|
|
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخُّل الْغَيْبِيّ عَنْ مُرُونَة الْكَيْنُونَة وَصِرَاع الْإِرَادَات الْوُجُودِيَّة -الْجُزْءُ الثَّالِثُ و الثَّلَاثُون-
حمودة المعناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8529 - 2025 / 11 / 17 - 21:51
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
_ الكيْنُونة الهشّة: تحليل نفسي وفلسفي للآليات التقنية التي تجعل الذات قابلة للتأثّر بالإيحاء السحري
إنّ تحليل هشاشة الكيْنُونة (Being) تجاه الإيحاء السحري يتطلّب غوصًا عميقًا في التداخل المعقّد بين الآليات النفسية والمنظورات الفلسفية التقنية التي تحكم العلاقة بين الذات والعالم غير المرئي أو غير العقلاني. هذه الهشاشة ليست مجرد صفة عارضة، بل هي حالة بنيوية تتشكّل عبر تفاعلات دقيقة داخل الهيكل النفسي والمعرفي للفرد، ممّا يجعله أكثر نفاذية وتأثّرًا بالتدخّلات التي تقع خارج حدود الإدراك المادي المعتاد أو المنطق الصارم. إنّ الإيحاء السحري هنا لا يُقصد به بالضرورة الطقوس الخارقة، بل تلك القوى الإيحائية التي تعمل على مستوى الرمز والإعتقاد، فتستبدل الرؤية العقلانية بواقع بديل مبني على القوة غير المُفسّرة أو التأثير الغامض. تُعدّ العوامل النفسية هي اللبنة الأساسية في بناء هذه الهشاشة. فالكيْنُونة الهشّة تجاه السحر غالبًا ما تكون كيْنُونة تعاني من فراغ وجودي أو قلق أنطولوجي عميق. إنّ الإدراك الواعي لـعشوائية العالم وغياب الضمانات المطلقة يمكن أن يولّد ضغطًا نفسيًا هائلاً. وهنا، يقدّم الإيحاء السحري بصفته نظامًا تفسيريًا بديلًا إغراءً هائلاً: فهو يعد بـالسيطرة والمعنى حيث يسود الفوضى والغموض. الأفراد ذوو الحاجة المرتفعة للإغلاق المعرفي (Need for Cognitive Closure) يميلون إلى التمسّك بأي تفسير، حتى لو كان غير منطقي، لتجنّب حالة الشك والتردد. يقدم الإيحاء السحري إجابة قاطعة وسريعة مثل "هذا حدث بسبب لعنة" أو "هذا العلاج سيجلب الحظ"، مما يوقف التفكير النقدي ويسد الفجوة المعرفية بشكل فوري. تعد آلية التفكير السحري (Magical Thinking) بمثابة ميل فطري لدى البشر، يرتكز على الإعتقاد بأنّ الأفكار أو الأفعال غير المرتبطة سببيًا يمكن أن تؤثّر على بعضها البعض مثل ربط حدث سلبي بفكرة عابرة. في الكيْنُونة الهشّة، لا يُعد هذا التفكير مجرّد مرحلة نمائية، بل يتحوّل إلى نمط دفاعي مستمر، يمنح شعورًا وهميًا بالقدرة على التأثير في المصير عبر الطقوس أو الرموز. تظهر الكيْنُونة الهشّة قابلية إيحاء مرتفعة، وهي القدرة