|
|
خارج مسطرة الشعر كتاب كامل
كاظم حسن سعيد
اديب وصحفي
الحوار المتمدن-العدد: 8508 - 2025 / 10 / 27 - 00:08
المحور:
الادب والفن
( خارج مسطرة الشعر) قصائد
كاظم حسن سعيد 2024
1 ( الترحال وحيدا)
اقشر الفاكهة العلاقة يقودني تذوق لحفظها او شطبها من منجم الصداقة. اصهرهم فما نجا احد تظل من دون احد تواجه المجهول والبركان منقبا عن جوهر الانسان وفي وباء الاسئلة والانصهار في الموحش من ليلك وفي الهزيع الاخير اذ يرتعش الامين قبل ذبحه ورؤية المدن تمحى من الوجود في ثواني في رؤبة الجثث مقبورة بحفرة واحدة في الصدف العميقة اللغز وفي الخسارات التي بلا حدود في تفسخ الارواح وحدك تمضي،لا يد مؤازرة ولا ضياء يكشف الطريق كي تجنح عن بشاعة فائقة. 2025 كاظم حين سعيد ----------------------
2 ( قصيدة خارج مسطرة الشعر.) سنينا على منضدتي اضع كرسيين لكما في الليالي المطيرة في الهزيع الذي يتعملق فيه القلق حين تنشب بي انياب الفراغ حين يصعب عليهم قراءتي حين تطبق الوحدة كحجر ثقيل تحرق لوحاتك لتكسب الدفيء تتركهم جمهرة بمنزلك وتذهب اليه للصديق الاشد احتداما معك وانت الذي كلما بلغت دائرة شغلتهم عبرتها لدائرة اخرى فمن سيجاري سلسلة لا تحد ... حين اكتشفت الاقنعة،اكتشف ضخامة الاجساد.. وحين هويت بزرقتك،ابتكر جمال الزخرفة الشرقي. .. لا احد سواكما سيغور بروح الفن فيما ابتكرتما.. انتما طرفة سنة 1905 ( وافردت افراد البعير المعبد)، وانت يا ماتيس كيف استعرت الصمم وهم يبتكرون ( الوحشية) نعتا للجمال وانت يا بيكاسو كيف تحملتهم وهم يفزعون او يستخفون باقنعتك الافريقية حتى اقرب اصدقائك. نصف قرن مضى وانا اضع لكما كرسيين ،واحاور الفراغ الفراغ الذي يكنزه المعنى وتتوجه الارادة. وانت في السبعين حيث يتكئ اترابك على العصي ،تقف ليلا ساعات لتبتكر الفن العبقري ، فيما يغطون بنوم عميق. فهل انتصرت على الضجر هل تمكنت من تكليس خطوات الموت هل حجّمت القبح يا بيكاسو كان ماتيس يحبك ويخشى منك فنظراتك تمتص ما يبتكر وتمضي ترشحه وتعيد صهره فيكون لك وحدك.. صداقة ملغمة وفي اسمى درجات الانسجام. العظمة ان يكون الفنان واثقا وسري الجنون... العظمة ان يرونه بسيطا وروحه بركان العظمة ان يجتاز الاسوار، وشبح الموت، وما ينعتون.. العظمة بتحوله اليومي والموسومي ... العظمة ان يعبر اسوار الحزن ويكون وفيا لصديقه القلق. بعدها يكون نبيا يستقطب الجموع. 2025 ------------------
3 (طالبة الطب) بعدما ترجلت غروبا من العجلة نادى عليّ رجل نبيل (لو تصحبها) التفت ، اذا فتاه صغيرة نحيلة محجبة التهمت وجهها صفرة الارهاق حدثتني عنها قبل ان اوصلها لبيتها ( ابي معاق ولا اخوة لي في هذه اللحظات تضطرب امي خشية الدرب وتدعو السماء ) كنا نتقدم بين ضوء خافت وظلمة متدرجة كانت الذئاب المنفردة تتقافز تتعاطى حبوب الهلوسة تقبع تحت اعمدة الكهرباء جوار تراكم القمامة في الزوايا المعتمة.. ( معدلي مرتفع لكنهم لم يقبلوني فسجلت بكلية طب اهلية) تتحسر الذئاب لان الفرصة ضائعة والفريسة محمية معا نجتاز شظايا الزجاج في الازقة المتربة.. ( اعمل في مختبر ،واليوم تعطلت عجلة تقلني ). حين ودعتها فكرت باطباء محدثين نضموا تظاهرة لتوفير وظيفة فاستجابوا لهم بالهراوات ومسيلات الدموع. 2025 كاظم حسن سعيد --------------
4 ( المشط الخشبي ) لماذا ايقظتني من تحت الانقاض من عقود انا هنا مخدرا بنوم عميق سعيدا باحلامي...؟!! اتعبني شعرها المخضب بالحناء كنت امر على حريره كل ساعة انا المحسود المدلل وكنت كل غروب في يدها اذ يتقاطر منه المطر متلهفا للغطس في العبير حيث تطل من شرفة الشناشيل ترقب مهرجان الخفافيش بين شقوق الخشب.. كنت كزورق محتفل اسيل كل فجر مع التقوسات على كنز الجسد اللؤلؤ كنت مرهقا من ترويض شعرها لكن ترف الاصابع يغريني... سنوات وهي تتسلى بي في انتظاره ولم يكن احد يطرق. انت لم تدرك التدرجات اللونية في عينيها ولا حسنها الفتاك الذي يهزم جيشا في لحظات انت لم تصغ مثلي لآهاتها امام المرآة انت لم تقرأ مثلي ضجرها المزمن انت لم تشهد كيف ترميني على السجادة الفارسية في لحظات الجزع ولم تعرف الصرخات الخفية حين نشبت اول الخصلات المفضضة واول الغضون اذ بدأ احتضار الشباب يحبو اليها. 2025 كاظم حسن سعيد -----------------
5 ( سرقة صانع الاقفال ) يصنعها لخزائن الملوك لبائعات الهوى في الازقة القذرة للأثرياء لصندوق عجوز يكتنز التفاهات للجوامع والاديرة ولحانات الخمور صنع لبابه قفلا ثقيلا من النحاس نقش عليه بخط النسخ ( لن تمروا) اشهرا يعتني بقفله الثمين، المحمي بضبع غاضب منقوش. هل تتخيل الحياة بلا اقفال وصانعها انه الشفرة التي تجعلك مطمئنا بنومك و في سفرك حافظ اسرارك او الاموال في الصناديق الصاجية. ورغم ان اقوى الاقفال لا تصمد امام السراق المهرة، فانها تستقطبنا لحفظ الكنوز النادرة او التافهة. لمصوغات العروس لحجز القتلة المتسلسلين لدكان صنع التوابيت لحبس الاسود في حدائق الحيوان لحفظ تقارير المخبرين. ولرسائل العشاق. انكسرت روحه في ذلك الصباح في الليلة المطيرة المظلمة اتوا بلا لثام كسروا قفله الحصين النحاسي واستولوا على كل شيء 2025 كاظم حسن سعيد -----------------
6 ( ليلة مقتل الامين ) ((( وكان الأمين مختبئا في بيتٍ لبعض الناس على الجانب الشرقي، عريان وليس عليه من الثياب إلا السراويل والعمامة وعلى كتفيه خرقة خَلَقة، ومعه أحمد بن سلام صاحب المظالم لأنه لقيه في فراره عَرَضًا. وسمعت الأمين يسأله عن اسمه، فلما عرفه استأنس به وقال له: «ضُمَّني إليك فإني أجد وحشةً شديدة.» فضمَّه إليه وكانت عنده مبطنة ألقاها.)) السيوف التي رأى اقتحمت ثم مضت فجّرت بركة الرعب ثم مضت في الهزيع الاخير. .تموج العقارب في حدقات الامين من الرعب يرتعد الان كل كيان الامين يتناسل فيه الجحيم يتوغل في تلة من عظام المقابر تمسخ ذاكرته.... متى ستعود السيوف...وتقتل رعبي هل سينقذني الان ربي يرى جمهرة واسعة من صبايا مغلمنات ومخصيين تشاهده ساخرة الف مطرقة غادرة على رأسه. . الف افعى... («ضُمَّني يا بن سلام إليك فإني أجد وحشةً شديدة.» . ايها الموت لو تتسارع فمشهد الحز يميتني لحظويا.. انا الهاشمي المدلل خانني وزرائي وحيدا اواجه موتي. .مرتعبا من خيال السيوف خانني ندمائي كشفت الحقيقة بعد فوات الاوان. من انا !؟