سنة في قمة مغلقة. مشهد يذكّرنا بخرافات الملوك الخالدين في الأساطير الشرقية وبسلالات الدم الأزرق التي لا تموت، لكنه هنا يفرغ من مجده القديم ليفضح كنسق يعيد إنتاج الخداع المقدّس. فهؤلاء "المتقون" ابتكروا طقوسهم الخاصة وأعادوا هندسة الحياة وفق مصالحهم، حتى بات الإله ربّا لهم وحدهم و"التقوى" شعارا مخصخصا يخدم عروشهم.
يواجه الكاتب هذا التاريخ المزيف بلسان الشعوب التي «تلوك المسامير بحثا عن قطعة من رغيف»، صورة مرعبة تختصر فقرا ماديا وروحيا في آن واحد، فالشعوب الجائعة تساق باسم السماء إلى حروبٍ أبدية، بينما تتعفّن التيجان خلف جدران القصور. وهنا يدرج الشاعر عبارة لافتة: «خضت حروب الأزارقة والخوارج والفتوحات تلبية لنداء السماء لتتضخّم ثروات التيجان الموسومة بالتقوى».
في هذا المقطع لا يدين الشاعر الفتوحات الإسلامية في جوهرها الرسالي، بل يدين تحويلها إلى أداة توسّع دنيوي تحت غطاء ديني. إنه يفضح كيف استخدمت المفاهيم النبيلة – كالفتوحات والجهاد – لتبرير الحروب والسيطرة باسم الله، في حين كان الهدف الحقيقي تضخيم ثروات الملوك والتيجان. فهو لا يهاجم الإيمان بل يدافع عنه ضد من تاجروا به، ويفرّق بوضوح بين الفعل الرسالي النقي وبين توظيفه السياسي لاحقا. ومن هنا ينبثق تساؤل أخلاقي مرير يختم الفقرة كطعنة: هل الحروب التي تخاض باسم الله فعل تعبّدي، أم تجارة بالتقوى؟!
من الناحية الجمالية، يتكئ النص على الاقتصاد اللغوي المكثف فيغدو كل سطر طلقة رمزية. تتلاحق الصور في بنية شبه نثرية شعرية، تقترب من قصيدة النثر ذات النفس الفلسفي، حيث تختلط المفردة اللاهوتية بالسياسية ويغدو التاريخ ساحة لتعرية المقدّس حين يفسد. كذلك يلاحظ القارئ إيقاعا داخليا ينبض بالمرارة، تحرّكه الأفعال المتتالية: «ساطوك، تخوض، ترتعد...» وكأن النص ذاته يتحرّك في حلقة عنف لا تنتهي.
وفي ختام النص حين يقول الكاتب: «لكل هذا أصبحت ترتعد كلما أتاك أمير معتم يحمل اسم الله» يضع خاتمة الصدمة: الشعوب التي أرهقتها التجارب لم تعد تثق في العمامة أو التاج لأنها اختبرت كمّا هائلا من الدماء باسم الطهر وكمّا من الظلم باسم الله.
إن نص الأديب كاظم حسن سعيد ليس احتجاجا فقط ،هو كسر للتابوهات القديمة التي جعلت القداسة سلاحا في يد الحاكم. إنه يقف عند تخوم الميتافيزيقا والسياسة ليقول بجرأة: ليس كل من لبس التقوى نقيًّا، وليس كل من حمل اسم الله عادلا. «جينات الحكام المتقين» عمل يختزل قرونا من التواطؤ بين الدين والسلطة في بضعة أسطر دامية، ويمتاز بوعيه الفلسفي ولغته المشحونة وقدرته على تحويل السرد التاريخي إلى مرثية وجودية للإنسان المقهور. ولعل أعظم ما فيه أنه لا يهاجم الدين، إنّما ينقذه من أيدي المتسلطين باسمه.
نادية الإبراهيمي






لعبة : نادية الابراهيمي

قراءة قصيدة " لعبة النرد"
للأديب كاظم حسن سعيد
كم هي غريبة هذه القصيدة وكأنها نسجت من خيوط تتقاطع بين الحلم والكابوس، بين ما هو إنساني حتى الألم وما هو عبثي حتى الفناء. في “لعبة النرد” لا يروي كاظم حسن سعيد واقعا محددا، هو يفتح علينا بوابة الفوضى الكونية. كل سطر فيها حجر نرد يلقى على طاولة الوجود، وكل رمية تخلق مصيرا جديدا يضحك ويبكي في اللحظة نفسها.
منذ البدء يختار الشاعر صيغة التكرار «أنْ… أنْ… أنْ» ليصوغ بها نشيدا للمصادفة الكبرى. تكرار الفعل يشبه خفق جناح في فراغ، يعلن أن الحياة ليست سوى احتمالات تتساقط بلا نظام. مفارقة تولد بعين واحدة وملكة جمال تتحسر على بدلة زفاف، وفنان يفقد أذنه لأنه لم يجد ثمن اللون! كل مشهد يبدو هذيانا، لكنه في العمق اعتراف بترتيب كونيّ مختلّ، يسخر من منطق العدالة ومن التوازن القديم بين السبب والنتيجة.
تتكشف بين الصور سخرية مُرّة من جدوى الكفاح الإنساني. فحين «تتكلس وظيفيا لأجل منزل»، يكون الإنسان قد تحوّل إلى ترس في ماكينة الانتظار، مجمدا في حلم صغير يبتلعه النظام، وما إن يكتمل هذا الحلم حتى «تفنيه قذيفة» لتختصر الجملة مأساة الحضارة الحديثة: العمر يُنفق في البناء، والحضارة تُباد في ثانية من جنون الحرب.
وفي المشهد السياسي يكتب الأستاذ كاظم بحبر من النار: «يحتل برابرة بلدا أمينا… ويمسخون تراثه ولغته». هنا تتحول القصيدة إلى مرثية لهوية منفية، تهان فيها الذاكرة وتطمس الرموز. ثم تأتي صورة «ملكة الشاشة التي شيخت مغتربة وقد مسحوها من ذاكرتهم» لتكمل لوحة المحو: ليس التراث وحده من يُباد حتى رموز الجمال والإبداع حين يعفو الزمن عنها كأنها لم تكن.
كل مفردة في القصيدة تحمل أثر مطرقة على جدار هشّ. الأفعال تختار بعناية مؤلمة( تتكلس، تُفنى، يمسخ، تقتل، تشنق، تفترس…) كأن الشاعر يكتب بقلم من رماد. لا مكان للنعومة هنا لأن العالم الذي يصفه ليس رقيقا. هو عالم تهيمن عليه المصادفة العمياء والمفارقة الساخرة، والقدر الذي يلعب بأرواح البشر كما يلعب الأطفال بالحجارة.
وراء العبث الظاهر يتخفّى وعيٌ فلسفي ناضج. فالشاعر لا يلهو بالمفارقات لمجرد الإدهاش،إنه يعيدنا إلى سؤال الوجود ذاته: كيف يعيش الجمال وسط الفوضى؟ ولماذا ينجو البعوض بينما يفنى الديناصور؟ في هذا السؤال الملتبس نسمع صدى العبثية الكاموية والوجودية التي تؤمن أن الإنسان ملقى في عالم بلا معنى وعليه أن يخلق معناه بنفسه ولو وسط العدم. غير أن في قصيدة الأستاذ كاظم بريقا آخر، إذ لا يكتفي بالاحتجاج هو يترك لنا نداء خافتا: «فتعال معي نفكر بالنجاة… نغوص في الظلمات بلا خرائط». هنا يتبدى الإيمان الشفيف رغم كل الخراب؛ فالهلاك ليس قدرا مطلقا والنجاة فعل تفكير لا معجزة.
هكذا يتحول النص إلى مرآة لزمن يختلط فيه الجمال بالمأساة والذكاء بالعبث والحق بالمهزلة. إنه نصّ يثير الدهشة لغموضه و صدقه في تصوير اللامعقول الذي نحياه.
كاظم حسن سعيد في هذه القصيدة لا يصف العالم فحسب، هو يعرّيه ويتركنا أمامه عزلا نحمل نردنا ونرتجف.إنها قصيدة تقرأ بقلق مزدوج: قلق الإنسان من نفسه، وقلقه من لعبة الكون.
ويا لها من لعبة تكملها فوضى الإنسان نفسه.!!!
نادية الإبراهيمي














