أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - بهجت العبيدي البيبة - الهوية المصرية بين الموجة المتوسطية والجذر الجغرافي: حوار الأجيال بين طه حسين وجمال حمدان 














المزيد.....

الهوية المصرية بين الموجة المتوسطية والجذر الجغرافي: حوار الأجيال بين طه حسين وجمال حمدان 


بهجت العبيدي البيبة

الحوار المتمدن-العدد: 8516 - 2025 / 11 / 4 - 16:10
المحور: قضايا ثقافية
    


ظلّت مصر، بتاريخها الممتد كالنيل، حائرة بين قبلتين: ضوء المتوسط المنفتح، ودفء الشرق الأصيل. هذا الانشطار لم يكن مجرد صراع جغرافي، بل تجسّد في واحدة من أعمق المعارك الفكرية التي شهدها العقل المصري الحديث، بين عميد الأدب العربي طه حسين في ثلاثينيات القرن الماضي، وعبقري الجغرافيا جمال حمدان في سبعينياته. لقد كان السؤال جوهريا: أين تنتمي مصر حقا؟ هل هي ابنة المتوسط الحديث أم وريثة محيطها العربي المترامي؟
طه حسين: الإرادة الحضارية وخيار العقل المتوسطي
حين خطّ الدكتور طه حسين كتابه الأيقوني "مستقبل الثقافة في مصر" عام 1938، كان يتنفس في زمنٍ مشحون بالقلق على المصير. كانت أطروحة كتابه بمثابة صرخة تحرير للعقل المصري من قيود الانغلاق والماضي المتصلب. لقد ارتكزت رؤيته على فرضية جريئة: مصر تنتمي إلى البحر المتوسط، لا إلى الصحراء.
بالنسبة لعميد الأدب، لم يكن الانتماء مسألة عرق أو دين خالص، بل هو اختيار حضاري واعٍ. لقد رأى طه حسين أن التاريخ المصري برمته، من الفراعنة حتى عصر محمد علي، ظلّ مشدودا إلى حوض المتوسط، وأن النيل نفسه هو شريان حيوي ينتهي إلى هذا البحر. كان البحر المتوسط في نظر طه حسين ليس مجرد مسطح مائي، بل هو دائرة حضارية كونية جمعت أثينا وروما وباريس والقاهرة والإسكندرية على خط واحد من الفكر، والعقل، والتنوير.
"إن مصر جزء من أوروبا." هذه الجملة الشهيرة التي ذكرها عميد الأدب العربي، في كتابه سالف الذكر، لم يقصد بها دعوة إلى "التغريب" أو "القطيعة" مع الشرق، كما فُسّرت غالبا. بل كانت دعوة إلى تحرير العقل من التقليد الأعمى والأخذ بـمنظومة العقل الغربي التي تقوم على احترام القانون، والتنظيم الدقيق، والتعليم العصري، وروح النقد العلمي. لقد كان طه حسين يرى أن الثقافة ليست ميراثا جامدا نكتفي باستهلاكه، بل هي اختيار إرادي للمستقبل. والتعليم في رؤيته - وهكذا نذهب نحن أيضا - هو الجسر الذهبي للعبور، والطريق الوحيد للاستقلال الثقافي الحقيقي. لقد أراد لمصر أن تكون شريكا في صنع الحضارة، كما شاركت أوروبا ذات يوم عندما نهلت من علوم العرب والمسلمين.

لقد كان طه حسين يحاول أن يوقظ في الوعي المصري رسالة الجسرية التاريخية: أن مصر هي نقطة التقاء لا انفصال، وأن قيمها الحقيقية هي قيم العقل التي توحّدها مع العالم، دون أن تفقد لغتها العربية أو روحها الفرعونية.
️ جمال حمدان: عبقرية المكان وتكامل الهوية الجغرافية
بعد أربعة عقود، وفي ذروة المد القومي العربي، عاد سؤال الهوية ليُطرح بلسانٍ آخر، ولكن هذه المرة على يد عالم الجغرافيا الفذ الدكتور جمال حمدان في دراسته الموسوعية "شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان".
فبينما وضع طه حسين البحر المتوسط في المركز الثقافي، أعاد حمدان صياغة المشهد بوضع النهر في مواجهة الصحراء، والبحر في مواجهة اليابسة. لم يكن الأمر صراعا بين الحضارات بالنسبة لحمدان، بل توتر خلاق بين مكونات جغرافية متناقضة تصنع تفرّد الشخصية المصرية.
لقد رفض جمال حمدان النظرة التي ترى في الصحراء مجرد نقيض سلبي للحياة. بل اعتبر أن الهوية المصرية تتشكل من هذا التفاعل الديناميكي بين ثلاثة أبعاد متكاملة: البُعد المتوسطي: الذي يمثل الانفتاح على العالم ومهد الحضارات القديمة.
والبُعد الأفريقي: الذي يمثل الجذر العميق في القارة السمراء ونبع النيل.
والبُعد الآسيوي/العربي: الذي يمثل الامتداد البري والحضاري واللغوي.
في رؤية جمال حمدان، تتجلى عبقرية مصر في موقعها "المتوسطي الملامح، الآسيوي الجذور، الأفريقي الموطن". وهي ليست مُجبرة على الاختيار بين أقطابها؛ فجغرافيتها قدّرت لها أن تكون صندوق الأدوات الذي يجمع كل هذه المكونات، لتصنع شخصية متوازنة، وجامعة، ومفردة في ذات الوقت. كان جمال حمدان يعطي الثقل الأكبر للجغرافيا كقدر، وكوعاء يحوي التاريخ، مؤكدا على التكوين الذاتي الفريد للهوية المصرية التي لا تذوب في الشرق ولا في الغرب.