، سوى ملك قد تعرى في انتظار الحراب..... يتذكر نجليه يبكي والصبايا بزي الغلام حفلات اللهو وجيشا من الشامتين.. ((فضمه اليه واحس بخفقان قلبه)). يسمع صوتا خشنا: / ايها الامين لست ضحية المؤامرات. .انت ضحية الدلال/ صوتا اخر لغانية: / تجلد ايها الامير ستفنى بلحظات/. شرعت الجدران تدور كسورة دموية تتوقف احيانا فتظهر الضباع ، الثعالب..صقور مزمجرة، طحالب شوكية بلون دموي، عظايا حرشفية ، عقارب لحظة لدغ.. تزمجر اصوات خفية المصدر. جفتني اثر غرقي قلنسوتي الطويلة والدراعة والطيلسان (( وكان في خزائن ابي بعد وفاته اربعة الآف جبة خز مبطنة بسمور وفنك وسائر الوبر ومن العمائم أربعة آلاف عمامة. )). عاريا في انتظار السيوف ونحر رقبتي كاية شاة بلا رحمة.. ساتفسخ على الرمح واظل قبلة للشامتين ،وللمشفقين. سيصابون بحكة حين يمر اسمي ويغشاهم الدوار. سيكتب المؤرخون عني كقصة لبصل متفسخ سيبتكرون نعوتا ذميمة لي (حاولت والدة الأمين، زبيدة، أن تشغله عن حبه لكوثر بإحضار جوارٍ وتزجيتهن بملابس الغلمان وتزيينهن. وقد أطلق عليهن اسم "الغلاميات). سيعظمون المنتصر... لو ينقذني القدر ،ساتمرس بالفتك ،واجعلهم جميعا عبيدا..سابتر الرحمة مني وارميها لمستنقعات نتنة. تزلزل الغرفة عاصفة خرافية يتشظى قلبي تبدأ سلسلة الموت والحياة ماذا افعل بالدقائق المتبقية قد ياتي العفو باية لحظة ( لا تقنطوا من رحمة الله) يتلو( وجعلنا من بين ايديهم سدا...) يقف ،يجلس،يتكور،يستقيم ينكمش،يرتعش،يتجلد ،ينهار ،يحلم يستيقظ.... الآهي انقذني فقد آمنت برحمتك..الهي نجلاي وزوجتي الآهي تقتحم السيوف يقاومهم بوسادة تنغرس فيه الحراب يحز سيف رقبة الامين..... 2025 كاظم حسن سعيد -----------
7 ( لعبة النرد) ان تلد بعين واحدة ان تتحسر ملكة جمال على بدلة زفاف ان تتكلس وظيفيا لاجل منزل و بلحظة اكتماله تفنيه قذيفة ان يحتل برابرة بلدا امينا في غفلة من الزمن ، ويمسخون تراثه ولغته.. ان تشيخ مغتربة ملكة شاشة وقد مسحوها من ذاكرتهم ان تحيا بعوضة ويفنى دينسور ان يعجز اهم فنان عن شراء الوان، فيبتر اذنه. ان يعثر على كنز تافه غبي ان ينهي جبان بدس السم ملكا عظيم ان تكتشف عروس ليلتها تكلسا بيلوجيا لدى بعلها ان تتحول بغيا فتاة من عائلة عالية الشأن ان يتعذر عليك نيل التابوت فتأكلك الوحوش في الفيافي ان تكون امنية ثري نسمة هواء فتأبى كورونا ان يموت شنقا بحزام مطور لقاحها ان تقتل او تشنق او تفترسك السياط لانك كشفت الحقيقة.. تهندسك الصدف تموج بك الاقدار يداهمك الاختناق وسط الكرنفال فتتكهف في مدينة لامعة صاخبة ان تفني عمرك في قلع الاقنعة فيهرب منك الجميع، انها لعبة النرد يا صديقي فتعال معي نفكر بالنجاة نغوص في الظلمات بلا خرائط. 2025 كاظم حسن سعيد
الجزء الثاني قراءات نقدية
قراءة أدبية في قصيدة "ليلة مقتل الأمين" للشاعر كاظم حسن سعيد الدكتوز عادل جوده في ليلٍ ثقيلٍ كأنين التاريخ.. يطلّ الشاعر كاظم حسن سعيد على لحظةٍ مفصلية من سقوط الخلافة العباسية لا من زاوية المؤرخ الجاف، بل من قلب المأساة الإنسانية التي تختلج في صدر الخليفة الأمين وهو يواجه مصيره المحتوم. قصيدته "ليلة مقتل الأمين" ليست سردًا لحدثٍ سياسي، بل نزفٌ شعريّ يُجسّد الرعب، الوحدة، والانهيار الوجودي لملكٍ فقد عرشه وثيابه وكرامته، وبقي عُريانًا أمام سكاكين الغدر. يبدأ الشاعر بمشهدٍ دراميّ مُروّع: الأمين مختبئٌ في بيتٍ متواضع، لا يغطي جسده سوى سراويل وعمامة، و"خرقة خَلَقة" على كتفيه، كأنّ العظمة التي كانت تُزيّنه قد تحوّلت إلى خرقةٍ بالية. هذا التناقض الصارخ بين ما كان عليه الخليفة الهاشمي المدلل، وبين حاله الآن، يُشكّل نواة التراجيديا التي تُبنى عليها القصيدة. وحين يطلب من أحمد بن سلام أن "يضمّه"، لا لأنّه خائفٌ من السيف فحسب، بل من "وحشةٍ شديدة"، فإنّ الشاعر يكشف عن عمق الانهيار النفسي: فالموت لا يُهاب بحدّ ذاته، بل بما يسبقُه من عزلةٍ قاتلة. تتداخل الحواس في القصيدة تداخلًا سرياليًّا مُذهلًا: "السيوف التي رأى اقتحمت ثم مضت"، كأنّها كوابيس تسبق الواقع و"العقارب تتموّج في حدقات الأمين"، و"الجحيم يتناسل في كيانه". إنّها لغةٌ تتجاوز الوصف إلى التقمّص، حيث يصير القارئ شريكًا في رعب الأمين، يرى ما يراه، ويشعر بما يشعر. الجدران تدور، والضباع والثعالب تظهر، والصقور "تزمجر"، والطحالبط "شوكية بلون دموي"... كلّ ذلك ليس واقعًا ماديًّا، بل انعكاسٌ لعقلٍ يتهاوى تحت وطأة الخيانة والخوف. ويبرز الشاعر ذكاءً فنيًّا حين يدمج النص التاريخي – كسردٍ عن "الغلاميات" أو "أربعة آلاف جبة مبطنة" – داخل النسيج الشعري، لا كحشوٍ معرفي، بل كتذكيرٍ مرير بما فقده الأمين: من فخامة الملابس إلى بهاء البلاط، ومن ولاء الوزراء إلى وفاء الأصحاب. كلّ تفصيلٍ تاريخي هنا يُضيء جانبًا من الهاوية التي سقط فيها. وفي قلب القصيدة، يطلّ صوتٌ غامض يقول: "لست ضحية المؤامرات... أنت ضحية الدلال". جملةٌ قاسيةٌ تُعيد تأويل المصير: فالمأساة ليست فقط في الخيانة الخارجية، بل في الترف الذي أعمى بصيرة الحاكم، وجعله عُرضةً للسقوط. ثمّة إدانةٌ ذاتية خفية، توازي الصراخ الوجودي: "من أنا سوى ملكٍ قد تعرّى؟". وفي اللحظات الأخيرة يتحول الأمين من خليفةٍ إلى إنسانٍ يتوسّل رحمة الله، يدعو على أعدائه، ثم يعود ليتضرّع: "اللهم أنقذني... نجّ ليَّ وزوجتي". إنه التناقض البشريّ الأعمق: بين الغضب والخوف، بين الكبرياء والانكسار. وحين "يقاومهم بوسادة"، فإنّ الصورة تصبح رمزًا مُوجعًا للعجز المطلق. القصيدة، إ ذن، ليست تأريخًا شعريًّا فحسب، بل مرثيةٌ للكرامة الإنسانية حين تُسلب، وللسلطة حين تُفرّغ من معناها. كاظم حسن سعيد لا يصف موت خليفة، بل يُجسّد موت الأمل، والثقة، والهوية. وفي هذا، تتجاوز القصيدة زمنها لتكون مرآةً لكلّ من يقف عُريانًا أمام مصيره، خائفًا، وحيدًا، ويتمنّى لو أنّ الموت يسرع... ليُنهي عذاب الانتظار.
بسمة الصباح لعبة النرد هذه القصيدة المذهلة ليست نصاً عادياً، لكنها مرآة تُرى فيها المأساة وهي تضحك بوجهٍ من العبث، وتبكي بعينٍ من الحقيقة. لقد كتب الأديب كاظم حسن سعيد (لعبة_النرد) كمن يفتح جرحاً في صدر الوجود، يلمسه بأصابع من لهب، ثم يبتسم في وجه القدر ليقول له: لقد فهمت لعبتك يا سيدي.
