|
طوفان الأقصى 734 - هل الطريق إلى نوبل يمر عبر تل أبيب أو مقر الناتو؟
زياد الزبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 8490 - 2025 / 10 / 9 - 22:00
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إعداد وتحليل د. زياد الزبيدي
10 أكتوبر 2025
يبدو أن جائزة نوبل لم تعد مجرّد تتويج للعبقرية الإنسانية، بل تحوّلت إلى مرآة تكشف ما هو أعمق من الإنجاز العلمي أو الأدبي نفسه: البنية السياسية والأخلاقية التي تحكم الإعتراف الغربي بالعقل غير الغربي. فحين يفوز عالم فلسطيني بجائزة نوبل في الكيمياء بينما تتواصل الإبادة الجماعية في غزة، لا يمكن للحدث أن يُقرأ ببساطة كإحتفال علمي، بل كعلامة متشابكة على إزدواجية الزمن الحديث: زمن العلم المضيء وزمن العنف المظلم الذي يتقاطع معه في لحظة واحدة. من هنا تنبع أهمية قراءة تجربة البروفسور عمر ياغي ليس بوصفها حدثًا علميًا فقط، بل كإختبار أخلاقي يعيد طرح سؤال طالما طُمس تحت ضجيج الإحتفالات: هل الطريق إلى نوبل يمر بالضرورة عبر بوابة تل أبيب؟
ولد عمر ياغي في الأردن لأسرة فلسطينية هجّرتها النكبة من قرية المسميّة الكبرى قرب غزة. تخرّج من الجامعة الأمريكية في بيروت، ثم واصل دراساته العليا في الولايات المتحدة حيث برز في ميدان الكيمياء الحديثة، خصوصًا في أبحاث “الأطر الفلزية العضوية” التي أحدثت ثورة في مجال تخزين الغازات والطاقة النظيفة. نال إعترافًا عالميًا واسعًا بوصفه من العلماء الأكثر تأثيرًا في العقدين الأخيرين. لكن هذا المسار العلمي الذي بدأ من اللجوء الفلسطيني وإنتهى إلى منصة نوبل عام 2025، لا يخلو من مفارقات قاسية حين يُستعاد في ضوء مواقفه السابقة من جائزة “وولف” الإسرائيلية التي قبلها عام 2018، في ذروة العدوان على غزة.
في تلك اللحظة، كان مشهد قبول ياغي لجائزة إسرائيلية قيمتها مئة ألف دولار يُقرأ كتعثر أخلاقي لعالم عربي يدرك معنى الإحتلال أكثر من غيره. فقد إنتقدته “الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل” (PACBI) بوصفه قد خرق الإجماع الأخلاقي الفلسطيني الرافض لأي شكل من أشكال التطبيع مع مؤسسات تابعة للإحتلال، خاصة أن “مؤسسة وولف” تخضع لإشراف مباشر من وزارة التعليم الإسرائيلية، ويمنح رئيس الدولة الجائزة بنفسه داخل الكنيست. في بيانها الصادر في أيار/مايو 2018، قالت الحملة إن قبول ياغي للجائزة في وقت تُرتكب فيه مجازر غزة يشكل “تواطؤًا علميًا في تلميع وجه نظام الإستعمار-الإستيطاني والأبارتهايد الإسرائيلي”. المفارقة أن ياغي، الذي تحدث في تصريحه آنذاك عن “الحرية الإنسانية التي يمنحها العلم”، لم يرَ التناقض بين تلك الحرية التي يحتفي بها في مختبره، والحرمان الممنهج لحرية شعبه في أرضه. بدا كأن العلم، في صيغته الغربية الرسمية، قد تحول إلى مساحة منزّهة عن الأخلاق، أو إلى “تجريد كوني” لا يرى في الإحتلال سوى ظرف سياسي ثانوي لا يعنينا حين نخلّف وراءنا العالم الثالث. لكنّ المسألة أعمق من موقف فردي لعالمٍ ما. فحين ننظر إلى بنية الجوائز العلمية الكبرى، يتضح أن “الإعتراف” الغربي لا يُمنح إلا ضمن منطق سياسي غير معلن. مؤسسة نوبل نفسها ليست بريئة من هذا التاريخ الطويل من التحيزات: فقد ظلت لعقود تتجاهل علماء من الجنوب، أو تكافئ آخرين من الشرق الأوسط بعد أن يتماهوا تمامًا مع النموذج الغربي في البحث والتمثّل العلمي. هكذا يغدو منح الجائزة لعالم فلسطيني لحظة “تجميلية” للنظام الدولي، تمامًا كما تُمنح جوائز السلام أحيانًا لمن ساهموا في ترسيخ موازين القوى لا في كسرها. وبذلك يتحوّل الاعتراف بالعبقرية إلى عملية “إحتواء ناعم”، حيث يُستوعب العالم العربي أو المسلم الناجح في منظومة الإعتراف الغربي مقابل حياده السياسي وصمته الأخلاقي.
