أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كاظم حسن سعيد - قراءة نقدية لديوان المرجان















المزيد.....


قراءة نقدية لديوان المرجان


كاظم حسن سعيد
اديب وصحفي


الحوار المتمدن-العدد: 8501 - 2025 / 10 / 20 - 04:54
المحور: الادب والفن
    


قراءة في ديوان المرجان في سلة خوص
للدكتور عادل جودة
قراءة ادبية
‏( عصر الترندات)
‏الشاعر كاظم حسن سعيد

‏أيها القارئ الكريم، تمعّن معي في هذه اللوحة السوداوية التي رسمتها أنامل شاعرٍ متمرّس، لوحةٌ تختزل مأساة العصر في سطور. إنها مرثية للحظة الإنسانية الراهنة، وصورةٌ قاتمة لـ"عصر الترندات" الذي نعيشه، حيث تتحوّل المآسي إلى مجرّد خبر عابر، والفضائح إلى فقاعة إعلامية تختفي كما ظهرت.

‏إن الشاعر هنا لا يعدّد أحداثاً عابرة، بل يكشف عن ظاهرة وجودية عميقة: تحوّل الإنسان من كائنٍ مفكّر إلى مستهلكٍ سلبي.
‏ فـ"جرائم مثل شوي خمسة صغار بفرن" و"شيخ يغتصب رضيعة" - وهي أمثلة صادمة متعمدة - لم تعد صدمتها تكفي لتبقى في الذاكرة الجمعية، بل تذوب في زخم الأخبار المتلاحقة.
‏ إنها إشارة إلى موت الضمير الإنساني، واستبدال العمق الأخلاقي بسطحية الاستهلاك الإعلامي.

‏وتأمل معي ذلك التناقض المُركّب بين "الجنرالات لا يحسنون استخدام السلاح" و"اشتراك بكيس تمر في معرض صناعات عالمية".
‏ إنه سخرية مرّة من هشاشة مؤسساتنا، وانزياح المعايير، حيث يختلط الجادّ بالساخر، والعظيم بالتافه، في بوتقة واحدة تذيب كل تمييز.

‏ولا يفوّت الشاعر أن يسلّط الضوء على آليات صناعة الوهم الجماعي: "دورات عجلى لصناعة شيوخ"، "برامج لكسب ثروة بأسابيع"، "شهادات عليا لتافهين". إنها صورة لمجتمع المريديز الذي يبيع الوهم ويشتري الخداع، مجتمعٌ فقد البوصلة الأخلاقية والمعرفية، فصار يلهث وراء سراب التبجيل السريع والثراء الفوري.

‏وأما "مدارس تقفيزية لابتكار العاهرات" و"وصفات عطارين لنشر الغباء" فهما استعارة مبطّنة لمؤسسات تنتج الانحطاط وتصنع التخلّف تحت شعارات برّاقة. إنها تشريح لدور "الصناعة الثقافية" في تعميق الغباء وتكريس الانحدار.

‏وفي الختام، يقدّم الشاعر صورة "المقدّسين المبتكرين" الذين "يدخلونك الجنة ويحقّقون أحلامك" - وهي نقد لاذع لاستغلال الدين والعاطفة في مجتمعات تائهة تبحث عن خلاص سحري لمشاكلها الوجودية.

‏إن القصيدة برمّتها صرخة في وجه عصر التسليع، حيث تُباع المبادئ وتُشرّع الانحرافات، ويُستبدل العمق الفكري بالسطحية الإعلامية.
‏إنها دعوة إلى اليقظة، إلى استعادة الضمير، إلى التمسّك بالإنسانيات في زمن التحوّل إلى آلات مستهلكة.

‏فهل نعي الدرس؟ أم سنظلّ في دوّامة "عصر الترندات" نعدّ الأحداث ثم ننساها، كأوراق الخريف تتساقط واحدة تلو الأخرى، دون أن نتعظّ أو نتذكّر؟

‏____________
‏قراءة ادبية
‏( ثعلبية)
‏للشاعر كاظم حسن سعيد

‏أيها القارئ الكريم، أمامنا قصيدة تنزف إنساناً، وتصرخ بوجه زمنٍ قاسٍ.
‏إنها لوحة إنسانية مرسومة بألوان الألم والكرامة المنتهكة. "الفتاة الألماس" - هذا اللقب الذي يطلقه الشاعر على بطلة قصيدته - ليس مجرد استعارة عابرة، بل هو تأكيد على قيمة هذه النفس الإنسانية التي صمدت رغم كل ما تعرّضت له.

