أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - في مخبز دريهر














المزيد.....

في مخبز دريهر


علي دريوسي

الحوار المتمدن-العدد: 8500 - 2025 / 10 / 19 - 16:19
المحور: الادب والفن
    


منذ سنوات، كان يكرر الطقس نفسه كل صباح تقريبًا.
يوقظ أولاده، يلبسهم على عجل، ثم يقود السيارة نحو روضة الأطفال. كانت الرحلة قصيرة لكنها مثقلة برتابة الأيام، كأنها فقرة يومية لا يُستغنى عنها ولا تُحب حقًا. بعد أن يُنزل الصغار عند البوابة، يتجه مباشرة إلى المركز الطبي القريب، حيث يقع مخبز دريهر الصغير، برائحته التي تعبق بالزبدة والقرفة والسكر المحروق.
هناك، كان يشتري ما يُرضي أذواقهم الصغيرة: عقديةً مملحة، أو ضفيرة زبيب، أو كرواسان بالزبدة، أو حلزون الجوز. يعرف ما يحب كل واحد منهم كما يعرف ملامح الصباح في وجه المدينة. ثم يختار لنفسه خبزًا بسيطًا يفطر به لاحقًا في مكتبه بالجامعة.

لكن مع مرور الأيام، بدأ يلاحظ أن شيئًا ما تغيّر في المخبوزات. لم تعد تلك الضفائر الطرية كما كانت، ولا الزبدة تعبق كما اعتاد أن يشمّها من بعيد. في بعض الأيام، كان يلمسها فيعرف من قسوتها أنها خُبزت بالأمس، وربما قبله. ومع ذلك، كانت تُباع بالسعر نفسه دون أي تخفيض، كأن في الأمر خدعة صغيرة، أو استهانة بذاكرة الزبون وطزاجة الطحين. أمرٌ لا يليق عادةً بكرامة وسمعة صاحب المخبز، ولا باحترامه لزبائنه. فكل زبون يتوقع الحصول على منتجات المخبز بأفضل جودة وطزاجة عند الشراء، رغم أن أحد أكبر التحديات التي تواجه المخابز لا يتعلق بصناعة الخبز والمعجنات بحد ذاتها، بل بكيفية التعامل مع كميات المخبوزات المتبقية — والتي تُقدَّر بحوالي مليوني طن سنويًا — والتخلص منها.

كان في البداية يتغاضى عن المخبوزات البائتة. يأخذ ما اشتراه دون اعتراض، غير قادر على إثبات أن الطعم الذي شعر به ليس من نسج خياله. ثم، شيئًا فشيئًا، صار يعيد ما يشتريه دون أن يطلب تعويضًا، مكتفيًا بالإشارة المهذبة إلى أن «المخبوز لم يكن طازجًا كما ينبغي». بعض البائعات كنّ يعتذرن بلطف ويعدن له النقود، وبعضهن كنّ يكتفين بالصمت البارد الذي لا يردّ الكرامة ولا يعيد الطراوة إلى الخبز.

في ذلك الصباح، عاد إلى المخبز متجهّمًا. وضع على الطاولة كيسًا صغيرًا فيه ضفيرة زبيب وقال للبائعة بهدوء شديد:
"أرجو أن تخبري صاحب المخبز أنني أود التحدث إليه بخصوص جودة منتجاته. ابني رفض هذه الضفيرة، قال إنها غير طازجة، ورائحتها غريبة. لن أطلب استرداد ثمنها، لكني أتركها هنا. تفضلي، اقطعي منها قطعة وتذوقيها بنفسك، وقرّري إن كانت تصلح للبيع".

لم يكد ينهي كلماته حتى اندفعت شابة كانت تقف خلفه، وقالت بصوتٍ حاد:
"إذا لم تكن راضيًا عن المخبز، فغيّره! لا أحد يُجبرك على الشراء من هنا"!

التفت إليها ببطء، وقال بنبرةٍ جافة:
"أنا لم أتحدث إليكِ، ولا اشتريت منك شيئًا، فكوني من فضلكِ خارج النقاش".