ومن هنا يمكن فهم المفارقة المزدوجة في مسار عمر ياغي: عبقرية علمية حقيقية تنقل الإنسانية خطوة إلى الأمام في مجال الطاقة المستدامة، يقابلها سقوط أخلاقي حين يتقاطع هذا التفوق مع مؤسسات الإحتلال التي هجّرت عائلته قبل سبعين عامًا. كأن المنظومة الأكاديمية الغربية تطلب من العالم العربي أن يتنازل عن ذاكرته كي يُقبل في نادي العلماء الكونيين. وما لم يُعلن صراحة، هو أن نوبل ذاتها تكرّس هذا الشرط في صورة “الحياد السياسي” الذي يبدو في ظاهره علميًا، لكنه في العمق حياد تجاه الظلم.
في هذا السياق، لا يبدو مثال العالم المصري أحمد زويل بعيدًا عن النموذج نفسه. فزويل، الذي فاز بجائزة وولف الإسرائيلية عام 1993 قبل أن ينال نوبل عام 1999، كان يُقدَّم بإعتباره نموذجًا للعبقرية العربية التي إندمجت في الحضارة الغربية بلا عقد. في وثائق “مؤسسة وولف”، نُوّه إلى “إسهاماته في تعزيز الصداقة بين الشعوب” بقدر ما أُشير إلى إكتشافه العلمي في “ثانية الفيمتو” Femto second التي فتحت آفاقًا جديدة في الكيمياء الفيزيائية. وبذلك لم تكن الجائزة العلمية إعترافًا بالعلم فقط، بل أيضًا شهادة حسن سلوك رمزية تُمنح للعالم القادم من الشرق إذا ما تماهى مع الصورة المطلوبة: عالمٌ متفوق علميًا، منزوع الهوية السياسية، يُقدَّم كدليل على “إنفتاح إسرائيل على العلم والإنسانية”. إنها صيغة ناعمة للتطبيع المعرفي، حيث تُسحب القضايا من سياقها الإستعماري لتُدرج ضمن “إنجازات إنسانية مشتركة” تتجاهل جذور المأساة.
لا يمكن لأحد أن ينكر أن أحمد زويل كان رائدًا حقيقيًا في ميدانه، وأن إكتشافه غيّر وجه الكيمياء الحديثة. لكن السؤال النقدي هنا لا يتعلق بعبقريته، بل بالبنية الرمزية التي تحتفي بهذه العبقرية. لماذا ظل الإعتراف الغربي بعلماء الجنوب مشروطًا بالإحتضان المؤسسي في الغرب؟ ولماذا تمرّ بعض الجوائز الكبرى عبر مؤسسات إسرائيلية دون أن تثير حرجًا أخلاقيًا لدى النخبة العربية؟ قد يبدو الجواب بسيطًا: لأن العلم لا وطن له. لكن هذا الشعار المثالي يتهاوى أمام واقعٍ تُستخدم فيه الجوائز أداةً لتبييض وجه القوة وتطبيع حضورها في الوعي الأكاديمي العربي. فكما قال الناقد والبروفيسور الأمريكي إدوارد سعيد، “الإستشراق الحديث لا يقوم على فرض السيطرة بالقوة، بل على تحويل الآخر إلى موضوع معرفة مألوف يمكن التفاهم معه”. وفي الحالة العلمية، يتحول الإعتراف بالعالم العربي إلى ترويض رمزي لعقله ضمن حدود المسموح.