إنها كتابة تفكر بالحياة بوصفها مصيدة الصدفة، وبالإنسان بوصفه رقماً في مقامرٍ كونيٍّ لا يعرف العدالة. فكل مشهد من مشاهد النص ومضة من مأساة البشرية، موازنة بين النبل والانحطاط، بين المعنى والعدم. يُولد الكائن بعينٍ واحدةٍ ليرى نصف الحقيقة، ويُقتل العظيم بخيانة جبان، ويُنسى الجميل لأن الجمال لا يُطعم، وتُخلد البعوضة لأن البقاء لا يعرف معايير الجمال ولا المنطق. هذا هو القدر في فلسفة الشاعر، لا يحكمه العدل إنما تسيره المصادفة، ولا يقوده المعنى بل عبث النرد.
في #البنية_الفكرية، يقدّم النص رؤية سوداوية فلسفية تنهل من عبث الوجود ومن هشاشة القيم. الشاعر لا يلعن الحياة بقدر ما يفضح هشاشتها، ويضع الإنسان أمام مرآة المصادفة ليدرك أن ما نظنه منطقاً ليس إلا هندسة الخواء. فالعقل في هذا العالم شاهدٌ عاجز، والصدفة هي المهندس الأعمى الذي يبني ثم يهدم، دون سببٍ سوى أن يلعب.
#البنية_الدلالية، النص يتكئ على المفارقة والدهشة بوصفهما أداتي الكشف والاحتجاج. الصور متلاحقة كطلقات قدرٍ أعمى: ملكة جمال تتحسر على زفافٍ ضائع، وفنان يبتر أذنه ليشتري الألوان، وعروس تكتشف ليلة زفافها عجز البيولوجيا. كل صورة منها صاعقة تضيء وجهاً من وجوه العبث الإنساني.
#اللغة لا تسرد لكنها تصدم، ولا تصف إنما تَحكم وتَدين. وفي تكرار “أن...” تتجلى وظيفة الإيقاع: كل “أن” مطرقةٌ على باب المصير، وكل عبارةٍ جملة قدرية تحاكي ضربة النرد، تواليها لا يورث الملل بل التنويم في صخب المصادفات.
#إيقاع_النص داخليّ، ينبع من التوازي والتكرار، لا من وزنٍ أو قافية. إن الشاعر لم يكتب شعراً موزوناً، بل موسيقى القدر، فكل جملة تنهض على توترٍ بين الفعل والنتيجة، وبين الوجود والعدم. وتلك هي موسيقى الفلسفة حين تكتب شعراً.
أما #التشكّل_السردي، فهو قائم على سلسلة مشاهد مكثفة، تتشابك كلوحاتٍ سريالية في عرضٍ صامتٍ للكارثة. لا يوجد زمن محدد، فالماضي والمستقبل يتعانقان في ومضات لحظة أبدية، يتكلم فيها الإنسان بلغة ما قبل اليأس وما بعده. إن التتابع غير المنطقي للمشاهد لا يشير إلى ضعفٍ في البناء، بل إلى قصدٍ جماليٍّ يعبّر عن فوضى الوجود، وكأن الشاعر أراد أن يجعل من بنية النص صورةً من بنية الحياة ذاتها: عبثٌ منسق، فوضى متقنة.
في #اللغة، تنبض الكلمات بصرامةٍ فكرية وحرارةٍ وجدانية. الجملة قصيرة، لكنها تفيض بما بعد المعنى. والصور حادة، لا تعرف الزخرف، لكنها تنفذ كالرصاصة. البلاغة ليست في البيان، لكن في الاقتصاد اللغوي، وفي توجيه القارئ إلى المعنى العاري دون تزيين. إنها كتابة تقشفية في لفظها، مترفة في دلالتها.
أما في #البعد_النفسي_والفكري، فالنص يكشف وعياً وجودياً مثقلاً بإدراك العدم، لكنه لا يستسلم له. “تعال نفكر بالنجاة”، يقول الشاعر في النهاية، وكأنه يعترف بأن الوعي نفسه خلاص. فالهزيمة أمام عبث الوجود لا تكون إلا بالوعي به، وبالوقوف في وجهه كما يقف الشاعر: بالكلمة، وبالاحتجاج.
دلالة_العنوان “لعبة النرد” تكثف كل فلسفة النص. إنها الحياة في صيغتها العارية: احتمالات ترميها يد لا نعرف صاحبها، لا منطق فيها إلا المصادفة، ولا قانون سوى أن تُرمى مجدداً. النرد هنا ليس رمز الحظ، لكنه رمز اللامعنى، ورمز الوجود الذي لا يسأل لماذا، بل يكتفي بأن يكون.
من حيث #الإيجابيات، يمتاز النص بعمق رؤيته، وتماسك رموزه، وغناه الدلالي، وبقدرته على جعل العبث نفسه معنى. أما ما يمكن أن يُؤخذ عليه، فهو ميله أحياناً إلى التراكم الصوري الذي قد يرهق المتلقي، ويجعل الإدهاش متشابهاً في إيقاعه. لكن حتى هذا التكرار يخدم غايته الجمالية في الإلحاح على فكرة التكرار العبثي ذاته.
لقد كتب كاظم حسن سعيد نصاً يليق أن يُقرأ مرات عديدة، وأن يُتأمل به بتمعن، لأن فيه من الصدق الفلسفي ما يجعل القارئ شريكاً في الحيرة لا شاهداً عليها.
كاظم حسن سعيد شاعر الوعي الموجوع، الذي لا يكتفي بأن يرى العالم ينهار،لكنه يسأل: “تعال نفكر بالنجاة”. وفي هذه الدعوة، تنقلب الفلسفة إلى رجاء، ويصير العبث صلاةً سريةً تهمس في ظلال اللغة: إن الإنسان، رغم النرد، لا يزال يحلم بالمعنى.
برؤية بسمة الصباح
بسمة الصباح مقتل الامين هذا النصّ البديع الذي صاغه الأديب كاظم حسن سعيد يُتلقّى كما نبوءات الألم حين تتجسّد في لسان التاريخ. إنه لا يصف مقتل الأمين فحسب، لكنه يستحضر موت الملوك كلّهم في لحظةٍ واحدة، حين ينكسر تاجهم ويسقط مجدهم وينكشف اللحم الإنساني تحت الأستار الذهبية. تغدو القصيدة لوحةً داميةً يتقاطع فيها الصوت والظل والرعب، وتتماهى فيها الوثيقة التاريخية مع الهذيان الوجودي، حتى يصير الأمين في لحظاته الأخيرة، رمزًا للإنسان العاري أمام مصيره. تقوم #البنية_الفكرية على المفارقة المأساوية الكبرى: أن الترف يصنع الضعف، وأن الدلال يولّد الخراب. فالأمين، ابن القصور والخزائن، يواجه موته بلا درعٍ ولا ثوب، يتوسّل صدرًا يضمه كطفلٍ ضلّ طريقه. ويبلغ النص عمقه الإنساني، حين يتحوّل الخليفة إلى جسدٍ مرتجف يبحث عن دفءٍ في بيتٍ غريب. #الفكرة ليست تأريخاً لمقتل رجل، لكنهاقراءة في سقوط السلطة حين تُصاب بالعمى؛ ذلك العمى الذي جعل الأمين لا يرى إلا بعد أن غاص في ظلمة النهاية. #البنية_الدلالية، هي غنيةٌ بالتحوّلات والرموز: السيوف ليست سيوفًا فحسب، بل أقدارٌ تمشي على أرجلٍ من حديد، والعقارب التي تموج في حدقات الأمين ليست كائنات واقعية، بل رموزٌ للندم والذنب والخيانات التي لدغته من الداخل. والغرفة التي تدور كسورةٍ دموية هي صورة للكون وهو ينهار حوله؛ فكل شيءٍ يتحوّل في النص إلى كائنٍ مفترسٍ أو شاهدٍ على الفناء. #اللغة لا تُسمّي الأشياء، بل تُنطقها، فيغدو الجمادُ واعياً، والظلُّ متكلماً، والهواءُ شاهداً على موتٍ لا يزال يتكرّر في وجدان كل سلطةٍ فاسدة. #الإيقاع في النصّ إيقاعٌ داخلي متفجّر، يعتمد على الجملة المتقطّعة المتوترة، وعلى تكرار الفعل المضارع في صيغة التتابع: يرى – يرتعد – يتوغل – يتذكر – ينهار – يحلم – يستيقظ. هذا النسق المتوالي يُحاكي رعشة الجسد قبل الموت، وارتعاش الروح في صراعها الأخير بين الأمل والعدم. النصّ لا يحتاج موسيقى خارجية، فأنفاس الأمين هي الموسيقى، والخوف ذاته هو الوزن الذي ينتظم به السرد. #التشكيلات_السردية، تقوم على مزجٍ دقيق بين الوثيقة التاريخية والخيال الشعري. يبدأ النص بمقتبس من كتب التاريخ، ثم يذوب الحدّ الفاصل بين التاريخي والدرامي، فتتحوّل الوقائع إلى مشهدٍ رؤيويٍّ يتناوب فيه السرد والوصف