‏تأمل معي في هذه المفارقة المؤلمة: "الفتاة الألماس سبعة عشر عاماً" - إنها زهرة في ربيع العمر، لكنها تحمل بين جنبيها تاريخاً من المعاناة.
‏ إن "خجلها من عكازها" ليس عيباً فيها، بل هو اتهام صارخ لعالم يجعل من الإعاقة عاراً، بينما يتبارى في تمجيد القوة والكمال الظاهري.

‏وتلك "الليلة الغادرة في غابات النخيل" حيث "هوت قنبلة على منزلها" - إنها ليست مجرد حادثة، بل هي رمز للدمار الذي يلاحق البراءة في عالمنا. فـ"غابات النخيل" التي يفترض أن تكون ملاذاً للأمان، تتحول إلى ساحة حرب تفقد فيها الفتاة روحها - أو جزءاً منها - وساقها. إنها صورة مصغرة لوطن يفقد أطرافه الواحد تلو الآخر.

‏إن جمال هذه الفتاة ليس نقمة فحسب، بل هو شهادة ضد القبح من حولها. فـ"اللؤلؤ الذي يكاد يتكلس في الجفون" يشهد على دموع كتمتها سنين، و"عمق الحزن في جمال العيون" يروي قصة ألمٍ لا تنتهي فصوله. إنها تحمل في عينيها تاريخاً من المعاناة يكفي لأن "يسقيك طعم الحنظل".

‏وأما ذلك الكابوس الذي يطاردهـا في منامها - خوفها من الحلم "فقد يأتي!!" - فهو تجسيد لصدمة نفسية لا تبرحها. إن الخوف الذي تسلّل إلى أعماقها جعل حتى الأحلام ملاذاً غير آمن. وتلك الإشارة الغامضة "سيكشف ساقها التي دُفنت في القمامة" تفتح الباب لتأويلات متعددة، ربما تشير إلى انتهاك جديد أو استغلال ينتظرها.

‏وفي المشهد الأكثر إيلاماً، تأتي الفتاة "لاستلام حصة غذائية" - إنها صورة للكرامة الإنسانية المهدورة، حيث تتحول إنسانية الإنسان إلى سلعة في سوق المساعدات.
‏ و"المدير الثعلب" الذي "يقطر إنسانية" و"يرق لأجلها" بينما "عيونه مسلطة على أردافها" - إنه تمثيل للنفاق الاجتماعي والاستغلال البشع.
‏ فذلك الذي يبدو متعاطفاً هو في الحقيقة مفترس يتربص بضحاياه.

‏إن القصيدة برمتها سردية للمقهورين في هذا العالم، للذين تُنتزع كرامتهم في صمت، للفتيات اللواتي يتحولن إلى ضحايا في صراعات لا ناقة لهن فيها ولا جمل. إنها تذكير بأن الحرب لا تُفقد الأرواح والأطراف فحسب، بل تُفقد الإنسان كرامته وأحلامه وأمنه حتى في أحلامه.

‏فهل نسمع صرخة هذه "الألماس" التي تتحمل كل هذه الآلام ولا تنكسر؟ أم سنظل نمر مرور الكرام على مثل هذه المآسي، كما نمر على عناوين الأخبار العابرة؟
‏ إنها دعوة لإعادة النظر في إنسانيتنا، في زمن صارت فيه القيم سلعة والكرامة ترفاً.

‏---------------------
قراءة أدبية
‏  قصيدة (ألقاب الشعراء)
‏للشاعر كاظم حسن سعيد

‏في عالم يضج بالزيف والادعاء، تطل علينا قصيدة "ألقاب الشعراء" للشاعر كاظم حسن سعيد كمرآة عاكسة لواقع مرير، وكصيحة احتجاج على تهافت المشهد الثقافي الذي تحول إلى مسرح للألقاب الزائفة والتماثيل الواهية.
‏ إنها قصيدة تحفر في أعماق النفس البشرية باحثة عن جوهر الإبداع الحقيقي في زمن طغت فيه المظاهر على الجوهر.