على قبول الأفكار والمقترحات من مصدر خارجي دون مقاومة أو تحليل نقدي كبير. يرتبط هذا غالبًا بمستويات منخفضة من اليقين الذاتي وإرتفاع في الإعتماد على السلطة الخارجية أو المصادر التي تُعتبر خارقة أو خاصة. التصديق الإدراكي الناتج عن حالة نفسية متأزّمة (صدمة، حزن، ضغط) يسهّل هذه القابلية، حيث يصبح العقل أقلّ قدرة على التمييز بين الواقع والوهم. عندما ننتقل إلى الإطار الفلسفي والتقني، يصبح الإيحاء السحري بمثابة تقنية تعمل على تفكيك الإطار الأنطولوجي للكيْنُونة. إنّ السحر بمعناه الواسع يعمل عبر إستغلال ثغرات في هيكل الواقع الذي تبنيه الكيْنُونة لنفسها. إنّ أساس الإدراك العقلاني هو الإيمان بالسببية الخطية (أ يؤدي إلى ب). الإيحاء السحري يهاجم هذه البنية الأساسية، مقدمًا سببية بديلة (أفعل طقسًا يؤدي إلى جلب الرزق أو المرض). الكيْنُونة الهشّة هي تلك التي لم تُحكِم بناء علاقات سببية متينة في إدراكها للعالم، أو فقدت الثقة في السبل المنهجية المعتادة (الطب، العلم، المنطق)، مما يفتح الباب أمام السببية الخفية للإيحاء السحري. يعمل الإيحاء السحري كـتقنية رمزية تفرض نفسها على الكيْنُونة. عندما يؤمن مجتمع كامل، أو حتى دائرة مؤثرة، بقوة رمز معيّن (تعويذة، طقس)، فإنّ هذا الرمز يكتسب قوة أنطولوجية (وجودية) بالنسبة للكيْنُونة الفردية. تصبح الكيْنُونة هشّة لأنها لا تستطيع المقاومة المعرفية أمام قوة الرمز المشترك الذي يحوّل الإيمان إلى تجربة محسوسة. إنّ تجسيد الإيحاء مثل: رؤية العرّاف أو الإمساك بتميمة يفعّل مسارات حسّية تؤكّد فعالية التقنية السحرية، متجاوزًا الشك المجرد. الكيْنُونة الهشّة هي التي تفتقر إلى مركز ذاتي صلب ومستقلّ. هي كيْنُونة تبحث عن تعريفها خارج ذاتها. هنا، يصبح الإيحاء السحري بمثابة سيناريو أو أداء تُجبَر الكيْنُونة على خوضه لتعريف وضعها "أنا مسحور"، "أنا محظوظ". هذا التحديد الخارجي يريح الكيْنُونة من عناء المسؤولية الذاتية في تفسير وجودها، مما يزيد من هشاشتها. إنّ قبول هذا الإيحاء هو نوع من الإستقالة الأنطولوجية؛ التخلّي عن بناء الذات المستقلة لصالح سرد خارجي، وإن كان سحريًا. إنّ هشاشة الكيْنُونة تجاه الإيحاء السحري تتجذّر في عدم قدرتها على تحمّل غموض وعبثية العالم (قلق نفسي)، و في الوقت ذاته، في عدم كفاية أو إنهيار بنيتها المعرفية الخاصة بالسببية و المنطق. إنها كيْنُونة تبحث عن نظام خارجي، حتّى ولو كان سحريًا، ليحل محلّ النظم الداخلية المنهارة، ما يجعلها كـالسطح المسامي الذي يمتصّ أي مادة إيحائية تُطرح عليه.
