زياد الزبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 8502 - 2025 / 10 / 21 - 13:54
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ترجمة وتحليل د. زياد الزبيدي
21 أكتوبر 2025
بودابست – لم تكن أحداث خريف عام 1956 في المجر مجرّد إنفجار شعبي عفوي ضد السلطة الإشتراكية الناشئة، كما تُصوّرها السردية الغربية، بل جاءت نتيجة تفاعل مركّب بين هشاشة الداخل وتخطيط الخارج، في لحظةٍ كانت الحرب الباردة فيها تشتعل على كل جبهة من جبهات النفوذ الأيديولوجي في أوروبا.
1. خلفية المشهد الهنغاري
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، أصبحت المجر واحدة من الدول الواقعة ضمن المجال الإستراتيجي السوفياتي، وشكّلت حلقة أساسية في حزام أوروبا الشرقية الإشتراكي. تحت قيادة ماتياس راكوشي (Mátyás Rákosi) – أحد أبرز المقربين من ستالين – أُقيم نظام سياسي صارم إعتمد على مركزية الدولة في الإقتصاد وتوجيه المجتمع نحو نموذج "الديمقراطية الشعبية" السوفياتي.
إلا أن السنوات التي تلت وفاة ستالين عام 1953 شهدت بدايات تصدّع داخلي، إذ بدأ القادة المحليون يشعرون أن الرياح في موسكو تتجه نحو "القضاء على الستالينية" بفضل نيكيتا خروتشوف، الأمر الذي زعزع ركائز الحكم في بودابست.
في هذا السياق برز إسم إيمري ناجي (Imre Nagy)، الذي عُيّن رئيسًا للوزراء عام 1953 بدعم من تيار إصلاحي داخل الحزب. طرح ناجي خطابًا أكثر إنفتاحًا تجاه المجتمع، داعيًا إلى تخفيف قبضة الحزب وإصلاح الإقتصاد، وهو ما أثار حفيظة راكوشي وأركان الجهاز الأمني.
2. نشاط إستخباري عبر الحدود
بين عامي 1953 و1956، تزايدت الأدلة – كما تشير وثائق أرشيف وزارة الداخلية الهنغارية التي أُفرج عنها في التسعينيات – على أن أراضي النمسا ويوغوسلافيا كانت تُستخدم كممرّات لعمليات تهريب منشورات ودخول عناصر معادية للنظام.
في آب/أغسطس 1955، قدّمت بودابست إحتجاجًا رسميًا إلى حكومتي فيينا وبلغراد، لكن الرد جاء بروتوكوليًا دون إجراءات عملية، فيما ظلّ النشاط يتصاعد.
دراسات أمريكية لاحقة، منها ما نشره المؤرخ Charles Gati في كتابه Failed Illusions: Moscow, Washington, Budapest and the 1956 Hungarian Revolt (2006)، تؤكد أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) والـOSS سابقًا كانت قد دعمت منذ أوائل الخمسينيات شبكات من المهاجرين الهنغاريين في الغرب تحت غطاء "المنظمات الثقافية" و"الإذاعات الحرة"، أبرزها Radio Free Europe التي بثّت دعوات مفتوحة لإسقاط النظام.
ويكشف الخبير الإستراتيجي إدوارد لوتفاك (Edward Luttwak) – الذي عمل لاحقًا مستشارًا لإدارة ريغان – في مذكراته أن الولايات المتحدة وألمانيا الغربية أنشأتا ما سُمّي بـ"فيلق الحرية الهنغاري" (Hungarian Liberation Corps) عام 1953، وهو برنامج لتدريب مهاجرين هنغاريين على أعمال الإستطلاع والدعاية والحرب النفسية، ليكونوا جاهزين "للتفعيل في اللحظة المناسبة".
3. أزمات الداخل وتبدّل القيادة
في الداخل، كانت المجر تواجه أزمة إقتصادية حادّة عام 1956 بسبب نقص اللحوم الناتج عن نفوق جماعي للماشية والخنازير. وكشفت تقارير الأمن الداخلي – وفق ما يورد المؤرخ الهنغاري György Litván – عن حالات تسميم متعمد للأعلاف، ما أثار شكوكا حول عمليات تخريب إقتصادي منسّقة.
