|
تعليمات الشركة
علي دريوسي
الحوار المتمدن-العدد: 8504 - 2025 / 10 / 23 - 02:55
المحور:
الادب والفن
في ألمانيا، حيث يعمل كل شيء بالدقيقة والثانية، وحيث يُقال إن القانون لا ينام حتى في أيام الآحاد، عاش فؤاد مع زوجته وأطفاله في بيت صغير يطل على غابة صامتة.
كانت التدفئة المركزية، العجوز الوفية التي تجاوز عمرها الأربعين، تعمل بصمتٍ مطمئن؛ تهدر قليلًا في الصباح كعجوزٍ تستيقظ على مهل، ثم تُرسل دفئها في الأنابيب كما لو أنها تبعث برسائل شكرٍ عن سنوات الخدمة الطويلة.
لكن قبل شهرين فقط، زاره صديق "خبير" في أمور التدفئة — رجلٌ يحب أن يظهر بمظهر العارف بالأسرار التقنية التي لا يعرفها أحد. قال له بثقة من يعرف كل شيء: "يا فؤاد، هذه المشعات صارت قطعة من التاريخ! يجب أن تُبدّلها فورًا. أنا أساعدك، لا تقلق."
كلمة "أساعدك" كانت مفتاح الكارثة. فكّ فؤاد خمس مشعاتٍ ضخمة بنفسه، ورماها في مكبّ القمامة بضميرٍ مرتاح، منتظرًا مجيء صديقه المنقذ... لكن المنقذ مات فجأة في اليوم التالي. رحل الصديق، وبقي البرد.
كان الشتاء هذا العام قارسًا على غير عادته، والثلج يزور المدينة كل صباحٍ كموظفٍ ألمانيٍّ لا يعرف الإجازات. الشركات الصغيرة التي تقوم بأعمال الصيانة والفك والتركيب كانت كلها مشغولة، لا حاجة لديها لمواعيد إضافية، والبيت بارد كبيتٍ في روايةٍ روسية.
وهكذا لم يبقَ أمام فؤاد إلا أن يتحول هو إلى مهندس تدفئة. جلس أمام الحاسوب، قرأ عن “القدرة الحرارية” و“الانبعاث الحراري لكل متر مربع”، ورسم خططه.
بعد أسبوعٍ من الحسابات، طلب خمسة مشعاتٍ حرارية ضخمة ألمانية الصنع عبر الإنترنت. شعر بالانتصار بعد أن ضغط على زرّ الشراء. لكن ما لم يحسبه هو الوزن: كل مشعٍّ حوالي مئة كيلوغرام، وشركة النقل شعارها: “نحن نضعها أمام البيت فقط”.
بعد أسبوعٍ، ظهرت أمام البيت شاحنة ضخمة بمقطورةٍ طويلة ورافعةٍ تشبه عنق زرافةٍ فولاذية. ترجّل السائق ومرافقه، وهما يضعان قبعتين برتقاليتين كأنهما في مهمةٍ فضائية.
تقدّم السائق، وهو يتفحّص المكان بصرامة الجندي، وسأل ببرودٍ مهنيٍّ وابتسامةٍ نصف ميتة: ـ "أين نضع الحمولة؟"
أجابه فؤاد بحذر: ـ "في الداخل، بالطبع."
ضحك السائق ومرافقه في تناغمٍ كضحكتين مسجّلتين مسبقًا، ضحكةٍ أقرب إلى خللٍ في الماكينة منها إلى الفرح. ثم قال السائق وهو يلتقط أنفاسه: ـ "نحن فقط نُنزلها أمام الرصيف، هذا ما تقول تعليمات الشركة." نطقها كما ينطق القسّ صلاته الأخيرة.
أحسّ فؤاد أن في الجملة نوعًا من العبادة البيروقراطية، لكنه ابتلع غضبه وقال بابتسامةٍ مشروخة: ـ "كما تشاءان."
وفي داخله كان يصرخ: الرصيف!؟ أي شركةٍ هذه التي توصل الدفء حتى الباب ثم تتركك في العراء؟ كل مشعٍّ يزن حوالي مئة كيلوغرام. من سيحملها؟ هو وزوجته؟… مستحيل.
وبينما كان الغضب يغلي في صدره مثل غلاية الشاي، كان يراقب المشعات الثقيلة وهي تُنزل واحدًا تلو الآخر، كلٌّ منها يزن حوالي مئة كيلوغرام. تراكمت خمسة أجسادٍ من الحديد أمام بيته.
ثم لمح السائق الشرفة الواسعة وقال مبتسمًا بخبثٍ لطيف: ـ "يمكننا، فقط من باب الحرص على رضا الزبون، أن نرفعها إلى التيراس في الطابق الأول، بالرافعة طبعًا."
انفرج وجه فؤاد كمن ربح في اليانصيب: ـ "رائع! تفضّلا، سأحضّر لكما قهوة. كيف ترغبانها؟"
وهكذا، ارتفعت المشعات ببطء، معلّقةً بخيوط الرافعة كأنها تماثيل فرعونية تصعد إلى السماء.
حضّرت الزوجة القهوة والبسكويت، ووقفت تراقب حركات الرافعة كمن يراقب مشهدًا من فيلمٍ كوميدي لا يعرف إن كان عليه أن يضحك أو يبكي.
فكّرت لوهلة: "لقد بقيت مشكلة كبيرة، هناك مشعّان طويلان — ثلاثة أمتارٍ لكلٍّ منهما — وثقيلان، يجب أن يصلا إلى الطابق الأعلى."
