أحمد فاروق عباس
الحوار المتمدن-العدد: 8507 - 2025 / 10 / 26 - 00:19
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
هناك نظرة رومانسية، وغير حقيقية ولا واقعية تحكم عقول المصريين والعرب الي طبيعة علاقة الدولة في الغرب بمؤسسات العلم ومؤسسات الدعاية فيها، وهي نظرة ساذجة أحيانا وبلهاء في احيان أخري، فلم يدرس أو يفهم اغلبنا طبيعة قيام ونشأة الدولة في الغرب، وطبيعة مطالبها وأهدافها، ووسائلها إلي تحقيق أهدافها بكل الطرق، وفيها الطرق الطبيعية والمنطقية... ولكن اغلبها غير طبيعي ولا منطقي... وأحيانا غير مشروع !!
وسوف أشرح رأيي في ذلك الموضوع في النقاط الأتية:
١ ــ أن الجامعات في الغرب تتبع الدولة وتسير وراءها، وليست مستقلة، ولا يوجد ذلك الاستقلال المفترض إلا في عقول ساذجة عندنا أو عند غيرنا من دول العالم الثالث...
فالجامعة كمؤسسة تنتج العلم وتطبيقاته تضع خدماتها كلها ورجالها دوما في خدمة الدولة، وخدمة سياستها في الداخل والخارج، وأغلب جامعات الغرب لا تعمل في الفراغ، أو مستقلة عن البيئة السياسية والاستراتيجية للدولة التي تتبعها، فالجامعات في الولايات المتحدة تتبع الدولة الامريكية ومؤسساتها، وهناك جامعات تمولها ــ او تمول برامج فيها ــ وزارة الدفاع الامريكية " البنتاجون "، وجزءا كبيرا من البرامج العلمية الخاصة بالفضاء الخارجي في الجامعات الامريكية يمولها البنتاجون، وجزء كبيرا من برامج العلوم الانسانية ــ وخاصة التي تدرس الشعوب الاخري وتاريخها وسياستها واقتصادها ــ تمولها المخابرات المركزية الامريكية...
والجامعات الامريكية يمول جزء كبير من نفقاتها الطبقة الرأسمالية الامريكية... وهي الطبقة الحاكمة فعليا في أمريكا... بغض النظر عن الرؤساء أو نواب الكونجرس، فتلك هي القشرة الخارجية، ولكن وراء القشرة الخارجية هيئات ومصالح تحكم فعليا، ومصالح تلك الطبقة تجد انعكاسا لها في طبيعة ما تدرسه الجامعات وتعلمه لطلابها، وما تبحث فيه في برامجها العلمية لباحثيها وعلماءها...
وفيما يخص العلم الذي انتمي اليه وهو علم الاقتصاد، فهناك رأي شائع بين كبار الاكاديميين في أمريكا وخارجها أن الجانب الايديولوجي في علم الاقتصاد يطغي علي الجانب الموضوعي، برغم الحيدة العلمية التي يحاول اظهارها، ولم يستطع اخفاءها حتي المنحي السائد في علم الاقتصاد في العقود الاخيرة من غلبة الجوانب الرياضية والقياسية علي جوانب البحث فيه...
٢ ــ أن المخابرات الأمريكية طالما وقفت وراء جامعات ومراكز أبحاث علمية أو سياسية أو اقتصادية حول العالم، وهناك كتب شهيرة حول هذه النقطة بالذات، توضح كيف اختارت المخابرات المركزية الامريكية اللحن وقامت جامعات ومراكز أبحاث بلا حصر بالعزف علي نغمات ذلك اللحن...
وهناك كتب ودراسات وباحثين كبار تقف المخابرات الأمريكية وراءهم في كل دول العالم، وفي مصر طالما حفل الجو السياسي فيها بأحاديث لا تنتهي حول علاقات مفترضة بين أجهزة الدولة الامريكية ــ وأغلبها له علاقات بوكالة المخابرات الأمريكية أو يعمل كواجهات لها ــ وبين باحثين في مصر وبرامج في جامعات ومراكز أبحاث...
٣ ــ أن النظرة التي تبنتها التيارات اليسارية في بلادنا وحول العالم أن المثقف الحقيقي يجب ان يكون خصما لدولته أو لنظامها السياسي، وانه يجب أن يكون علي يسار السلطة دائما نظرة ساذجة، ولكن الحقيقة أن المثقف في الغرب ــ وخاصة دوله الرئيسية ــ كان دوما في خدمة دولته وخدمة نظامها السياسي واستراتيجياتها، فالمثقفين الانجليز كان دورهم في بناء الامبراطورية البريطانية بالضبط كما كان دور الجيش والبحرية البريطانية، وهم ــ المثقفين البريطانيين ــ من عملوا كطبقة حاكمة أو كطبقة بيروقراطية في اجهزة الإدارة في المستعمرات البريطانية حول العالم...
والمثقفين البريطانيين هم من درسوا الشعوب الاخري دراسة متفحصة، وبينوا لدولتهم نقاط القوة والضعف في حياة وثقافة تلك الشعوب، وعملوا كمقدمة لجيوش الغزاة، التي بنت الامبرطورية البريطانية، التي لم يكن يغيب عنها الشمس...
