أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - الخبث خلف الرثاء














المزيد.....

الخبث خلف الرثاء


علي دريوسي

الحوار المتمدن-العدد: 8521 - 2025 / 11 / 9 - 01:13
المحور: الادب والفن
    


ليست كل المقالات الجميلة بريئة، ولا كل النصوص المؤثرة صادقة نقيّة. في الأدب كما في الحياة، هناك نصوص تبرق بوهج الحكمة والحنين والذكاء، لكنها في أعماقها مشوبة بسمٍّ خفي، سمٍّ لا يُسكب في الفكرة بل في النبرة، في تلك الكلمات التي تبتسم وهي تلدغ، وفي ذلك الحنين الذي يشبه شماتة مؤدبة. رائحة الغيرة لا تخطئها الحواس، مهما غلّفها صاحبها بعبارات الرثاء والعاطفة والوفاء.

كثيراً ما يكتب الكتّاب عن أصدقائهم الراحلين، فيرسمونهم بدموع الحنين وألوان الوفاء. لكن أحياناً، خلف هذا الوفاء المعلن، تكمن رغبة دفينة في استعادة الضوء إلى الذات، خوفًا من التلاشي القادم لا محالة، وكأن الكاتب يقول ضمناً: كنتَ عظيماً، لكنني كنت هناك أيضاً، بجانبك، وربما قبلك.
ذلك الرثاء قد يكون مرآة مشروخة يرى فيها الكاتب صورته قبل أن يرى وجه الراحل.

المقال الذي كتبه أحد الكتّاب المسنّين في رثاء صديقه الروائي الراحل "عبد العال" مثال واضح على هذا التداخل بين الوفاء والاستعراض. يقرأه القارئ العادي فيبكي، ويقرأه القارئ المتأمل فيبتسم بأسى، لأنه يسمع في خلفية النص أصواتاً أخرى: رغبة في إثبات الذات، شماتة خفيفة، غيرة مموّهة، وفرحاً دفيناً بأن الآخر غاب أخيراً عن المشهد، نوعاً من الحساب المؤجَّل الذي يُسدّد في لحظة موت الآخر. كأن النص يقول بصوت خفيض: ها قد رحلت، وبقيت أنا لأروي الحكاية على طريقتي.

لا حاجة إلى اقتباسات لتأكيد ذلك؛ فالنص نفسه لا يحتاج إلى تفكيك لغوي بقدر ما يحتاج إلى حسٍّ قارئ يلتقط الدهاء بين الجمل، ويتنصّت على المسكوت عنه. فحين يختار الكاتب كلماته بعناية مبالغٍ فيها، وحين يتحدث عن الراحل أكثر مما يتحدث عن العلاقة به، وحين يتحوّل الرثاء إلى عرضٍ لسيرة الذات أكثر من سيرة الفقيد، نعرف أن النص يكتب شيئاً ويقصد شيئاً آخر.

هذه ليست حالة فردية، بل ظاهرة أوسع في الأدب العربي والعالمي: أن يتحول الرثاء إلى منافسة مؤجلة، وأن تُستعمل المناسبة الحزينة لاستعادة الضوء الشخصي. فالموت، بالنسبة لبعض الكتّاب، ليس إلا فرصة جديدة للحديث عن أنفسهم في مرآة الآخرين. لكن لا ينبغي أن نكون قساة تماماً. فالكاتب، في النهاية، إنسان يكتب بعواطفه كلها ـ بالحب والغيرة، بالحنين وبالخوف من النسيان. وربما لا وعيه هو الذي يقوده إلى هذا الخليط المتناقض.

يقول المثل الألماني: الجميع يطبخ بالماء. وهكذا فلا أحد يصنع المعجزات، لا أحد يصنع كتاباته من ذهبٍ خالص، ولا أحد أنقى من الآخر. والكتّاب، مهما علت مقاماتهم، يطبخون مقالاتهم بالعاطفة والأنانية والغيرة والحنين والبحث المحموم عن الخلود ، وبشيء من الاستعراض أيضاً.

والجميع، في نهاية المطاف، يقبض بالدولار بطريقة أو بأخرى ـ سواء من المؤسسات الثقافية العابرة أو من الجمهور أو من الذات الباحثة عن الاعتراف، من الرغبة في أن يقال: كان هنا، وكتب شيئاً مختلفاً ـ فالكتابة ليست بريئة كما يتوهم القرّاء، بل مزيج من الفن والغرور والانتقام. حتى في لحظات الرثاء، يظل الكاتب يفاوض الحياة على مكانه فيها.

القارئ الذكي يرى الوميض المزدوج في النص: جمال العبارة، وخبث النية. وحده، من يعرف أن النصوص ليست ما تقوله، بل ما تحاول أن تُخفيه. وأن أجمل المقالات قد تكون في جوهرها أكثر لؤماً من المقالات الرديئة. فالأدب، شأنه شأن البشر، يبتسم أحياناً وهو يلدغ.



#علي_دريوسي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تحت قبة الشقلقليعة
- تعليمات الشركة
- في مخبز دريهر
- ماذا لو كنت أنا السبب؟
- مزار فاطمة الألماني
- خارج المتاهة
- طقطقة أطباق
- الخراء اللذيذ
- الجمل
- الحزام الأسود في الهندسة
- رجال الدين والفيدرالية
- الشحادة الفيسبوكية
- بين الكبرياء والتحدي
- حنين الروح
- بين لغتين
- حين خانني الصمت
- شريط ذكريات مفقود
- الإبداع والكفاح
- التوازن
- الرجل الذي أخضع الكبرياء


المزيد.....




- إقبال متزايد على تعلم اللغة التركية بموريتانيا يعكس متانة ال ...
- غزة غراد للجزيرة الوثائقية يفوز بجائزة أفضل فيلم حقوقي
- ترميم أقدم مركب في تاريخ البشرية أمام جمهور المتحف المصري ال ...
- بمشاركة 57 دولة.. بغداد تحتضن مؤتمر وزراء الثقافة في العالم ...
- الموت يغيب الفنان المصري طارق الأمير
- نبأ الجميلي تناقش أطروحة دكتوراة عن أدب سناء الشعلان في جامع ...
- عراقيان يفوزان ضمن أفضل مئة فنان كاريكاتير في العالم
- العربية في اختبار الذكاء الاصطناعي.. من الترجمة العلمية إلى ...
- هل أصبح كريستيانو رونالدو نجم أفلام Fast & Furious؟
- سينتيا صاموئيل.. فنانة لبنانية تعلن خسارتها لدورتها الشهرية ...


المزيد.....

- دراسة تفكيك العوالم الدرامية في ثلاثية نواف يونس / السيد حافظ
- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - الخبث خلف الرثاء