وإذا كان المثالان السابقان (ياغي وزويل) يكشفان العلاقة بين العلم والسياسة في الجوائز، فإن مثال نجيب محفوظ يفتح باب الأدب على المصير نفسه. حين فاز محفوظ بجائزة نوبل في الآداب عام 1988، كانت إسرائيل ومصر قد وقّعتا معاهدة السلام قبل عقدٍ واحد فقط، وكانت المؤسسة الثقافية الغربية تبحث عن “وجه عربي معتدل” يمكن تقديمه كرمز للتنوير العربي ما بعد الناصرية. جاء فوز محفوظ بعد سنوات من الترجمات العبرية لأعماله التي تمت في إسرائيل من دون إذنه، ثم إتصالات “ثقافية” رتبتها مؤسسات مصرية بعد الإنفتاح السياسي على تل أبيب. في حوار أجراه عام 1978 مع مجلة “المجلة”، قال محفوظ بوضوح: “الرئاسة ورطتني في علاقات مع إسرائيل بعد الصلح، ربما أخطأت، لكني لم أخن”. الجملة تختصر مأزق المثقف العربي أمام الإغراء الغربي: إما أن يقاطع ويُهمّش، أو ينفتح ويُحتفى به.
فوز محفوظ لم يكن فقط إعترافًا بإبداعه الأدبي، بل أيضًا تتويجًا لصورة “الأديب الليبرالي” الذي لم يعارض إتفاق كامب ديفيد ولم يصطدم مع الدولة المصرية في لحظة تحولها نحو الغرب. وهو ما جعل كثيرين يرون في نوبل حينها “مكافأة سياسية” بقدر ما هي جائزة أدبية. لقد منحته الأكاديمية السويدية الجائزة لأسباب فنية حقًا، لكنها فعلت ذلك أيضًا في سياق سياسي أراد التمييز بين محفوظ ومناخ المقاومة الثقافية العربية الذي جسّده أدباء كغسان كنفاني أو محمود درويش، الذين لم يُمنحوا هذا الإعتراف رغم حضورهم العالمي. لم يكن محفوظ خائنًا، كما قال عن نفسه، لكنه تورط في شبكة معقدة من الرموز السياسية التي تحيط بجائزة نوبل وتجعلها أكثر من مجرد تكريم أدبي.
من هنا يتضح أن “لعنة نوبل” ليست في الجائزة ذاتها، بل في السياق الذي تُمنح فيه. إن نوبل، مثل غيرها من الجوائز العالمية الكبرى، تعمل في إطار منظومة رمزية يحددها الغرب الليبرالي بوصفه الموزّع الشرعي للإعتراف الحضاري. وما بين جائزة نوبل وجائزة وولف الإسرائيلية تتجسد خريطة النفوذ المعرفي التي تجعل “النجاح العلمي” يمر غالبًا عبر محطات الهيمنة ذاتها التي قهرت العالم الثالث عسكريًا وإقتصاديًا. لا يعني ذلك إنكار المنجز العلمي أو الأدبي، بل تفكيك شبكة الإعتراف التي تحيط به. فحين يقبل عالمٌ فلسطيني جائزة من مؤسسة إسرائيلية، أو يحتفي عالم مصري بدعمٍ إسرائيلي لبحثه، أو يجد أديب عربي نفسه موضوع تطبيع ثقافي بعد نوبل، فإننا أمام نمط واحد يتكرر بأشكال مختلفة: الإحتفاء بالعبقرية العربية بشرط أن تكون منزعة السياق، معزولة عن قضاياها، خاضعة لمعيار “العلم من أجل العلم” أو “الأدب من أجل الأدب”.
إن قراءة فوز عمر ياغي اليوم، في ظل حرب الإبادة في غزة، تفرض على المثقف العربي مراجعة هذا المفهوم من الإعتراف. فبينما تُقصف مختبرات الجامعات في القطاع، يُكرَّم عالم فلسطيني في الغرب بوصفه نموذجًا للتنوير. أي مفارقة أشد؟ لا أحد يطالب العلماء بتحويل أبحاثهم إلى بيانات سياسية، لكن الصمت أمام الجريمة حين يكون العالم إبن الضحية، ليس حيادًا بل إنخراطًا ضمنيًّا في تبريرها. لقد كان ستيفن هوكينغ، العالم البريطاني الأشهر، أكثر وضوحًا حين رفض حضور مؤتمر أكاديمي في القدس عام 2013 إحتجاجًا على الاحتلال، مؤكداً أن “العلم لا يمكن أن يزدهر فوق أنقاض الحرية”.
