|
|
ألكسندر دوغين - السيادة والحرب
زياد الزبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 8511 - 2025 / 10 / 30 - 17:38
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ألكسندر دوغين فيلسوف روسي معاصر
ترجمة وتحليل: د. زياد الزبيدي
30 أكتوبر 2025
بين فكر دوغين وتطبيقات السيادة المعاصرة
يبدأ ألكسندر دوغين مقاله «السيادة والحرب» SOVEREIGNTY AND WAR، الذي نشر باللغة الانجليزية على منصة geopolitika.ru في 27 أكتوبر 2025، بكلمات تكاد تختصر فلسفته السياسية كلها: «إن السيادة، ومن ثمّ الحرية، تبدأ من حقّ الدولة في أن تختار بين الحرب والسلام».
بهذه العبارة، يضع دوغين الحرب في قلب مفهوم السيادة، لا كأداة طارئة، بل كشرطٍ لوجود الدولة ذاتها. فالحرية السياسية، كما يرى، ليست حالةً من الطمأنينة، بل قدرة على إتخاذ القرار في أصعب المواقف، بما في ذلك خوض الحرب أو الإمتناع عنها. الدولة التي تُحرَم من هذا الحق تفقد جوهر وجودها وتتحوّل إلى مجرد كيان تابع أو مستعمَرة، مهما كانت مظاهر إستقلالها الخارجية.
الدولة ككائن يملك قرار إستعمال القوة
يستند دوغين إلى الأسس التي قامت عليها العلاقات الدولية منذ القرن السابع عشر، أي مبدأ السيادة المستقلة للدول، أو ما يعرف بـالمنظومة الويستفالية. كما يكتب: «في الداخل، لا أحد يملك الحق في إستخدام القوة سوى الدولة نفسها، فذلك أساسها القانوني. أما في الخارج، فإن الحرب تبقى دومًا ممكنة، لأن من طبيعة السيادة أن تكون قادرة على خوض الحرب أو الإمتناع عنها». من هذا المنطلق، يؤكد دوغين أن الدولة التي لا تملك حقّ تقرير الحرب ليست دولة مستقلة، بل «ظلّ دولة»، فهي فاقدة للسيادة وحرمانها من القرار يعني فقدان وجودها السياسي.
الإتحاد السوفياتي: حين يتحوّل نهج السلام إلى ضعف
ينتقل دوغين إلى التجربة السوفياتية ليقدّمها مثالاً على الإنحراف عن السيادة. في رأيه، الإتحاد السوفياتي فقد جوهره السيادي حين تبنى «سياسة السلام المطلق» وأصبح الحديث عن الحرب محظورًا: «في أواخر العهد السوفياتي، نُسيت الأسس السياسية للحكم، وصارت الحرب شيطانًا مطلقًا، وأُقرّت عقوبات جنائية ضد أي حديث عنها إلا في سياق السلام الهستيري الأعمى» . وبحسب دوغين، دفع الإتحاد السوفياتي ثمن ذلك غاليًا: فقد إختفى، وخسر السيادة والأرض والشعوب، وظهرت كيانات جديدة بعضها صار نقيضًا للوجود الروسي نفسه، مثل أوكرانيا المعاصرة.
الليبرالية: نزع السيادة بإسم الإنسان
ينتقل دوغين بعد ذلك إلى نقد الليبرالية الحديثة بوصفها مشروعًا مناهضًا للسيادة. يقول: «الليبرالية ترى أن السيادة شرّ، لأنها تجعل الحرب ممكنة. لذلك تسعى إلى نزع حق إستخدام القوة من الدولة وتسليمه إلى سلطتين في آنٍ واحد: سلطة فوق وطنية، وسلطة أخلاقية مدنية». وبهذا تصبح الليبرالية، في نظره، نظامًا يمارس حربًا على الدولة باسم حقوق الإنسان والقيم العالمية، فتجرد الدولة من أدوات السيادة بحجة الدفاع عن الحرية.
