|
|
قراءة في قصيدة شرار في نظرة
كاظم حسن سعيد
اديب وصحفي
الحوار المتمدن-العدد: 8511 - 2025 / 10 / 30 - 00:24
المحور:
الادب والفن
قراءة في قصيدة شرارة في نظرة (تمكن الكاتب محمد بسام العمري ان يغوص عميقا في النص كاشفا ما بين السطور،فاضحا صراع الاجيال واتساع الفجوة بينهما.
(نص «شرار في نظرة» للشاعر كاظم حسن سعيد هو ومضة سردية مكثفة تتكئ على الاقتصاد اللغوي والحمولة الرمزية في آنٍ واحد، وتلتقط لحظة تبدو عابرة في ظاهرها لكنها تنفتح في عمقها على مأزق إنساني وحضاري شديد الدلالة. في هذا المشهد القصير، الذي يدور داخل محل حلاقة، تتجسد مواجهة صامتة بين زمنين، ورؤيتين للحياة، ووعيَين متناقضين في جوهرهما. الرجل المسمر الستيني الذي يغادر كرسي الحلاق ليس مجرد شيخ أنهكه العمر، بل هو رمز لجيل القيم الصلبة، جيلٍ تشكّلت ملامحه في أتون الحرفة والانضباط والكدّ. لون بشرته المسمر يشي بخبرة العرق والشمس، وذكر تشبيهه بحداد أو بحار ليس عابرًا، فهما مهنتان تنتميان إلى عالم الشقاء والإبداع اليدوي، حيث يلتقي الحديد بالنار، والموج بالجلد، فيتشكل الإنسان المتقن الصبور الذي يتعلم من التجربة ويصهر ذاته في العمل. إن هذا الرجل يقف مهيبًا، فارع الطول، وكأنه بقايا تمثال من زمن آخر، يحمل في عينيه الواسعتين ذاكرة جيلٍ تربّى على النظام والحياء، ويختزن في سكونه صلابة حكمة لا تحتاج إلى صوت. في المقابل يدخل ثلاثة مراهقين صاخبين، تتشظى منهم الخفة والضجيج والبذاءة، فيملؤون المكان صراخًا وعبثًا، وكأنهم موجة من زمن جديد فقدَ احترامه للمكان والآخرين. المشهد في ظاهره بسيط، لكنه في بنيته الرمزية أعمق بكثير، فهو يجسد صراع الأجيال بكل ما يحمله من توتر وغربة وحنين. الرجل الستيني لا يتكلم، لكنه يلتفت محدقًا فيهم، وفي عينيه شرار احتجاجٍ صامت، شرار لا يصدر عن غضبٍ لحظي بل عن تراكم وجعٍ تاريخي يرى القيم وهي تتساقط واحدة تلو الأخرى. الشرر هنا ليس نارًا تحرق، بل ضوءًا يحتضر، بقايا وميضٍ كان يومًا يضيء الضمير الجمعي للأمة. تلك النظرة المشتعلة ليست مجرد انفعالٍ عابر بل شهادة على فجوةٍ آخذة في الاتساع بين ما كان يُسمّى تربية وأدبًا، وبين ما صار يُسمّى حرية وتعبيرًا بلا ضابط. حين يرى الرجل سلوك هؤلاء المراهقين كأنه سلوك لقبائل بدائية، فهو لا يصف فقط انحطاط السلوك، بل يلمّح إلى تراجع الوعي من مستوى الحضارة إلى مستوى الغريزة. هو لا يرى فيهم مجرد شبابٍ ضائع، بل يرى فيهم مظهرًا لانهيار منظومة بأكملها، يرى جيلًا بلا أبٍ وبلا ذاكرة. في لحظة الاسترجاع، حين يتذكر عصا أبيه التي تقومه لهفوة طارئة، يمر أمامنا شريطٌ طويل من التحول الاجتماعي: كانت العصا رمزًا للتقويم والانضباط والمسؤولية، أما الآن فقد تحولت المجتمعات إلى مساحاتٍ بلا رادع، يختلط فيها التمرد بالوقاحة، والحرية بالانفلات. العصا هنا ليست أداة قمع بل تجسيد لقيمة التربية القديمة التي كانت تؤسس الإنسان على الوعي بالحدود، وعلى احترام الكبير والمكان والذات. يكتب كاظم حسن سعيد بأسلوب ينتمي إلى المدرسة الواقعية الرمزية، فهو لا يكتفي بتصوير مشهدٍ واقعي، بل يرفعه إلى مستوى الرمز الكوني الذي يتجاوز الزمان والمكان. لغته بسيطة ظاهريًا، لكنها محمّلة بإيحاءاتٍ كثيفة، تنسج من مفردات الحياة اليومية فلسفة عميقة حول التغير القيمي في المجتمعات الحديثة. الجملة عنده قصيرة مشدودة، لكنها مفعمة بالتوتر الداخلي، كأنها أنفاس متقطعة بين جيلين لا يفهم أحدهما الآخر. هذه الواقعية الممزوجة بالرمزية تمنح النص بعدًا تأمليًا يجعل القارئ يشارك في بناء المعنى لا بتلقّي الدلالة الجاهزة، بل بقراءتها من خلال تجربته الشخصية وذاكرته الجماعية. وعند مقارنته بالأدب العالمي، أي الأدب الكلاسيكي الذي كان يعتمد على البيان والبلاغة والموعظة المباشرة، نجد أن كاظم حسن سعيد يجدد في التعبير لا في الجوهر. فبينما كان الأدب القديم يُعلي من شأن الفضيلة عبر الوعظ أو النظم أو الخطابة، يختار الكاتب هنا الصورة الصامتة المشحونة بالإيحاء، ينقل الموعظة من القول إلى النظرة، من الصوت إلى الصمت، ومن البيان إلى الحضور النفسي العميق. هذه النقلة تمثل جوهر التجديد