أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محفوظ بجاوي - التراث المعماري الأمازيغي بين جذور شمال إفريقيا وإشعاع الأندلس














المزيد.....

التراث المعماري الأمازيغي بين جذور شمال إفريقيا وإشعاع الأندلس


محفوظ بجاوي

الحوار المتمدن-العدد: 8520 - 2025 / 11 / 8 - 09:30
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


حين نتأمل تضاريس شمال إفريقيا الممتدة من ليبيا شرقًا إلى جزر الكناري غربًا، ومن سواحل المتوسط شمالًا إلى واحات أزواد وبلدان الساحل الإفريقي جنوبًا، ندرك أن هذه الأرض لم تكن يومًا ساكنة. إنها فضاء حيّ تشكّل عبر آلاف السنين، وصاغت أيادي الأمازيغ فيه تراثًا معماريًا فريدًا يجمع بين البساطة والجمال، وبين التكيّف مع البيئة والعمق الرمزي للهوية. لقد ترك الأمازيغ بصمتهم على الحجر والطين، وبنوا بيوتهم وقصورهم وفق فلسفة تعكس علاقتهم بالأرض والإنسان والمقدّس. ومع الغزو العربي الإسلامي، لم تذب هذه الخصوصية، بل امتزجت بالعمارة الإسلامية لتنتج مدرسة فنية مزدهرة وصلت أصداؤها إلى الأندلس، فغدت جزءًا من التراث المتوسطي والإنساني المشترك.
في الجزائر وتونس والمغرب، وهي القلب النابض للأمازيغية عبر التاريخ، تتراءى ملامح هذا الفن في كل زاوية من القرى والجبال والوديان. من الأوراس والقبائل ومزاب في الجزائر، إلى جبال نفوسة ومطماطة وتطاوين في تونس، إلى الأطلس الكبير وسوس وورزازات ومراكش في المغرب، نجد نفس الروح المعمارية التي توحّد الإنسان بالأرض. في جبال الأطلس والأوراس شيّد الأمازيغ بيوتًا حجرية تتماهى مع تضاريس الجبال كأنها جزء منها، تُقام على شكل مدرّجات تحفظ التربة وتصدّ الرياح والثلوج. أما في الجنوب الجزائري والمغربي والتونسي، فقد أبدعوا في بناء القصور والقصبات من الطين المدكوك، تتوسطها أبراج مراقبة وساحات تخزين، في نظام هندسي دقيق يضمن المناخ الداخلي المعتدل ويجسّد روح التعاون بين الأسر والعائلات. من قصر تيميمون إلى غرداية، ومن مطماطة إلى دوز، ومن ورزازات إلى آيت بن حدو، يتكرّر النمط ذاته الذي يعكس عبقرية الإنسان الأمازيغي في التكيّف مع أقسى البيئات وتحويل القسوة إلى جمال.
هذه العمارة ليست عشوائية، بل تعبّر عن وعي اجتماعي وثقافي عميق، حيث يتجسّد مفهوم “الدوّار” أو “إغرم” كرمز للتكافل والتضامن: البيوت متقاربة، الجدران مشتركة، والأسوار تحمي الجميع. إنها وحدة المكان والوجدان التي جعلت من كل قرية أمازيغية كيانًا متماسكًا يجمع بين الأمن والجمال والهوية.
ولا ينفصل الجمال في العمارة الأمازيغية عن المعنى؛ فكل زخرفة أو نقش يحمل دلالته الرمزية. الرموز الهندسية كالمثلثات والمعيّنات والنجوم والخطوط المتموّجة ليست زينة فحسب، بل لغة بصرية تعبّر عن مفاهيم الخصب والتوازن والحماية من الشرّ. حتى توزيع الفضاء داخل البيوت يخضع لفلسفة دقيقة تقوم على التوازن بين الخاص والعام، وبين الأنثوي والذكري، وبين المقدّس واليومي، في انسجام يعكس رؤية الإنسان الأمازيغي للعالم بوصفه دائرة تكتمل بالعلاقة بين الأرض والسماء.
وحين انتقل الأمازيغ إلى الأندلس مع الفتح الإسلامي، لم تهاجر الجيوش وحدها، بل رافقتها الخبرة الفنية والمعمارية. ساهم الأمازيغ في تأسيس المدن الأندلسية الكبرى كقرطبة وإشبيلية وغرناطة، وتركوا بصمتهم في القناطر والحمّامات والساحات والقصور. العمارة الأندلسية التي نراها اليوم في قصر الحمراء أو مدينة الزهراء ليست عربية خالصة ولا أمازيغية خالصة، بل مزيج حضاري راقٍ يجسّد التفاعل بين الذوق الأمازيغي والبصمة الإسلامية المشرقية. حتى في الزخارف الجصّية والخشبية يتجلّى الحسّ الأمازيغي في النزوع إلى التماثل الهندسي والبناء العمودي المتوازن والاهتمام بالتفاصيل الدقيقة التي تحوّل الجدار إلى لوحة فنية تنبض بالحياة.
تكمن عبقرية الأمازيغ في قدرتهم على جعل البساطة مصدر جمال ودوام. فمواد البناء مأخوذة من الطبيعة: الطين، الحجر، الخشب، والتبن. ومع ذلك، ظلّت تلك المباني صامدة قرونًا أمام الزمن والمناخ، وكأنها كائن حيّ يتنفس تراب الوطن. إنها فلسفة تقوم على الانسجام مع البيئة لا قهرها، وعلى الاستدامة قبل أن تُعرف الكلمة في الفكر الحديث. في كل جدار طيني ترى أثر اليد البشرية التي تبني لا لتتباهى، بل لتعيش بسلام مع الأرض التي أنجبتها.
لكن هذا التراث، بكل ما يحمله من عمق وجمال، يواجه اليوم خطر الاندثار تحت وطأة العمران الحديث والإهمال المؤسسي. إن الحفاظ عليه ليس ترفًا ثقافيًا، بل مسؤولية حضارية تجاه الذاكرة والهوية. فإعادة الاعتبار للعمارة الأمازيغية لا تعني مجرد ترميم مبانٍ قديمة، بل استلهام فلسفتها في بناء الغد — فلسفة التوازن بين الإنسان والطبيعة، بين الأصالة والابتكار.
العمارة الأمازيغية ليست حجارةً صامتة، بل ذاكرة حيّة لشعب رأى في البناء فعل وجودٍ ووفاء. من جبال الأطلس والقبائل والأوراس إلى واحات الصحراء، ومن قصور الجزائر وتونس والمغرب إلى بيوت الأندلس، ظلّ الأمازيغ يكتبون التاريخ بلغة لا تُمحى — لغة الحجر والضوء، تلك التي تختزن معنى البقاء والكرامة والجمال الذي لا يشيخ.