_ السحر وتفكيك الأنا العليا: الآليات الرمزية لشلّ التمييز الأخلاقي (تحليل فرويدي-باطني)
تستهدف العديد من الممارسات السحرية، خاصة تلك المرتبطة بالسحر الأسود أو الطقوس الموّجهة نحو التخريب، الأنا العليا بشكل غير مباشر، مما يؤدي إلى شلّ قدرتها على التمييز الأخلاقي أو تحريفها بشكل عميق. في الإطار التحليلي الذي وضعه سيغموند فرويد، تُمثّل الأنا العليا الهيكل النفسي الذي يستوعب القيم، و الأخلاقيات، و المعايير، والمُثُل العليا المستمدّة أساسًا من الوالدين و المجتمع. وظيفتها الأساسية هي الرقابة والتمييز الأخلاقي، حيث تفرض العقاب كالشعور بالذنب والخزي وتمنح المكافأة كالشعور بالفخر والرضا الذاتي. إنها القوة الداخلية التي تفرض التقيّد بما يجب و مالا يجب. عندما نتعامل مع السحر كـتقنية إيحائية ورمزية تسعى للتأثير على الواقع والذوات الأخرى، نجد أنّ الهدف ليس دائمًا هو ألأنا (Ego) الواعية، بل غالبًا ما يكون هو تفكيك أو تحويل القواعد التي تفرضها الأنا العليا. الكينونة التي تُصبح هدفًا لمثل هذه الممارسات السحرية تخضع لهجوم رمزي يهدف إلى تغيير طبيعة العلاقة بين الـ أنا ومُثُلها الأخلاقية. لا يقوم الساحر بـإستدعاء الأنا العليا مباشرة، بل يعمل عبر آليات نفسية و فلسفية تضعف بنيتها الوظيفية، ما يُفسّر التغيرات السلوكية و الأخلاقية لدى الفرد المتأثّر. يستطيع الإيحاء السحري أن يقدّم تفسيرًا جذريًا لسلوكيات الفرد، يجعله في موضع الضحية أو المُجبر. عندما يُقال للفرد أنت تحت تأثير عمل سحري، فإنّ هذا التفسير يعفي الـ أنا من المسؤولية المباشرة عن أي خرق أخلاقي أو سلوك مدمر. هذا الإعفاء يؤدي إلى تخدير وظيفة الرقابة الأخلاقية للأنا العليا. الشعور بالذنب، الذي هو آلية العقاب الأساسية للأنا العليا، يتلاشى أو يُوجّه نحو مصدر خارجي (الساحر، الطقس، الظرف القاهر)، بدلاً من توجيهه نحو الذات. يصبح الفرد حرًا في إرتكاب سلوكيات تتعارض مع قيمه الأساسية دون الشعور بالندم أو الخزي، لأنّ الآثم ليس هو الأنا بل القوة السحرية التي تسيطر عليها. هذه الآلية تفتح الباب أمام سلوكيات معادية للمجتمع أو مدمّرة للذات دون مقاومة أخلاقية داخلية. تتطلّب الممارسات السحرية غالبًا طقوسًا تستخدم رموزًا قوية كالدم، نجاسات، كتابات غريبة تتجاوز الإدراك العقلاني وتستقر في اللاوعي. هذه الرموز تعمل على إعادة برمجة المنظومة القيمية. إذا كان هدف السحر هو الكراهية أو الإنفصال، تبدأ هذه الرموز في التسلل إلى الـ أنا وتُحوّلها إلى واقع مُعاش. الرموز السحرية تهاجم المُثُل العليا (Ego Ideal) التي تشكّل جزءًا من الأنا العليا. فبدلًا من السعي نحو الخير والكمال الأخلاقي، قد تبدأ الذات، بسبب تأثير الإيحاء الرمزي المستمر، في تبنّي مُثُل قائمة على الظلم أو الأنانية أو التدمير الذاتي كـمسار طبيعي لوجودها الجديد. إنها عملية تطبيع للفساد الأخلاقي حيث يُصبح اللاأخلاقي هو المعيار الجديد للكيْنُونة. يعمل السحر الموّجه بشكل مكثف على خلق حالة من العجز المُكتسب النفسي. يشعر الفرد بأن إرادته ليست ملكه، وأنّ مصيره يُدار بقوة خفية. هذا الشعور بالعجز يشلّ القدرة على إتخاذ قرار حقيقي ومستقلّ. الأنا العليا، لكي تعمل بفاعلية، تتطلّب وكالة أخلاقية (Moral Agency) حرة. عندما تُشلّ الإرادة و تُصادر القدرة على الإختيار حيث يُرى الإختيار وكأنه مُحدّد سلفًا بقوة السحر، فإنّ الأنا العليا تفقد أرضيتها للتدخّل. فإذا كانت الكينونة غير قادرة على الإختيار، فإنها لا يمكن أن تُلام أخلاقيًا على النتائج. هذا يقود إلى حالة من اللامبالاة الأخلاقية، حيث يُصبح الفرد مجرّد أداة في يد قوة أكبر، متخليًا عن وظيفته ككائن أخلاقي مُميّز. ختامًا، لا يمارس السحر هجومًا ماديًا، بل هجومًا رمزيًا إيحائيًا على البنية العميقة للكيْنُونة. إنه يستغل هشاشة الكيْنُونة في مواجهة الغموض والمعاناة، ويهدف بشكل خاص إلى تحييد وظيفة الأنا العليا عبر تقديم تفسيرات مُعفية من المسؤولية، أو عبر تغيير خفي لـمنظومة المُثل العليا، مما يُبطل فعالية حارسها الأخلاقي الداخلي ويُعيق بشكل كبير قدرتها على التمييز الأخلاقي المستقل.