‏تبدأ القصيدة بمفارقة لافتة، حيث يعلن الشاعر أن سماعه للقب "الشاعر الكبير" يصيبه "بعسر الهضم" ويدفعه للتفكير "بالوضوء"، وكأن هذه الألقاب قد أصبحت نجاسة أدبية تحتاج إلى تطهير.
‏إنها صورة قوية تعبر عن رفض داخلي عميق لهذه الظاهرة، وتكشف عن التلوث الذي أصاب الوسط الثقافي.

‏يستمر الشاعر في توسله للقراء: "ارجوكم لا تقتلوا الشاعر بتجريده من حبله السري لقبه... ارحموه.."، في استعارة مؤثرة تربط اللقب بالحبل السري الذي يربط الشاعر بحياته وهويته.
‏لكن هذه الهوية، كما يكشف لنا لاحقاً، ليست هوية حقيقية نابعة من الإبداع، بل هي هوية مصطنعة بنيت على أسس واهية.

‏يكشف الشاعر عن الجهد الهائل الذي بذله صاحب اللقب ليحصل عليه، "عشرين سنة ليكسب لقبه" و"خمسين سنة ليثبته"، لكن هذا الجهد لم يكن موجهاً نحو صقل الموهبة وتعميق التجربة الإبداعية، بل كان جهداً خارجياً قائماً على التكلف والادعاء.
‏ لقد "بليت قدماه وهو يفتش عن ساحة رائجة يقيمون له فيها تمثاله"، وكأن التمثال أصبح هو الهدف الأسمى، وليس الشعر نفسه.

‏الأكثر إيلاماً في القصيدة هي تلك المفارقة بين الشاعر وعائلته، فبينما "أنفق عمره يحدث زوجته وأبناءه عن قيمة مجده"، كان "أبناءه فروا وزوجته تصاب بدوار كلما حدثها عن العظمة".
‏ وهنا تكمن المأساة الحقيقية، فالأقربون الذين يعيشون معه ويرون حقيقته بدون أقنعة، هم الأكثر إدراكاً "لتفاهته" كما تقول القصيدة بواقعية قاسية.

‏يتعمق الشاعر في كشف الآليات التي اعتمد عليها صاحب اللقب لبناء مجده الزائف، من "فن الطرائف" ليسلي جلساءه، إلى جلب "البهار من اليمن" ليهديه لرؤساء التحرير، مروراً بوضع "تيجان على حثالات ليصفقوا له"، وتمجيد "أقزام وطغاة ليوسع جمهوره". إنها صورة لمجتمع ثقافي مقلوب، حيث أصبح التملق والنفاق وسيلة للوصول إلى المجد.

‏لكن القصيدة تصل إلى ذروتها التراجيدية في المشهد الأخير، حين يغادر الشاعر قبره في "ضحى بهي" ب"ناقته المعهودة"، فلا يجد من يعرفه، وقد "انمحت مؤلفاته من رفوف المكتبات". إنها صورة مؤثرة لمصير كل مجد زائف، لكن العجيب أن الشاعر حتى في هذه اللحظة لا يتراجع عن عظمته الوهمية، بل يبرر غياب التكريم بأن "حتما مر بهم زلزال ونهش ذاكرتهم".

‏بهذه الخاتمة المفعمة بالسخرية المريرة، تقدم القصيدة رؤية نقدية عميقة للمجتمع الثقافي الذي يكافئ النفاق والتملق بدلاً من الإبداع الحقيقي.
‏ إنها صرخة ضد الادعاء والزيف، ودعوة للعودة إلى جوهر الإبداع الذي لا يعترف إلا بالموهبة الحقيقية والصدق الفني.

‏إن قصيدة "ألقاب الشعراء" ليست مجرد نقد للمشهد الثقافي، بل هي تأمل وجودي في معنى المجد الحقيقي ومصير الألقاب الزائفة.
‏ إنها تذكرنا بأن الإبداع الحقيقي لا يحتاج إلى ألقاب مصطنعة ولا تماثيل واهية، بل يبقى خالداً في قلوب الناس بما يحمله من جمال وحقيقة.

‏وفي النهاية، تبقى القصيدة تحذيراً لكل مبدع حقيقي من أن يقع في فخ الألقاب والتماثيل، وأن يظل وفياً لموهبته وصادقاً مع فنه، لأن المجد الزائف لا محالة زائل، أما الإبداع الحقيقي فيبقى.