قد يقول البعض إننا نحمّل نوبل أكثر مما تحتمل، لكن التاريخ يصرّ على تكرار النمط ذاته: جوائز كبرى تمنح لمستحقين علميًا، لكنها تأتي في لحظات سياسية شديدة الحساسية لتؤدي وظيفة رمزية في هندسة الصورة الذهنية عن “الشرق القابل للإندماج”. من محفوظ الذي قُدم كوجه أدبي للسلام، إلى زويل الذي صار رمزًا “للعقل العربي المتفوق” في أحضان المؤسسة الأمريكية، إلى ياغي الذي يُحتفى به اليوم كإبنٍ للمنطقة التي لا تُمنح جوائز إلا بعد أن تُدمّر. إنها ليست مؤامرة بقدر ما هي بنية قوة تتكرر في كل أشكال الإعتراف الغربي بالعقول القادمة من الجنوب: إحتفاء مشروط بالصمت، وإعتراف يكتسب معناه من الترويض أكثر مما يكتسبه من الحرية.
وللدلالة على شمولية هذه السياسة، نذكر القارىء أنه منذ خمسينيات القرن العشرين، أدت جائزة نوبل وظيفةً مزدوجة: الإحتفاء بالإنجاز العلمي أو الأدبي من جهة، والتعبير عن إصطفافٍ سياسي من جهة أخرى. فقد منحت اللجنة في ستوكهولم الجائزة لعدد من المنشقين والمثقفين المعارضين للدولة السوفياتية، مثل بوريس باسترناك عام 1958، وألكسندر سولجنتسين عام 1970، وأندريه ساخاروف عام 1975، وهي جوائز لم تُقرأ في موسكو كتكريم فكري بل كرسائل سياسية موجهة إلى الداخل السوفياتي لتغذية خطاب “حرية الفكر” و”حقوق الإنسان” في مواجهة “الإستبداد الأيديولوجي”، كما كانت تردد إذاعات صوت أميريكا وأوروبا الحرة. وبعد إنهيار الإتحاد السوفياتي عام 1991، لم تتخل لجنة نوبل عن هذا البعد الجيوسياسي، بل أعادت توجيهه نحو دول ما بعد الإشتراكية، فبرزت الجوائز كجزء من إستراتيجية رمزية لتثبيت خطاب “التحول الديمقراطي” وشرعنة إتجاهات “الإصلاح الليبرالي” في روسيا وأوروبا الشرقية. فقد مُنحت جائزة نوبل للسلام لميخائيل غورباتشوف عام 1990، في لحظة تفكك الإتحاد، تقديرًا — كما قيل — لـ”جهوده في إنهاء الحرب الباردة”، لكنها في السياق التاريخي بدت أيضًا مكافأة على تفكيك النموذج السوفياتي نفسه. وفي التسعينيات، أستُخدمت الجائزة لتلميع رموز “المجتمع المدني” و”الإقتصاد الحر” في بولندا وتشيكيا، مثل ليخ فاليسا (نوبل 1983) وفاتسلاف هافل، اللذين تحولا لاحقًا إلى واجهتين سياسيتين لإدماج بلديهما في المنظومة الأطلسية. وهكذا تحولت نوبل في مرحلة ما بعد الحرب الباردة من مجرد إعتراف علمي أو أدبي إلى أداة من أدوات الدبلوماسية الثقافية الغربية، تُمنح لمن يجسد قيم “العالم الحر” في صيغته الليبرالية الجديدة، سواء كان مصلحًا سياسيًا أو مفكرًا ناقدًا للأنظمة السلطوية السابقة. ومع إتساع الفجوة بين الغرب وروسيا مجددًا بعد عام 2014، أعيد إحياء هذا الإستخدام الرمزي للجائزة في المجال الروسي، عبر الإحتفاء بمعارضين وصحفيين مستقلين (مثل ديمتري موراتوف عام 2021)، في تكرار واضح للأنماط التي عرفها العالم خلال الحرب الباردة الأولى. وفي نفس السياق يندرج إسم شيرين ابادي (Shirin Ebadi) التي حصلت على جائزة نوبل للسلام عام 2003، وهي محامية وناشطة حقوقية إيرانية، "أعتُبرت مساهمتها بارزة في الدفاع عن حقوق الأطفال والنساء والحريات المدنية في إيران". والشيء نفسه ينطبق على اليمنية "توكل كرمان" التي فازت بجائزة نوبل للسلام (2011) "لنضالها السلمي من أجل أمن النساء وحقهن في المشاركة الكاملة في بناء السلام". وهنا لا بد من القول أن كرمان كانت من أبرز الوجوه المدنية في ثورة 2011 في اليمن، ونشاطها ضمن حزب التجمع اليمني للإصلاح (الإخوان المسلمين) جعل الجائزة محاطة بجدل سياسي؛ إذ إعتبرها البعض جزءًا من خطاب “الربيع العربي” الذي روّجت له القوى الغربية كمرحلة ديمقراطية جديدة في الشرق الأوسط. كل هؤلاء اذا لم يمروا عبر تل أبيب، فقد مروا عبر نفق الناتو. وبناء على نفس المنطق، أعتقد أن ترشيح أحمد الشرع لنيل نوبل للسلام في منافسة حامية الوطيس مع ترامب سيليق بهذه الجائزة.؟!