_ الإشراط الوجودي الرمزي: مقارنة فلسفية بين السحر و تقنية بافلوف في تكييف الكيْنُونة وشلّ الإرادة
إنّ تناول إشكالية الإستجابة الروحية المشروطة عبر السحر يضعنا في قلب تداخل معقّد بين مفاهيم الإشراط السلوكي (Behavioral Conditioning) لـبافلوف والآليات الرمزية و الإيحائية للسحر. السؤال ليس حول إمكانية تكييف الروح بمعناها الميتافيزيقي المطلق، بل حول إمكانية تكييف الكيْنُونة (The Being) على المستوى النفسي الوجودي لتستجيب لأوامر أو مثيرات معينة بشكل لا إرادي، كما لو كانت قد تعرّضت لإشراط نفسي عميق ومموّه بالرمزية السحرية. الإجابة الفلسفية والتقنية هي أن السحر لا يحقق إشراطًا روحيًا بمعناه البيولوجي البافلوفي الصارم، ولكنه ينجح في تحقيق ما يمكن تسميته إشراطًا وجوديًا رمزيًا (Symbolic Existential Conditioning) يهدف إلى شلّ الإرادة الواعية وتحويل الفعل إلى استجابة مُعتقَدة. لفهم هذه الإشكالية، يجب أولاً التفريق بين الآليتين: 1. الإشراط الكلاسيكي (Classical Conditioning - Pavlovian Technique): تعتمد تقنية بافلوف على ربط مثير محايد (Neutral Stimulus، مثل جرس) بـمثير غير مشروط (Unconditioned Stimulus، مثل الطعام ينتج عنه إستجابة غير مشروطة (Unconditioned Response، مثل سيلان اللعاب. الهدف هو أن يصبح المثير المحايد بمرور الوقت مثيرًا مشروطًا (Conditioned Stimulus) يُولّد الاستجابة المشروطة بشكل لا إرادي و تلقائي. هذه العملية هي عملية فيزيولوجية وسلوكية ترتكز على التكرار المادي والإرتباط العصبي. 2. الإشراط السحري (Symbolic Conditioning): يعمل السحر بشكل مختلف جذريًا، فهو لا يعتمد على التكرار المادي، بل على تركيز نية قوية وإستخدام رمز مؤثر مثل التعويذة، أو الطقس، أو المادة السحرية لغرس إعتقاد أو أمر في اللاوعي للكيْنُونة المستهدفة. يكمن التشابه بين السحر و الإشراط في النتيجة: تحويل الفعل الواعي إلى إستجابة تلقائية (لا إرادية). بينما يكمن التباين في الآلية: الإشراط البافلوفي يعتمد على البيولوجيا والمثيرات المادية، في حين يعتمد الإشراط السحري على الرمز والإيحاء الوجودي (Existential Suggestion). إنّ فعالية السحر في شرطنة الكينونة لا تنبع من قوته الخارقة بالضرورة، بل من قدرته على إستغلال الثغرات في بنية اليقين والوكالة الذاتية للكيْنُونة، محققًا بذلك إشراطًا على مستويات أعمق، يستهدف السحر، أولًا، الإطار