‏-------------
‏قراءة أدبية
‏ قصيدة (جثة الزقاق)
‏للشاعر كاظم حسن سعيد

‏تطل علينا قصيدة "جثة الزقاق" للشاعر كاظم حسن سعيد كمرثية حزينة لواقع اجتماعي مأزوم، وكتشريح دقيق لجسد حي يتحول شيئاً فشيئاً إلى جثة هامدة. إنها رحلة إلى أعماق المجتمع من خلال نافذة ضيقة هي "الزقاق" الذي يتحول من فضاء للحياة إلى مقبرة للعلاقات الإنسانية.

‏الجزء الأول: الحياة ككرنفال مأساوي

‏يبدأ الشاعر برسم لوحة حية للزقاق في أيامه الماضية، فيصوره كـ"شارع الرقص والطبول والتلاوة"، حيث تتعانق المقدسات والدنيويات في مشهد مفعم بالحياة. إنه عالم "الصبايا الجميلات النزقات" و"كرنفال الصغار اليومي"، حيث "الأسِيجة مترية الارتفاع" و"الأبواب المشرعة أبداً"، في إشارة إلى الانفتاح والثقة المتبادلة بين سكان الزقاق.

‏يبرز الشاعر صورة العشق السهل البسيط، حيث "يكفي عاشق أن يصفر فتظهر بشعرها المبلل في الباب"، في لمسة شعرية رقيقة تختزل براءة العلاقات في زمن لم تكن فيه التعقيدات قد طمست البساطة الجميلة.

‏لكن تحت سطح هذه الحياة النابضة، يكتشف الشاعر بوادر الانحدار، حيث "أجساد أنثوية مروضة بالسياط وأخرى بالحنان"، وكأنه يشير إلى ازدواجية المعاملة والتناقض في العلاقات. كما يصور حياة السكارى حيث "تشم رائحة الخمر ترسلها الشبابيك الخشبية"، في إشارة إلى بداية الانحدار الأخلاقي.

‏الجزء الثاني: تحولات دراماتيكية

‏ينتقل الشاعر إلى تصوير التحول الكبير في حياة الزقاق، حيث "البيوت تغير بعض ساكنيها" و"يبدأ الانكماش عبر عمليات تقطير بطيئة".
‏ إنها صورة مؤثرة لضمور الحياة الاجتماعية، حيث "تتحجم الأصوات" و"تتجول الذئاب" و"ينتصر الصمت الكلي".

‏يستخدم الشاعر استعارة "قنافذ" لوصف البيوت التي "تنتفض رماحها لأبسط حركة"، في تعبير بليغ عن تحول المساكن من أماكن للأنس والاستضافة إلى حصون منيعة.
‏ لقد أصبحت البيوت "كتلة أشواك دفاعية" و"قلاع سرية عصية"، في إشارة إلى انهيار الثقة وموت العلاقات الاجتماعية.

‏الرؤية النقدية

‏تمثل القصيدة رؤية نقدية عميقة للتحولات الاجتماعية التي تمر بها المجتمعات العربية، حيث تتحول الأحياء من فضاءات للحياة المشتركة إلى جزر معزولة.
‏ إنها صورة لمجتمع يفقد تدريجياً إنسانيته تحت وطأة التحولات الاقتصادية والاجتماعية.

‏يصور الشاعر ببراعة كيف تتحول العلاقات الإنسانية من دفء وصداقة إلى شك وريبة، وكيف تتحول البيوت من أماكن للاجتماع والعشرة إلى قلاع منيعة. إنه يشير إلى موت القيم الاجتماعية الأصيلة التي كانت تميز المجتمعات التقليدية.

‏البناء الفني

‏تمتاز القصيدة ببنائها الفني المتميز، حيث اعتمد الشاعر على:

‏>· التصوير الحسي: من خلال الصور البصرية والسمعية التي تنقل القارئ إلى عالم الزقاق
‏>· الاستعارات المبتكرة: كاستعارة "التقطير البطيء" للانكماش الاجتماعي
‏>· الرمزية: حيث يمثل الزقاق المجتمع بأكمله
‏>· المفارقة: بين صورة الزقاق في الماضي ككائن حي، وصورته في الحاضر كجثة هامدة

‏الخاتمة

‏تبقى قصيدة "جثة الزقاق" شاهدة على براعة الشاعر كاظم حسن سعيد في تشريح الواقع الاجتماعي وتصوير التحولات العميقة التي تمر بها المجتمعات. إنها ليست مجرد قصيدة، بل وثيقة اجتماعية تخلد صورة حية لمجتمع في لحظة تحول حرجة.