والمونولوج الداخلي. هذه التقنية تجعل القارئ شاهداً من الداخل، يرى الحدث لا بعيني المؤرخ،إنما بعيني الأمين نفسه وهو يتهاوى في هوّة مصيره. تتداخل الأزمنة بين الماضي والحاضر والمستقبل في دوّامةٍ واحدة، فيصبح مقتل الأمين تكراراً لموتٍ أبديٍّ يعيد نفسه في كل زمانٍ حين تتشابه الذنوب والخيانات. #اللغة في النصّ ممشوقةٌ كحدِّ السيف، متوترة كأنفاس الجريح، تفيض بالصور الكثيفة والانزياحات الوجدانية: “تموج العقارب في حدقات الأمين”، “شرعت الجدران تدور كسورة دموية”، “أنا الهاشمي المدلل خانني وزرائي” . الكاتب يمتلك حسًّا شعريًّا عميقًا في تطويع المفردة حتى تصير نبضة، فيمنح السرد حرارة الشعر دون أن يفقد وعيه الدرامي. من #الناحية_النفسية، يتجلّى النصّ في توترٍ وجوديٍّ عالٍ؛ فالأمين هنا لا يموت جسدًا فقط، بل يموت وعيًا، إذ يدرك فجأة أنه كان سجين دلاله، وأن السلطة التي تغذّيه كانت حليفة هلاكه. التحوّل من التوسّل إلى التمرّد، ومن الرجاء إلى اللعنة، ومن الذعر إلى التسليم كلّها مراحل نفسية مرسومة بمهارة درامية نادرة. فيها من العمق ما يجعل القارئ يشعر أن الأمين ليس شخصية تاريخية، بل مرآة لكل إنسانٍ حين يُعرّيه القدر أمام نفسه. وللشاعر في هذا النصّ فضلٌ كبير؛ فقد أحيا التاريخ بروح الفن، وحوّل الواقعة إلى مأساة إنسانية يتجاوب صداها في وجدان العصر الحديث. أسلوبه يمزج البلاغة بالعُري، والفخامة بالانكسار، كأنه يكتب بلغةٍ تشبه لهيب النحاس حين يُطرق فوق جرحٍ قديم. أما من حيث #المآخذ، فربما يُؤخذ على النصّ إفراطه في الصور الكثيفة أحيانًا حتى تتزاحم في المشهد، فيغدو التأمل فيها عسيراً على القارئ العادي. كذلك، قد يطغى الإيقاع النفسي على الإحكام الفني في بعض المقاطع الختامية. لكن هذه الثغرات لا تنقص من قيمة النص، بل تمنحه حرارة التجربة الصادقة التي لا تُصاغ ببرود الحساب، بل بنبض الخوف والدم والدهشة. إن “ليلة مقتل الأمين” هي انبعاث للوجع الإنساني حين يُساق إلى قدره المجنون. وفيها أثبت الأديب كاظم أنه كاتب يرى التاريخ بعين شاعرٍ، ويكتب الشعر بوعي فيلسوفٍ ، تلك الندرة التي لا تصدر إلا عن من أضناه السؤال، فصار قلمه شاهدًا على الهاوية. برؤية بسمة الصباح
بسمة الصباح سرقة صانع الاقفال
نصّ #سرقة_صانع_الأقفال مرثية فلسفية عن الإنسان الذي يصنع الأمان ويُسرق منه. خلف ظلال النحاس والحديد تختبئ فكرة الوجود ذاته: أن الذي يحرس الآخرين لا يستطيع أن يحرس نفسه، وأن كل قفلٍ في العالم، مهما اشتد، هو في النهاية محاولة واهية لتقييد الفوضى. الشاعر كاظم حسن سعيد يجعل من صانع الأقفال رمزًا للإنسان الكوني؛ يبتكر القيد ليطمئن، ويبني الوهم ليعيش. فالقفل في النص ليس جمادًا، إنما هو استعارةٌ للطمأنينة الزائفة التي نختبئ خلفها من عبث الحياة. حين يُكسر قفل الصانع، لا يُسرق ماله فقط، بل يُسلب منه إيمانه بفكرة الحماية. #البنية_الفكرية تقوم على مفارقة الأمن والخطر؛ إذ يتضح أن الحاجة إلى القفل ليست لحراسة الأشياء، لكنها لحراسة الخوف في داخلنا. فالإنسان لا يحبس الكنوز فحسب، لكنه يعتقل هواجسه وذكرياته ومخاوفه في صناديق معدنية. حتى أقفال الأديرة والحانات والعشاق والقتلة تشترك في جوهرٍ واحد: كلّها تحرس شيئاً هشّاً. أما #البنية_الدلالية، فتتشكّل على تضادٍ لافت: الملوك وبائعات الهوى، الجوامع والحانات، الزينة والتوابيت. هذه الثنائيات تجعل العالم متساوياً تحت قفلٍ واحد، وكأن الشاعر يقول إن الفارق بين الطهر والدنس ليس في المضمون بل في يد الحارس. فالقفل هو اللغة المشتركة بين الأطهار والعصاة. #الإيقاع هنا إيقاع المعنى، لا الوزن. يتولّد من التكرار المقصود في الجمل: «للملوك... لبائعات الهوى... للأثرياء...»، وهو تكرار يشبه طرقة المطرقة على المعدن، يخلق موسيقى خفيّة توحي بصرامة الحرفة. والإيقاع متدرج كتصاعد القدر، ينتهي بانفجار السرد حين يُكسر القفل في الليلة المطيرة، وكأن الإيقاع نفسه يُكسر معه. في #البناء_السردي نرى حركةً درامية تبدأ من الاستعراض الوظيفي لصانع الأقفال، ثم الانتقال إلى رمزيته الكبرى، فإلى لحظة الانكسار حين ينقلب الصانع مفعولاً به. هذه البنية تمنح النص طابعًا تراجيديًّا؛ فالبطل ينهزم أمام ما صنع بيده، في مفارقة وجودية مؤلمة. #اللغة شديدة الكثافة، حروفها لامعة كالمعدن الذي تتحدث عنه. الصور ليست للزخرفة بل لتوسيع المعنى: «الضبع الغاضب المنقوش»، «الليلة المطيرة المظلمة» — رموز للخطر الكامن في الجمال. الجملة عند الشاعر قصيرة لكنها مُحمّلة بومض الفكرة، تجمع بين الصنعة والحكمة، كضربة إزميل على نحاس متقد. #البعد_النفسي في النص يكشف عن ذاتٍ مأزومة بين التوق العاطفي والجرح الجمعي. يفيض بشعور الفقد والخذلان؛ فحين كُسر القفل، انكسر اليقين. صانع الأقفال لم يُهزم بالسرقة، بل بانهيار المعنى الذي عاش لأجله. #البعد_الفكري، هو استدعاء لسؤال الوجود: من يحرس الحارس؟ وهل الأمان إلا قناع جميل نخفي خلفه هشاشتنا؟ لقد كتب كاظم حسن سعيد نصًّا يزاوج بين الحرفة والفلسفة، وبين الحديد والروح، حتى غدا القفل استعارة للإنسان نفسه: متين من الخارج، هشّ في العمق. إنه نصّ صادق النبرة، عميق المعنى، متوازن الإيقاع. وفي النهاية، يبقى الشاعر صانع أقفال اللغة، يطرّز من حروفه حمايةً مؤقتة من ضجيج العالم، قبل أن تأتي "الليلة المطيرة" لتمتحن كل ما اعتقدناه حصيناً. تحياتي وتقديري لك برؤية بسمة الصباح
لامية عويسات مقتل الامين في كلّ تاريخ يُكتب، ثمة ليل لا ينام وصوت يتلوى في حنجرته قبل أن يبلغ المعنى. ومن بين رماد العباسيين، يخرج الأستاذ كاظم حسن سعيد ليكتب ليلة مقتل الأمين، لا بمداد من حبر بل من دم ساخن يتذكّر نفسه. يستدعي الشاعر التاريخ لا ليحكيه، بل ليُحاكمه يجعل من الأمين جسدا للهاوية ومن اللغة محرابا للموت المأجّل. وهكذا؛ لا يكون النصّ تأريخا إنما طقس دموي لغوي تتناسل فيه السيوف كرموز للخيانة، ويهتزّ فيه الوجدان العربي أمام صور العُري والسقوط والخذلان. في هذا النصّ الطويل المتوتر، لا نجد الأمين فحسب، بل نجد إنسانا عربيا معاصرا يقف عاريا في وجه مصيره، محاصرا بسيوف السياسة والدين واللغة. إنها ليست “ليلة الأمين” ليلة موت الوعي العربي الذي لم يعد يملك سوى أن يقول: “ضُمّني فإني أجد وحشة شديدة” في بنيته السردية؛ يبدأ النص بمرجعية تاريخية دقيقة من تاريخ الطبري، لكن الشاعر لا يبقى في التاريخ بل يخلعه من جلده. يتحول السرد من الوقائع إلى مونولوج