|
|
بمناسبة ثورة أكتوبر الإشتراكية العظمى 1 - أكتوبر العظيم
زياد الزبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 8516 - 2025 / 11 / 4 - 16:49
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ألكسندر سامسونوف مؤرخ وباحث وكاتب روسي منصة المراجعة العسكرية
ترجمة وتحليل د. زياد الزبيدي
4 نوفمبر 2025
بحلول خريف عام 1917، كانت الحكومة المؤقتة الليبرالية البرجوازية – التي أفرزتها ثورة شباط فبراير* – قد أوصلت الدولة والحضارة الروسية بأسرها إلى حافة الإنهيار. وعلى خلاف الأسطورة الليبرالية التي شاعت في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، فإن روسيا القديمة لم يدمرها البلاشفة وحراسهم الحمر، بل دمرها الوزراء والجنرالات والنواب وكبار الكهنة والأرستقراطيون وأصحاب المصانع والمصرفيون، أي نخبة الإمبراطورية الروسية ذاتها. أولئك الذين حلموا بتحويل روسيا إلى نسخة من "فرنسا أو إنجلترا العزيزة"، فأسقطوا آخر ركائز الدولة – الحكم المطلق – وفتحوا بذلك "صندوق باندورا"*.
بدأت كارثة حقيقية تهز أركان البلاد. أخذت أقاليم الأطراف تنفصل، وظهرت حكومات مستقلة في الدون وكوبان في قلب روسيا، وفي كييف وروسيا الصغرى، وحتى في سيبيريا والقوقاز. إنهار الجيش قبل إستيلاء البلاشفة على السلطة بوقت طويل بعد أن قامت الحكومة المؤقتة بـ"دمقرطته" وسط أهوال الحرب، ففر الجنود بالآلاف من الجبهة حاملين أسلحتهم، وسقطت الخطوط الدفاعية، وتوقفت روسيا عن أداء إلتزاماتها تجاه الحلفاء.
تدهور الإقتصاد والمالية إلى الفوضى، وتفككت سوق البلاد الموحدة، وشلّ النقل، وبدأت المدن تواجه الجوع. ومع غياب السلطة، إنطلقت ثورة فلاحية واسعة؛ فالفلاحون رأوا أن القيصر – ممسوح الله – قد إختفى، ولم تعد هناك سلطة تُطاع، فإستولوا على الأراضي وأحرقوا المئات من ضياع الإقطاعيين. إندلعت حرب بين القرية والمدينة، وإمتنع الناس عن دفع الضرائب أو تنفيذ أوامر التجنيد.
تم حل الشرطة والجندرمة، وأُحرقت الأرشيفات، وخرج المجرمون من السجون، فغمرت العصابات المدن والطرق والسكك الحديدية، وظهرت عصابات مسلحة كاملة – "الخضر" – تمارس النهب والسلب والقتل. وفي الخارج، شرعت القوى الأجنبية في تقسيم الأراضي الروسية. فأنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة وضعت عيونها على أغنى الأقاليم، وكان الأمريكيون، بمساعدة الفيلق التشيكوسلوفاكي، يخططون لإحتلال سيبيريا والشرق الأقصى.
أما الحكومة المؤقتة، فعجزت عن إتخاذ أي قرار مصيري، وأجلت كل شيء إلى حين إجتماع الجمعية التأسيسية. كانت روسيا تتفكك أمام أعين الجميع، تتحول إلى أرض سائبة تُنهب وتُدار لصالح الغرب. سحق "الطابور الخامس" الداخلي – من أمراء وجنرالات وماسونيين وليبراليين ورأسماليين – الحكم المطلق، فيما إعتقد الشعب أنه نال "الحرية"، فتحرر من الضرائب والقوانين والواجبات، بينما عمّت الفوضى.