‏إن القصيدة تطرح أسئلة عميقة عن مصير المجتمعات الإنسانية في عصر العولمة والتحولات السريعة، وعن إمكانية الحفاظ على القيم الإنسانية الأصيلة في وجه التغيرات الجارفة.
‏إنها دعوة للتفكير في سبل إعادة الحياة إلى "جثة الزقاق" وإحياء القيم الإنسانية التي تموت يوماً بعد يوم.
‏---------
‏قراءة ادبية
‏ قصيدة (تحول بيولوجي)
‏للشاعر كاظم حسن سعيد

‏ليست القصيدة مجرد كلمات منثورة، بل هي شهادة على الوجود الإنساني في مواجهة آلة القمع المطحنة. تأخذنا هذه القصيدة المؤثرة في رحلة إلى أعماق النفس البشرية حين تتعرض لأقسى أنواع العذاب، فتتحول بيولوجياً ونفسياً وروحياً، ليس كتطور طبيعي، بل كتشوُّه قسري تفرضه آلة التعذيب.

‏من البراءة إلى التشوّه

‏تبدأ القصيدة بحدث مأساوي: "أول سوط" يقود إلى اعتقال خمسين بريئاً.
‏ هنا يضعنا الشاعر أمام مفارقة مروعة: الضحايا أبرياء، والتعذيب يقع على الأبرياء. ثم تأتي الصورة المروعة "سلقوه بالتعذيب، حتى لم يعد الحمض النووي يتمكن من تحديد هويته". إنها ليست مجرد تعذيب جسدي، بل محو للهوية الإنسانية ذاتها. فالحمض النووي هو شيفرة الإنسان الجينية، هويته البيولوجية التي تميزه عن سائر الخلق، وقد استطاع التعذيب أن يشوّه حتى هذه الهوية الأساسية.

‏التحول البيولوجي والنفسي

‏بعد أشهر من "السلق في قدر التعذيب" - وهي صورة طهي تشيء الإنسان وتسلبه إنسانيته - يتحول الرجل إلى "رجل صامت منعزل متكور وشبحي".
‏ إنه تحول مرعب من كائن ناطق إلى صامت، من اجتماعي إلى منعزل، من ممتد إلى متكور على ذاته، من حي إلى شبح. لقد ماتت روحه وبقي جسده يشهد على الموت.

‏مأساة البراءة المكبوتة

‏ثم تأتي الضربة القاضية: "اكتشفوا براءتهم". لكن المأساة لا تنتهي، بل تتعمق. فبدلاً من أن يكون هذا الاكتشاف تحريراً، يصبح اختباراً آخر للروح المكسورة. عليهم أن يعترفوا ببراءتهم ليطلق سراحهم، لكن الرجل "من شدة الرعب أصر على إدانتهم".
‏ إنها اللحظة التي ينتصر فيها الخوف على الحقيقة، والبقاء على المبدأ. لقد استطاع التعذيب أن يقتل في نفسه حتى حاجته إلى البراءة والعدالة.

‏التحول النهائي: من الألم إلى اللاألم

‏بعد سنة، تأتي المحك الحقيقي للتحول البيولوجي والنفسي.
‏ يأتي الجلادون سكارى - في صورة تظهر استخفافهم بإنسانيته - ويطفئون جمر السجائر بذراعيه. لكن المفاجأة المروعة: "لم تظهر منه أية ردة فعل".
‏ إنها اللحظة التي يتساءل فيها الشاعر:
‏ "أكان ميتاً أم مخدراً أم خالطه أمر عظيم؟!"

‏إن الإجابة تأتي في الصباح، حين يسأله الشاعر فيقول: "كان عليّ التحمل لكي يتركوني أنام".
‏ إنها ليست موتاً ولا تخديراً، بل تحولاً بيولوجياً حقيقياً.
‏ لقد تعلم الجسد أن الألم هو اللغة الوحيدة للوجود، وأن الصمت على الألم هو الوسيلة الوحيدة للبقاء. لقد أصبح الألم جزءاً من كيانه البيولوجي، لم يعد شيئاً خارجياً يرفضه، بل أصبح حالة وجودية يتعايش معها.