قراءة في قصيدة شرارة في نظرة
(تمكن الكاتب محمد بسام العمري ان يغوص عميقا في النص كاشفا ما بين السطور،فاضحا صراع الاجيال واتساع الفجوة بينهما.
(نص «شرار في نظرة» للشاعر كاظم حسن سعيد هو ومضة سردية مكثفة تتكئ على الاقتصاد اللغوي والحمولة الرمزية في آنٍ واحد، وتلتقط لحظة تبدو عابرة في ظاهرها لكنها تنفتح في عمقها على مأزق إنساني وحضاري شديد الدلالة. في هذا المشهد القصير، الذي يدور داخل محل حلاقة، تتجسد مواجهة صامتة بين زمنين، ورؤيتين للحياة، ووعيَين متناقضين في جوهرهما. الرجل المسمر الستيني الذي يغادر كرسي الحلاق ليس مجرد شيخ أنهكه العمر، بل هو رمز لجيل القيم الصلبة، جيلٍ تشكّلت ملامحه في أتون الحرفة والانضباط والكدّ. لون بشرته المسمر يشي بخبرة العرق والشمس، وذكر تشبيهه بحداد أو بحار ليس عابرًا، فهما مهنتان تنتميان إلى عالم الشقاء والإبداع اليدوي، حيث يلتقي الحديد بالنار، والموج بالجلد، فيتشكل الإنسان المتقن الصبور الذي يتعلم من التجربة ويصهر ذاته في العمل. إن هذا الرجل يقف مهيبًا، فارع الطول، وكأنه بقايا تمثال من زمن آخر، يحمل في عينيه الواسعتين ذاكرة جيلٍ تربّى على النظام والحياء، ويختزن في سكونه صلابة حكمة لا تحتاج إلى صوت.
في المقابل يدخل ثلاثة مراهقين صاخبين، تتشظى منهم الخفة والضجيج والبذاءة، فيملؤون المكان صراخًا وعبثًا، وكأنهم موجة من زمن جديد فقدَ احترامه للمكان والآخرين. المشهد في ظاهره بسيط، لكنه في بنيته الرمزية أعمق بكثير، فهو يجسد صراع الأجيال بكل ما يحمله من توتر وغربة وحنين. الرجل الستيني لا يتكلم، لكنه يلتفت محدقًا فيهم، وفي عينيه شرار احتجاجٍ صامت، شرار لا يصدر عن غضبٍ لحظي بل عن تراكم وجعٍ تاريخي يرى القيم وهي تتساقط واحدة تلو الأخرى. الشرر هنا ليس نارًا تحرق، بل ضوءًا يحتضر، بقايا وميضٍ كان يومًا يضيء الضمير الجمعي للأمة. تلك النظرة المشتعلة ليست مجرد انفعالٍ عابر بل شهادة على فجوةٍ آخذة في الاتساع بين ما كان يُسمّى تربية وأدبًا، وبين ما صار يُسمّى حرية وتعبيرًا بلا ضابط.
حين يرى الرجل سلوك هؤلاء المراهقين كأنه سلوك لقبائل بدائية، فهو لا يصف فقط انحطاط السلوك، بل يلمّح إلى تراجع الوعي من مستوى الحضارة إلى مستوى الغريزة. هو لا يرى فيهم مجرد شبابٍ ضائع، بل يرى فيهم مظهرًا لانهيار منظومة بأكملها، يرى جيلًا بلا أبٍ وبلا ذاكرة. في لحظة الاسترجاع، حين يتذكر عصا أبيه التي تقومه لهفوة طارئة، يمر أمامنا شريطٌ طويل من التحول الاجتماعي: كانت العصا رمزًا للتقويم والانضباط والمسؤولية، أما الآن فقد تحولت المجتمعات إلى مساحاتٍ بلا رادع، يختلط فيها التمرد بالوقاحة، والحرية بالانفلات. العصا هنا ليست أداة قمع بل تجسيد لقيمة التربية القديمة التي كانت تؤسس الإنسان على الوعي بالحدود، وعلى احترام الكبير والمكان والذات.
يكتب كاظم حسن سعيد بأسلوب ينتمي إلى المدرسة الواقعية الرمزية، فهو لا يكتفي بتصوير مشهدٍ واقعي، بل يرفعه إلى مستوى الرمز الكوني الذي يتجاوز الزمان والمكان. لغته بسيطة ظاهريًا، لكنها محمّلة بإيحاءاتٍ كثيفة، تنسج من مفردات الحياة اليومية فلسفة عميقة حول التغير القيمي في المجتمعات الحديثة. الجملة عنده قصيرة مشدودة، لكنها مفعمة بالتوتر الداخلي، كأنها أنفاس متقطعة بين جيلين لا يفهم أحدهما الآخر. هذه الواقعية الممزوجة بالرمزية تمنح النص بعدًا تأمليًا يجعل القارئ يشارك في بناء المعنى لا بتلقّي الدلالة الجاهزة، بل بقراءتها من خلال تجربته الشخصية وذاكرته الجماعية.
وعند مقارنته بالأدب العالمي، أي الأدب الكلاسيكي الذي كان يعتمد على البيان والبلاغة والموعظة المباشرة، نجد أن كاظم حسن سعيد يجدد في التعبير لا في الجوهر. فبينما كان الأدب القديم يُعلي من شأن الفضيلة عبر الوعظ أو النظم أو الخطابة، يختار الكاتب هنا الصورة الصامتة المشحونة بالإيحاء، ينقل الموعظة من القول إلى النظرة، من الصوت إلى الصمت، ومن البيان إلى الحضور النفسي العميق. هذه النقلة تمثل جوهر التجديد الأدبي، إذ يتحول النص من خطابٍ تعليمي إلى تجربة حسية وفكرية تثير القارئ وتدعوه للتأمل. في هذه التجربة، يغدو المشهد البسيط في محل الحلاقة أكثر بلاغة من القصائد المطوّلة، لأن الصراع بين الرجل والمراهقين يجسد الصراع الأزلي بين القيمة والزمن، بين الذاكرة والعبث، بين النضج والانفلات.
فنون التعبير في هذا النص تقوم على الاقتصاد والتكثيف والتصوير السينمائي، حيث تتحرك الكاميرا اللغوية من اللقطة القريبة (الرجل يزيل بقايا الشعر) إلى اللقطة العامة (دخول المراهقين)، ثم إلى اللقطة النفسية (الشرر في النظرة). هذه البنية البصرية تجعل النص أقرب إلى مشهدٍ سينمائي أو لوحة تشكيلية تتكلم فيها العيون بدل الألسن. الكاتب يوظف استعاراتٍ حسية تجمع بين الصنعة والبحر، بين الحديد والموج، بين الجلد والنار، وهي ثنائيات توحي بالصراع والصلابة والتجربة. إن الجمال في هذا النص لا يقوم على الزخرفة اللفظية، بل على الصدق الداخلي، على البنية الإيقاعية الهادئة التي تشبه أنين الزمن في وجه الضجيج.
أما على المستوى النفسي، فيمكن القول إن النص يعبر عن شعورٍ عميق بالاغتراب لدى جيلٍ يرى نفسه غريبًا في زمنه، عاجزًا عن التواصل مع من يفترض أنهم امتداده الطبيعي. النظرة المشحونة بالشرر هي في حقيقتها مقاومة صامتة، محاولة من الذات القديمة لتثبيت حضورها في عالمٍ لم يعد يعترف بها. إنها لحظة مواجهة بين الضمير والتفاهة، بين النضج الأخلاقي والسطحية المتفشية. اجتماعياً، النص يفضح تآكل القيم التي كانت تؤسس للاحترام والتوقير، ويشير إلى تصدّع العلاقة بين الأجيال، إذ لم يعد الكبار مرجعًا أخلاقيًا ولا الشباب ورثةً لوعيٍ جمعي. هكذا تتحول القصة القصيرة إلى مرآةٍ لمجتمعٍ يعيش أزمة هوية وتربية وتواصل.
وفي عمق هذا الصراع النفسي والاجتماعي، تبقى النظرة — تلك النظرة المشبعة بالشرر — بمثابة الشعلة الأخيرة في ليلٍ طويل. هي ليست رفضًا للجيل الجديد بقدر ما هي صرخة حبٍّ محروق في وجه الزمان، كأن الرجل يقول بصمته: لقد كنتُ أنتمي إلى زمنٍ كانت فيه الأخلاق تُصاغ بالعصا لا بالإعلانات، وكانت الكلمات تُوزن بالحياء لا بالشهرة. إنه يقف هناك في محل الحلاقة، كأنه آخر الحراس على أبواب .)
مخمد بسام العمري