#محفوظ_بجاوي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الثورة الجزائرية... فكر قبل أن تكون سلاحًا
- بين الجذور والهوية المكتسبة: رحلة الشعوب نحو ذاتها
- من غرس الشجرة إلى إشعال الشاشة: الجزائر تزهر بالثقافة
- الجزائر تزهر من جديد : تحية إلى شعب يغرس الأمل
- الهوية... الحقيقة التي خافوا منها طويلًا حتى أصبح الجزائري غ ...
- ومضة سلام عل ضفتي شمال إفريقيا
- حين استوردنا الحجاب...واستوردنا معه تراجع الوعي
- الجزائر : حضارة الهوية وحماية الذات
- من فضاء للتنوير إلى مسرح للإذلال... مأساة المدرسة الجزائرية
- نوميديا... مملكة الشعب لا مملكة البدو
- لسنا ضد الدين ... بل ضد من يحتكره
- الجزائر بين تلاعب الهويات وخطر التفكيك
- قراءة بسيطة في التاريخ : من ماسينيسا واكسيل إلى نوفمبر المجي ...
- الجزائر ونوميديا : هوية ضاربة في عمق الزمن
- الجزائر... هوية لاتباع ولاتنسى
- هروب الأمل من الوطن : الجزائر بين الجهل وتنويم الشعب
- سليل نوميديا بين المجد والوعي : الجيش والشعب في ميزان التاري ...
- العقل ثورة... والبقية عبيد الأوهام
- الجزائر... حين يختنق المستقبل في حضن الماضي
- اغتيال الهوية الجزائرية: الغزو الفكري الذي تهمله الدولة


المزيد.....




- احتضان العجول الصغيرة في مزرعة أمريكية.. متعة تعزّز الصحة وت ...
- بلغاريا: مقتل ستة أشخاص على الأقل في حادث شاحنة تقلّ مهاجرين ...
- الولايات المتحدة تعفي المجر من العقوبات المفروضة على النفط ا ...
- السودان: فارون من الفاشر يصفون مشاهد قتل المدنيين في الشوارع ...
- فرنسا تدعو رعاياها إلى مغادرة مالي في أسرع وقت
- ما ردود الفعل في إسرائيل بشأن مذكرة توقيف تركية ضد نتانياهو؟ ...
- الحرب في أوكرانيا: استمرار معركة بوكروفسك الاستراتيجية في دو ...
- غزة بعد الحرب: احتفال بتخرج طلاب في جامعة الأقصى بخان يونس
- تونس: ثلاثة من قادة المعارضة ينفذون إضرابا عن الطعام في سجنه ...
- بيونغ يانغ تهدد بـ-إجراءات هجومية- وتندد بمحادثات واشنطن وسو ...


المزيد.....

- كتاب دراسات في التاريخ الاجتماعي للسودان القديم / تاج السر عثمان
- كتّب العقائد فى العصر الأموى / رحيم فرحان صدام
- السيرة النبوية لابن كثير (دراسة نقدية) / رحيم فرحان صدام
- كتاب تاريخ النوبة الاقتصادي - الاجتماعي / تاج السر عثمان
- كتاب الواجبات عند الرواقي شيشرون / زهير الخويلدي
- كتاب لمحات من تاريخ مملكة الفونج الاجتماعي / تاج السر عثمان
- كتاب تاريخ سلطنة دارفور الاجتماعي / تاج السر عثمان
- برنارد شو بين الدعاية الإسلامية والحقائق التاريخية / رحيم فرحان صدام
- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محفوظ بجاوي - التراث المعماري الأمازيغي بين جذور شمال إفريقيا وإشعاع الأندلس