بوتين وإستعادة القرار
يرى دوغين أن عهد فلاديمير بوتين شكّل لحظة إستعادة السيادة بعد عقدٍ من الإنحلال الليبرالي. «حين إعترفت الدولة الروسية من جديد بشرعية شن الحرب، عادت سيادتها». الحرب في الشيشان، ومن ثم العمليات العسكرية في جورجيا 2008 ثم أوكرانيا، ليست عنده نزاعًا عسكريًا فحسب، بل إعلان سيادة. الدولة التي تستطيع أن تقول: «نحن نحارب» هي الدولة التي تمتلك حق القرار. الدولة التي تخاف من الحرب تخاف من أن تكون دولة.
المقارنة السياسية: دوغين بين شميت وهوبز
هنا يظهر الإطار السياسي المقارن. يمكن قراءة فكر دوغين في ضوء أفكار كارل شميت حول السيادة، الذي عرف السيادة بأنها القدرة على القول: «ما هو إستثناء وما هو قاعدة»، أي أن السيادة هي حق الدولة في تجاوز القانون عند الضرورة لحماية وجودها. تمامًا كما يرى دوغين، فالقرار ببدء الحرب أو الإمتناع عنها هو أعلى تجسيد للسيادة، ويحدد مصير الدولة. أما توماس هوبز، فقد ربط إستعمال القوة بالوجود المدني، معتبرًا أن الدولة هي «السلطة المطلقة للحفاظ على الأمن وحماية الناس من الفوضى»، أي أن الإحتكار القانوني لإستعمال الحرب هو أساس أي سيادة. دوغين يستلهم هوبز في فهمه أن الدولة الحقيقية هي وحدها التي تمتلك قرار إستعمال القوة، داخليًا وخارجيًا، وأن حرمانها من هذا القرار يعني سقوطها السياسي.
الواقع المعاصر: روسيا والغرب
تطبيق هذا المنظور على الواقع اليوم يوضح الفجوة بين رؤيتين: •في روسيا، يُقرأ تدخل الدولة في الشؤون الإقليمية والخارجية على أنه تأكيد على سيادة القرار. كما يقول دوغين: «من لا يستطيع أن يحارب لا يستطيع أن يكون حرًا». العمليات العسكرية، سواء في الشيشان أو في أوكرانيا، هي رموز لإعادة السيادة الروسية بعد سنوات من الضعف الداخلي والضغط الليبرالي الخارجي.
•في الغرب، يرى دوغين أن الليبرالية تمارس حربًا مستترة على السيادة. منظمات المجتمع المدني العابرة للحدود، الإتحاد الأوروبي، وحلف الناتو، كلها أدوات لضبط القرار الوطني للدول الأوروبية. ويستشهد على ذلك بالأحداث الداخلية: الإحتجاجات، شبكات الضغط السياسي، والتدخل في الإنتخابات، معتبرًا أنها جزء من حرب مستمرة ضد أي دولة تحاول إستعادة قرارها السيادي.
وبهذا تصبح الليبرالية، في تحليل دوغين، حربًا على الدولة باسم السلم والحرية، وهي صدام مع الفلسفة الواقعية للسيادة التي تؤمن بها روسيا.
