أحمد فاروق عباس
الحوار المتمدن-العدد: 8499 - 2025 / 10 / 18 - 16:13
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لا أنوي الدفاع عن أنور السادات، فالرجل في رحاب ربه منذ حوالي ٤٥ سنة، وهو في مكانه لن يستفيد من مدح ولن يضره ذم... ولكن الأمم الحية تعيد النظر في تاريخها مرة بعد مرة ولا تتوقف أبدا، وإلا أصابها الجمود، ووقفت متكلسة في مجري الزمن...
فالجديد حول نابليون بونابرت ــ وقد مات من قرنين ــ مازال يظهر حتي اليوم، في الكتب التي لا تتوقف عن الظهور عنه في فرنسا، وربما لا يكون فيها أسرار جديدة، بل ــ وهو الأهم ــ أن فيها رؤي جديدة أو تفسيرات أخري لسياسات نابليون وافعاله تختلف ربما عما استقر عليه الرأي...
وكذلك يفعل الانجليز مع الملكة فيكتوريا مثلا، وقد عاشت في القرن ١٩ أو مع ونستون تشرشل وقد عاش في القرن ٢٠ وغيرهما من شخصيات بريطانية مهمة، الكتب والدراسات عنها لا تتوقف، ولا يتوقف معها البحث والدرس ومحاولة الفهم، والقاء أضواء جديدة علي سياسات قديمة، تظهر معها رؤي وتفسيرات جديدة، تفتح امام الأمم فهما أعمق لتاريخها...
ونعود الي انور السادات... وقد تعرض السادات لسوء فهم كبير، ولم تدرس فترة رئاسته بالعمق الكافي أو النزاهة والتجرد المطلوب...
والكلام هنا عن مجمل سياساته طوال فترة حكمه ــ وقد استمرت ١١ سنة ــ مستحيل في مقال أو اثنين أو عشرة، فذلك يحتاج الي دراسات متأنية وكتب متعمقة، ولكني أنوي الحديث عن بعض الاشارات، وعن بعض السياسات التي اختلف الناس في تفسيرها...
وما أنوي الحديث عنه نقطتين بالتحديد:
١ ــ علاقة انور السادات بأمريكا...
٢ ــ علاقة أنور السادات بالقوي السياسية في عصره، وهل صحيح أنه تحالف مع التيار الديني ضد اليسار؟!
وسوف أتناول اليوم علاقة أنور السادات بالولايات المتحدة...
راجت الروايات من تيار اليسار في مصر وفي الدول العربية أن أنور السادات كان صديقا لأمريكا ــ في أهون التعبيرات ــ وأنه كان عميلا لها في أقساها...
فما هي بالضبط علاقة أنور السادات بالولايات المتحدة ؟!
أنور السادات ينتمي الجيل الذي تفتح وعيه السياسي مع الحرب العالمية الثانية، وهي الحرب التي تزعمت أمريكا في نهايتها العالم بلا منافس، بعد تراجع الامبراطوريتين العجوزتين بريطانيا وفرنسا، وهزيمة الدول الفتية التي كانت تنافس علي السيادة العالمية كألمانيا واليابان، وحتي الاتحاد السوفييتي ــ روسيا ــ فقد انكفأ علي نفسه يلملم جراحه العميقة، وقد مات منه في الحرب ٢٠ مليون إنسان، وأضعافهم من الجرحي والمصابين، ودمرت أغلب مدنه ومعها أغلب طاقته الصناعية والزراعية...
وحدها الولايات المتحدة خرجت من الحرب أكثر غني وأكثر قوة وأكثر تصميما علي بدء العصر الامريكي، معتمدة علي وسيلتين أساسيتين، ومجموعة من الوسائل الفرعية..
كانت الوسيلة الأساسية الاولي هي الدولار الأمريكي، وقد اصبح عملة التداول الرئيسية في العالم، يسانده طاقة انتاج هائلة...
وكانت الوسيلة الأساسية الثانية هي القوة العسكرية الأمريكية... حيث تنتشر القواعد العسكرية الأمريكية في اغلب بلدان وبحار ومحيطات العالم...