تابع أنصار الغرب – ومعظمهم ماسونيون مرتبطون بـ"الإخوة الكبار" – تدمير البلاد بشعارات براقة، وإرتكبوا الخطأ القاتل بتفكيك الجيش أثناء الحرب (الأمر رقم 1 الشهير). فقدت العاصمة بتروغراد الليبرالية السيطرة على الأقاليم، وتحولت البلاد إلى دويلات صغيرة يحكمها أتامانات وغيتمانات وأمراء محليون، جميعها سقطت تحت نفوذ القوى الأجنبية. في الوقت ذاته، تطلعت فنلندا إلى التوسع حتى كاريليا وشبه جزيرة كولا وربما شمال الأورال. بدا أن الدولة والحضارة الروسية تتلاشى من التاريخ.
وسط هذا الإنهيار، ظهرت قوة قادرة على الفعل: البلاشفة. فحتى صيف 1917، لم يُنظر إليهم كقوة جدية، لكن شعبيتهم إرتفعت سريعاً بفضل برنامجهم الواضح البسيط. وأدرك لينين أن السلطة ستؤول إلى من يمتلك الإرادة والعقل. قال في مؤتمر السوفيات الأول في يونيو 1917، رداً على "تسيريتيلي" الذي زعم أنه لا حزب في روسيا مستعد لتولي الحكم: "هناك حزب مثل هذا!"، فصارت العبارة رمزاً لعزم البلاشفة.
في أغسطس 1917، إتخذ الحزب البلشفي في مؤتمره السادس قرار التحضير لإنتفاضة مسلحة. وبعد تأجيلات فرضها تمرد كورنيلوف، إعتمدت اللجنة المركزية في 10 أكتوبر (23 بالتقويم الجديد) قرار الإنتفاضة، وأكدته في 16 أكتوبر.
في 12 أكتوبر (25)، شكّل مجلس بتروغراد لجنة عسكرية ثورية برئاسة بافل لازيمير من الحزب الإشتراكي الثوري، كان المحرك الفعلي لها قادة البلاشفة: تروتسكي وبودفويسكي وأنتونوف-أوفسينكو، لتنسيق التحضيرات للانتفاضة. وبواسطتها، أقام البلاشفة صلات وثيقة مع لجان الجنود، وإستعادوا السيطرة على الحامية في بتروغراد. رفضت اللجنة أوامر الحكومة بإرسال الوحدات إلى الجبهة، وأمرت ببقائها في العاصمة، ووزعت الأسلحة على العمال.
بحلول 24 أكتوبر، كانت اللجنة قد نصّبت مفوضيها في الثكنات والمخازن ومحطات القطار والمصانع، فأصبحت العاصمة فعلياً تحت السيطرة البلشفية. لم تتمكن الحكومة المؤقتة من الرد، ولم تقع إشتباكات تُذكر. إنهارت مقاومة الحرس، وغادر الجنود مواقعهم.
في 25 أكتوبر (7 نوفمبر)، بقي لحراسة مقر الحكومة في القصر الشتوي بضع مئات من النساء من كتيبة الصدمة وسرايا من الطلاب والمعاقين. تفرق المدافعون قبل الهجوم، ولم يُسجّل سوى سبعة قتلى في المجموع. عند الساعة الثانية صباحاً من يوم 26 أكتوبر، أعتُقل الوزراء، وكان كيرنسكي قد فرّ مسبقاً بسيارة السفير الأمريكي.
لم تكن هناك "معركة عظيمة" كما صورتها الأسطورة اللاحقة؛ كان سقوط الحكومة المؤقتة نتيجة عجزها التام. فلو كان على رأسها رجل حازم لتمكن من سحق الإنتفاضة بسهولة، لكن الليبراليين إكتفوا بالكلام. في المساء ذاته، إنعقد في قصر سمولني المؤتمر السوفياتي الثاني وأعلن نقل السلطة إلى السوفيات، وصدر مرسوم السلام ومرسوم الأرض، وشُكّل مجلس مفوضي الشعب برئاسة لينين.
