أحمد فاروق عباس
الحوار المتمدن-العدد: 8518 - 2025 / 11 / 6 - 20:51
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يسري حديث بين طوائف من المصريين همسا أحيانا وعاليا في أحيان أخري أن بعض المرشحين أنفق ٢٠ أو ٣٠ مليون أو ٤٠ مليون جنيه ــ وبعض الاراء صعدت بالمبالغ لأعلي من ذلك ــ ثمنا لكرسي البرلمان المصري، سواء كانت تلك المبالغ الكبيرة ستعطي لحزب معين لينزل المرشح علي قائمته، أو مجموع ما انفقه المرشح علي نظام الفردي للدعاية وشراء الولاءات...
وبما أن النقاش السياسي في مصر لا تحده ضوابط، ولا يعرف الصحيح فيه من المبالغات، فليس هناك هيئة رسمية أو مستقلة تقول لنا هل ما يتحدث حوله الناس صحيح أم مبالغات، هي ملاصقة لطبيعة العمل السياسي في كل الدنيا، فليس بمقدور أحد أن يبني رأيا سليما علي فروض أو ظنون...
ولكني ــ برغم ذلك ــ سوف افترض أن ما يتحدث حوله الناس ــ همسا أو بصوت عالي ــ صحيح في مجمله...
أولاً هناك استغراب يصاحبه استهجان من اغلب من يهتم بالسياسة في مصر حول تلك الأموال التي تنثر بلا حساب لشراء كرسي البرلمان... ويمكن تخمين سبب استغراب الناس واستهجانهم في الأسباب الأتية:
١ ــ أن ذكريات المصري العادي وتجربته التاريخية تجعله لا يستسيغ ولا يهضم بسهولة علاقة المال بالسلطة، وقد كان لثورة ٢٣ يوليو ولجمال عبد الناصر تحديدا الدور الابرز في ذلك، فالمبدأ الثالث من مبادئ الثورة يطالب بإنهاء علاقة رأس المال بالسلطة، ومن هنا كانت سياسة جمال عبد الناصر قصقصة ريش الطبقة الحاكمة قبل ١٩٥٢ وانهاء نفوذها..
وكان نفوذ تلك الطبقة قائم في الجزء الأكبر منه ــ باعتبار مصر وقتها دولة زراعية فقط ــ علي ملكية الاراضي الزراعية، ومن هنا كان قانون تحديد الملكية الزراعية الأول.. بعد شهر ونصف فقط من قيام الثورة... يوم ٩ سبتمبر ١٩٢٥ وما تبعه من قوانين اخري لتحديد الملكية، وانهاء نفوذ ملاك الارض في ريف مصر علي السياسة والاقتصاد المصري...
وكان الجزء الباقي من نفوذ الطبقة الحاكمة القديمة قائم علي امتلاك رؤوس الأموال المودع أغلبها في البنوك أو في بعض الشركات القليلة في الصناعة والعقارات، وقد تكفلت قوانين يوليو الاشتراكية عام ١٩٦١ بتأميم الجزء الأكبر من رؤوس الاموال تلك... وبذلك انتهي تماما أي دور لأصحاب رؤوس الاموال ــ في الزراعة او الصناعة او رأس المال العقاري ــ علي السياسة المصرية...
ومنذ ذلك الحين ابتعد من ذاكرة المصري العادي أي تدخل لرأس المال في السياسة، وعندما اقترب رأس المال من لعب دور سياسي مؤثر في العشر سنوات الاخيرة من عصر حسني مبارك كان تذمر الشعب واضحا وصوته مسموعا... وتطلب الأمر ثورة في ٢٠١١ لإنهاء هذا الوضع...
٢ ــ يتساءل الناس: ما هو المقابل الذي سيأخذه عضو البرلمان مقابل انفاقه كل هذه الملايين، هل يستحق كرسي البرلمان هذه الاموال الطائلة ؟!
وتتفرع أراء الناس في الجو السياسي المصري إلي مذاهب عدة.. فهناك من يقول ان ذلك ثمن الحصانة، ووراء الحصانة يستطيع نائب البرلمان أن يفعل ما يشاء، وهناك من يقول أن اعتبارات الوجاهة الاجتماعية لكبار الاثرياء لا تجعل هذه المبالغ الكبيرة عند الطبقات المتوسطة والدنيا شيئا كبيرا جدا عند تلك الطبقة الرأسمالية، كما أن الاعتبارات العصبية والقبلية عند البعض تجعل انفاق مبالغ كبيرة للحصول علي حيثية كبيرة كعضوية البرلمان ثمنا يمكن المخاطرة بقبوله...
وفي النهاية فإن هناك عدم راحة يمكن قياسه ازاء دخول رؤوس الأموال في السياسة كما ظهرت في انتخابات البرلمان التي ستجري بعد أيام...
ولكن...
لكن اذا نظرنا للأمر من زاوية اخري يمكننا أن نقدم أسئلة وملاحظات تعبر عن طريقة أخري في التفكير والنظر الي الامور...
ومن هنا نتساءل.. أليس من حق الطبقة الرأسمالية في مصر أن تدخل الانتخابات كغيرها من الطبقات في الهيئة الاجتماعية في مصر، وان يكون لها رأيها في قوانين وسياسة بلدها؟!
لماذا يعطي الحق للعمال والفلاحين والمثقفين والطبقة الوسطي للترشح للبرلمان وتحرم منه الطبقة الرأسمالية؟!
ولنسأل سؤالا أكثر عمقا... ما هي الديموقراطية بالضبط؟!
اليست الديموقراطية كما يعرفها العالم المتمدين هي اختلاف المراكز السياسية والاقتصادية للمتنافسين؟!