داخلي متشظ، حيث الأمين لا كخليفة مقتول، بل كإنسان تُسلب منه رمزيته قطعة قطعة. تعمل هنا البنية السردية على مبدأ التقطيع والارتجاف؛ فالمشاهد تتلاحق كفلاشات هذيانية: "تموج العقارب في حدقات الأمين - يتناسل فيه الجحيم - متى ستعود السيوف وتقتل رعبي؟" هذه التقطيعات تكشف عن تكسّر الزمن، وتحوّل السرد من خطيّ إلى زمن داخلي مفكك، أقرب إلى تتابع الهلوسة منه إلى الحكاية. وهذا التفكيك الزمني هو ما يمنح النص بعده الحداثي إذ يُعيد تمثيل التاريخ كحدث رمزي، لا كوقائع مغلقة. ثم تتجلّى مأساة الأمين هنا في عريه النفسي قبل الجسدي كبنية نفسية للنص حين يقول الشاعر: "عريان وليس عليه من الثياب إلا السراويل والعمامة..." لا يتحدث عن ثياب بل عن سقوط الهالة، وانكشاف السلطة كما انهيار الأبوة العباسية. فالرعب هنا ليس من السيوف، بل من الذات التي تواجه حقيقتها العارية لأول مرة. "الأمين" في النص؛ يتحول من رمز سلطوي إلى طفل مذعور، يبحث في آخر لحظاته عن حضن فيقول لابن سلام: "ضُمّني إليك فإني أجد وحشة شديدة" هذه الجملة وحدها تختزل انكسار الإنسان أمام مصيره؛ فبها يتحوّل الخليفة إلى كائن يطلب الدفء قبل الرحيل. وكذا من المنظور النفسي، يقرأ النص كوثيقة عن انهيار “الأنا المتعالية” أمام الهشاشة المطلقة، فالأمين؛ في عمق النص هو رمز للإنسان المتورم بالسلطة، الذي لم يكتشف إنسانيته إلا حين واجه الموت. في بنيته الرمزية نجد: "السيوف، العري، الجدار" إذ تتحول العناصر المادية في النص إلى رموز كونية متصارعة: السيوف: ليست أدوات قتل، بل أصوات التاريخ حين يقطع رأس البراءة. العري: تجريد من الزيف الحضاري، عودة إلى البداءة الأولى للإنسان إلى لحظة ما قبل اللغة. الجدار الدوار: صورة الرعب الوجودي، حيث تتبدل الكائنات وتتحول الأشياء إلى مفترسات رمزية "الضباع، الثعالب، الصقور، الطحالب، العقارب" إنها جميعا كائنات تحرس الهاوية، وتؤكد أن الموت ليس فعلا جسديا بل تحولا في البنية الرمزية للكون. الشاعر لا يصف لحظة القتل، بل يرسم كوسموس الرعب الداخلي يخلق كونا متخيلا حيث يتداخل الواقعي بالهلوسي، والتاريخي بالأسطوري. نأتي إلى البنية اللغوية بين الفصاحة والتشظي اللغة في هذا النص تتنفس بصعوبة؛ فيها تكسير متعمد للجمل، وقفز على النحو وتمرد على الفصاحة التقليدية. يكتب أ. كاظم حسن سعيد بلغة تشبه السيوف التي يصفها: حادة؛ غير مستقيمة، دامية. قوله: "يقف، يجلس، يتكور، يستقيم، ينكمش، يرتعش، يتجلد، ينهار..." هذا الإيقاع المتسارع يحاكي نبض الذعر، ويحوّل اللغة إلى كائن يرتجف مع بطله. هنا تتقاطع اللغة الحداثية بالشعر الملحمي؛ فهي ليست أداة نقل، بل حالة وجودية تعاني كما يعاني صاحبها. بهذا المعنى، يتحقق ما يسميه “باشلار” بـ الخيال المادي، حيث تصبح الكلمة امتدادا للجسد لا للمعنى المجرد. فلسفيا؛ ينطلق بنا من المأساة التاريخية إلى المأزق الوجودي برغم أن النص ينطلق من التاريخ، إلا أنه لا ينتهي عنده؛ بل يتجاوزه إلى تساؤل وجوديّ عميق: ما الإنسان حين تُسلب عنه رموزه؟ من هو حين يقف عاريا أمام مصيره؟ هنا؛ تتماس الوجودية مع النزعة الصوفية، فحين يصرخ الأمين: "إلهي، أنقذني فقد آمنت برحمتك" يتحول من خليفة إلى عبد في لحظة كشف صوفي، كمن يصل إلى "فناء الذات" إنها لحظة تطهيرٍ بالدم لا تنقذه؛ لكنها ترده إلى أصله الإنساني، إلى الطين الأول. وبهذا؛ يتماهى النص مع رؤية صوفية عميقة ترى في الموت عتبة للفهم لا نهاية للوجود. من منظور تاريخي، يقدّم صاحب النص إعادة تأويل جذرية لحادثة الأمين والمأمون، بدل أن ينحاز الراوي للتاريخ الرسمي، ينحاز للمهزوم، للوجه الإنساني المنسيّ من المرويات العباسية. الأمين هنا ليس رمز الانحلال، بل ضحية الصراع السياسي والعائلي ضحية أنظمة تأكل أبناءها. بهذا؛ يتحول النص إلى كتابة مضادة للتاريخ، أو ما يسميه “ميشيل فوكو” بـ التاريخ المعاكس، أي إعادة إنتاج السرد من موقع الألم، لا من موقع السلطة. في تكوين “ليلة مقتل الأمين” تراجيديا مكتملة العناصر: بطل نبيل يسقط من عل جريمة مشبعة بالرمز جمهور من الشامتين والمشفقين. لكنّها ليست تراجيديا يونانية، بل تراجيديا عربية معاصرة، إذ يُكتب فيها القدر بيد التاريخ لا الآلهة. يمزج أ.كاظم بين الملحمة والمناجاة، بين النثر والشعر، ليخلق نصا يقف في برزخ الأجناس نصّا لا ينتمي إلا إلى وجعه. في نهاية النص؛ حين تحز السيوف رقبة الأمين: لا يموت الخليفة وحده، بل يموت الزمن الذي صدّق أن السلطة تمنح الخلود. يبقى الرأس المقطوع معلقا في ذاكرة القصيدة، رمزا للإنسان العربي الممزق بين المجد والعار، بين الوعي والموت. هكذا يُعيد أ.كاظم حسن سعيد للتاريخ نبضه المفقود، وللشعر مهمته الأولى: أن يوجع كي يوقظ. فـ"ليلة مقتل الأمين" ليست نصّا عن الموت، بل عن اللحظة التي يفيق فيها الإنسان من وهم الخلود، ليكتشف أنه كان منذ البدء وحيدا عاريا على حافة العاصفة
الدكتورعادل جودة لعبة النرد
(قراءة في قصيدة "لعبة النرد" للشاعر كاظم حسن سعيد)
ليست القصيدة مجرد كلمات منتظمة بل هي صرخة وجودية تخرج من أعماق روح منهكة تحمل في طياتها أسئلة الوجود القاسية وتناقضات القدر المحيرة. إن "لعبة النرد" للشاعر كاظم حسن سعيد تمثل لوحة تعبيرية كئيبة ترسم مأساة الإنسان في عالم يموج بالعبث واللامعقول.
// العبث والتناقض: قلب المفاهيم
يبدأ الشاعر قصيدته بسلسلة من التناقضات المأساوية التي تصل إلى حد السوريالية: "أَن تَلِدَ بِعَيْنٍ وَاحِدَة" - صورة موجعة تختزل قسوة الخلق ونقصان الكمال. ثم ينتقل إلى تحسر ملكة الجمال على بدلة الزفاف، في مزج مرير بين الذروة والانحدار، بين التاج والأسطورة وبين التفاصيف الدنيوية.
يتعمق الشاعر في مأساوية الوجود من خلال مفارقات صادمة: ذلك الموظف الذي "يتكلس" طوال عمره من أجل منزل، ليأتي قذيف واه فيلاشيه بلحظة. إنها صورة معبرة عن زيف الأحلام وسرعة انهيارها، وعن العبث الذي يطال سعينا الدؤوب نحو أهداف قد تتبخر في لمح البصر.
// اغتراب الإنسان ومسخ الهوية
لا يقتصر عبث اللعبة على المصائر الفردية، بل يمتد ليطال الأمم والهويات: "أَن يَحْتَلَّ بَرَابِرَةٌ بَلَدًا أَمِينًا فِي غَفْلَةٍ مِنَ الزَّمَنِ، وَيَمْسَخُوا تُرَاثَهُ وَلُغَتَهُ". هنا يتحول الاحتلال من مجرد استيلاء على الأرض إلى عملية مسخ للروح والذاكرة الجمعية. وتتكرر الصورة بمشهد "المغتربة" التي كانت ملكة شاشة، فتشيخ منسية وكأنها لم تكن، في إشارة إلى زيف المجد وعدمية الشهرة.