لامية مشهدان
في كلّ نصٍّ من نصوص أ. كاظم حسن سعيد، ثمة نَفَسٌ يشبه حشرجة المدن ورؤية تنظر إلى العالم لا من نافذة الشعر فحسب، بل من عيون الواقع المدمّى.
شاعر لا يكتب "عن" العالم بل "من داخله" حيث تتجاور الأضواء والركام، وتتقاطع خطوات البشر مع رائحة الحروب المؤجلة.
وهذا هي في نصه "مشهدان" تتجلى مهارته في أن يجعل الصورة تنطق بالوجع دون أن ترفع صوتها، وأن يجعل من المشهد العابر مرآة تلتقط اضطراب الإنسان الحديث بين ما يُرى وما يُخفى.
كأن النص بأسره سؤال طويل حول معنى الوجود وسط مدينة فقدت ذاكرتها الجمالية، وغرقت في نفاق البصريات.
في بلاغة اللقطة وتحوّل الصورة إلى وعي؛ يبدأ نصه بلقطة واقعية تبدو بسيطة:
"صاحب العربة وسط الزحام يفرق السيل البشري". لكن هذه البساطة لا تخلو من وعي سينمائي؛ فالشاعر يقدّم المشهد كما تقدّمه الكاميرا، بلغة بصرية دقيقة ثم يفكك العالم حوله من خلال التوازي بين الشخصيات.
الرجل القصير بطاقية دينية ليس مجرد عابر سبيل، بل تمثيل للسلطة الرمزية التي ما زالت تهيمن على الفضاء العام، حيث تسير بخطى ثقيلة، بوعي ماضوي لا يرى إلّا ذاته.
أما الفتاة ذات الشعر المربوط و"الرشّاشة المتأرجحة على كتفها" فكانت الوجه الآخر للحضارة الحديثة؛ جمال يختبئ خلف بندقية وأناقة تمشي في ظلّ القلق.
هنا تكمن البلاغة: ليست بلاغة المجاز أو الزخرف، بل بلاغة المفارقة بلاغة؛ الصدمة البصرية التي تلد الفكرة.
إنه نوع من الشعر يكتب الصورة لتصير فكرا، ويكتب الفكر ليتحوّل إلى مرئيّ يعبر الروح.
المشهد كان كناية عن الفصام الحضاري، إذ يُعيد الشاعر تشكيل المدينة كجسد مقسوم على ذاته: الناس تمشي بلا احتكاك، بلا نظرات، كأنهم آلات تتقن آداب الزحام دون أن تعرف معنى القرب.
تتحرك الفتاة بخطى "عسكرية" في شارع لامع بينما في الشارع المقابل أو في الذاكرة المقابلة يتكور الجرحى على برك الدماء.
فالمدينة هنا لم تنقسم جغرافيا فقط، بل أنطولوجيا:
المدينة العليا، المضيئة، النظيفة، التي تتجمل بالنظام؛
والمدينة السفلى، المظلمة، التي تئنّ تحت الركام.
صور؛ لزمن واحد يختصر مأساة الوجود الإنساني الحديث: التعايش بين التقدّم والمجزرة، بين الرقيّ التقني والانحطاط الأخلاقي.
في هذا التوازي، نجد أثر الأنساق المضمَرة في شعر ما بعد الحداثة، حيث تتجاور الأضداد لتكشف عن هشاشة المعنى وثنائية الخلاص والخراب.
هكذا يُحوّل أ. كاظم المشهد إلى كناية كبرى عن الفصام الحضاري؛ عن الإنسان الذي يعيش بين "هيئة مدنية" و"ضمير محاصر بالحرب".
الجمال المسلّح، حين يؤنث أ كاظم الحرب ورعب الجمال
في قوله: "غاية الأناقة والرشاقة..
هدوؤها الحذر قد يتحول لشراسة فاتكة في أية لحظة"
هذه الجملة يتجلّى قلب النص النابض:
الأنثى هنا ليست كائنا جماليا بل رمز للانقلاب الكوني؛
لقد تحوّل الجمال إلى أداة عنف والأنوثة إلى حدٍّ فاصل بين الفتنة والفناء.
فقدّم الشاعر بذلك صورة ما بعد-إنسانية حيث دمج الجسد بالآلة، والعاطفة بالتهديد، حتى غدا الجمال نفسه خطرا محدقا.
إنه يلتقط التحوّل الثقافي في حضارة جعلت السلاح زينة، والدم جزءا من المشهد اليومي، والابتسامة قناعا للذعر.
تتخذ الصورة هنا طابعا فوكويا؛ إذ الجسد ذاته يتحوّل إلى حقل للسلطة والعنف، يخضع للهيمنة بقدر ما يمارسها.
الإيقاع والمشهدية في نصه، من الناحية الأسلوبية يقوم النص على إيقاع نثري متوتر،
يتنقل بين الجملة القصيرة المقتضبة "يدهشك لا يتصادمون" والجملة التصويرية المديدة "هدوؤها الحذر قد يتحول لشراسة فاتكة..."
هذا التناوب الإيقاعي منح النص ديناميكية حسّية تشبه حركة الكاميرا بين اللقطة القريبة والبعيدة.
كما أنّ غياب أدوات الوصل منح الجمل نبضا متقطّعا يوازي التوتر الداخلي للمشهد.
اللغة هنا لم تكن وسيلة وصف، بل فعل تصوير حيّ حيث كل مفردة هي نبضة ضوء أو ظلال.
التناصّ؛ والوعي الثقافي: يتكئ النص على شبكة تناصّات خفيّة تشهد على وعي ثقافي واسع:
مع أدب المدينة الحديثة عند "إليوت" و"بودلير" حيث الازدحام الميكانيكي يصبح استعارة للاغتراب.
ومع أدب الحرب الفلسطيني والعالمي من "درويش" إلى "ريتشارد رايت" في تصوير التوازي بين الحياة اليومية و لون الدم.
كما يستحضر النص رموز اللاهوت المعاصر عبر شخصية رجل الدين اليهودي (بطاقية الكيباه) كرمز لهيمنة سرد مقدّ على حساب الجسد الإنساني: فهذا التناصّ لا يظهر بوصفه استدعاء تقليديا، بل كتفاعل تأويلي إذ يعيد الشاعر إنتاج الرموز في سياق جديد، فيجعل منها مرآة للعصر بدل أن تكون مجرد أثر من الماضي.
البعد الفلسفي والوجودي حيث يغرق بنا المبدع في عمق النص ليلوح سؤال صامت:
هل يمكن للإنسان أن يظلّ إنسانا وسط هذا الركام من الحضارة؟
الإجابة ليست صريحة فيما خطت أنامله لكنّها تتجلّى في صمت الشوارع في غياب النظرات، في الهدوء المشبوه.
بهذا المعنى، يتقاطع النص مع الفلسفة الوجودية في قلقها من العبث، ومع التفكيك الدريدي في انفتاح المعنى على تناقضاته.
فالمشهدان ليسا سوى انعكاسين لنفس المرآة:
الأول يلمع، والثاني ينزف وكلاهما أنت.
"مشهدان" ليس مجرد نص، بل مشهد بعينٍ وجع الضوء.
فيه يتكشّف العالم كفيلم طويل عن الإنسان المرهق بين طقوس المدنية وطقوس الدم.
يجعلنا الأستاذ كاظم حسن سعيد نعيد التفكير في معنى الجمال، في حدود اللغة، وفي هشاشة الوجود أمام ماكينة الحداثة.
إنه نص لا يُغلق قوسه، لأن المشهد لم ينته ما زال العالم يمرّ، يضع طاقيته أو رشاشه، ويكمل طريقه دون أن ينظر إلى أحد.