والي جانب هاتين القوتين الرئيسيتين ــ الدولار والسلاح ــ كانت هناك مجموعة من القوى المساعدة... أهمها سلاح الإعلام والدعاية، وسلاح الحرب النفسية والشائعات، وسلاح التخريب، وسلاح شراء الذمم والنفوس، وهي وسائل برع فيها جهاز جديد انشأته الولايات المتحدة عام ١٩٤٧ قدر له أن يصبح الوحش الذي يخيف العالم كله ويسبب له الرعب، وهو جهاز أو وكالة المخابرات المركزية الأمريكية...
وبواسطة تلك الوسائل المبتكرة في الحركة والفعل سيطرت الولايات المتحدة علي بلاد، وفرضت الاستسلام علي بلاد أخري، ودمرت بلاد ثالثة، وهددت رؤساء بلا حصر، وقتلت كثيرين منهم، واحتلت بلاد، وفرضت نفوذها القاسي علي بلاد أخري... ونظمت انقلابات عسكرية عديدة، ونظمت أيضا ثورات مزيفة...
ولم يكن ذلك قاصرا علي دول العالم الثالث، بل أكثر منه في بلاد العالم الأول.. العالم المتقدم والصناعي والغني !!
فقد احتلت أمريكا اليابان وألمانيا... وهما من أغني بلاد العالم واكثرها تقدما !!
وفرضت الولايات المتحدة نفوذها علي دول بلا حصر... من كندا في شمال العالم الي أستراليا في جنوبه...
ونظمت ثورات للإطاحة بزعماء كبار في دول متقدمة مثلما فعلت مع شارل ديجول في فرنسا...
ونظمت انقلابات عسكرية ذهبت بنظم وأتت بنظم أخري مثلما فعلت في البرتغال...
وزورت الانتخابات في إيطاليا مرارا ... واشترت ولاء زعماء وقادة وسياسيين في أغلب بلاد العالم...
هذا ما فعلته بالعالم المتقدم والصناعي والغني...
أما فعلته بالعالم الثالث فقد تعدي بمراحل حدود الإجرام...
ولم ترحم أمريكا دولة واحدة في العالم الثالث في أي قارة من قاراته...
من كوريا والفلبين وفيتنام في آسيا... إلي الكونغو وغانا ومصر في أفريقيا..
ومن الأرجنتين وشيلي والبرازيل في أمريكا اللاتينية... إلي المكسيك وجواتيمالا وكوبا في أمريكا الوسطي...
وكان أنور السادات ملاصقا لجمال عبد الناصر في قمة جهاز الحكم في مصر طوال عقدين مهمين، وهما عقد الخمسينات وعقد الستينات، وهما العقدين اللذين ظهر فيهما بشاعة الوجه الامريكي..
ففي الخمسينات نظمت الولايات المتحدة انقلابات عسكرية في بلدان متعددة في امريكا اللاتينية وأسيا، وقادت حربا في أسيا ــ الحرب الكورية ــ وأقالت حكومات بلا حصر، من باكستان قلب قارة آسيا الي بيرو في أمريكا الجنوبية.. وقتلت رؤساء دول نامية، وفرضت حصارا رهيبا بالأحلاف والقواعد العسكرية علي روسيا...
وفي الستينات استمرت السياسة الامريكية وزاد فجورها، فقادت حربا همجية ضد فيتنام، ونظمت انقلابات في البرازيل وتركيا واندونيسيا، وازاحت من الحكم رؤساء لهم في بلادهم شعبية كبيرة كنكروما في غانا ولومومبا في الكونغو وأحمد سوكارنو في أندونيسيا، وحاولت قتل فيدل كاسترو في كوبا مرات بلا عدد..
ونظمت ضد شارل ديجول في فرنسا ثورة، قادها الطلاب بوحي من رجال ومفكرين متصلين بالمخابرات الأمريكية، وكان ان تنحي ديجول من حكم فرنسا، وهو الرجل الوحيد في طول اوربا الغربية وعرضها الذي جرؤ علي تحدي الولايات المتحدة...