// المفارقات الوجودية: بين العظمة والتفاهة
يضعنا الشاعر أمام مفارقات كونية تذكرنا بقول الله تعالى: "إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ". فها هو "أهم فنان" يعجز عن شراء الألوان فيبتر أذنه، تلميحاً لفان غوغ ولكن بصورة أكثر مأساوية. وها هو "الكنز التافه الغبي" الذي يُعثر عليه، بينما يموت العظماء من الجوع. إنها لعبة النرد الحقيقية التي لا تحترم الجدارة ولا تكترث للقيمة.
// الموت والحقيقة: النهاية المأساوية للمخلصين
يصل بنا الشاعر إلى ذروة المأساة في مشاهد الموت العبثي: الثري الذي تمنى نسمة هواء فحرمها منه المرض، والمطور الذي مات شنقاً بحزام مطور لقاحها، وصاحب الحقيقة الذي تقتله السياط أو يشنق. إنها ثلاثية الموت العبثي: الموت بالمرض، الموت بالاختراع، الموت بالحقيقة. وكأن الشاعر يقول إن الموت هو النهاية المحتومة لكل الساعين، بغض النظر عن مسعاهم.
// الاغتراب في زمن الصخب
"تَتَكَهَّفُ فِي مَدِينَةٍ لَامِعَةٍ صَاخِبَة" -٠٠ صورة معبرة عن الاغتراب المعاصر، حيث يضيع الفرد في زحام المدنية وصراخها، ويختنق وسط كرنفال الحياة المزيف. إنها العزلة في قلب الجماعة، والوحدة في وسط الزحام.
// قلع الأقنعة: العقوبة والهروب
ربما تكون أكثر الصور إيلاماً هي "أَنْ تُفْنِيَ عُمُرَكَ فِي قَلْعِ الْأَقْنِعَةِ، فَيَهْرَبَ مِنْكَ الْجَمِيعُ". إنها عقوبة صاحب البصيرة في مجهر يرفض رؤية الحقيقة. فالمجتمع يفضل الأقنعة على الوجوه العارية، والأوهام على الحقائق المرة.
//النداء الأخير: نحو النجاة
في النهاية، يوجه الشاعر نداءً وجودياً: "تَعَالَ مَعِي نُفَكِّرْ بِالنَّجَاةِ، نَغُوصُ فِي الظُّلُمَاتِ بِلا خَرَائِط". إنها دعوة للمواجهة الشجاعة مع المجهول، للغوص في ظلمات الوجود دون أمل في دليل أو خارطة. إنها استسلام لقدرية اللعبة، ولكن مع إصرار على البحث عن معنى وسط العبث.
//ختاماً : إن قصيدة "لعبة النرد" تمثل مرثية وجودية للإنسان المعاصر، الذي يعيش في عالم فقد بوصلته الأخلاقية والمعنوية. إنها صرخة في وجه القدر، وبحث عن معنى في كون يبدو عبثياً. والشاعر هنا لا يقدم إجابات، بل يطرح أسئلة تؤرق الضمير وتستفز الروح للبحث عن النجاة في ظلمات لا تُعرف نهايتها.
نادية الابراهيمي
لعبة النرد قراءة قصيدة " لعبة النرد" للأديب كاظم حسن سعيد
كم هي غريبة هذه القصيدة وكأنها نسجت من خيوط تتقاطع بين الحلم والكابوس، بين ما هو إنساني حتى الألم وما هو عبثي حتى الفناء. في “لعبة النرد” لا يروي كاظم حسن سعيد واقعا محددا، هو يفتح علينا بوابة الفوضى الكونية. كل سطر فيها حجر نرد يلقى على طاولة الوجود، وكل رمية تخلق مصيرا جديدا يضحك ويبكي في اللحظة نفسها. منذ البدء يختار الشاعر صيغة التكرار «أنْ… أنْ… أنْ» ليصوغ بها نشيدا للمصادفة الكبرى. تكرار الفعل يشبه خفق جناح في فراغ، يعلن أن الحياة ليست سوى احتمالات تتساقط بلا نظام. مفارقة تولد بعين واحدة وملكة جمال تتحسر على بدلة زفاف، وفنان يفقد أذنه لأنه لم يجد ثمن اللون! كل مشهد يبدو هذيانا، لكنه في العمق اعتراف بترتيب كونيّ مختلّ، يسخر من منطق العدالة ومن التوازن القديم بين السبب والنتيجة. تتكشف بين الصور سخرية مُرّة من جدوى الكفاح الإنساني. فحين «تتكلس وظيفيا لأجل منزل»، يكون الإنسان قد تحوّل إلى ترس في ماكينة الانتظار، مجمدا في حلم صغير يبتلعه النظام، وما إن يكتمل هذا الحلم حتى «تفنيه قذيفة» لتختصر الجملة مأساة الحضارة الحديثة: العمر يُنفق في البناء، والحضارة تُباد في ثانية من جنون الحرب. وفي المشهد السياسي يكتب الأستاذ كاظم بحبر من النار: «يحتل برابرة بلدا أمينا… ويمسخون تراثه ولغته». هنا تتحول القصيدة إلى مرثية لهوية منفية، تهان فيها الذاكرة وتطمس الرموز. ثم تأتي صورة «ملكة الشاشة التي شيخت مغتربة وقد مسحوها من ذاكرتهم» لتكمل لوحة المحو: ليس التراث وحده من يُباد حتى رموز الجمال والإبداع حين يعفو الزمن عنها كأنها لم تكن. كل مفردة في القصيدة تحمل أثر مطرقة على جدار هشّ. الأفعال تختار بعناية مؤلمة( تتكلس، تُفنى، يمسخ، تقتل، تشنق، تفترس…) كأن الشاعر يكتب بقلم من رماد. لا مكان للنعومة هنا لأن العالم الذي يصفه ليس رقيقا. هو عالم تهيمن عليه المصادفة العمياء والمفارقة الساخرة، والقدر الذي يلعب بأرواح البشر كما يلعب الأطفال بالحجارة. وراء العبث الظاهر يتخفّى وعيٌ فلسفي ناضج. فالشاعر لا يلهو بالمفارقات لمجرد الإدهاش،إنه يعيدنا إلى سؤال الوجود ذاته: كيف يعيش الجمال وسط الفوضى؟ ولماذا ينجو البعوض بينما يفنى الديناصور؟ في هذا السؤال الملتبس نسمع صدى العبثية الكاموية والوجودية التي تؤمن أن الإنسان ملقى في عالم بلا معنى وعليه أن يخلق معناه بنفسه ولو وسط العدم. غير أن في قصيدة الأستاذ كاظم بريقا آخر، إذ لا يكتفي بالاحتجاج هو يترك لنا نداء خافتا: «فتعال معي نفكر بالنجاة… نغوص في الظلمات بلا خرائط». هنا يتبدى الإيمان الشفيف رغم كل الخراب؛ فالهلاك ليس قدرا مطلقا والنجاة فعل تفكير لا معجزة. هكذا يتحول النص إلى مرآة لزمن يختلط فيه الجمال بالمأساة والذكاء بالعبث والحق بالمهزلة. إنه نصّ يثير الدهشة لغموضه و صدقه في تصوير اللامعقول الذي نحياه. كاظم حسن سعيد في هذه القصيدة لا يصف العالم فحسب، هو يعرّيه ويتركنا أمامه عزلا نحمل نردنا ونرتجف.إنها قصيدة تقرأ بقلق مزدوج: قلق الإنسان من نفسه، وقلقه من لعبة الكون. ويا لها من لعبة تكملها فوضى الإنسان نفسه.!!!
نادية الإبراهيمي
لامية عويسات الترحال وحيدا
في زمنٍ تكثر فيه الكلمات وتخلو فيه المعاني، يبدو صمتُ بعض النصوص أكثر وضوحًا من أي بلاغةٍ مصقولة، فيدخل نص كاظم حسن سعيد «الترحال وحيدًا» من هذا الصمت: لا مبادرة لمعانٍ على نحو استعراضي، بل اقتحامٌ حميم لنقطة داخلية حيث يئنّ القول ويجترّ وجوده، فالمقدّمات هنا ليست شروحات بل دعواتٌ للوقوف في لحظة تتقاطع فيها اللغة مع الهاوية، حيث يتحوّل القشر إلى نصْب تذكاري والرحيل إلى فعل استطلاع لجوهر الإنسان.
للنص قراءةً متعددة الأوجه: أسلوبيةً دقيقة (بنية الجملة، الإيقاع، الصوت)، بلاغيةً مركّزة (صور ومجازات)، منهجيةً تكاملية (وجوديّة، نفسيّة، تأويلية)، وتناصّية عبر استدعاء حبال الذاكرة الشعرية والفكرية.