سامية عرموش : مشهدان

القصيدة كسيناريو: تحليل مشهدي لصراع المدينة والأبعاد الاجتماعية - قراءة في نص كاظم حسن سعيد
كتبت: مندوبة موقع حيفا24نت
تتميز قصيدة الشاعر كاظم حسن سعيد بنزعة بصرية هائلة، تجعلها أقرب إلى سيناريو متكامل يعتمد على تقنية المونتاج والموازاة ليكشف عن وجه المدينة المتوتر والمنقسم. النص ليس مجرد وصف لشارع، بل هو تشخيص عميق لعلاقات القوة والهوية وحالة الاغتراب الاجتماعي، حيث يقسم الشاعر نصه إلى مشهدين متنافرين، يفصل بينهما قطع سينمائي حاد (Sharp Cut)، ليجسد صراعاً وجودياً وسياسياً ضمن إيقاع الحياة اليومية.
I. المشهد الأول: التوتر الصامت ورقصة الهويات المتضادة
(افتتاحية المشهد: لقطة واسعة (Wide Shot)، ثم تقترب الكاميرا ببطء نحو الأفراد.)
المكان هو شارع مزدحم في مدينة ذات "بنايات شاهقة"، ما يوحي بالضخامة والسلطة. الإضاءة توصف بـ "ناضجة الهيمنة"، وهي إشارة قوية إلى إضاءة مدروسة تؤكد على الجو المسيطر والمُسيَّر. هذا المشهد هو دراما التوتر المكبوت، حيث تتجلى الأبعاد الرمزية للنص.
التضاد الرمزي للشخصيات
يُستخدم المونتاج البارد لعرض شخصيتين متناقضتين تمثلان أقطاب الصراع الاجتماعي:
رجل الدين (رمز الانغلاق): يظهر الرجل القصير بطاقيته الدينية (الكيباه) و "مطئطئاً" وهو يمر. حركته توحي بالانزواء والخضوع أو تجنب المواجهة، ليمثل الهوية التقليدية أو الدينية التي تحاول البقاء بمعزل في فضاء مُعسكر.
الفتاة (رمز الحداثة والعسكرة): هي النقيض البصري والفكري. تُوصف بـ "غاية الأناقة والرشاقة" و تتحرك بـ "خطى عسكرية". هذا الدمج هو نقد رمزي للوضع الاجتماعي؛ حيث تدمج الهوية بين الجمال والحياة (ذيل الحصان والأناقة) وبين آلة القتل والسلطة ("رشاشة معلقة").
النقد الاجتماعي والذروة الصامتة
التوتر لا ينشأ من الصدام، بل من التجاهل المتعمد: "يدهشك لا يتصادمون ولا أحد ينظر لآخر". هذا الوصف ليس لحركة منظمة، بل هو نقد اجتماعي حاد لحالة العزلة الحضرية والاغتراب في مجتمع مثقل بالخوف؛ حيث النظرة قد تكون مكلفة، والحياد المتبادل هو آلية البقاء.
يبلغ التوتر ذروته في لقطة التناقض: الفتاة تمسك "علبة العصير" (رمز الاستهلاك والروتين السلمي) بينما يتأرجح السلاح. هذا يصور تطبيع العنف، حيث أصبحت الرشاشة جزءاً من التفاصيل اليومية كعلبة العصير. ينتهي المشهد في لقطة مُجمّدة (Freeze Frame) تحذر من انفجار الهدوء الحذر.
II. المشهد الثاني: القطع إلى الفزع الملحمي وانفصال الطبقات
(انتقال مفاجئ: لقطة قطع (Cut) حادة، تنتقل من الهدوء المتوتر إلى الفوضى الصريحة.)
ينتقل السرد فجأة إلى الكارثة الخارجية الصريحة في "الشارع البعيد ملحمة من الفزع". هذا الانتقال يعمل كـ كشف درامي يوضح الثمن الباهظ للهدوء الزائف في المشهد الأول. المشهد الثاني هو مونتاج لقطات سريعة وفوضوية للدمار واليأس، ليمثل الواقع المأساوي الذي يتجاهله أو يتغافل عنه المشهد الأول.
سردية الضحية والتهميش
تتوالى اللقطات القصيرة والحركية التي تظهر معاناة الطبقة المتضررة والمنسية:
لقطة العجز: "ينقلون قتلاهم والجرحى بالخرق" (استخدام "الخرق" بدلاً من المعدات يؤكد على الفقر والعجز المجتمعي).
لقطة الموت: "يتكورون على برك الدماء".
لقطة الأمل اليائس: "يتسابقون لأطفال تحت الأنقاض".
نقد انفصال الواجهة والعمق
يكمل الشاعر نقده الاجتماعي عبر تقنية الموازاة (Juxtaposition) التي تربط المشهدين في "ذات اللحظة"، لتؤكد أن هذه التناقضات ليست منفصلة، بل جزء من نظام واحد:
الواجهة (المشهد الأول): تعيش حالة توتر أنيقة ومنظمة، قادرة على الروتين والتجاهل.
العمق (المشهد الثاني): تعاني الفوضى والموت والدماء، وتستخدم الخرق لدفن قتلاها.