قالت الزوجة، بابتسامةٍ تجمع بين الدبلوماسية والرجاء: ـ "لو سمحتما، فقط هذان الاثنان إلى شرفة الطابق العلوي… فليس لدينا من يساعدنا، والرافعة معكما."
ابتسم السائق ثانية، هذه المرة بخبثٍ مُعلن: ـ "لكنكما تعرفان أننا… حسب تعليمات الشركة… نضع الحمولة أمام الرصيف فقط. مع ذلك، سأرفعهما للأعلى."
رفعهما بصمتٍ مهيب، ثم وقف يشرب القهوة مع مرافقه كمن أنهى عملًا بطوليًّا صغيرًا.
شكرهما فؤاد بحرارة، وتبادلوا حديثًا عن الغلاء والبرد والحياة وتكاليف التدفئة. وفي كل مرةٍ كان السائق يعيد نفس الجملة وكأنها تعويذة رسمية: ـ "تعليمات الشركة تقول… الرصيف فقط."
ابتسم فؤاد في داخله، فقد صار يحفظ النص عن ظهر قلب، لكنه بدأ يفهم ما وراء السطور: الرجل يريد شيئًا… مكافأةً صغيرة ربما، خمسين يورو مثلاً. لقد تجاوز تعليمات الشركة من أجل إرضاء الزبون! لكن من قال له أن يخلَّ بالتعليمات؟ وفؤاد كان قد دفع أكثر من ألفي يورو ثمنًا لتلك المشعات، مع خدمة التوصيل "حتى باب البيت". فأيّ بابٍ هذا الذي يقع عند الرصيف؟!
ثم قطع السائق سلسلة الأفكار الكافكاوية فجأة، وهو يقلب فنجانه بين يديه: ـ "أنت دكتور، أليس كذلك؟ يبدو أنك تكسب جيدًا!" قالها بابتسامةٍ ضيقةٍ تقطر خبثًا مهذبًا.
ارتبك فؤاد. ابتسم دفاعًا عن نفسه وقال بخفوت: ـ "أجل، لكن الضرائب كما تعلم تلتهم كل شيء."
ضحك السائق بخفة وقال: ـ "آه، الضرائب… مثل تعليمات الشركة، لا أحد يهرب منها."
ضحكت الزوجة بخجل، ثم تدخلت تسأل ببراءةٍ قاتلة: ـ "بالمناسبة، ما فائدة الرافعة إن كان لا يجوز إنزال الحمولة إلا على الرصيف؟"
ساد صمتٌ ثقيل.
نظر السائق إلى فؤاد نظرةً عميقة، نظرةَ رجلٍ أدرك أن المكافأة قد تبخرت رسميًا. ارتشف آخر رشفةٍ من قهوته، شدّ قبعته البرتقالية، وقال بصوتٍ خالٍ من الودّ: ـ "تعليمات الشركة، سيدتي." ثم غادرا.
وقف فؤاد عند الباب يتنفّس الصعداء، وقال لزوجته بصوتٍ خافت: ـ "أشعر بالخجل لأنني لم أعطِهما شيئًا… لكن كان عليهما أن يقولا بوضوح إنهما يريدان مالًا مقابل هذه الخدمة التي لا تسمح بها الشركة. لو طلبا مني، لدفعتُ دون تردّد. أخبريني، من فضلكِ، هل ترينني بخيلًا أم عادلًا؟"
#علي_دريوسي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في مخبز دريهر
-
ماذا لو كنت أنا السبب؟
-
مزار فاطمة الألماني
-
خارج المتاهة
-
طقطقة أطباق
-
الخراء اللذيذ
-
الجمل
-
الحزام الأسود في الهندسة
-
رجال الدين والفيدرالية
-
الشحادة الفيسبوكية
-
بين الكبرياء والتحدي
-
حنين الروح
-
بين لغتين
-
حين خانني الصمت
-
شريط ذكريات مفقود
-
الإبداع والكفاح
-
التوازن
-
الرجل الذي أخضع الكبرياء
-
حديقة التفاهم
-
الرواية الأولى
المزيد.....
-
فيديو.. مريضة تعزف الموسيقى أثناء خضوعها لجراحة في الدماغ
-
بيت المدى يستذكر الشاعر القتيل محمود البريكان
-
-سرقتُ منهم كل أسرارهم-.. كتاب يكشف خفايا 20 مخرجاً عالمياً
...
-
الرئيس يستقبل رئيس مكتب الممثلية الكندية لدى فلسطين
-
كتاب -عربية القرآن-: منهج جديد لتعليم اللغة العربية عبر النص
...
-
حين تثور السينما.. السياسة العربية بعدسة 4 مخرجين
-
إبراهيم نصر الله يفوز بجائزة نيستاد العالمية للأدب
-
وفاة الممثل المغربي عبد القادر مطاع عن سن ناهزت 85 سنة
-
الرئيس الإسرائيلي لنائب ترامب: يجب أن نقدم الأمل للمنطقة ولإ
...
-
إسبانيا تصدر طابعًا بريديًا تكريمًا لأول مصارع ثيران عربي في
...
المزيد.....
-
المرجان في سلة خوص كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
بيبي أمّ الجواريب الطويلة
/ استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
-
قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي
/ كارين بوي
-
ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا
/ د. خالد زغريت
-
الممالك السبع
/ محمد عبد المرضي منصور
-
الذين لا يحتفلون كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
فرس تتعثر بظلال الغيوم
/ د. خالد زغريت
المزيد.....
|