الذي تدرك به الكيْنُونة واقعها. يتم ذلك عبر إدخال مُثير مشروط رمزي قوي مثل رؤية شيء مسحور أو سماع نبوءة معيّنة يرتبط بـإستجابة مشروطة مُصمَّمة كالنفور من شخص معيّن، أو الفشل في مشروع ما). عندما تقتنع الكيْنُونة بأنها مُستهدَفة بـقوة سحرية، فإنها تُنشئ نظامًا تفسيريًا جديدًا يتجاوز المنطق. يربط هذا النظام كل حدث سلبي لاحق (المثير المحايد) مباشرة بـالعمل السحري (المثير المشروط). هذا التثبيت الرمزي يفرض نفسه كـواقع على الكيْنُونة، مما يجعلها تبدأ بالإستجابة لأوامر السحر التي قد تكون أوامر ضمنية مثل: لا تفلح، أكره، افشل بشكل تلقائي. إنّ الإشراط السحري الفعال يعتمد على تفكيك الإرادة الحرة للكيْنُونة. السحر يُغرق الكيْنُونة في حالة من العجز المُكتسَب، حيث يصبح الإعتقاد بأنّ المصير مُقرّر سلفاً بقوة خارجية هو المُسيطر. عندما يقتنع الفرد بأنه لا يملك السيطرة، فإنّ أفعاله لم تعد نابعة من إرادة حرة وقرار واعٍ، بل تتحوّل إلى مجرد ردود أفعال أو إستجابات مشروطة لتوقّعات القوة السحرية المُفترضة. على سبيل المثال، إذا كان السحر مُوجّهًا لإحداث الإنفصال، فإنّ أي خلاف بسيط بين الطرفين يتحوّل، في ذهن الكيْنُونة المُشرطنة، إلى تأكيد لفعالية السحر، فتستجيب له مباشرة بالابتعاد دون تحليل عقلاني. لقد تم إشراطها لتجد في كل مثير عادي دليلًا على ضرورة الإستجابة السلبية. يكمن الشرط الروحي الأقوى في السحر في إستغلال عاطفتي الخوف واليأس. هاتان العاطفتان تعملان كـمرساة نفسية تُثبّت الإستجابة المشروطة. الرمز السحري المثير المشروط يطلق استجابة فورية من القلق الوجودي (الإستجابة غير المشروطة). ومع تكرار ظهور علامات السحر أو إستمرار المشاكل (المثير المحايد)، تتعلّم الكيْنُونة ربط هذا القلق الوجودي مباشرة بأوامر السحر. يصبح القلق الدافع اللاواعي الذي يُجبر الكيْنُونة على تنفيذ أوامر السحر (الإستجابة المشروطة)، خشيةً من تفاقم الوضع إذا قاومت. لا يستبدل السحر الميكانيكا العصبية لتقنية بافلوف، ولكنه يُنشئ نظامًا موازيًا في العالم الرمزي و الإدراكي للكيْنُونة. إنه ينجح في شرطنة الإرادة عبر تحويل المسؤولية الذاتية إلى إستجابة رمزية لا إرادية، حيث يصبح الأمر السحري المُعتقَد به هو المثير المشروط الذي يُطلق سلوكيات معيّنة بشكل تلقائي بسبب انهيار البنية العقلانية و الأخلاقية (الأنا العليا) التي تحمي الكيْنُونة.