وأطلقت علي عبد الناصر حربا اقتصادية في منتصف الستينات، وجندت ضده عشرات الجواسيس، كان واحدا منهم شخصية صحفية مهمة، ورتبت قتله وتغيير نظام حكمه بالتحالف مع الاخوان المسلمين عام ١٩٦٥، وعندما فشلت كل تلك الوسائل سلحت اسرائيل حتي الاسنان بأحدث الاسلحة وأكثرها تطورا ــ وبعضه لم يكن متاحا لحلفاءها الكبار في حلف الأطلنطي ــ ودبرت فخا محكما لجمال عبد الناصر في مايو ويونيو ١٩٦٧، وكانت النتيحة ان مات الرجل الكبير حزينا مهموما بعد ثلاث سنوات من تلك الطعنة النجلاء..
وتولي أنور السادات حكم مصر في الثلث الاخير من عام ١٩٧٠ وقد رأي بنفسه ما فعلته الولايات المتحدة بالعالم الثالث وبصديقه الشخصي جمال عبد الناصر... واستخلص دروسه..
وكان قرار أنور السادات أن أمريكا أخطر من أن يتم تحديها، وفي نفس الوقت لا يمكن لأي دولة تحترم نفسها وتحترم تاريخها أن تستسلم لها أو لغيرها...
وهنا كان الطريق الجديد الذي خطه انور السادات وسار عليه كل رؤساء مصر من بعده، وهو الخط نفسه الذي تكلم عنه جمال عبد الناصر في أحاديثه مع ضيوفه من رؤساء الدول في عامه الاخير في الدنيا، والذي اذاعه موقع جمال عبد الناصر علي شبكة الانترنت، والذي تشرف عليه مكتبة الاسكندرية، وابناء الرئيس الراحل...
وخلاصة ذلك الخط السياسي محاولة التعامل مع الولايات المتحدة وليس الصدام معها، وان السياسة مع ذلك الثور الهائج أسلم من الصراع معه، وهي تكلفة لا تطيقها دولة من دول العالم الثالث كمصر، خارجة من عصر الاستعمار من عقدين فقط، وينتظرها بناء نفسها وتنمية اقتصادية واجتماعية طال انتظارها...
لم يكن انور السادات صديقا حقيقيا لأمريكا ــ فضلا عن أن يكون عميلا لها ــ بل كان سياسيا مصريا رأي العالم بعين الحقيقة وليس بعين الوهم، نعم قدم السادات للولايات المتحدة بعض الخدمات، كمساعدتها في حرب الروس في أفغانستان، فقد كان رأيه أن التقارب مع الامريكان في قضايا بعيدة ليس مضرا ، وخصوصا في وقت يبحث فيه عن استرجاع أرضه المحتلة من اسرائيل...
ربما كان الرجل علي خطأ ــ أو علي صواب ــ في تلك السياسة، وليس هنا مجال مناقشة ذلك، فالاختلاف هنا يطول ويتشعب، ولكن هي سياسة تعبر عن فهمه لطبيعة ظروف العالم في عصره، وأسلم الوسائل للتعامل مع قواه الفاعلة، بما يحقق مصلحة مصر أو علي الاقل يمنع عنها الاذي...
وربما لم يلاحظ أحد أن قائمة الدول التي ساعدت أمريكا في حرب أفغانستان تضم الي جانب حلفاء تقليديين لأمريكا كالمملكة السعودية وتركيا وباكستان دولة ليست صديقة للولايات المتحدة كالصين، وهي وقتها ــ كما هي الآن إلي حد أقل ــ دولة شيوعية، تنتمي الي المعسكر المناوئ للسياسة الأمريكية حول العالم !!!
وتشبه علاقة مصر بالولايات المتحدة من بعض الوجوه علاقة الصين بالولايات المتحدة، فكلا الدولتين ــ مصر والصين ــ حكمها رجل عالي الهمة اصطدم مرارا مع الامريكان، وهما جمال عبد الناصر في حالة مصر وماوتسي تونج في حالة الصين، وكلاهما وجد طريقه للتفاهم مع الامريكان في نهاية حكمه...