الحرب والحرية: مفارقة دوغين
يبلغ النص ذروته حين يكتب: «يمكن للمرء أن يمنع الحرب فقط بأن يبدأها». إنها مفارقة فلسفية وسياسية عميقة: الحرية والقرار السيادي يُختبران بالإستعداد للحرب، وليس بالسلام فقط. فالدولة التي لا تستطيع أن تقول «نحن نحارب» هي دولة بلا سيادة. وفي المقابل، يطرح هذا التساؤل: هل يمكن للسيادة أن تتحقق دون أن يهدد السلم أو يُهدّد؟ وهل يمكن بناء الحرية على أساس القوة، حتى لو كان خيارًا مشروعًا؟
السيادة العربية وإسرائيل: قراءة درامية لتطبيق فلسفة دوغين
يمكن النظر إلى الصراع العربي الإسرائيلي اليوم كإختبار حيّ لفلسفة ألكسندر دوغين حول السيادة والحرب، حيث تُقاس الدولة بقدرتها على تقرير مصيرها، سواء بإختيار الحرب أو الإمتناع عنها. من هذا المنظور، تظهر إسرائيل ككيان يمارس سيادته بشكل كامل: قراراته العسكرية والسياسية لا تُقيد، تهجم أو تدافع كما تشاء، وتفرض إرادتها على الساحة الإقليمية بلا خوف من أي ضغط حقيقي، بالطبع لأسباب يعرفها القارىء العربي دون الحاجة للخوض في التفاصيل.
أما الدول العربية الملتزمة بمبادرة السلام منذ عام 2002، فهي تبدو في موقف مختلف تمامًا. إذ تختار السلام رغم التهديدات والإعتداءات المتكررة من الجانب الإسرائيلي. هذا الإختيار، وإن كان إستراتيجيًا لحماية مصالحها وأمن شعوبها، يكشف عن قيود على قدرتها الحقيقية في القرار السياسي والعسكري. فهي مقيدة بضغوط داخلية وخارجية، وبالإعتماد على تحالفات دولية تجعل خوض الحرب أو الدفاع عن مصالحها العليا محدودًا.
من هذا المنظور، الفارق بين إسرائيل والدول العربية ليس فقط في القوة العسكرية، بل في حرية القرار ذاته. إسرائيل تقول لنفسها: «نحن نقرر»، وتطبق هذا القرار على الأرض. أما الدول العربية فتجد نفسها مضطرة أحيانًا للإختيار بين ما تراه مناسبًا لمصالحها وبين ما تفرضه الظروف السياسية والإقتصادية والتحالفات الدولية.
وهنا تكمن المفارقة الكبرى: المبادرة العربية للسلام تحمي مصالح معينة، لكنها، وفق فلسفة دوغين، تعكس قيودًا على السيادة الفعلية. فالدولة التي لا تستطيع أن تمارس حقها في الحرب أو الدفاع عن مصالحها العليا بحرية، تبقى دولة قائمة رسميًا، لكنها ليست دولة حرة بالكامل، بل دولة ذات سيادة محدودة.
في النهاية، يقدم هذا التحليل رؤية صادمة لكنها واضحة: السيادة الحقيقية ليست مجرد وجود سياسي، بل القدرة على إتخاذ القرار بحرية، وحتى الدفاع بالقوة عند الحاجة. فالدولة التي تتخلى عن حق القرار، حتى لأسباب إستراتيجية أو إنسانية، تصبح مقيدة، ويصبح السلم الذي تختاره هشًا أمام تحديات من لا يلتزم بالقواعد نفسها.
الخاتمة: بين السيادة والسياسة الواقعية
يقدّم دوغين فلسفةً للسياسة بوصفها قرارًا وجوديًا، حيث الحرب ليست مجرد فعل عسكري، بل إعلان عن القدرة على إتخاذ القرار المطلق. مقارنةً بشميت وهوبز، يظهر أن السيادة عند دوغين هي الحق في القرار، والحرب هي أداة القرار، وليس غاية الوجود فحسب. في الواقع الروسي اليوم، تتحقق هذه الفلسفة عمليًا في الإستراتيجيات العسكرية والسياسية. أما في الغرب، فالليبرالية، بحسب دوغين، تعمل على تقويض هذا الحق، ما يؤدي إلى صراع غير مرئي ولكنه فعّال على السيادة والقرار الوطني. بهذا يكون دوغين قد قدّم رؤية متكاملة: السيادة الحقيقية هي القدرة على القرار، الحرب هي إختبار القرار، والحرية السياسية لا تتحقق إلا بالإستعداد لتطبيق هذا الحق، سواء في الداخل أم الخارج، سواء في روسيا أم في مواجهة النفوذ الليبرالي العالمي.