في التحليل الأعمق، يمكن القول إن طه حسين وجمال حمدان لم يكونا في صراعٍ قط، بل كانا في حوار طويل حول أفضل طريق يمكن لمصر أن تسلكه لتكون "نفسها" في خضم عالم دائم التغير.
طه حسين اختار الإرادة الحرة والخيار التحديثي، داعيا إلى النظر عبر البحر للاقتران بقيم العقل الأوروبي.
أما جمال حمدان فأكد على حتمية الجغرافيا وحكمة التوازن، داعيا إلى تأكيد الذات المصرية المتفردة الجامعة لأطرافها.
وفي عصرنا الحالي، لا سيما بعد النقاشات المستفيضة المهلكة التي أثارها افتتاح المتحف المصري الكبير، وفي ظل تنامي تأثير العولمة وتداخل الثقافات، يكتسب هذا الحوار الرمزي أهمية متزايدة. كيف يمكن لمصر أن تحقق الانفتاح العالمي مع الحفاظ على هويتها الأصيلة؟ قد يكمن الحل في دمج حكمتيهما:
أن نأخذ من طه حسين شجاعة الانفتاح على المعرفة العالمية، والإيمان بقدرة العقل على التحرر. وأن نأخذ من جمال حمدان حكمة التوازن واحترام الجذر الجغرافي الذي يجعل من مصر كيانا فريدا.
فالهوية ليست اصطفافا أيديولوجيا بين بحرٍ ويابسة، ولا بين شرقٍ وغرب، بل هي قدرة مصر الأزلية على أن تكون الجسر الذي يصل بين كل هذه العوالم، محتفظة بقلبها النابض على ضفاف نيلها الأبدي.



#بهجت_العبيدي_البيبة (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المتحف المصري الكبير... حين تنهض الهوية من أعماق الوعي الجمع ...
- من القرى إلى القبائل: قراءة في تحوّل البنية الاجتماعية والسي ...
- ما بين إلغاء الليل وجعل النهار سرمديا … وإلغاء العقل
- حول مولد السيد البدوي... حين يتحول الدين إلى ثقافة والثقافة ...
- العقل العربي بين الرغبة في الصواب وفقدان البوصلة
- السابع من أكتوبر في الميزان: من رصاصة الغضب إلى طاولة التفاو ...
- تناقض حفيظ دراجي الكاشف: وصف فتح بالاحتلال ووصف حماس ب -ضربة ...
- خطة ترامب وإفراغ القضية الفلسطينية من معناها
- حكاية الصراخ أمام سفارة مصر والصمت أمام سفارة إسرائيل
- مأجورون يتربصون بمصر ويصمتون عن ضرب الدوحة
- في عيد النيروز... ميلاد الإنسان من ربيع الكون
- -إسرائيل الكبرى-... حلم يواجه الواقع
- حين تُجرَح أيادي الخير: تحليل نقدي لمحاولات تشويه الدور المص ...
- الوطن بين الوعي وزيف الشعارات: درس التاريخ يتجدد
- المذنبات: من نذر الشؤم إلى رسل الكون
- قرار الوزير.. وخرافة الأرقام: هل يُقاس الإيمان بدرجات الغش؟
- البكالوريا المصرية: حلمٌ يولد في غير أوانه؟
- تباين التقارير الأمريكية حول المنشآت النووية الإيرانية: لعبة ...
- الخطاب المزدوج: سيمفونية السياسة ونبض الشارع
- بين مطرقة الانسحاب وسندان العزلة: إيران ومعاهدة حظر الانتشار ...


المزيد.....




- -هذا بلاستيك وليس خشبًا-.. لقطة طريفة أثناء لقاء ممداني مع م ...
- ولي العهد السعودي يجري مباحثات مع ملك ماليزيا في الرياض
- لبنان: انطلاق أول لقاء تنسيقي لإعادة الإعمار في الجنوب.. وعو ...
- وفاة ديك تشيني عن 84 عامًا.. نائب الرئيس الأكثر إثارة للجدل ...
- القوات الأوكرانية تنقذ جملاً روسياً من جبهة القتال.. لماذا ت ...
- الإفراج عن الشيخ العدوي بعد فيديو -النهي عن الافتخار بملوك م ...
- السودان يدرس هدنة إنسانية أمريكية مقترحة لوقف الحرب
- شاب مصري يعثر على -تمثال جده- الفرعوني في المتحف المصري الكب ...
- “الأعيرة النارية تتطاير فوق رؤوسنا”.. مدنيون يروون قصص فراره ...
- دعوات لفتح كافة المعابر مع القطاع المدمّر لتوسيع نطاق العملي ...


المزيد.....

- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - بهجت العبيدي البيبة - الهوية المصرية بين الموجة المتوسطية والجذر الجغرافي: حوار الأجيال بين طه حسين وجمال حمدان