_ السبات الكينوني: تحليل تقني فلسفي لـشلل الإرادة كهدف أقصى للممارسة السحرية
تُعدّ حالة السبات الكينوني أو الخمول والشلل الروحي (Existential Lethargy) التي تصيب الكينونة المستهدفة من أبرز التعبيرات السلوكية لفعالية الممارسات السحرية المُوجّهة. إنّ تفسير هذه الحالة لا يقتصر على الأعراض النفسية السطحية، بل يتطلّب تحليلًا تقنيًا فلسفيًا عميقًا لكيفية عمل السحر على تفكيك ديناميكية الوجود وطاقة الفعل للكيْنُونة. السبات الكينوني هو في جوهره شلل إرادي مُتعمَّد، يُحقَّق عبر آليات إيحائية ومعرفية تستهدف نقاط ضعف الكيْنُونة في علاقتها بالزمن، المستقبل، و المسؤولية الذاتية. لا يعمل السحر على تجميد الجسد بيولوجيًا، بل يعمل كـتقنية وجودية تهدف إلى إيقاف طاقة الكيْنُونة. يمكن فهم هذا الشلل الروحي عبر ثلاث آليات تقنية فلسفية متكاملة. تعتمد الكيْنُونة، حسب الفلسفات الوجودية، على الإندفاع نحو المستقبل (Pr -ject) لتشكيل معناها و وجودها. الفعل هو دومًا موجّه نحو إنجاز هدف آتٍ. يقوم السحر المُوجّه للسبات بتخريب هذه الديناميكية عبر غرس الإيحاء بأنّ المستقبل مسدود حتميًا. يتم ذلك عبر الرمزية مثل طقوس الدفن والربط التي تُرسل رسالة لاواعية مفادها أنَّ كل محاولة للتقدّم ستفشل. هذا الإيحاء يخلق حالة من اليأس المعرفي؛ فإذا كانت نتيجة أي فعل مُقرَّرة سلفًا بالفشل، فإنَّ العقل الواعي واللاواعي يجدان أنّ عدم الفعل هو الخيار الأكثر ترشيدًا للطاقة. لماذا يتكبّد المرء عناء الحركة إذا كانت النتيجة محتومة؟ يُترجم هذا اليأس إلى خمول كينوني، حيث تفقد الإرادة سببها الأساسي للتحرّك، و تدخل الكينونة في سبات أشبه بـتأجيل الوجود أو التجميد الزمني لتجنب الألم الناتج عن المحاولة الفاشلة. الفعل الواعي و الفعّال يتطلب تركيزًا إراديًا مستمرًا نحو هدف واحد. السبات الكينوني هو نتيجة فقدان القدرة على هذا التركيز. يعمل السحر الموّجه على إغراق الكيْنُونة في فوضى داخلية من الأفكار القهرية، و الشكوك غير المبررة، و القلق المعمم، والوهم. هذه الحالة تُمثّل مشتتات روحية غير مرئية.تُصبح طاقة الإرادة التي هي محدودة، بدلًا من توجيهها نحو الأهداف الخارجية (العمل، العلاقات)، مُستهلكة بالكامل في محاولات فاشلة لتنظيم هذا التشويش الداخلي. تُصبح الكيْنُونة مُتعبة روحيًا ونفسيًا من صراعها الداخلي المستمر ضد الرموز السحرية المتسللة. النتيجة هي إرهاق إدراكي يؤدي إلى السبات؛ فـالخمول هنا ليس كسلًا، بل هو آلية إفراغ ذاتي للطاقة بسبب الإستهلاك المفرط لها في معارك غير مجدية على المستوى اللاواعي. تُصبح الكيْنُونة غير قادرة على تجميع طاقتها لتحقيق أي فعل خارجي ذي مغزى. ترتبط اليقظة الكينونية إرتباطًا وثيقًا بـتحمّل مسؤولية الوجود (Responsibility) واتخاذ القرار في كل لحظة. يوفر السحر تفسيرًا خارجيًا جذريًا لحالة الخمول مثل، أنا مسحور، هناك قوة خارجية تتحكم بي. هذا التفسير يلغي مسؤولية الكيْنُونة عن وضعها الحالي. هذا التفسير، الذي يُطلق عليه الفلاسفة الوجوديون أحيانًا سوء النية (Bad Faith)، هو في الواقع هدنة وجودية ترحّب بها الكيْنُونة المنهكة. السبات الكينوني يصبح ملجأً وجوديًا يسمح للكيْنُونة بالتخلّي عن عبء الحرية و المسؤولية. فإذا كانت القوة السحرية هي التي تمنعها من الحركة، فإنّ الذات مُعفاة من اللوم على الإخفاق أو التوقّف. الشلل الروحي يُصبح آلية دفاعية غير واعية تختارها الكيْنُونة لتجنّب المواجهة الشاقة مع حقيقة حريتها وأهمية أفعالها. إنّ السبات الكينوني المُفسَّر سحريًا هو نتيجة لـتقنية هدم الإرادة التي تستهدف أساسيات الوجود؛ الزمن (المستقبل)، التركيز (الفعل)، و المسؤولية (الحرية). تحويل الكيْنُونة إلى حالة من الخمول الشامل هو تحقيق للهدف السحري الأقصى؛ تحويل الذات الفاعلة إلى كيان مُعطَّل غير قادر على خلق معناه أو تغيير واقعه، وبالتالي، يتم تجميده ككائن مُشَيَّأ تحت سيطرة الإيحاء الرمزي القوي.