في موسكو، دار قتال قصير حتى 3 نوفمبر إنتهى بسيطرة السوفيات. وبحلول نهاية يناير 1918، كانت السلطة السوفياتية قد ترسخت في معظم أنحاء البلاد، فيما سمي بـ"مسيرة إنتصار السلطة السوفياتية" دون إراقة دماء تقريبا .
أكدت الأحداث اللاحقة صواب موقف البلاشفة. كانت روسيا تموت، والنظام القديم إنتهى، ولم يكن من بديل إلا مشروع جديد – البديل الحضاري السوفياتي. لم يدمر البلاشفة روسيا القديمة، بل أنقذوا ما تبقى منها بعد أن أطاحت بها نخبتها المنحلة. عرضوا على الشعب واقعاً جديداً أكثر عدلاً، بلا طبقات متطفلة، مستندين إلى ثلاثة عناصر حاسمة: صورة مستقبل مشرق، إرادة سياسية حديدية، وتنظيم منضبط.
إنسجم المشروع البلشفي مع الجوهر الروسي، فالإيمان بالعدالة والعمل والإبداع متجذر في المصفوفة الحضارية للشعب. لذلك جذب الشيوعيون جماهير الفلاحين والعمال، إذ بدت الإشتراكية بديلاً طبيعياً عن الرأسمالية الطفيلية.
يردد الليبراليون اليوم أن أكتوبر كان "لعنة روسيا"، لكن الحقيقة أن البلاشفة وحدهم أنقذوا الدولة والحضارة الروسية من الزوال، وشيّدوا نظاماً جمع بين أفضل ما في التراث الروسي – من بوشكين وتولستوي إلى نيفسكي وكوتوزوف – وبين إنطلاقة نحو المستقبل.
ومع ذلك، لم يخلُ طريقهم من القسوة، فقد تسلل إلى صفوفهم أنصار الثورة العالمية المستمرة، ثوار كُثر – تروتسكي وسفيردلوف وأتباعهما – خدموا مصالح القوى الغربية التي سعت إلى تحويل روسيا إلى قاعدة للثورة العالمية وبناء نظام شمولي كوني. إلا أن العنصر الروسي المتأصل غلب في النهاية. إنتصر الخط البلشفي الستاليني، فترسخت "الإشتراكية الروسية"، وتم القضاء على "الطابور الخامس" التروتسكي، وحققت الحضارة السوفياتية إنجازات غير مسبوقة، صمدت أمام أهوال الحرب العالمية الثانية وإنتصرت وغزت الفضاء.
لقد أنقذ البلاشفة الدولة والحضارة الروسية من الفناء.
*****
هوامش
1) صندوق باندورا تعبير أسطوري يوناني يشير إلى مصدر كل الشرور والمصائب في العالم. وفق الأسطورة، خلق زيوس امرأة تُدعى "باندورا" وأعطاها صندوقًا مغلقًا (أو جرة في بعض الروايات)، وحين فتحته بدافع الفضول خرجت منه جميع الشرور — كالمرض والحرب والكراهية — وإنتشرت بين البشر، ولم يبقَ في الداخل سوى الأمل. يُستخدم المصطلح مجازًا في الأدب والسياسة والفكر للإشارة إلى حدثٍ أو قرارٍ يفتح أبواب الفوضى والعواقب غير المتوقعة، وهو ما يوظّفه ألكسندر سامسونوف رمزيًا في وصفه لثورة فبراير التي سبقت ثورة أكتوبر عام 1917.
2) ثورة شباط (فبراير) 1917 كانت الإنتفاضة الشعبية التي أطاحت بالإمبراطورية الروسية ونظام القيصر نيقولا الثاني، منهيةً أكثر من ثلاثة قرون من حكم آل رومانوف. بدأت الإحتجاجات في بتروغراد بسبب الجوع واإنهيار الجبهة في الحرب العالمية الأولى، ثم تحولت إلى تمرد واسع شارك فيه العمال والجنود. رفض الجيش إطلاق النار على المتظاهرين، فإنضم إليهم، وسقطت العاصمة خلال أيام. تشكلت حكومة مؤقتة ليبرالية برئاسة الأمير لفوف ثم ألكسندر كيرنسكي، أعلنت «الحرية والديمقراطية»، لكنها عجزت عن وقف الحرب أو معالجة الفوضى، فمهّدت الطريق لثورة أكتوبر البلشفية التي أسقطتها بعد ثمانية أشهر فقط.