إن التناقض بين علبة العصير وبرك الدماء هو جوهر النقد الاجتماعي للقصيدة: حيث يتبادل البعض الرمزيات في شارع الإضاءة الساطعة، بينما يغرق آخرون في الدم والأنقاض في شارع الظل، مما يؤكد أن "للجمال وجهان" في مدن الصراع.
لقراءة القصيدة:
( مشهدان)
صاحب العربة وسط الزحام يفرق السيل البشري
الرجل القصير شبه البدين يضع طاقية دينية على راسه
يخطو عكس الفتاة شعرها ذيل حصان
تشق طريقها بخطى عسكرية رشاشة معلقة بالكتف
تتارجح على كتفها غاية الاناقة والرشاقة
النساء يحمين الصدور اذ يتخطين الرجال..
يدهشك لا يتصادمون
ولا احد ينظر لاخر البنايات شاهقة الاضاءة ناضجة الهيمنة
يتكرر المشهد: يمر مطئطئا رجل الدين بطاقية الكيباه
جوار الفتاة شعرها المتقافز اشد قلقا من رشاشها وهي تمسك علبة العصير
هدوؤها الحذر قد يتحول لشراسة فاتكة باية لحظة..
للجمال وجهان في ذات اللحظة ،
الشارع البعيد ملحمة من الفزع
ينقلون قتلاهم والجرحى بالخرق يتكورون على برك الدماء
او يتسابقون لاطفال تحت الانقاض
2025








رانية : كورونا

قراءة بقلم: رانية مرجية
كورونا… حين اختبرتنا الحياة
ليست القصيدة التي كتبها الشاعر كاظم حسن سعيد إلا مرآة مكثفة لوجع الإنسانية في زمنٍ داهمها على حين غفلة، زمن جعل من الكمامة رمزًا لعصرٍ كامل، ومن العزلة مدرسةً قاسية لتأمل ذواتنا وأرواحنا المنهكة.
الكاتب يمسك بجراح المرحلة لا بوصفٍ طبي أو علمي، بل بلغةٍ تنبض بشجنٍ إنساني، ترسم صورًا متتابعة لخرابٍ صامتٍ تسلل إلى تفاصيل الحياة، إلى اللمسة، والمصافحة، وحتى إلى البهجة الصغيرة التي كانت تزيّن أيامنا.
لغة الوجع الجماعي
“كورونا أكرهتنا على الكمامات…” — هكذا يفتتح النص، وكأنه يعلن بداية فصلٍ جديد من علاقة الإنسان بالخوف. لم تعد الكمامة وسيلة حماية فحسب، بل صارت حاجزًا بيننا وبين ملامحنا، بيننا وبين الآخر. تحوّل الحذر إلى أسلوب حياة، والريبة إلى ظلٍّ يرافق كل حركة وكل نظرة. في هذه الجمل القصيرة الكثيفة، نسمع أنين العالم كله، لا أنين فردٍ واحد.
من التآزر إلى المسافة
حين يقول الكاتب: “وبدلًا من التآزر مع مقربٍ يحتضر نبقى على مسافة منه في انتظار الإسعاف”, فهو يختصر التناقض الأخلاقي الذي فرضه الوباء — ذلك الألم الذي يجعلنا نحب من بعيد، ونواسي من خلف الزجاج.
أصبح القرب خطرًا، والعناق جريمة، والحنين فعل مقاومة.
العزلة كاختبار للروح
من “العزلة” تولد مراجعة الذات. فالبعض “انشغل بالقراءة”، وآخرون “هلكت أسرهم جوعًا”. بهذا التباين بين الفكر والجوع، بين الماورائي واليومي، يذكّرنا الكاتب كاظم حسن سعيد بأن الوباء لم يكن ديمقراطيًا؛ كان قاسيًا أكثر على من لم يملك سوى الانتظار.
نبوءة الأوبئة والأسلحة
في صورةٍ مدهشة، يتنبأ الكاتب بأن “معامل التسليح ستباع في سوق الخردة، وتكون الأوبئة أسلحة المستقبل الفتاكة”. هذه ليست مبالغة شعرية بقدر ما هي قراءة فلسفية لعالمٍ أدرك أن الرصاصة لم تعد السلاح الأشد فتكًا، بل الفيروس اللامرئي. هنا تتحول القصيدة إلى بيانٍ إنساني ضد سباق التسلح وضد عبث الإنسان بنفسه.
انهيار العلاقات وتآكل المعنى
“نخدع بعضنا ببصمة زهرة صباحية”… جملة تُختزل فيها كل مظاهر التجميل الزائف لعلاقاتٍ خلت من دفئها. الإنسان الحديث الذي غرق في الشاشات والمجاملات الرقمية، فقد صدقه وحنوه. تتبدى هنا سخرية مُرّة من عالمٍ يستبدل الحضور بالرمز، والحقيقة بالواجهة.
الخاتمة: من الموت إلى الإصرار على الحياة
ورغم كل هذا الخراب، يختم الكاتب نصه بعبارةٍ تنضح بالأمل: “ورغم كل هذا نفكر بصنع الحياة.” إنها لحظة مقاومة وسط العدم، لحظة تؤكد أن الإنسان — مهما هزمه الخوف والمرض — سيظل يحلم، لأن الحلم هو الغريزة التي لا يصيبها الفيروس.