عندما طلب راكوشي من موسكو المساعدة الغذائية، تجاهله خروتشوف، الذي كان يسعى إلى إبعاده عن السلطة بإعتباره من "رموز الحقبة الستالينية". وبالفعل، تمت إقالته في تموز/يوليو 1956، ليحلّ محله خصمه القديم ناجي، المعروف بميله للإصلاح.
هذا التحوّل فتح الباب أمام تفكك الولاءات داخل الحزب، وتراجع سيطرة الأجهزة الأمنية، بينما أخذت الجامعات والنقابات تُطالب بإصلاحات سياسية واسعة.
4. من الإحتجاج إلى الثورة المضادة
في 23 تشرين الأول/أكتوبر 1956، إنطلقت تظاهرة طلابية في بودابست تطالب بالحرية السياسية والإنسحاب السوفياتي. لكن خلال ساعات تحوّلت المسيرات إلى تمرد مسلح بعد إقتحام المتظاهرين لمقر الإذاعة الحكومية.
وفق إحصاءات الحكومة الهنغارية المؤقتة، قُتل خلال الأسبوع الأول أكثر من 300 مسؤول حزبي ورجل أمن على يد مجموعات مسلّحة، بعضها إستخدم أسلحة تم تهريبها من النمسا. وقد وثّق المؤرخ الروسي فلاديمير بولياكوف في دراسته The Hidden War of 1956 أن عدداً من هؤلاء قُتلوا بطرق وحشية، وسُحلت جثثهم في الشوارع، مما أدى لتدخل الجيش السوفياتي في 4 تشرين الثاني/نوفمبر لإعادة النظام.
على الرغم من محاولة ناجي التفاوض على حياد المجر وخروجها من حلف وارسو، فإن موسكو إعتبرت ذلك تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، خاصة في ظل تحريض إذاعات الغرب وتدفق اللاجئين عبر الحدود.
بحلول منتصف نوفمبر، كانت المقاومة قد إنهارت، وتم إلقاء القبض على ناجي، الذي سيُعدم لاحقًا في عام 1958 بتهمة الخيانة العظمى.
5. الدعاية المتبادلة وصورة الرمز
في الغرب، صُوِّرت إنتفاضة بودابست كـ"ثورة حرية" ضد الطغيان السوفياتي، بينما إعتبرتها موسكو وحلفاؤها "ثورة مضادة مدعومة من الخارج".
اللافت أن بعض الأدلة التي ظهرت بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي دعمت جزئياً السردية الأخيرة: فثمة عناصر داخلية طالبت فعلاً بالإصلاح والديمقراطية، لكن شبكات الإستخبارات الغربية كانت قد هيّأت المناخ الإعلامي والسياسي لتفجير الأزمة.
في دراسة أعدها المؤرخ الأمريكي Mark Kramer (Harvard Cold War Studies Center, 2002)، يؤكد أن "الإنتفاضة الهنغارية كانت أول اختبار حقيقي لإستراتيجية الحرب الباردة غير المباشرة: مزج الدعاية الإقتصادية والنفسية مع زعزعة الإستقرار الداخلي دون مواجهة عسكرية مباشرة".
تمثال إيمري ناجي، الذي أُزيح من مكانه قرب البرلمان في 2018، ما يزال حتى اليوم رمزًا لتلك المرحلة الملتبسة، حيث إلتقى الحلم بالإصلاح مع تآمر الغرب، وإنتهى الإثنان تحت جنازير الدبابات.
6. قراءة في الدلالات الراهنة
بعد مرور سبعين عامًا، يتضح أن "الميدان الهنغاري" لم يكن سوى بروفة مبكرة للثورات الملونة وحروب النفوذ التي شهدها العالم في العقود اللاحقة، من براغ 1968 إلى كييف 2004 و2014.
ففي كل تلك الحالات، إجتمعت العناصر ذاتها: إستغلال التململ الشعبي، والتخريب الإقتصادي، والدعاية عبر الإعلام الخارجي، وتمويل عناصر الطابور الخامس، لتوليد إنفجار سياسي يخدم ميزان القوى الدولي.
وإذا كانت القوات السوفياتية قد حسمت الموقف في بودابست بسرعة، فإن الأسلوب الغربي في إدارة الأزمات الداخلية للدول الخصم لم يتوقف، بل تطوّر لاحقًا تحت ما يُعرف بـ"الثورات الملونة" في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن – وهي إعادة إنتاج أكثر نعومة لتجارب القرن العشرين الصلب.