فماوتسي تونج ابتعد عن الروس بل وناصبهم العداء وتقارب مع الامريكان، وزار ريتشارد نيكسون الصين عام ١٩٧٢ فيما عرف عالميا بالفتح الامريكي للصين..
وتقارب جمال عبد الناصر في سنته الأخيرة مع الامريكان وقبل مبادرة وزير خارجيتهم ويليام روجرز في يوليو ١٩٧٠ وظل يبحث عن وسيلة للتفاهم معهم، وعبر الكاتب الصحفي المقرب منه محمد حسنين هيكل عن ذلك بسياسة تحييد أمريكا...
ولم يقف التشابه بين مصر والصين عند ذلك الحد، فكلا الدولتين تخلت عن درجة من الاشتراكية وفتحت الباب أمام التحول الرأسمالي، في سياسة سميت بنفس الاسم في الدولتين، وفي ظل نظام حكم خليفة جمال عبد الناصر وماوتسي تونج، وهي سياسة الانفتاح الاقتصادي، الذي طبقته مصر عام ١٩٧٤ في ظل رئاسة أنور السادات، وطبقته الصين عام ١٩٧٨ في ظل رئاسة دنج شياو بنج..
ولم يقل أحد أن الصين اصبحت تدور في الفلك الامريكي - كما قالوا عن مصر وعن السادات - أو أن شياو بنج عميل أمريكي .!!!
وعموما أنور السادات هو نفسه الذي حارب اسرائيل وهي الأداة الأمريكية الرئيسية في منطقتنا عام ١٩٧٣، وهو نفسه من وقع مع الروس معاهدة صداقة عام ١٩٧٥...
قد يقول قائل ان الأمريكان أنفسهم اعترفوا في صحافتهم أن السادات كان علي قوائم مرتبات المخابرات الأمريكية، وهي الواقعة التي نشرها محمد حسنين هيكل منسوبة الي بن برادلي رئيس تحرير الواشنطن بوست في النصف الثاني من السبعينات .. عام ١٩٧٧ تقريبا ..
والرد أن من يصدق الأمريكان هنا عليه في نفس الوقت تصديق عميل المخابرات الأمريكية الشهير مايلز كوبلاند أن جمال عبد الناصر عميل لأمريكا هو الاخر، وان ثورة يوليو ١٩٥٢ تدبير امريكي صرف، لكي لا يستولي الشيوعيين أو العناصر اليسارية أو الطليعة الوفدية ــ ذات الاتجاه اليساري ــ علي السلطة في مصر...
وكلام الامريكان في الحالتين ــ حالة بن برادلي وحالة مايلز كوبلاند ــ مجرد هراء، والامريكان واي دولة في العالم لا تفضح رجالها الحقيقيين... بل تحافظ عليهم وعلي سمعتهم..
ولكن التجارب دلت أن من اتهمتهم الولايات المتحدة انهم رجالها كانوا يناوئون بعض سياستها، ربما لم يصلوا الي درجة العداء معها، ولكن كان لديهم درجة من البعد تسمح لهم بعدم الاستماع الي نصائح امريكا أو تهديدها... ومن هنا كان تشويه سمعتهم وصولا حتي الي قتلهم !!!
وهو نفسه أنور السادات الذي غضبت الولايات المتحدة منه وعملت طوال السنتين الاخيرتين من حكمه علي وضع العراقيل أمامه، واعطت الضوء لتنظيم معارضة نشيطة ضده في الداخل..
وفي النهاية قتل الرجل في جريمة اغتيال غامضة، مازالت تفاصيلها الحقيقية غائبة حتي اليوم، ولم يستبعد كثيرين أن تكون الولايات المتحدة وراءها، ففي نفس السنة التي قتل فيها انور السادات في ٦ أكتوبر ١٩٨١ قتلت امريكا اثنين من رؤساء الدول في امريكا اللاتينية !!
قتلت أمريكا كل من جيمى رولدوس رئيس الاكوادور فى ٢٤ مايو ١٩٨١ ، وعمر توريخوس رئيس بنما في ٣١ يوليو ١٩٨١ !!
وهي عادة امريكية قديمة... جديدة...
#أحمد_فاروق_عباس (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