خلاصة القول:
نصٌّ شعريّ إنسانيّ عميق، يعيد للوباء معناه الوجودي لا الطبي، يرثي ما ضاع منا، ويُسائل ما بقي. بلغةٍ مكثفة، مشحونة بالصور والرموز، بصوغ الكاتب شهادة فنية عن زمنٍ فقدنا فيه الحواس، لكننا اكتشفنا هشاشتنا وجمالنا المكسور. قراءة كهذه تستحق أن تُنشر في صحيفة مرموقة، لأنها لا تُسجّل حدثًا فحسب، بل تُخلّد تجربة إنسانية مشتركة، ما زالت — حتى اليوم — تصوغ وعينا بالعالم









عادل كبار السن

قراءة أدبية في قصيدة "مشهد لكبار السن"
للشاعر كاظم حسن سعيد
تمثل قصيدة "مشهد لكبار السن" للشاعر كاظم حسن سعيد لوحة إنسانية مأساوية ترسم ملامح الشيخوخة بكل ما تحمله من وهن وانتظار للموت.
فالشاعر هنا ليس مجرد مراقب عابر، بل هو راصد لحظات الانهيار الأخير في حياة إنسان، يلتقطها بعين الشاعر الحزين وقلق المتفكر في مصير البشر.
تبدأ القصيدة بفعل "يمرون" الذي يحمل دلالة الاستمرار والتدفق البطيء، وكأن هؤلاء الكبار في حالة عبور دائم من الحياة إلى الموت.
ثم يأتي الوصف "يسحون اجسادهم الثقيلة" ليعبر عن ثقل الحياة الذي أصبح جسدياً ملموساً، فكلمة "يسحون" توحي بالجر والاحتكاك المؤلم مع الأرض، وكأن الجسد لم يعد طاقة حيوية بل حملاً ثقيلاً. وتشبيههم بـ "حجر صلب" يثير الدهشة، فالحجر جامد لا حياة فيه، ولكن وصفه بالصلابة قد يشير إلى قسوة الحياة التي عاشوها والتي تصلبت بها أجسادهم ونفوسهم.
المشهد يراقب من زاوية محددة هي "تخت في مقهى"، وهي مكان للراحة والاجتماعات، لكنه هنا يتحول إلى منصة للمشاهدة الحزينة.
دلالة اختفاء "الشناشيل" – تلك العناصر المعمارية الجميلة – تشير إلى زمن جميل مضى، زمن الشباب والحيوية الذي انقضى.
والعبارة "انفقت السنوات حتى قبيل موسم الرشد" تثير التساؤل، فكأن حياتهم كلها كانت استهلاكاً للزمن دون أن يبلغوا مرحلة النضج الحقيقي، أو أن "موسم الرشد" – وهو رمز للتحقق والاكتمال – لم يأتِ أبداً، وكأن الموت يخطفهم قبل أن يحققوا ذواتهم.
يعود الشاعر إلى "يمرون" كإيقاع متكرر يشبه جرس الإنذار، ثم يقدم تفاصيل دالة: "كيس الأدوية" و"عصا" كرموز للضعف والمرض. و"الدشداشات الحائلة" لا تشير فقط إلى بهتان اللون، بل إلى بهتان الحياة كلها. أما "العيون المطفأة" فهي نافذة الروح التي انطفأ نورها، ولم تعد ترى سوى "شبح المقبرة"، فالمستقبل الوحيد الذي ينتظرهم هو الموت، وأصبح حاضرهم مجرد انتظار له.
يصور الشاعر حالة الانشغال الذاتي المطلق:
"يشغلهم سحل جثثهم"، فهم منغمسون في ألمهم الجسدي إلى درجة الانكفاء التام على الذات. وتشبيههم بـ "لوحة شوهت" يخلق صورة بصرية قوية للدمار الذي لحق بهم، بينما "المرارة" التي تتدفق في الحدقات هي الخلاصة العاطفية لحياتهم.
ثم ينتقل الشاعر إلى مفارقة مؤلمة، فيستحضر ماضيهم المليء بالحيوية:
أيام الأعراس، والحماس، والأناقة، والشجاعة في الجبهات، والخطط الطموحة، والأشعار، وأغاني الحب.
هذا الاسترجاع (الفلاش باك) يزيد من مأساوية الحاضر، فذلك الشباب المتوهج تحول إلى شيخوخة منطفئة.
"يمرون منطفئين" – هذه العبارة تلخص حالتهم، فالنور الذي كان في عيونهم قد انطفأ، وأصبحوا بلا مشاعر، "لا يستقطبهم قبح ولا جمال"، بل إنهم فقدوا القدرة على التعاطف مع آلام الآخرين، فالمحرقة والفاجعة لا تعنيهم في شيء.
هذه الأنانية ليست اختياراً بل نتيجة لاستنفاد طاقة العطاء.
التلميح بالموت يصبح صريحاً:
"ربما الصبح موعدهم للرحيل أو بعد ساعة".
فالموت لم يعد مفهوماً مجرداً بل هو موعد محددة.
أسباب هذا الانهيار واضحة:
"الفقد وسلسلة النكبات" التي أنهكتهم، و"الأجساد" التي خانته. "الأنين الخفي" هو صوت المعاناة الصامتة التي لا يسمعها أحد.
في النهاية، يقدم الشاعر صورة مأساوية أخرى:
"هزلت تلك الزنود السمر بعدما قهرت الحديد".
فهذه الأذرع القوية التي كانت تقهر الصعاب أصبحت عاجزة.
