بهجت العبيدي البيبة
الحوار المتمدن-العدد: 8398 - 2025 / 7 / 9 - 22:47
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لطالما سحرت المذنبات البشرية وأثارت في نفوسهم مزيجًا من الرهبة والإعجاب. تلك الأجرام السماوية ذات الذيول المتلألئة، التي تظهر فجأة في سماء الليل لتختفي بنفس الغموض، كانت على مر العصور مسرحًا لتصادم الرؤى بين الدين والعلم. فبينما سعى العلم جاهدًا لفك ألغازها بقوة الملاحظة والتجريب، آثرت النظرة الدينية في العصور الوسطى تفسيرها بقوانين السماء لا بقوانين الفيزياء، ودفعت العلماء ثمن جرأتهم في تحدي تلك المفاهيم.
المذنب في مرآة الدين: الخوف والشؤم
في الحضارات القديمة، ومن ثم في العصور الوسطى الأوروبية، كانت المذنبات تُرى غالبًا كـنذر شؤم، علامات غضب إلهي، أو بشائر لأحداث كبرى كالمجاعات، الحروب، أو موت الملوك. لم تكن هذه النظرة قاصرة على المسيحية، بل كانت سائدة في العديد من الثقافات. في أوروبا القرون الوسطى، ارتبط ظهور المذنبات بالخوف العميق، فكانت الكوارث الطبيعية والأوبئة تُنسب إلى ظهورها، مما يُعزز من سطوة رجال الدين الذين كانوا يُقدمون التفسيرات ويُدعون القدرة على تهدئة "الغضب الإلهي".
هذا التفسير لم يكن مجرد وجهة نظر روحية، بل كان جزءًا لا يتجزأ من الإطار الكوني السائد، والذي كان يرى الأرض مركزًا للكون، وأن كل ما يدور حولها يجب أن يكون ضمن أفلاك ثابتة ومثالية. المذنب، بحركته غير المنتظمة وذيله الغامض، كان كسرًا لهذه الصورة المثالية، وبالتالي لا بد أن يكون ظاهرة "سماوية" لا "فلكية" بالمعنى المفهوم حينها، وتفسيره لا يمكن أن يكون إلا على يد السلطة الدينية.
ولعل أبرز تجليات هذا الخوف التاريخي والتصاق الظاهرة الكونية بالمصير البشري، ما يُروى عن البابا كاليستوس الثالث في عام 1456. ففي تلك الفترة العصيبة، لم يكن الخوف من المذنب وحده يسيطر على أوروبا، بل كان شبح الدولة العثمانية التي سقطت على يديها القسطنطينية (إسطنبول) قبل سنوات قليلة، يلوح في الأفق مهددًا بغزو وشيك. وعندما ظهر مذنب هالي، ذلك الكوكب ذو الذيل المضيء، في سماء روما، تزامنت هذه الظاهرة الكونية مع التهديد العثماني المتصاعد. فنسجت الحكايات، وتراكمت المخاوف، وربطت الأذهان بين الأمرين.
يُشاع، وإن كان الروايات التاريخية الموثقة لا تُثبت "لعنة" مباشرة على المذنب، أن البابا كاليستوس الثالث أمر بإضافة صلاة خاصة إلى قداس الظهر، تُقرع لها أجراس الكنائس في كل يوم. لم تكن هذه الصلاة تستهدف المذنب بذاته بالضرورة، بقدر ما كانت دعاءً لله ليُجنّب المسيحيين "غضبه"، ويُبعد عنهم خطر الأتراك الذين كانوا يتقدمون نحو أوروبا. هكذا، تداخل الفلك مع السياسة، والغيبي مع الواقع، في محاولة يائسة لتحصين النفس من تهديدات تبدو قادمة من السماء ومن الأرض في آن واحد.
صوت العقل في وجه اليقينيات: تحدي العلماء
وسط هذا الجو المشحون بالخرافة واليقينيات الدائمة، بدأت تظهر أصوات علمية خافتة تتجرأ على تحدي السردية السائدة. لم يكن الأمر سهلاً، فقد كان أي انحراف عن التفسير الكنسي يُعد هرطقة أو تحديًا لسلطة الكنيسة المطلقة، التي كانت تسيطر على الفكر والعلم في آن واحد.
من أبرز الأمثلة على هذا الصراع:
أرسطو وتأثيره المهيمن: رغم أن أرسطو لم يكن رجل دين، إلا أن فلسفته الكونية، التي آمنت بكون ثابت ومثالي ورفضت فكرة وجود أجسام جديدة تظهر وتختفي (مثل المذنبات التي اعتبرها مجرد ظواهر جوية علوية)، تم تبنيها وتكييفها من قبل اللاهوت المسيحي في العصور الوسطى. هذا جعل من الصعب جدًا على العلماء اللاحقين مناقشة طبيعة المذنبات كأجسام فلكية حقيقية تدور في الفضاء.
تيخو براهي (Tycho Brahe): في أواخر القرن السادس عشر، بعد عصر النهضة وقبل الثورة العلمية الكبرى، جاء الفلكي الدنماركي تيخو براهي. عندما ظهر مذنب عام 1577، قام براهي بمراقبات دقيقة ومستفيضة. من خلال حساباته المتقنة، أثبت أن المذنب ليس ظاهرة جوية قريبة من الأرض (كما اعتقد أرسطو ومعظم رجال الدين حينها)، بل هو جرم سماوي يقع خارج مدار القمر، أي في الفضاء الكوكبي. كانت هذه النتيجة صفعة قوية للمفهوم الأرسطي التقليدي للكون المثالي الثابت الذي لا يمكن أن تظهر فيه أجرام جديدة خارج الأفلاك المعروفة. لم يتعرض براهي للاضطهاد المباشر بنفس حدة من جاء بعده، لكن نتائجه كانت بداية تشقق الجدار الأرسطي-الديني.