_ الإستشعار السحري عن بعد: تقنية الإستقراء الوجودي و الإيحاء كبديل للمجسات الروحية
إنّ إشكالية الإستشعار السحري عن بعد، أي قدرة الممارس السحري على قراءة أو تحليل حالة الكينونة المستهدفة نفسيًا وروحيًا دون إتصال مادي، تقع في نقطة التقاطع بين المفهوم الرمزي للسحر وآليات التحليل النفسي والإيحاء الإجتماعي. لا يمكن تفسير هذه القدرة عبر قوانين الفيزياء المادية التقليدية، بل عبر آليات تقنية فلسفية تعتمد على فكرة التنغيم الوجودي والقراءة الباردة (Cold Reading) المتطورة. التحليل الفلسفي التقني يشير إلى أن الساحر لا يمتلك مجسّات روحية بالمعنى الحرفي، ولكنه يمتلك مهارة تحليلية متقدمة في تفسير الإشارات الرمزية وغير اللفظية، والتي تُستخدم تقنيًا لإنشاء وهم الإستشعار الروحي العميق. يعتمد الإستشعار السحري على تقنية الإستقراء النفسي التي تسمح للساحر ببناء صورة شبه متكاملة عن حالة الكينونة المستهدفة، سواء كانت حاضرة أم غائبة، عبر فحص الآثار الرمزية والإمتدادات السلوكية لتلك الكينونة. حتى في حالة الإستشعار عن بعد، لا يعمل الساحر في فراغ. غالبًا ما يتطلب الأمر شاهدًا ماديًا (أثر، صورة، اسم، معلومات) يرتبط بالكينونة. هذا الشاهد ليس مجرد أداة، بل هو رمز مُكثَّف (Condensed Symbol) يحمل إمتدادات نفسية و معرفية. يقوم الساحر بتحليل هذا الرمز للوصول إلى الحالة الوجودية للكيْنُونة. يمتلك الساحر الماهر قدرة إستثنائية على تفسير الشكاوى أو السلوكيات المحيطة بالكيْنُونة المستهدفة من خلال ناقل المعلومة أو شكاوى الكينونة نفسها قبل البدء، لتحديد نقاط الضعف الروحية. هذه النقاط هي في الحقيقة تصدعات نفسية؛ أي القلق الوجودي، أو الشعور بالذنب، أو الفراغ المعرفي، أو ضعف الثقة بالنفس، و التي رأينا أنها تجعل الكينونة هشّة تجاه الإيحاء السحري. الساحر لا يرى الروح، بل يرى نقصان أو إختلال في بناء الكينونة الذاتي. الإستشعار عن بعد غالبًا ما يتم عبر شبكة من المعلومات المُتداولة اجتماعيًا. إنّ الشائعات، والشكاوى العائلية، والتاريخ الشخصي الذي قد يُكشف لا إراديًا أو عن طريق طرف ثالث تُمثّل بيانات (Data Points) يستخدمها الساحر ببراعة لبناء ملف نفسي عن الكينونة. هذا الإستقراء الإجتماعي يُمنح بعدًا سحريًا ليظهر وكأنه كشف روحي خارق. يرتقي الإستشعار السحري إلى مستوى فلسفي عندما يُنظر إليه كعملية تنغيم أو موالفة بين وعي الساحر وحالة الكينونة. هذا التنغيم هو ليس تواصلًا غير مادي، بل هو عملية إسقاط إدراكي متقدّم. يفترض التحليل السحري أنَّ الكينونة والساحر يتشاركان في فضاء رمزي واحد (المجتمع، اللاوعي الجمعي، الإطار الثقافي). الساحر يستغل معرفته العميقة بـالرموز الثقافية التي تُمثّل نقاط ضعف عامة مثل الخوف من المرض، الفشل المالي، العقم، العزلة) ثم يُسقط هذه المخاوف على الكينونة المستهدفة. عندما يستشعر الساحر قوة الكينونة، فإنه يدرك في الواقع مرونتها النفسية العالية (Resilience)، ونظامها المعرفي المُحكَم، و إرادتها