الأدبي، إذ يتحول النص من خطابٍ تعليمي إلى تجربة حسية وفكرية تثير القارئ وتدعوه للتأمل. في هذه التجربة، يغدو المشهد البسيط في محل الحلاقة أكثر بلاغة من القصائد المطوّلة، لأن الصراع بين الرجل والمراهقين يجسد الصراع الأزلي بين القيمة والزمن، بين الذاكرة والعبث، بين النضج والانفلات. فنون التعبير في هذا النص تقوم على الاقتصاد والتكثيف والتصوير السينمائي، حيث تتحرك الكاميرا اللغوية من اللقطة القريبة (الرجل يزيل بقايا الشعر) إلى اللقطة العامة (دخول المراهقين)، ثم إلى اللقطة النفسية (الشرر في النظرة). هذه البنية البصرية تجعل النص أقرب إلى مشهدٍ سينمائي أو لوحة تشكيلية تتكلم فيها العيون بدل الألسن. الكاتب يوظف استعاراتٍ حسية تجمع بين الصنعة والبحر، بين الحديد والموج، بين الجلد والنار، وهي ثنائيات توحي بالصراع والصلابة والتجربة. إن الجمال في هذا النص لا يقوم على الزخرفة اللفظية، بل على الصدق الداخلي، على البنية الإيقاعية الهادئة التي تشبه أنين الزمن في وجه الضجيج. أما على المستوى النفسي، فيمكن القول إن النص يعبر عن شعورٍ عميق بالاغتراب لدى جيلٍ يرى نفسه غريبًا في زمنه، عاجزًا عن التواصل مع من يفترض أنهم امتداده الطبيعي. النظرة المشحونة بالشرر هي في حقيقتها مقاومة صامتة، محاولة من الذات القديمة لتثبيت حضورها في عالمٍ لم يعد يعترف بها. إنها لحظة مواجهة بين الضمير والتفاهة، بين النضج الأخلاقي والسطحية المتفشية. اجتماعياً، النص يفضح تآكل القيم التي كانت تؤسس للاحترام والتوقير، ويشير إلى تصدّع العلاقة بين الأجيال، إذ لم يعد الكبار مرجعًا أخلاقيًا ولا الشباب ورثةً لوعيٍ جمعي. هكذا تتحول القصة القصيرة إلى مرآةٍ لمجتمعٍ يعيش أزمة هوية وتربية وتواصل. وفي عمق هذا الصراع النفسي والاجتماعي، تبقى النظرة — تلك النظرة المشبعة بالشرر — بمثابة الشعلة الأخيرة في ليلٍ طويل. هي ليست رفضًا للجيل الجديد بقدر ما هي صرخة حبٍّ محروق في وجه الزمان، كأن الرجل يقول بصمته: لقد كنتُ أنتمي إلى زمنٍ كانت فيه الأخلاق تُصاغ بالعصا لا بالإعلانات، وكانت الكلمات تُوزن بالحياء لا بالشهرة. إنه يقف هناك في محل الحلاقة، كأنه آخر الحراس على أبواب .) مخمد بسام العمري
#كاظم_حسن_سعيد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شرار في نظرة قصيدة
-
كورونا قصيدة
-
مشهد لكبار السن قصيدة
-
خارج مسطرة الشعر كتاب كامل
-
مدرسة الاصرار قصيدة
-
محاضرة في مركز المخطوطات بالبصرة
-
جينات الحكام المتقين قصيدة
-
لعبة النرد قصيدة
-
ليلة مقتل الامين قصيدة
-
ليلة مقتل الامين
-
المشط الخشبي
-
سرقة صانع الاقفال
-
الترحال وحيدا قصيدة
-
قصيدة خارج مسطرة الشعر
-
طالبة الطب قصيدة
-
قراءة نقدية لديوان المرجان
-
المرجان في سلة خوص كتاب كامل
-
القاب الشعراء رؤية نقدية
-
قراءة في تشظي الوعي وانكسار المعنى
-
مدخل بصري الى النص الشعري
المزيد.....
-
كلاكيت: الذكاء الاصطناعي في السينما
-
صدر حديثا. رواية للقطط نصيب معلوم
-
أمستردام.. أكبر مهرجان وثائقي يتبنى المقاطعة ويرفض اعتماد صن
...
-
كاتب نيجيري حائز نوبل للآداب يؤكد أن الولايات المتحدة ألغت ت
...
-
إقبال كبير من الشباب الأتراك على تعلم اللغة الألمانية
-
حي الأمين.. نغمة الوفاء في سيمفونية دمشق
-
أحمد الفيشاوي يعلن مشاركته بفيلم جديد بعد -سفاح التجمع-
-
لماذا لا يفوز أدباء العرب بعد نجيب محفوظ بجائزة نوبل؟
-
رئيسة مجلس أمناء متاحف قطر تحتفي بإرث ثقافي يخاطب العالم
-
رئيسة مجلس أمناء متاحف قطر تحتفي بإرث ثقافي يخاطب العالم
المزيد.....
-
إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
المرجان في سلة خوص كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
بيبي أمّ الجواريب الطويلة
/ استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
-
قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي
/ كارين بوي
-
ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا
/ د. خالد زغريت
-
الممالك السبع
/ محمد عبد المرضي منصور
-
الذين لا يحتفلون كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
المزيد.....
|