وأستميح القارىء عذرا للإطالة في تقصي زواريب هذا الموضوع، فمنذ سبعينيات القرن العشرين، لم تعد جائزة نوبل للسلام تُمنح حصراً للمناضلين ضد الحرب أو دعاة العدالة الإجتماعية، بل تحولت تدريجياً إلى أداة سياسية رمزية تُستخدم لتكريس توازنات القوى الغربية تحت شعار “السلام”. فقد شملت قائمة الفائزين عدداً من القادة والمسؤولين الذين إرتبطت أسماؤهم بصراعات دامية أو بتسويات وُلدت في كنف الهزيمة، من هنري كيسنجر (1973) إلى مناحيم بيغين (1978)، مروراً بـإسحاق رابين وشمعون بيريس (1994)، وصولاً حتى إلى أنور السادات وياسر عرفات.
ومن بين أكثر حالات المفارقة الأخلاقية في تاريخ الجائزة، تظل حالة هنري كيسنجر عام 1973 الأكثر فجاجة وإثارة للجدل. فالرجل لم يكن فقط مهندس الحرب الأميركية في فيتنام — وهي حرب أبادت الملايين من المدنيين الآسيويين باسم “الإحتواء” — بل كان أيضًا أحد العقول المدبرة وراء الإنقلاب العسكري في تشيلي في العام نفسه، الذي أطاح بالرئيس المنتخب سلفادور أليندي وأدخل البلاد في واحدة من أعتى الديكتاتوريات في أميركا اللاتينية بقيادة أوغستو بينوشيه. لقد دعمت إدارة نيكسون، بتوصية مباشرة من كيسنجر، حملات التمويل السرّي وتخريب الاقتصاد التشيلي، قبل أن تبارك الإنقلاب الذي أنهى التجربة الديمقراطية الوحيدة في أميركا اللاتينية آنذاك، تحت شعار “محاربة الشيوعية”.
ورغم ذلك، نال كيسنجر جائزة نوبل للسلام مع المفاوض الفيتنامي لي دوك تو، الذي رفض إستلامها إحتجاجًا على إستمرار القصف الأميركي لبلاده. هكذا تحوّل الرجل الذي أشعل الحروب ودبّر الإنقلابات إلى “رجل سلام” في نظر لجنة نوبل، في واحدة من أكثر لحظات الإنفصام الأخلاقي والسياسي فجاجة في تاريخ الجائزة. لقد كشفت تلك الحادثة المبكرة عن البنية العميقة للجائزة: فهي لا تكافئ السلم كقيمة إنسانية، بل تكرّس الإنتصار الغربي في الحرب الباردة كقيمة سياسية.