توقفا مع عتبة نصه:أقشِّر الفاكهة العلاقة، نجد أنفسنا أمام افتتاحية تستولي على الانتباه: الفعل "أقشّر" يغيّر فعلَ الرغبة أو الحفظ (نقشّع، نقتنِي) إلى فعلِ عنفٍ معرفيّ، الفاكهة، كمجاز للعلاقة، تُشير عادة إلى حلاوة وطعام مشترك؛ لكن قشْرها هنا إعمال في الذائقة النقدية: تقشير "العلاقة" عمل تنقيح-تبرئة-كشف. القشرُ تحمي ثم تُطرح؛ إزالتُه فعلٌ ينبئ بقرارٍ راديكالي: إمّا أن تُحفظ العلاقة في جوهرها، أو أن تُشطب من "منجم الصداقة"
ثم "أصهرهم فما نجا أحد - تظل من دون أحد" الصهر هنا مجاز للامتحان أو للتطهير؛ ينتقل من صيغة الاختبار إلى صيغة الاستئصال: المصهر لا ينجّي أحدًا.. ثمّ التحول الضمني: المتكلم يصير وحيدًا لا لأن الآخرين غادروا بالعيّ، بل لأن عملية الكشف-الصهر أفضت إلى فقدانٍ جماعيّ: "تظل من دون أحد" تؤكّد أن الوحدة هنا اختيارٌ معرفيّ_وجوديّ بقدر ما هي ألم.
ثم قوله: "تواجه المجهول والبركان - منقّبًا عن جوهر الإنسان" فيه تأكيد على تحول اللغة إلى فعل حاسم: المواجهة مع المجهول ليست ارتجالًا، بل تنقيبٌ عن جوهر، والبركان هنا رمزٌ لاحتدام الداخل للغضب الكامن للأصل التكويني الذي يغلي. تنقيبٌ ذا طابعٍ ما قبل-لغوي: البحث ليس عن معاني لفظية بل عن "ذرة" إنسانية أساسية تتجاوز البدائل الاجتماعية.
و"وفي وباء الأسئلة - والانصهار في الموحش من ليلك" هنا الأسئلة تصبح وباء واستعارةٌ قوية: فالأسئلة زمنيةٌ، تطال المفرد والجماعة، وتتفشّى. "الانصهار في الموحش" صورةٌ مزدوجة: موحشُ الليل (كخوف، كخلفية تكوينية) و انصهار (كفقدان حدود) الصورة تحيلنا إلى حالة خلوّية: إذ الذات تذوب في فراغ ليلّيّ
و "وفي الهزيع الأخير - إذ يرتعش الأمين قبل ذبحه" تُستدعى هنا صورة من نصٍّ آخر لكاظم ذكّر بها النصُّ السابق عن "ليلة مقتل الأمين": هذي التكرارية التناصّية تُحوّل الأمين إلى علامة زمنية داخل مشروع الشاعر؛ ارتعاش قبل الذبح رمزُ تهيؤ الوعي للموت أو للحقيقة. الإحالة تُشيّد ذاكرة نصّية داخلية سياق رُؤيويّ أكثر منه مرجعًا تاريخيًا بحتًا.
"رؤية المدن تمحى... الجثث مقبورة بحفرة واحدة... تفسّخ الأرواح" تتابع تصاعديّة في التضخّم: من علاقةٍ فردية إلى محوِ المدَنيات، إلى تجمع الجثث إلى تفكّك الروح، هذا الانتقال يدلّ على توسّع مساحة الألم: من الخصوصي إلى الكلي، من اللغة إلى القبر ومن الوعي الاجتماعي إلى العطب الأونطولوجي.
لنأتي ختاما على: "وحدك تمضي، لا يد مؤازرة -ولا ضياء يكشف الطريق - كي تجنح عن بشاعة فائقة" قفلة تختزل موقف الشاعر: لا مُواساة خارجية، ولا ضياء إرشادي، ما يتبقى هو انحرافٌ عن الشراسة ليس انتصارًا، بل بلسمة صغيرة فالرحيل يصبح نهائيّة استبطانية: مغادرة العالم على نحوٍ يكشف عن معنى جديد للنجاة هو انحرافٌ عن البشاعة لا عودةٌ إلى الضوء
في البنية الأسلوبيّة والبلاغية يشتغل أستاذنا على الاختزال: في حذف الحشو، الجمل الخبرية القصيرة، الأفعال القوية: أقشّر، أصهر، تواجه، تمحى، تفسّخ. هذا الاقتصاد يمنح النصّ اندفاعًا وحِدّةً درامية.
كما تكرار صيغة "أفعل" يجعل النصّ يحمل سلسلة أفعال متتالية، تقريبًا كالطقوس مع ذلك ثمة انتقالاتٌ نحو الجمل الوصفية التي تمنح النصّ برجوازية بصرية: "في وباء الأسئلة" و"في الهزيع الأخير" إذ التناوب بين الفعل والوصف يولّد شدًّا صوتيًا.
الاختيار المتكرر لحروفٍ صدديّةٍ قاسية يلد خرجلة صوتية متميزة (ق، ط، ك، ص) تنتج إحساسا بالتصلّب بالعُنف الداخلي. بالمقابل: المواضع التي تضرب فيها الحروف الساكنة أو الأصوات الرخوة تبدو محطات هروبٍ مؤقتة، مما يُضفي على النصّ موسيقىً داخليةً تتفاوت بين احتكاكٍ وارتطامٍ وانزلاق. الأساليب البلاغية الملموسة
الاستعارة المركبة: "قشْر الفاكهة العلاقة" استعارة مركبة تجمع بين الشيء المادي ألا وهو :الفاكهة، والحالة الإنسانية في العلاقة.
نوجد أيضا التهكم الوجودي: "وباء الأسئلة" وهو تحويل فعلٍ إيجابي -السؤال- إلى وباءٍ مدمر.
كما اعتماد ه التكرار والنفرة كما قوله:"أصهرهم فما نجا أحد" تكرار الفعل ثم النفي يعززان قسوة القرار.
نأتي إلى التناصّ الداخلي: واستدعاء الأستاذ كاظم ل «الأمين» ربط نصوصه ببناء معدني ذاكراتي يخصّ العمل الشعري، فلم تكن القصيدة منعزلة؛ بل جعلها امتدادا لشبكة داخلية في مشروعه الشعري، واستدعاء "الأمين" وإشارات إلى "الجثث والقبور" و"المدن المحوّة" تقرّب النص من سلسلة صورٍ مزمنة توزّع الموضوعات عبر نصوصه، وتُشكّل أرشيفا شعريا، كما يمكن قراءة النص في ضوء تراثٍ عربي وإسلامي (صور الموت، الصحراء، الانكسار) وفي ضوء الحداثة العالمية (الاغتراب الوجودي، تجربة ما بعد الحرب، رموز الندم).
إضافة إلى ذلك، ثمة تلاقيات مع شعر الحداثة:
كما في التحوير الصوتي والاقتصاد: تشابه مع مناخ نصوص أدونيس أو نزار قباني في لحظاتها المتقطعة.
وفي الشحنة الوجودية: وهج قريب من فلسفة الكينونة لدى كامو أو هيغل (في حسّ الجدلية). وكذلك في الحسّ الديني الصوفي: إذ نتعثر بومضات ترجع إلى التصوف الإسلامي (الانصهار، البحث عن الجوهر).
كما أن النص يحمل مؤشرات ما بعد-الصدمة: كانقطاع العلاقات، فقدان شعور الانتماء، تحول السؤال إلى وباء. هذا ما يسميه علم النفس "الاغتراب بعد الصدمة" حيث تتبدّل آليات التواصل إلى دفاعات فصلية، المتكلم هنا يعمل "عملية قشر" على الآخرين كآلية دفاع: إما اكتشاف جوهرهم أو شطبهم نهائيًا.
ولأن الترحال يتحوّل إلى تجربة وجودية: فالمواجهة مع المجهول والبركان و"الهزيع الأخير" ترمز إلى لحظة الانكشاف أمام عدمية محتملة، الشاعر لا يقدّم حلًا؛ بل يبيّن أن الوعي بالغموض هو حدّ الوجود، وهذه قراءة تُشبه خطاب الوجودية الأوروبية: مواجهة العبث والبحث عن معنى في قلبه، لكن مع طابعٍ شرقي-صوفي في لحظات الانصهار. وربطا لما ما جاء وإذا اعتبرنا نصوص أ.كاظم نصّا متعددَ الوجوه، فإن "الترحال وحيدًا" يختزل هاجسًا مركزيًا: في علاقة الإنسان بالآخر-المدينة-الذاكرة، وأنّ الانكسار الفردي ينسحب إلى الانكسار الجماعي. تكرار رموز مثل "الأمين" "المدن" "الجثث" يرسم خريطة ألمٍ متعدّدِ الأزمنة. إذن النص ليس حادثة منفردة بل محطة في مشروع شعري متتابع يبحث في صيرورة الفقد.