٤ ــ أن حركة الاستشراق في منطقتنا وبرغم رداءها العلمي، لكن الاهداف السياسية والاستراتيجية وراءها لا تخفي علي أي مدقق، وكذلك حركة الكشوف الاثرية ودراسة الحضارات القديمة، كلها كان لها جوانبها العلمية البحتة بالطبع، ولكن لها أيضا جوانبها العملية والسياسية، وجرترود بل أكبر عالمة آثار درست حضارات العراق القديم كانت تعمل في اجهزة السلطة البريطانية، وكان لعملها العلمي جانبه السياسي البحت... فقد كانت تعمل عالمة أثار تنقب في حضارة وادي الرافدين القديمة، وتعمل ــ في نفس الوقت ــ مستشارة للمندوب السامي البريطاني في العراق بيرسي كوكس !!
وغيرها كثيرون... أمس واليوم وغدا...
٥ ــ أن الامبراطورية البريطانية كانت أول امبراطوريات التاريخ التي " تخترع " نظما سياسية ودولا بناء علي انتقاء عناصر معينة في ثقافة معينة، وصنع تيارات فكرية علي أساسها، وسرعان ما تتحول التيارات الفكرية والثقافية الي تيارات سياسية، وبدعم خارجي ذكي ــ ولكن سري ــ تتحول تلك التيارات السياسية الي نظم حاكمة...
والامثلة علي ذلك عديدة...
فقد كانت الامبراطورية البريطانية وراء فكرة القومية العربية في النصف الأول من القرن العشرين، واقامت علي اساسها دولا معينة...
وكانت الامبراطورية البريطانية وراء افكار الإسلام السياسي التي تحولت الي تنظيمات انشأتها بريطانيا، بدأت بالاخوان المسلمين ثم تفرعت الشجرة واثمرت مئات التنظيمات والحركات حول العالم، ومازالت شجرة البؤس تلك قادره علي انجاب مزيد من المواليد، في حين شاخت شجرة القومية العربية، وتوقف الدعم لها بعد صدامها الكبير مع بريطانيا وامريكا في سنوات الخمسينات والستينات وما بعدهما..
وكانت الامبراطورية البريطانية هي من أقامت العناصر الفكرية والثقافية التي قامت عليها الحركة النازية في ألمانيا في عشرينات القرن العشرين، وبقيت وراءها حتي أوصلتها الي السلطة عام ١٩٣٣..
وكان تخطيط بريطانيا أن تتصادم النازية في المانيا مع الشيوعية في روسيا، وتكون النتيجة فناء إحداهما وضعف الاخري بصورة لا تجعلها تمثل خطرا علي أحد...
ولكن ليس محتما أن يأتي التخطيط والذكاء البريطاني دائما بالنتائج التي عمل من أجلها، فهي إمبراطورية تفكر وتخطط، ولكن لا تضمن الحركة علي الارض بعد ذلك، فالبشر في النهاية هم بشر وليسوا ألات يتم تحريكها من بعد...
وكانت النتيجة أن طمع هتلر ــ قائد النازيين ــ في دول وسط وغرب اوربا قبل توجهه لقتال الروس الشيوعيين، وكان أن أعلنت بريطانيا الحرب عليه، وتعرضت نتيجة لذلك لأعنف قصف جوي علي أرضها في تاريخها كله.. وفي النهاية حقق هتلر الهدف الذي جئ به من أجله، وحارب الروس في حروب طاحنة كانت نتيجتها تدمير ألمانيا تماما وتقسيمها، ومقتل ٢٠ مليون انسان من روسيا وتدمير شبه كامل لطاقتها الاقتصادية...
والملاحظة الاساسية أن من أقام صرح تلك الابنية الفكرية والثقافية قبل تحولها الي أبنية سياسية ونظم حاكمة هو " العِلم " البريطاني، وليس السياسة البريطانية أو العسكرية البريطانية...
فالجامعات البريطانية وعلماءها هم من درسوا طويلا وبعمق تلك الشعوب، واختاروا عناصر معينة من تاريخها وثقافتها يكون التركيز عليه مما يحقق مصالح كبري للامبراطورية البريطانية... وبعضها يستمر أصولا نافعة لعقود وربما ــ لو تأكدت فائدته ــ لقرون !!
٦ ــ ومن ثم فالفصل بين العلم وبين الدولة ومطالبها غير واقعي في عالمنا المعاصر، والتيارات السياسية التي أدخلت في عقول شعوبنا غير ذلك كانت مخطئة...
وربما كان ذلك محققا لأهدافها هي، أي لأهداف تلك الحركات السياسية المعارضة في صراعها مع السلطة... فقد ارادات ــ وهي الحركات المعارضة ــ أن تضم العلم ومؤسسات دراسته الي صفوفها هي، وليس الي صفوف الدولة، ومن هنا نشأت افكار مثل استقلال الجامعة عن الدولة، واستقلال رجال العلم عن رجال السلطة، وليس في ذلك بأس لو امتد الخيط علي استقامته، وشمل ايضا استقلال الجامعة ورجالها عن الحركات السياسية المعارضة... اليساري منها والديني...
ولكن الملاحظ أن تلك التيارات كان راغبة في استقلال الجامعة ورجالها عن الدولة، ولكن عدم استقلال الجامعة ورجالها عنها وعن افكارها وخططها !!!
فالهدف ليس استقلال الجامعة في المطلق ــ وهو هدف عموما غير واقعي ــ ولكن استقلال الجامعة عن الدولة... وانضمامها الي المعارضة !!!
وهو ما يؤمن به رجال الجامعة المنتمين الي تلك الحركات السياسية المعارضة... سواء من الجناح اليساري في المعارضة أو الجناح الديني....
وهي تجربة تختلف عن تجربة الجامعة ورجالها في الغرب.... حيث عمل العلم ــ ومازال يعمل حتي اليوم ــ في خدمة الدولة..
#أحمد_فاروق_عباس (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