*****
المرجع مقال ألكسندر دوغين السيادة والحرب، بالإنجليزية منصة geopolitika.ru 27 أكتوبر 2025
#زياد_الزبيدي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
طوفان الأقصى 754 - الإنسانية الإنتقائية: مقارنة بين حرب كوسو
...
-
ألكسندر دوغين - السيادة الفلسفية أساس إستقلال الدولة
-
طوفان الأقصى 753 - قبرص في لعبة الأمم
-
طوفان الأقصى 752 - صحيفة ديلي ميل: من -فندق حماس- إلى نفي ال
...
-
ألكسندر دوغين - اليابان “لنا”؟ موسكو أمام فرصة لإعادة ضبط ال
...
-
طوفان الأقصى 751 - ميكو بيليد: ابن الجنرال الذي تمرّد على أس
...
-
ألكسندر دوغين - الغرب المنقسم على ذاته: بين الليبرالية العال
...
-
طوفان الأقصى 750 - روسيا وسوريا: ما هو الجديد؟
-
ألكسندر دوغين – لروسيا أهداف جديدة في العملية العسكرية الخاص
...
-
طوفان الأقصى 749 - بيني موريس والقضية الفلسطينية: من «المؤرخ
...
-
طوفان الأقصى 748 - الإعلام العربي في حرب الإبادة على غزة: حي
...
-
تشي غيفارا: الأسطورة التي لا تموت
-
طوفان الأقصى 747 - القوة الناعمة الإسرائيلية: من كيان دولة ف
...
-
ألكسندر دوغين - روسيا كانت معلّقة بخيط فوق الهاوية - بمناسبة
...
-
طوفان الأقصى 746 - زيارة الشرع إلى موسكو: بين الواقعية الروس
...
-
بعد سبعين عاماً... كواليس -الميدان الهنغاري- - كيف صُنعت إنت
...
-
طوفان الأقصى 745 - بين ميونيخ 1938 وغزة 2025 - من إسترضاء هت
...
-
ألكسندر دوغين يحذّر من الحرب الكبرى التي لا مفرّ منها - البش
...
-
طوفان الأقصى 744 - «هل هو السلام في الشرق الأوسط أم السراب؟»
...
-
ألكسندر دوغين: -بريغوجين: حقائق مجهولة عن حياة مؤسس فاغنر -
...
المزيد.....
-
متلازمة -ريت- : طفرة جينية واحدة قد تقلب حياة طفلك رأساً على
...
-
ما هي حجم المساعدات التي تدخل قطاع غزة يوميا؟ | بي بي سي تقص
...
-
تصريحات الشرع تغضب المصريين.. -لا يستوعب حجم التطور في بلدنا
...
-
سرقة اللوفر: 7 موقوفين قيد التحقيق والمدعية العامة تناشد إعا
...
-
دراسة.. التغيرات المناخية تؤثر على حياة الملايين عبر العالم
...
-
مصر القديمة: سحر أسر الفرنسيين..
-
بعد مواجهات في ريو دي جانيرو.. ناشطون يعتقدون أن الشرطة لن ت
...
-
-محاولة لحفظ ماء الوجه-.. نشطاء يعلقون على لقاء ترامب نظيره
...
-
كيف تخفف اللحظات المشتركة السعيدة توتر الحياة الزوجية؟ دراسة
...
-
-حماس- تُعلن تسليم جثتي رهينتين الخميس.. وبيان مشترك للجيش ا
...
المزيد.....
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان
...
/ غيفارا معو
-
حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
جسد الطوائف
/ رانية مرجية
-
الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025
/ كمال الموسوي
-
الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة
/ د. خالد زغريت
-
المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد
/ علي عبد الواحد محمد
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
المزيد.....
|