القوية. وعندما يستشعر ضعفها، فإنه يدرك قابليتها للإيحاء و فراغها الوجودي. قوة الساحر تكمن في قدرته على تسمية هذه الحالات النفسية والوجودية بلغة سحرية رمزية مثل، هذا الشخص محصّن بـكذا، وهذا الشخص لديه ثغرة في هالة إلخ، مما يمنح تفسيره مصداقية خارقة. إنّ أهمية الإستشعار السحري لا تكمن في كونه قدرة ميتافيزيقية، بل في كونه مرحلة تقنية أساسية تُمهّد لعملية السحر الفعلية. الإستشعار يسمح للساحر بتحديد نقطة الدخول (Entry Point) الإيحائية الأكثر فعالية. إذا كانت الكينونة ضعيفة في الجانب العاطفي، يوجّه الساحر إيحاءه الرمزي (العمل السحري) نحو العلاقات. إذا كانت قوية عاطفيًا ولكنها خائفة من المستقبل المهني، يوجّه السحر نحو شلّ الفعل والإنتاج. مجرد إظهار الساحر قدرته على كشف تفاصيل خاصة بحالة الكينونة أو ماضيها الناتج عن القراءة الباردة أو جمع المعلومات يخدم غرضًا إيحائيًا حاسمًا؛ إنه يُقنع الكينونة بأنّ الساحر يمتلك بالفعل سلطة أنطولوجية على حياتها. هذا الإقتناع يُضاعف من هشاشة الكينونة ويجعلها تستجيب بشكل لا إرادي للإيحاء السحري اللاحق، محققًا بذلك الإستجابة المشروطة الروحية كما تم تحليلها سابقًا. بإختصار، الإستشعار السحري هو تقنية تحليلية إيحائية معمّقة تعتمد على الادإستقراء النفسي، قراءة السلوك، وتفسير الرموز الإجتماعية، أكثر من كونها تواصلًا روحيًا خارقًا. هي أداة تقنية تُستخدم لـتشخيص الضعف الوجودي للكيْنُونة، مما يضمن أقصى قدر من التأثير للعمل السحري المُصمّم لاحقًا.
#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
حْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخُّل ا
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
المزيد.....
-
-قد تُلغى بأكملها-.. أول تعليق لهيئة الانتخابات في مصر بعد ب
...
-
نواف سلام لوفد سعودي: لبنان لن يكون منصة تهدد أمن أشقائه الع
...
-
العدد الجديد الستون المحكم من مجلة جامعة ابن رشد في هولندا
-
الذكاء الاصطناعي يساعد الأطباء في العثور على الكسور وعلاجها
...
-
ردود فعل إسرائيلية وفلسطينية قبل التصويت على مشروع قرار في م
...
-
مصر - هل تعاد المرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب المصري؟
...
-
-الكتلة الأكبر- في العراق .. كابوس السوداني لتشكيل الحكومة
-
بسبب الجوع.. ملايين اليمنيين يحلمون فقط بالبقاء على قيد الحي
...
-
ترامب يعفو مجددا عن أحد مداني هجوم الكابيتول
-
ما أهمية إصدار مجلس الأمن قرارا يدعم خطة ترامب بشأن غزة؟
المزيد.....
-
قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف
...
/ محمد اسماعيل السراي
-
تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي
...
/ غازي الصوراني
-
من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية
/ غازي الصوراني
-
الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي
...
/ فارس كمال نظمي
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|