والنص في آدائه الالقائي يطالب بصوتٍ داخليٍ قويّ: بداية هادئة، مع كل فعلٍ يتصاعد، ليبلغ ذروةً هامسةً في "الانصهار في الموحش" ثم يعود إلى نبرةٍ أقل سوطًا في الخاتمة فترات التوقف مهمّة: بعد "أصهرهم فما نجا أحد" يجب أن يكون سكتٌ طويل ليشعر الجمهور بثقل الفعل. لأن الأداء المسرحي يمكن أن يستثمر التناص مع الموسيقى الحاضرة في خلفية النص: أوتار منخفضة، صفير رياح خفيّ.
في هذه اللوحة الابداعية"الترحال وحيدًا" يضعنا الأستاذ كاظم حسن سعيد العراقي أمام عمل شعري صارخ في بساطته وتكثيفه، ينحتُ بالعلاقة بين اللغة والعدم لحظةَ وعيٍ لا تستكين، هو هنا ليس ناقلا لخبر عن السفر أو الرحيل، بل هو عالم نفسٍ يجري تجربة على الوجود، يختبر جوهره عبر إسقاطاتٍ بلاغيةٍ حادة. اللغة عنده ليست مطية للبلاغة المحسنة، بل أداة تجريبية تقصّ الحيوات وتعيد ترتيبها.
النص ينجح لأنّه يجمع بين شفافية الصورة وتثاقل المعنى؛ لأنّه يمكن أن يُقرأ كمنولوجٍ نفسيّ، كسجلّ فرديّ، وكبيانٍ فلسفيّ في آنٍ واحد. ومن هنا، فإن موقعه في شعر كاظم يظلّ محوريًا: نصٌّ يواجه التاريخ من الداخل، ويقترح على القارئ أن يمضي وحيدًا، ليس لأنّ الوحدة حلّ، بل لأنها الطريق الوحيد لرؤية الجوهر.
قراءة قصيدة " لعبة النرد" للأديب كاظم حسن سعيد كم هي غريبة هذه القصيدة وكأنها نسجت من خيوط تتقاطع بين الحلم والكابوس، بين ما هو إنساني حتى الألم وما هو عبثي حتى الفناء. في “لعبة النرد” لا يروي كاظم حسن سعيد واقعا محددا، هو يفتح علينا بوابة الفوضى الكونية. كل سطر فيها حجر نرد يلقى على طاولة الوجود، وكل رمية تخلق مصيرا جديدا يضحك ويبكي في اللحظة نفسها. منذ البدء يختار الشاعر صيغة التكرار «أنْ… أنْ… أنْ» ليصوغ بها نشيدا للمصادفة الكبرى. تكرار الفعل يشبه خفق جناح في فراغ، يعلن أن الحياة ليست سوى احتمالات تتساقط بلا نظام. مفارقة تولد بعين واحدة وملكة جمال تتحسر على بدلة زفاف، وفنان يفقد أذنه لأنه لم يجد ثمن اللون! كل مشهد يبدو هذيانا، لكنه في العمق اعتراف بترتيب كونيّ مختلّ، يسخر من منطق العدالة ومن التوازن القديم بين السبب والنتيجة. تتكشف بين الصور سخرية مُرّة من جدوى الكفاح الإنساني. فحين «تتكلس وظيفيا لأجل منزل»، يكون الإنسان قد تحوّل إلى ترس في ماكينة الانتظار، مجمدا في حلم صغير يبتلعه النظام، وما إن يكتمل هذا الحلم حتى «تفنيه قذيفة» لتختصر الجملة مأساة الحضارة الحديثة: العمر يُنفق في البناء، والحضارة تُباد في ثانية من جنون الحرب. وفي المشهد السياسي يكتب الأستاذ كاظم بحبر من النار: «يحتل برابرة بلدا أمينا… ويمسخون تراثه ولغته». هنا تتحول القصيدة إلى مرثية لهوية منفية، تهان فيها الذاكرة وتطمس الرموز. ثم تأتي صورة «ملكة الشاشة التي شيخت مغتربة وقد مسحوها من ذاكرتهم» لتكمل لوحة المحو: ليس التراث وحده من يُباد حتى رموز الجمال والإبداع حين يعفو الزمن عنها كأنها لم تكن. كل مفردة في القصيدة تحمل أثر مطرقة على جدار هشّ. الأفعال تختار بعناية مؤلمة( تتكلس، تُفنى، يمسخ، تقتل، تشنق، تفترس…) كأن الشاعر يكتب بقلم من رماد. لا مكان للنعومة هنا لأن العالم الذي يصفه ليس رقيقا. هو عالم تهيمن عليه المصادفة العمياء والمفارقة الساخرة، والقدر الذي يلعب بأرواح البشر كما يلعب الأطفال بالحجارة. وراء العبث الظاهر يتخفّى وعيٌ فلسفي ناضج. فالشاعر لا يلهو بالمفارقات لمجرد الإدهاش،إنه يعيدنا إلى سؤال الوجود ذاته: كيف يعيش الجمال وسط الفوضى؟ ولماذا ينجو البعوض بينما يفنى الديناصور؟ في هذا السؤال الملتبس نسمع صدى العبثية الكاموية والوجودية التي تؤمن أن الإنسان ملقى في عالم بلا معنى وعليه أن يخلق معناه بنفسه ولو وسط العدم. غير أن في قصيدة الأستاذ كاظم بريقا آخر، إذ لا يكتفي بالاحتجاج هو يترك لنا نداء خافتا: «فتعال معي نفكر بالنجاة… نغوص في الظلمات بلا خرائط». هنا يتبدى الإيمان الشفيف رغم كل الخراب؛ فالهلاك ليس قدرا مطلقا والنجاة فعل تفكير لا معجزة. هكذا يتحول النص إلى مرآة لزمن يختلط فيه الجمال بالمأساة والذكاء بالعبث والحق بالمهزلة. إنه نصّ يثير الدهشة لغموضه و صدقه في تصوير اللامعقول الذي نحياه. كاظم حسن سعيد في هذه القصيدة لا يصف العالم فحسب، هو يعرّيه ويتركنا أمامه عزلا نحمل نردنا ونرتجف.إنها قصيدة تقرأ بقلق مزدوج: قلق الإنسان من نفسه، وقلقه من لعبة الكون. ويا لها من لعبة تكملها فوضى الإنسان نفسه.!!! نادية الإبراهيمي
#كاظم_حسن_سعيد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مدرسة الاصرار قصيدة
-
محاضرة في مركز المخطوطات بالبصرة
-
جينات الحكام المتقين قصيدة
-
لعبة النرد قصيدة
-
ليلة مقتل الامين قصيدة
-
ليلة مقتل الامين
-
المشط الخشبي
-
سرقة صانع الاقفال
-
الترحال وحيدا قصيدة
-
قصيدة خارج مسطرة الشعر
-
طالبة الطب قصيدة
-
قراءة نقدية لديوان المرجان
-
المرجان في سلة خوص كتاب كامل
-
القاب الشعراء رؤية نقدية
-
قراءة في تشظي الوعي وانكسار المعنى
-
مدخل بصري الى النص الشعري
-
مسمار مشوش الذاكرة قصيدة
-
جثة السوق قصيدة
-
عصر الترندات
-
الذين لا يحتفلون كتاب كامل
المزيد.....
-
الهيئة الاتهامية في لبنان تُسقط تهمتين بارزتين ضد الفنان فضل
...
-
القضاء اللبناني يتجه لإسقاط تهم بارزة في قضية الفنان فضل شاك
...
-
مكتبة حدودية تترجِم سياسات ترامب بعدما جسّدت الوحدة الأميركي
...
-
مكتبة حدودية تترجِم سياسات ترامب بعدما جسّدت الوحدة الأميركي
...
-
ذكريات مقدسية في كتاب -شمسنا لن تغيب-
-
ورشة صغيرة بلوس أنجلوس تحفظ ذاكرة نجوم السينما في -القوالب ا
...
-
عائدات الموسيقى على -يوتيوب- تبلغ مستوى غير مسبوق وتحقق 8 مل
...
-
الرواية غير الرسمية لما يحدث في غزة
-
صدور كتاب -أبواب السويداء والجليل- للكاتبتين رانية مرجية وبس
...
-
الممثل التجاري الأميركي: المحادثات مع الصين مهدت للقاء بين ت
...
المزيد.....
-
إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
المرجان في سلة خوص كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
بيبي أمّ الجواريب الطويلة
/ استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
-
قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي
/ كارين بوي
-
ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا
/ د. خالد زغريت
-
الممالك السبع
/ محمد عبد المرضي منصور
-
الذين لا يحتفلون كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
المزيد.....
|