تُظهر إنتفاضة بودابست عام 1956 كيف يمكن أن تتقاطع الهشاشة الداخلية مع حسابات الخارج لتصنع لحظة مفصلية في تاريخ أمة.
فما بدا حينها تمرّدًا وطنياً كان في الوقت نفسه ساحة مواجهة بين مشروعين عالميين.
وبينما أُسدل الستار على إيمري ناجي بالمشنقة، ظلّت المجر تُجسّد المفارقة الجوهرية للحرب الباردة: أن الحرية نفسها يمكن أن تتحول إلى أداة في لعبة الأمم والدولار.
7) من ميدان 1956 إلى ميدان بروكسل
بعد سبعين عامًا، يعود اسم بودابست إلى العناوين الدولية مجددًا، لكن هذه المرة في سياقٍ مختلف تمامًا.
في صيف 2025، نشرت وكالة NEWS.ru الروسية تقريرًا مثيرًا نقلاً عن هيئة الإستخبارات الخارجية الروسية قالت فيه إن الإتحاد الأوروبي يخطط لتغيير النظام في المجر.
بحسب التقرير، ترى بروكسل أن رئيس الوزراء فيكتور أوربان أصبح “عقبة أمام وحدة أوروبا”، وتسعى إلى إستبداله بالمعارض بيتر ماديار، زعيم حزب “الإحترام والحرية”.
الوكالة زعمت أن التمويل يأتي من صناديق ألمانية ومنظمات نرويجية مرتبطة بالحزب الشعبي الأوروبي، وأن أوكرانيا تشارك في “زعزعة الوضع الداخلي” عبر شبكاتها في الجاليات الهنغارية بالخارج.
أما السبب الرئيسي، كما تقول الإستخبارات الروسية، فهو أن بودابست رفضت المصادقة على موازنة الإتحاد الأوروبي الجديدة، معتبرةً أنها مخصصة “لعسكرة أوروبا والإستعداد لمواجهة مع موسكو”.
الكاتب الروسي ستانيسلاف تكاتشينكو، الأستاذ في جامعة سانت بطرسبورغ، يرى أن أوربان ليس “حليفًا لروسيا” بقدر ما هو “براغماتي واقعي”، يدرك أن بلاده لا تستطيع العيش من دون الغاز والطاقة النووية الروسية.
لكن براغماتية أوربان هذه، كما يعلق صحفي هنغاري في بودابست، “تجعل منه رجلًا غير مرغوب فيه في بروكسل، لأنها تذكّر الأوروبيين بواقعية زمن الحرب الباردة.”
8) التاريخ يعيد نفسه... بأدوات مختلفة
المثير في المشهد أن المجر — الدولة الصغيرة التي كانت قبل سبعين عامًا مسرحًا أوليًّا لمعارك المخابرات بين موسكو وواشنطن — تبدو اليوم مجددًا في قلب لعبة النفوذ ذاتها، وإن بأزياء جديدة.
فكما إستخدم الغرب آنذاك الدعاية والتخريب الإقتصادي لإشعال “الميدان الهنغاري”، يستخدم اليوم أدوات سياسية وإعلامية للضغط على حكومة أوربان الرافضة لخط المواجهة مع روسيا.
لقد تغيّرت اللغة، لكن الجوهر واحد: من يسيطر على بودابست يملك مفتاح التوازن في أوروبا الوسطى.
وبينما يتحدث الغرب اليوم عن “قيم الديمقراطية الأوروبية”، تتحدث موسكو عن “دفاعها عن سيادة الشعوب”، والنتيجة أن الميدان — رمز التمرد القديم — عاد ليطلّ من جديد في لعبة كبرى لا يبدو أنها إنتهت مع سقوط جدار برلين.
9) خاتمة
إنتفاضة بودابست عام 1956 لم تكن فصلًا منسيًا في التاريخ، بل كانت التمهيد الأول لحروب النفوذ الحديثة، تلك التي تُصنع بالكاميرات والإعلام بقدر ما تُصنع بالسلاح.
واليوم، حين نسمع في الأخبار عن “ميدان جديد” في هنغاريا، لا يبدو الأمر مجرد إستعارة. إنه تذكير بأن الحرب الباردة لم تمت تمامًا، بل غيّرت شكلها فقط.
#زياد_الزبيدي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