ولم تكن هذه الحالة إستثناءً؛ فالقائمة تطول لتشمل مناحيم بيغين، قائد منظمة “الأرغون” المسؤولة عن مجزرة دير ياسين، والذي كوفئ على معاهدة كامب ديفيد، وأنور السادات الذي نال الجائزة عن الخطوة ذاتها التي أخرجت مصر من معادلة الصراع العربي–الإسرائيلي، وإسحاق رابين وشمعون بيريس اللذين رُوِّج لهما كـ"صانعي سلام" رغم إستمرار الإحتلال وتوسيع الإستيطان، وياسر عرفات الذي مُنح الجائزة في تسويةٍ حملت رمزية الإعتراف أكثر مما منحت السيادة. ثم جاء باراك أوباما (2009) ليجسد المفارقة القصوى: نال نوبل للسلام بعد أشهر قليلة من توليه الحكم، بينما كانت طائراته المسيّرة تواصل غاراتها في أفغانستان واليمن وباكستان.
هكذا بدا أن نوبل للسلام تكافئ النية لا النتيجة، وتُكرّس “سلاماً” يكتبه المنتصر لا الضحية. فهي تُمنح لمن يوقّع وثيقة الهدنة أو “ينفتح” على الغرب، لا لمن يقاوم أسباب الحرب أو يسعى إلى عدالة مستدامة. في هذا المعنى، غدت الجائزة إمتداداً للدبلوماسية الليبرالية الغربية، تُستخدم لتبييض وجوه السياسيين وتبرير سياساتهم في لحظات التحول أو الإنعطاف التاريخي.
ولعل السؤال الذي يُطرح اليوم، كما يرد في وجدان الأجيال الجديدة في العالم العربي وعالم الجنوب، هو: “أي سلام ينعم به جيلنا حتى يستحق هؤلاء جائزة نوبل للسلام؟”
ذلك أن السلام الحقيقي لا يُقاس بعدد التواقيع على المعاهدات، بل بمدى توقف الحروب وتراجع الظلم. أمّا حين يصبح السلام مشروعاً فوقيّاً يُدار من العواصم الأطلسية ويُمنح كوسام لمن تبنّى “التطبيع” أو “الإصلاح” بمعاييره، فإن الجائزة تفقد معناها الأخلاقي الأصلي وتتحول إلى وسيلة لإعادة إنتاج النظام العالمي نفسه — لا لتغييره.
واليوم، وبعد عقود من ذلك الإرث المتناقض، لا يزال مشهد “نوبل للسلام” يثير السخرية. فدونالد ترامب ينتظر نصيبه منها بإصرار، بعد ما يسميه “خدمته في غزة”، بينما يطل بنيامين نتنياهو من خلف دخان الحرب، مرشحًا ضمنيًا هو الآخر، لأنه – كما يقول مؤيدوه – “تكرم” ووافق على وقف حرب الإبادة الجماعية مؤقتًا. وكأن المجازر تُمحى بمجرد إعلان هدنة قصيرة، وكأن القاتل حين يتوقف عن القتل لبعض الوقت يصبح “رسول سلام”، لم لا؟
في نهاية المطاف، لا يمكن فصل العلم عن الأخلاق، ولا الأدب عن السياسة، لأن كليهما تعبير عن معنى الإنسان في العالم. وإذا كان الطريق إلى نوبل يمر عبر تل أبيب كما توحي الوقائع، فربما آن الأوان لأن يعيد العقل العربي التفكير في معنى الجوائز نفسها: هل هي غاية للعلم، أم وسيلة لإحتواء العالم؟ حينها فقط يمكن أن يتحرر العالم العربي من وهم الإعتراف الخارجي، ويصوغ معاييره الخاصة للتميز والكرامة في آنٍ واحد.
******
المراجع
1) مجلة المجلة. (1978). حوار نجيب محفوظ بعد معاهدة الصلح بين إسرائيل ومصر. العدد الصادر في يوليو 1978.
2) جريدة الأحرار المصرية. (1985, July 1). إعادة نشر حوار نجيب محفوظ عن علاقته بالإسرائيليين.
3) الوطن المصرية. (2017, December 12). رد نجيب محفوظ على تهمة التطبيع قبل 39 سنة: اتورطت بس ماخنتش.
4) الفلسطيني عمر ياغي يفوز بجائزة نوبل للكيمياء لعام 2025. BBC Arabic.
5) Haaretz. (2017). Omar Yaghi’s scientific collaboration and Wolf Prize connection.