‏الخاتمة: تحول الإنسان إلى غير الإنسان

‏تختم القصيدة بسؤال وجودي عميق: "فأي تدمير غطس فيه ليتحول من مرتعد بأول سوط إلى رجل غير مبال بإطفاء السجائر في جسده"

‏إنه تدمير الذات الإنسانية بكليتها. تحول بيولوجي جعل الأعصاب تفقد حساسيتها، وتحول نفسي جعل المشاعر تفقد حيويتها، وتحول روحي جعل القيم تفقد قداستها.
‏ لقد غطس في دوامة من التدمير الذاتي والقسري، حتى أصبح الألم هو هويته الجديدة، والصمت لغته الوحيدة، واللامبالاة درعه الواقي.

‏هذه القصيدة ليست مجرد شهادة، بل هي ناقوس خطر يدق ليلفتنا إلى أن التعذيب لا يدمر الضحية فقط، بل يدمر إنسانيتنا جميعاً.
‏ إنه يحول البشر من كائنات تحلم وتأمل وتقاتل من أجل قيمها، إلى كائنات تتحمل فقط لكي تترك لتنام.
‏____________
‏قراءة ادبية
‏  قصيدة (مسمار مشوش الذاكرة)
‏ لكاظم حسن سعيد

‏تتشكل القصيدة العربية الحديثة كوعاء فني يستوعب هموم الإنسان المعاصر وهواجسه، وتأتي قصيدة "مسمار مشوش الذاكرة" للشاعر كاظم حسن سعيد نموذجاً متميزاً يجسد هذا التوجه.
‏ فمن خلال استيحاء صوت المسمار كبطل روائي، ينسج الشاعر لوحة إنسانية مؤثرة تتراقص على أوتار الوجود والغربة والنسيان.

‏التشخيص الفنّي: المسمار ككائن حيّ

‏يبدأ الشاعر قصيدته بتشخيص عميق للمسمار، فيمنحه وعياً وذاكرة وشعوراً، مما يضفي على النص بعداً درامياً مأساوياً.
‏إن هذا المسمار "المشوش الذاكرة" يتحول إلى رمز للإنسان الضائع في دهاليز التاريخ، الذي لا يعرف أصوله ولا جذوره: "لا أعلم متى وكيف تمت ولادتي". هذا الالتباس الوجودي يضع القارئ أمام أسئلة مصيرية عن الهوية والانتماء.

‏الذاكرة التاريخية: من ذات الصواري إلى القمامة المنسية

‏تمتد ذاكرة المسمار عبر قرون من التاريخ، فيشهد تحولات الحضارات من معارك ذات الصواري البحرية، حيث كان جزءاً من البوارج المنتصرة، إلى زمن الإهمال والنسيان. هذا الامتداد الزمني يخلق مساحة واسعة للتأمل في تقلبات الدهر، فالمسمار الذي شارك في صنع المجد البحري للأمة أصبح الآن "مختبئاً في تل أخشاب" ينتظر مصيره المحتوم في "قمامة منسية".

‏الانزياح الدلالي: من البطولة إلى الهامشية

‏يبرز الشاعر الانزياح المأساوي في دور المسمار/الإنسان، من عنصر فعال في صناعة التاريخ إلى كائن مهمش. إنه يصور لنا هذا التحول بألم: "يصفقون لدور ممثل عظيم/ ويتناسون مهندس الإضاءة".
‏ هذه المفارقة تذكرنا بمنطق الحضارة الحديثة التي تكرم الظاهر وتنسى الجوهر، تقدس المنتج النهائي وتتناسى الحرفي الخفي.

‏اللغة الشعرية: بين الخشونة والشاعرية

‏تتميز لغة القصيدة بتوازن دقيق بين خشونة الموضوع ورقة التعبير. فالشاعر يستخدم مفردات من عالم النجارة والصناعة ("مطرقته القاسية"، "ينغرس عميقاً في الصاج") لكنه يصوغها في قوالب شعرية مفعمة بالحس الإنساني.
‏إن وصف المسمار وهو "يتأقلم في ظلمة أخشاب السفينة" يخلق صورة قوية للكائن الذي يتحمل ظلمته الوجودية.

‏الرمزية العميقة: المسمار كإنسان

‏يتجاوز الشاعر الوصف المادي ليصل إلى رمزية إنسانية عميقة، فالمسمار يصبح رمزاً للعمال والفلاحين والجنود المجهولين، لكل أولئك الذين شاركوا في بناء الحضارة ثم نُسوا.
‏إنهم "المقاتلون المتخفون الرحالة المجهولون" الذين "انحنت ظهورهم وتآكلوا من الصدأ".
‏ هذه الصورة المؤثرة تذكرنا بمصير الإنسان العادي في زمن العولمة، الذي يبني الحضارة ثم تطحنه آلاتها.