أليست الديموقراطية تنافس علي السلطة السياسية بواسطة طبقات اجتماعية لكل منها طليعتها المعبرة عنها وعن مصالحها، وأن ذلك هو صلب ما توصلت اليه التجربة التاريخية في العالم المتقدم من حل وتسوية الخلافات والنزاعات بين الطبقات صورة منظمة وسلمية بدلا من الصدامات العسكرية والحرب الأهلية...
ولماذا فشلت وتفشل دوما اي ممارسة للديموقراطية في النظم الاشتراكية والماركسية؟!
والجواب ببساطة لأن النظم الاشتراكية والماركسية في سعيها لتحقيق المساواة الكاملة اقتصاديا بين ابناء شعب واحد فإنها تلغي الطبقات الاجتماعية وتجعل من الشعب كله طبقة واحدة، وبذلك فإنها تقضي علي المراكز المتنافسة اجتماعيا واقتصاديا وهي لب وروح الديموقراطية....
لذلك يظل التنافس السياسي للحصول علي السلطة في النظم الاشتراكية باهتا، لغياب روحه، وهو اختلاف المراكز الاجتماعية والاقتصادية للمتنافسين، ومن هنا كانت السلطة في كل النظم الاشتراكية والماركسية في يد حزب واحد لا يسمح بتداولها او بتمريرها لغيره...
ونرجع الي مصر... برغم اي استغراب او استهجان للناس حول علاقة المال بالسياسة يظل السؤال قائما كيف يمكن ان نصل الي درجة معقولة من الديموقراطية السياسية بدون وجود الطبقة الرأسمالية، وبدون استخدامها لوسيلتها الوحيدة التي تملكها وتفهمها... وهي المال !!
فعلي اي شئ سيتنافس الناس ما داموا كلهم طبقة واحدة ومراكز اجتماعية متساوية؟!
وفي نفس الوقت فإن السماح لأحزاب أو تيارات طائفية أو عنصرية أو دينية بالمنافسة علي السلطة السياسية محظور تتم تجنبه بكل الوسائل في أي ديموقراطية تستحق أسمها، وأي ديموقراطية مستقرة وتريد البقاء...
واذا اخذنا الديموقراطيتين الأقدم والاكبر في عالمنا المعاصر... وهما الديموقراطية الانجليزية... وهي الأقدم عالميا... والديموقراطية الأمريكية.. وهي الأكبر في العالم..
في الديموقراطية الانجليزية يتنافس حزبان، هما الطليعة السياسية لطبقات اجتماعية واقتصادية، وهما حزب العمال، معبرا عن الطبقة العاملة الانجليزية، وحزب المحافظين، وهو حزب الرأسمالية الانجليزية..
وفي الولايات المتحدة هناك ايضا حزبان.. الحزب الديموقراطي، معبرا عن الطبقة الوسطي والطبقة العاملة الامريكية، والحزب الجمهوري وهو حزب الرأسمالية والطبقات المحافظة اجتماعياً في أمريكا...
وليس في بريطانيا ولا في أمريكا احزاب طائفية أو عنصرية أو دينية...
ومن هنا كانت الديموقراطية في الدولتين هي الاكثر استقرارا والاكثر إلهاما عالميا...
وأصبح الحصول علي مقعد في الكونجرس الامريكي ــ مجلس النواب ومجلس الشيوخ ــ يكلف صاحبه مليارات الدولارات، والارقام متاحة بيسر لمن يبحث عنها... ولم تصل الامور في بريطانيا الي هذه الحدود المذهلة وان ظل الحصول علي مقعد في مجلس العموم ــ وهو البرلمان البريطاني ــ يكلف طالبه ملايين الجنيهات الاسترلينية، بينما يقتصر مجلس اللوردات ــ الغرفة الثانية في البرلمان البريطاني ــ علي أصحاب الأسر العريقة والبيوتات الراقية في بريطانيا، وأضيف اليهم الوجوه البارزة في الحياة العامة الانجليزية...
وبرغم كل الملاحظات علي الديموقراطية الانجليزية والامريكية ــ وأغلبها ملاحظات حقيقية وفي جزء كبير منها صحيحة ــ لكن هي التجربة الابرز عالميا لممارسة السياسة في عالمنا المعاصر...
وفي مصر... ما هي أفاق أي تقدم في الديموقراطية لا يأخذ في اعتباره وجوده الطبقة الرأسمالية وتعبيرها سياسيا عن مصالحها في ظل اعتراض الناس علي أي دخول للمال في السياسة؟!
مفهوم طبعا أنه لابد من وجود ضوابط معينة ــ وشديدة ــ تحكم دخول رؤوس الأموال في السياسة، وابرزها وأهمها من وجهه نظري هو عدم السماح مطلقا ــ وبأي صورة ــ بدخول رؤوس الأموال الاجنبية للتأثير في السياسة المصرية، وهي تجربة مريرة عانينا منها بعد ثورة يناير ٢٠١١ وتمثل فصلا حزينا في ممارسة السياسة في مصر....
وجود المال في السياسة طبيعي في أى تنافس علي السلطة، وذلك من طبائع الامور، والسؤال ليس كيف " نمنع " المال من العمل في السياسة... ولكن كيف" نضبط " حركة المال في السياسة...
علي المستوي الشخصي لا أريد لرأس المال دورا مبالغا فيه في السياسة المصرية، ولكن مع ذلك لا أفهم منطق من ينادون ــ الي درجة الصراخ ــ بالديموقراطية في مصر، ومع ذلك لا يريدون أي وجود سياسي لطبقة اجتماعية واقتصادية كاملة هي ــ وهي بالاساس ــ من قامت علي اكتافها الديموقراطية في الغرب... والتي يتمنون صباحا ومساء تقليدها ا!!!
#أحمد_فاروق_عباس (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