6) الجزيرة. (2025). عندما يصبح العلم جسرًا للتطبيع: جدل الجوائز الإسرائيلية والعربية. 7) Arab Center for Research and Policy Studies. (2023). العلم والسياسة في الجوائز الدولية: دراسة حالة نوبل ووولف.
8) موقع "إسرائيل تتكلم العربية" 4/8/2016 هل تعلم أن الدكتور أحمد زويل حاصل على جائزة وولف الإسرائيلية؟
9) بيان حركة المقاطعة BDS المنشور 14-05-2018 بعنوان: "إلى البروفيسور عمر ياغي: لا كيمياء مع الإحتلال!"
#زياد_الزبيدي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
طوفان الأقصى 733 - مؤشرات إقتراب الهجوم على إيران
-
طوفان الأقصى 732 - اللوبي الإسرائيلي يفقد سحره في واشنطن: رس
...
-
طوفان الأقصى 731 - جردة حساب بعد عامين من حرب الإبادة - الأز
...
-
حين خُدع غورباتشوف: كيف كانت «وحدة ألمانيا» فخًّا إستراتيجيا
...
-
طوفان الأقصى 730 - حين يتكلم الضمير الأمريكي: ساكس وميرشايمر
...
-
طوفان الأقصى 729 - خطة ترامب للسلام في غزة - ورؤى روسية متبا
...
-
حين بيعت جمهورية بثمن ساندويش فلافل
-
طوفان الأقصى 728 - خطة ترامب لغزة: بين الوهم والواقعية... هل
...
-
طوفان الأقصى 727 - من غزو العراق إلى غزة: كيف يعود -كلب بوش
...
-
طوفان الأقصى 726 - خطة ترامب للسلام في غزة – بين تجديد الصرا
...
-
طوفان الأقصى 725 - ترامب بين النرجسية والخطر النووي - جدل حو
...
-
طوفان الأقصى 724 - إسرائيل على حافة العزلة الدولية: نحو نموذ
...
-
طوفان الأقصى 723 - آفي شلايم: المؤرخ الذي تخلّى عن الصهيونية
...
-
طوفان الأقصى 722 - إيران–العراق: الحرب العبثية
-
طوفان الأقصى 721 - نتنياهو يحرق آخر أوراق إسرائيل
-
طوفان الأقصى 720 - إسرائيل بين إسبرطة وقرطاج: من حصن إلى مقب
...
-
طوفان الأقصى 719 - الإعتراف الغربي بفلسطين: وردة في اليد وخن
...
-
طوفان الأقصى 718 - إعلان المؤتمر اليهودي الأول لمناهضة الصهي
...
-
طوفان الأقصى 717- الميثاق السعودي–الباكستاني وتحوّلات ميزان
...
-
طوفان الأقصى 716 - إسرائيل وقطر: من أمن العقاب أساء الأدب
المزيد.....
-
المتحدث باسم حماس يرد لـCNN على فرضية إمكانية استئناف إسرائي
...
-
مصادر لـCNN: حكومة إسرائيل تجتمع للتصويت على اتفاق وقف إطلاق
...
-
ترامب يعلن عزمه التوجه للشرق الأوسط: أنهينا حرب غزة وسيتم ال
...
-
لقاء باريس يبحث -اليوم التالي- في غزة وسط تحذيرات فرنسية من
...
-
بلجيكا: توقيف ثلاثة أشخاص يشتبه في تخطيطهم لهجوم إرهابي ضد ش
...
-
-شبكات- ترصد ردود الفعل على اتفاق غزة وضرب معلمة سورية لطلاب
...
-
الفلسطينيون في لبنان يحتفلون باتفاق إنهاء الحرب على غزة
-
إدارة ترامب تفرض عقوبات على نحو 100 فرد وكيان لشراء النفط ال
...
-
منظمة فلسطينية تطعن في قرار بريطانيا تصدير أجزاء -إف-35- لإس
...
-
مطالب عربية بالالتزام بتنفيذ اتفاق غزة واستثماره للتوصل لسلا
...
المزيد.....
-
شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان
...
/ غيفارا معو
-
حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
جسد الطوائف
/ رانية مرجية
-
الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025
/ كمال الموسوي
-
الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة
/ د. خالد زغريت
-
المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد
/ علي عبد الواحد محمد
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
-
من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل
...
/ حامد فضل الله
المزيد.....
|