إنهم الآن في "انتظار احتظار مؤجل"، وهي عبارة مفعمة بالسلبية والترقب السلبي للموت. والختم بـ "اللحظة الصاعقة" – وهي لحظة الموت – ينهي القصيدة بتوقع الصدمة النهائية التي ستضع حداً لهذا العذاب الطويل.
هكذا تقدم القصيدة رؤية وجودية قاسية للشيخوخة، لا كمرحلة طبيعية، بل كمأساة إنسانية تتمثل في الانهيار الجسدي، والفراغ العاطفي، والانتظار المرير للموت، مسلطة الضوء على الفجوة الهائلة بين ماضي الشباب المليء بالأحلام وحاضر الشيخوخة الخالي من الأمل.
---------------------
د.عادل جودة : كورونا
قراءة أدبية راقية
لقصيدة (كورونا)
للشاعر كاظم حسن سعيد
حين نقرأ قصيدة "كورونا" للشاعر كاظم حسن سعيد،
نشعر أننا أمام نص شعري يتجاوز حدود الشعر بوصفه رفاهية إبداعية ليتحول إلى وثيقة زمنية تخلّد مأساة جماعية عاشتها البشرية في القرن الحادي والعشرين.
فالقصيدة ليست مجرد رصد لحالات أو مشاهد، إنما هي شهادة صادقة وحارّة على القلق واليأس والتحولات العميقة التي أصابت الإنسان المعاصر في زمن الجائحة، في ظل فيروس تَفشَّى دون رحمة، مُغيراً معالم اليوميات، ومخلخلاً صروح الطمأنينة الإنسانية.
ينطلق النص من مشهد الكمامة – هذا القناع الصغير الذي صارَ رفيق الناس، عنواناً للحذر من كل شيء، حتى من أقرب الأحبة: "حتى من الفتاة الأثيرة".
إن الكمامة هنا ليست فقط أداة حماية بيولوجية، بل أصبحت فاصلاً نفسياً واجتماعياً بين البشر، علامة على انفصام العلاقات، وعلى العزلة القسرية.
تتجلى عبقرية الشاعر في التقاطه للتفاصيل التي صارت جزءاً عضوياً من حياة الإنسان: "علمتنا العزلة/ وبدلاً من التآزر مع مقرب يحتضر/ نبقى على مسافة منه في انتظار الإسعاف".
إن هذه المسافة التي أملتها الجائحة ليست مجرد توصية طبية، بل هي مأساة إنسانية عميقة؛ فالإنسانُ مولود على التآزر، على العناق والمواساة والمصافحة، فإذا بهِ يُجبر على قسوةٍ لم يفكر بها يوماً:
أن يرى عزيزاً يتألم دون أن يقترب.
ثم، ينتقل الشاعر إلى مشاهد أعظم تتبدى فيها دراما الواقع، حيث تصبح المستشفيات أشبه بمستشفيات الحروب من شدة الاكتظاظ، وتتحول تفاصيل الحياة اليومية:
هجر المصافحة، هجر المدن، عودة مَنْ شردتهم الحياة عن بساتينهم فراراً من الوباء، انشغال بالقراءة، وموت أُسرٍ جوعاً.
يمرّ الشاعر بسرعة على المآسي الكبيرة، لكنه يجعلها أكثر فداحة بما أوتي من لغة موجعة متقشفة.
وفي ذكاء شعري عالٍ، يربط الشاعر بين كورونا وأوبئة البشرية القديمة:
الموت الأسود، الطاعون، يذكر "التدرج اللوني للمصابين"، والسؤال اليومي عن لون أجسادهم. هنا يشير إلى ذاكرة بشرية مثقلة بالموت، لكن مع ذلك لم تتعلم على ما يبدو من مرارات الماضي.
وتأتي الأبيات الختامية لتصوير مجتمع منهك ومحاصر بالخوف: "نحن الآن بحذر ونخشى بعضنا/ منعزلون/ ندعِّم الجدران/ ولا نفتح الأبواب".
الجدران التي كنا نبنيها رمزيًا لحماية ذواتنا، صارت حصوناً حقيقية تعزل الإنسان عن الإنسان، والأبواب المغلقة ضد الفيروس هي نفسها التي منعت ألفة الأهل وجوار الجار.
ويلامس الشاعر بعمق نفسي ونقد اجتماعي حين يقول "نخون ذاكرتنا/ نخدع بعضنا ببصمة زهرة صباحية/ ولا نطيقهم جوارنا لحظة".
هذه مفارقة الزمن الكوروني:
الصبح لا يُستَقبل بقبلٍ أو مصافحة أو صلاة جماعية، بل فقط برسالة نصية، وصورة زهرة رقمية، وخوف متبادل يباعد بين القلوب قبل الأجساد.
يُبدع الشاعر في توصيف الحزن الجديد المتغلغل في الأرواح، حد حذف المباهج من القاموس الإنساني:
"نخرت الأرواح وحذفنا المباهج من القاموس..." ويزداد التصوير رمزية حين يمر على مشهد لهاث البشر في متاهات معتمة، وفقدان القدرة على الإغاثة، حتى أن الناس بدل أن ينقذوا الغرقى "يقفون لتصويرهم...".
القصيدة لا تغفل عن الإشارة إلى موت الحياة نفسها:
"الأزهارُ في مأتم/ لا وقت لشمها ولا حدقات تستمتع"، وكأن الطبيعة ذاتها أُصيبت بالكآبة، وجمالها لم يعد يجذب أحدًا وسط قلق الناس على بقائهم.
وفي تظهر الكارثة الكبرى في قوله: "ضياع كلي/ لا تزيله تلاوة ولا يضيؤه صليب
د. عادل جوده /العراق/ كركوك