‏البنية السردية: حكاية الوجود المهمش

‏تبني القصيدة حكايتها عبر تيار من الذكريات المتدفقة، تبدأ بولادة غامضة وتنتهي بانتظار الموت في القمامة. هذا الإطار السردي يخلق إحساساً تراجيدياً يتصاعد تدريجياً حتى يصل إلى ذروته في المشهد الأخير حيث يجلس المسامير "يتذكرون همس العشاق على السفن الشراعية" بينما هم في طريقهم إلى النسيان.

‏الانزياح الزمني: من المجد إلى الإهمال

‏يستخدم الشاعر الانزياح الزمني كتقنية فنية فعالة، فيقفز بنا من ماضي المسمار المجيد إلى حاضره المأساوي.
‏هذا التباين يخلق مفارقة وجودية مؤلمة، خاصة عندما يصف تحول المدن "من آكلة القنافذ إلى ناطحات السحاب" بينما بقي هو كما هو، عنصراً أساسياً لكن غير مرئي.

‏الخاتمة: صوت من أعماق النسيان

‏تنتهي القصيدة بمشهد مؤثر يجلس فيه المسامير "يتقاطعون، يتكورون، يتعانقون" في انتظار مصيرهم المحتوم.
‏هذه الصورة الأخيرة تختزل مأساة الوجود الإنساني في عالم لا يرحم، حيث يصبح الإنسان مجرد أداة تستخدم ثم تلقى.

‏إن "مسمار مشوش الذاكرة" ليست مجرد قصيدة عن مسمار، بل هي مرثية للإنسان المهمش، للعامل المجهول، للبطل المغفل الذي يبني الحضارات ثم تتركه الحضارات وراءها. إنها صرخة مدوية من أعماق التاريخ تذكرنا بأن خلف كل حضارة عظيمة هناك عدد لا يحصى من المسامير المنسية.

‏تظل هذه القصيدة شاهدة على براعة الشاعر في تحويل أبسط العناصر إلى رموز إنسانية عميقة، تاركاً للقارئ ذاكرة مشوشة هو الآخر، يتساءل معها:
‏أين نحن من هذه المسامير التي تشكل عظام حضارتنا، ثم ننساها عندما ننتهي من استخدامها؟
‏_______________



#كاظم_حسن_سعيد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل
- القاب الشعراء رؤية نقدية
- قراءة في تشظي الوعي وانكسار المعنى
- مدخل بصري الى النص الشعري
- مسمار مشوش الذاكرة قصيدة
- جثة السوق قصيدة
- عصر الترندات
- الذين لا يحتفلون كتاب كامل
- تفاعلات كيميائية قصيدة
- (مذكرات ماسنجر مزيح الاقنعة
- هولاكو قصيدة
- مهمة مزعجة قصيدة
- لدى الطبيبين قصيدة
- ضيف متردد قصيدة
- الذين لا يحتفلون نقد
- الذين لا يحتفلون
- رؤى نقدية لقصيدة الثوري المهمش
- تثبيت الدين بالسيوف
- لعبة الحروب قصيدة
- اضاءة في اعماق السقوط


المزيد.....




- -بطلة الإنسانية-.. -الجونة السينمائي- يحتفي بالنجمة كيت بلان ...
- اللورد فايزي: السعودية تُعلّم الغرب فنون الابتكار
- يُعرض في صالات السينما منذ 30 عاما.. فيلم هندي يكسر رقما قيا ...
- -لا تقدر بثمن-.. سرقة مجوهرات ملكية من متحف اللوفر في باريس ...
- رئيس البرلمان العربي يطالب بحشد دولي لإعمار غزة وترجمة الاعت ...
- عجائب القمر.. فيلم علمي مدهش وممتع من الجزيرة الوثائقية
- كيف قلب جيل زد الإيطالي الطاولة على الاستشراق الجديد؟
- نادر صدقة.. أسير سامري يفضح ازدواجية الرواية الإسرائيلية
- صبحة الراشدي: سوربون الروح العربية
- اللحظة التي تغير كل شيء


المزيد.....

- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور
- الذين لا يحتفلون كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كاظم حسن سعيد - قراءة نقدية لديوان المرجان