#زياد_الزبيدي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
طوفان الأقصى 759 - هل يستطيع العراق أن يحلّ محلّ سوريا في من
...
-
ألكسندر دوغين - كيف تخطط روسيا لصدم الغرب؟
-
طوفان الأقصى 758 - غزة: هذه الأرض النازفة – مراجعة لرواية جو
...
-
ألكسندر دوغين: «توماهوك، المقامرة النووية، ووداع ترامب لأمري
...
-
طوفان الأقصى 757 - لماذا يخاف ترامب من نتنياهو؟
-
ألكسندر دوغين: الصراع الأوكراني أشعله دعاة العولمة؛ وروسيا،
...
-
طوفان الأقصى 756 - غزة اليوم هي غيتو وارسو بالأمس
-
طوفان الأقصى 755 - غزة كما تراها روسيا: عن المعايير المزدوجة
...
-
ألكسندر دوغين - السيادة والحرب
-
طوفان الأقصى 754 - الإنسانية الإنتقائية: مقارنة بين حرب كوسو
...
-
ألكسندر دوغين - السيادة الفلسفية أساس إستقلال الدولة
-
طوفان الأقصى 753 - قبرص في لعبة الأمم
-
طوفان الأقصى 752 - صحيفة ديلي ميل: من -فندق حماس- إلى نفي ال
...
-
ألكسندر دوغين - اليابان “لنا”؟ موسكو أمام فرصة لإعادة ضبط ال
...
-
طوفان الأقصى 751 - ميكو بيليد: ابن الجنرال الذي تمرّد على أس
...
-
ألكسندر دوغين - الغرب المنقسم على ذاته: بين الليبرالية العال
...
-
طوفان الأقصى 750 - روسيا وسوريا: ما هو الجديد؟
-
ألكسندر دوغين – لروسيا أهداف جديدة في العملية العسكرية الخاص
...
-
طوفان الأقصى 749 - بيني موريس والقضية الفلسطينية: من «المؤرخ
...
-
طوفان الأقصى 748 - الإعلام العربي في حرب الإبادة على غزة: حي
...
المزيد.....
-
مصرف لبنان المركزي يفرض -إجراءات وقائية- على تداول العملات ا
...
-
تقرير صحافي: إسرائيل تتحضّر لعمل عسكري ضد حزب الله في بيروت
...
-
الحرِّيَّةُ لإبراهيم شريف
-
جنود إسرائيليون يعترفون باستعمال الفلسطينيين كدروع بشرية في
...
-
ليلة مرعبة في العاصمة الأوكرانية كييف جراء هجوم روسي -هائل-
...
-
-بلو أوريجين- التابعة للأمريكي جيف بيزوس تنجح بإطلاق صاروخها
...
-
حرب النجوم.. في وجه التهديد الروسي، جيشٌ فضائي فرنسي يُدشن م
...
-
أوضاع مأساوية صعبة للنازحين السودانيين بمدينة طينة الحدودية
...
-
الصين تحتج على تصريحات لرئيسة وزراء اليابان بشأن تايوان
-
ماذا وراء حظر ألمانيا جمعية -مسلم إنتر أكتيف-؟
المزيد.....
-
ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان
...
/ غيفارا معو
-
حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
جسد الطوائف
/ رانية مرجية
-
الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025
/ كمال الموسوي
-
الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة
/ د. خالد زغريت
-
المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد
/ علي عبد الواحد محمد
المزيد.....
|