دعادل جودة : كورونا


قراءة أدبية
لقصيدة (كورونا) .
للشاعر كاظم حسن سعيد

حين نقرأ قصيدة "كورونا" للشاعر كاظم حسن سعيد،
نشعر أننا أمام نص شعري يتجاوز حدود الشعر بوصفه رفاهية إبداعية ليتحول إلى وثيقة زمنية تخلّد مأساة جماعية عاشتها البشرية في القرن الحادي والعشرين.
فالقصيدة ليست مجرد رصد لحالات أو مشاهد، إنما هي شهادة صادقة وحارّة على القلق واليأس والتحولات العميقة التي أصابت الإنسان المعاصر في زمن الجائحة، في ظل فيروس تَفشَّى دون رحمة، مُغيراً معالم اليوميات، ومخلخلاً صروح الطمأنينة الإنسانية.
ينطلق النص من مشهد الكمامة – هذا القناع الصغير الذي صارَ رفيق الناس، عنواناً للحذر من كل شيء، حتى من أقرب الأحبة: "حتى من الفتاة الأثيرة".
إن الكمامة هنا ليست فقط أداة حماية بيولوجية، بل أصبحت فاصلاً نفسياً واجتماعياً بين البشر، علامة على انفصام العلاقات، وعلى العزلة القسرية.
تتجلى عبقرية الشاعر في التقاطه للتفاصيل التي صارت جزءاً عضوياً من حياة الإنسان: "علمتنا العزلة/ وبدلاً من التآزر مع مقرب يحتضر/ نبقى على مسافة منه في انتظار الإسعاف".
إن هذه المسافة التي أملتها الجائحة ليست مجرد توصية طبية، بل هي مأساة إنسانية عميقة؛ فالإنسانُ مولود على التآزر، على العناق والمواساة والمصافحة، فإذا بهِ يُجبر على قسوةٍ لم يفكر بها يوماً:
أن يرى عزيزاً يتألم دون أن يقترب.
ثم، ينتقل الشاعر إلى مشاهد أعظم تتبدى فيها دراما الواقع، حيث تصبح المستشفيات أشبه بمستشفيات الحروب من شدة الاكتظاظ، وتتحول تفاصيل الحياة اليومية:
هجر المصافحة، هجر المدن، عودة مَنْ شردتهم الحياة عن بساتينهم فراراً من الوباء، انشغال بالقراءة، وموت أُسرٍ جوعاً.
يمرّ الشاعر بسرعة على المآسي الكبيرة، لكنه يجعلها أكثر فداحة بما أوتي من لغة موجعة متقشفة.
وفي ذكاء شعري عالٍ، يربط الشاعر بين كورونا وأوبئة البشرية القديمة:
الموت الأسود، الطاعون، يذكر "التدرج اللوني للمصابين"، والسؤال اليومي عن لون أجسادهم. هنا يشير إلى ذاكرة بشرية مثقلة بالموت، لكن مع ذلك لم تتعلم على ما يبدو من مرارات الماضي.
وتأتي الأبيات الختامية لتصوير مجتمع منهك ومحاصر بالخوف: "نحن الآن بحذر ونخشى بعضنا/ منعزلون/ ندعِّم الجدران/ ولا نفتح الأبواب".
الجدران التي كنا نبنيها رمزيًا لحماية ذواتنا، صارت حصوناً حقيقية تعزل الإنسان عن الإنسان، والأبواب المغلقة ضد الفيروس هي نفسها التي منعت ألفة الأهل وجوار الجار.
ويلامس الشاعر بعمق نفسي ونقد اجتماعي حين يقول "نخون ذاكرتنا/ نخدع بعضنا ببصمة زهرة صباحية/ ولا نطيقهم جوارنا لحظة".
هذه مفارقة الزمن الكوروني:
الصبح لا يُستَقبل بقبلٍ أو مصافحة أو صلاة جماعية، بل فقط برسالة نصية، وصورة زهرة رقمية، وخوف متبادل يباعد بين القلوب قبل الأجساد.
يُبدع الشاعر في توصيف الحزن الجديد المتغلغل في الأرواح، حد حذف المباهج من القاموس الإنساني:
"نخرت الأرواح وحذفنا المباهج من القاموس..." ويزداد التصوير رمزية حين يمر على مشهد لهاث البشر في متاهات معتمة، وفقدان القدرة على الإغاثة، حتى أن الناس بدل أن ينقذوا الغرقى "يقفون لتصويرهم...".
القصيدة لا تغفل عن الإشارة إلى موت الحياة نفسها:
"الأزهارُ في مأتم/ لا وقت لشمها ولا حدقات تستمتع"، وكأن الطبيعة ذاتها أُصيبت بالكآبة، وجمالها لم يعد يجذب أحدًا وسط قلق الناس على بقائهم.
وفي تظهر الكارثة الكبرى في قوله: "ضياع كلي/ لا تزيله تلاوة ولا يضيؤه صليب
د. عادل جوده /العراق/ كركوك



#كاظم_حسن_سعيد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شبح مقهى قصيدة
- سرديات متعددة الطبقات
- نقد سينمائي لقصيدة مشهدان
- لسعات متكررة قصيدة
- مشهدان
- قراءة في قصيدة شرار في نظرة
- شرار في نظرة قصيدة
- كورونا قصيدة
- مشهد لكبار السن قصيدة
- خارج مسطرة الشعر كتاب كامل
- مدرسة الاصرار قصيدة
- محاضرة في مركز المخطوطات بالبصرة
- جينات الحكام المتقين قصيدة
- لعبة النرد قصيدة
- ليلة مقتل الامين قصيدة
- ليلة مقتل الامين
- المشط الخشبي
- سرقة صانع الاقفال
- الترحال وحيدا قصيدة
- قصيدة خارج مسطرة الشعر


المزيد.....




- مصر.. عمر هلال يجمع أحمد حلمي وهند صبري في فيلم -أضعف خَلقه- ...
- فنانة سورية تصبح سيدة نيويورك الأولى...من هي ؟
- صوّر في طنجة المغربية... -الغريب- خلال استعمار الجزائر في قا ...
- يتناول ثورة 1936.. -فلسطين 36- يحصد الجائزة الكبرى في مهرجان ...
- -صهر الشام- والعربية والراب.. ملامح سيرة ثقافية للعمدة ممدان ...
- انطلاق أعمال المؤتمر الوطني الأول للصناعات الثقافية في بيت ل ...
- رأي.. فيلم -السادة الأفاضل-.. حدوتة -الكوميديا الأنيقة-
- -المتلقي المذعن- لزياد الزعبي.. تحرير عقل القارئ من سطوة الن ...
- موفينييه يفوز بجائزة غونكور الأدبية وباتت الفرحة تملأ رواية ...
- السودان.. 4 حروب دموية تجسد إدمان الإخوان -ثقافة العنف-


المزيد.....

- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كاظم حسن سعيد - ديوان العقارب السوطية كتاب كامل