لكنها لم تصمت. رفعت صوتها أكثر، وأمرته بمغادرة المكان، مهددة بالاتصال بالشرطة إن لم يفعل فورًا.

في تلك اللحظة، اشتعل الغضب في عينيه، وقال لها من بين أسنانه:
"أنتِ واحدة بترونة"!

خرج غاضبًا، وركب سيارته محاولًا كبح توتره، لكنه لمحها من المرآة وهي تلتقط صورة لرقم سيارته. وبعد دقائق معدودة، كانت سيارة الشرطة تتوقف أمام المخبز.

اقترب منه الضابط، وقدّم نفسه باسم السيد بيتز، ثم قال بلهجة رسمية:
"السيد المحترم، أنت ممنوع من دخول هذا المحل. السيدة تقدمت بشكوى تفيد بأنك أهنْتها بكلمة نابية".

لم يُجادل. اكتفى بالصمت، وشعر أن شيئًا صغيرًا في داخله قد انكسر، ليس لأن الأمر كبير، بل لأنه سخيف ومهين في آن.

في المساء، قصد محاميه وأخبره بما حدث. وعده الأخير بطلب ملف الدعوى من الشرطة، لدراسة القضية وتقديم توضيح رسمي حول الحادثة.

مرت أسابيع ثلاثة، حتى وصل إلى مكتبه في الجامعة ظرف مختوم من المدعي العام.

فتح الرسالة وقرأ:

السيد البروفيسور المحترم،
بخصوص الإجراءات المذكورة أعلاه، تم اتخاذ القرار التالي:
لن تُتابع الشكوى المتعلقة بالإهانة المدّعى بها، نظرًا لعدم وجود مصلحة عامة في متابعتها، وذلك وفق المادتين 374 و376 من قانون أصول المحاكمات الجنائية.
يحق لمقدّمة الشكوى رفع دعوى خاصة إن رغبت بذلك.
مع خالص التحيات،
المدعي العام

أعاد الرسالة إلى الظرف، وضعها على مكتبه، ثم جلس أمام النافذة.
في الخارج، كانت السماء رمادية كعادتها في الصباحات الباردة، وتحتها شارع طويل تقف على زاويته لافتة صغيرة كُتب عليها بخطٍ ذهبي أنيق: مخبز دريهر.
ابتسم بخفة، ثم قال لنفسه وهو ينظر إلى الشارع:
"ربما آن الأوان لأبحث عن مخبزٍ آخر".



#علي_دريوسي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ماذا لو كنت أنا السبب؟
- مزار فاطمة الألماني
- خارج المتاهة
- طقطقة أطباق
- الخراء اللذيذ
- الجمل
- الحزام الأسود في الهندسة
- رجال الدين والفيدرالية
- الشحادة الفيسبوكية
- بين الكبرياء والتحدي
- حنين الروح
- بين لغتين
- حين خانني الصمت
- شريط ذكريات مفقود
- الإبداع والكفاح
- التوازن
- الرجل الذي أخضع الكبرياء
- حديقة التفاهم
- الرواية الأولى
- الطفل الذي لم تحتضنه قريته


المزيد.....




- رئيس البرلمان العربي يطالب بحشد دولي لإعمار غزة وترجمة الاعت ...
- عجائب القمر.. فيلم علمي مدهش وممتع من الجزيرة الوثائقية
- كيف قلب جيل زد الإيطالي الطاولة على الاستشراق الجديد؟
- نادر صدقة.. أسير سامري يفضح ازدواجية الرواية الإسرائيلية
- صبحة الراشدي: سوربون الروح العربية
- اللحظة التي تغير كل شيء
- أبرزها قانون النفط والغاز ومراعاة التمثيل: ماذا يريد الكورد ...
- -أنجز حرٌّ ما وعد-.. العهد في وجدان العربي القديم بين ميثاق ...
- إلغاء مهرجان الأفلام اليهودية في السويد بعد رفض دور العرض اس ...
- بعد فوزه بجائزتين مرموقتين.. فيلم -صوت هند رجب- مرشح للفوز ب ...


المزيد.....

- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور
- الذين لا يحتفلون كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت
- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - في مخبز دريهر