يوهانس كيبلر (Johannes Kepler): تلميذ براهي، الذي صاغ قوانين حركة الكواكب، أضاف إلى فهم المذنبات. على الرغم من أنه لم يدرس المذنبات بنفس التفصيل، إلا أن قوانينه التي أظهرت أن الأجرام السماوية تتحرك في مدارات بيضاوية (إهليجية) حول الشمس، مهدت الطريق لفهم أن المذنبات أيضًا تتبع هذه القوانين، وليست مجرد ظواهر عشوائية أو علامات خارقة.
غاليليو غاليلي (Galileo Galilei): على الرغم من أن غاليليو اشتهر بصراعه حول مركزية الشمس، إلا أن عمله العام في ترسيخ المنهج التجريبي، واستخدامه للتلسكوب لمراقبة السماء، كان حاسمًا في تغيير النظرة إلى الأجرام السماوية. لقد ساعدت ملاحظاته في دحض فكرة الأجرام السماوية "الكاملة وغير المتغيرة" التي دافعت عنها الكنيسة مستندة إلى أرسطو. أي تحدٍ للنموذج الأرسطي، كان يُعتبر تحديًا للكنيسة، وغاليليو دفع الثمن باهظًا حين حوكم وأجبر على التراجع عن أفكاره.
إدموند هالي (Edmond Halley) وإسحاق نيوتن (Isaac Newton): كانا من أبرز من حوّلوا المذنبات من لغز ميتافيزيقي إلى ظاهرة علمية دقيقة. استخدم نيوتن قوانينه للجاذبية والحركة لشرح مسار المذنبات، ثم طبق هالي هذه القوانين ليتنبأ بدقة بعودة المذنب الذي يحمل اسمه الآن (مذنب هالي). هذا التنبؤ، الذي تحقق بالفعل، كان بمثابة الضربة القاضية للتفسيرات الخرافية والدينية للمذنبات. لقد أثبت بشكل لا يدع مجالاً للشك أن المذنبات تتبع قوانين فيزيائية يمكن حسابها والتنبؤ بها، تمامًا كالكواكب.
مقارنة عبر العصور: من المذنب الأوروبي إلى الكوارث العربية
لقد كانت رحلة تحول النظرة إلى المذنبات من نذر شؤم إلى أجرام سماوية يمكن فهمها والتنبؤ بها، رحلة شاقة وطويلة، تخللتها صراعات مريرة بين دعاة العقل والمنهج التجريبي، وبين المؤسسات التي تمسكت باليقينيات القديمة. العلماء الذين تجرأوا على تحدي هذه اليقينيات دفعوا أثمانًا باهظة، من الاضطهاد إلى السجن، لكن إصرارهم فتح الباب أمام عصر من الاكتشافات العلمية غير المسبوقة.
اليوم، نعرف أن المذنبات هي "كرات ثلجية قذرة" تتكون من الجليد والغبار والصخور، تدور حول الشمس في مدارات بيضاوية طويلة جدًا. هي ليست نذر شؤم، بل هي كبسولات زمنية تحمل معها بقايا تشكل نظامنا الشمسي، وتقدم للعلماء معلومات لا تقدر بثمن عن بدايات الكون. لقد تحولت من رموز للخوف إلى رسل صامتة من أعماق الفضاء، تروي لنا قصة الكون العظيم الذي نعيش فيه، قصة تُقرأ بلغة الفيزياء والرياضيات، لا بلغة الخرافات.
لكن المثير للتأمل هو أن النظرة الأوروبية للمذنبات في العصور الوسطى، التي ربطتها بالغضب الإلهي والشؤم، تجد صدىً لها، وإن كان بشكل مختلف، في بعض جوانب العقل العربي والإسلامي المعاصر عند تفسير الكوارث الطبيعية كالزلازل، الفيضانات، والبراكين. فبينما يمتلك العلم الحديث تفسيرات واضحة لهذه الظواهر كجزء من قوانين الطبيعة الجيولوجية والمناخية، لا يزال البعض يميل إلى تفسيرها من منظور ديني محض:
عندما تضرب الكوارث مناطق تُعتبر "غير إسلامية" أو "بعيدة عن الدين"، تُفسر غالبًا على أنها "عقاب إلهي" أو "غضب من الله" على خطايا تلك المجتمعات.
في المقابل، حين تقع الكوارث في بلاد عربية أو إسلامية، يتحول التفسير ليصبح "اختبارًا من الله" للصبر والإيمان، أو "ابتلاءً" لتكفير الذنوب ورفع الدرجات.
هذا التباين في التفسير لنفس الظاهرة (الكارثة الطبيعية) يُظهر أن عقلية ربط الظواهر الطبيعية بالتدخل الإلهي المباشر، وربطها بالثواب والعقاب الديني، لم تنتهِ تمامًا مع التقدم العلمي. فكما أن أوروبا احتاجت إلى صراع فكري وعلمي لفك ارتباط المذنب بالغيبيات والوصول إلى فهم علمي له، فإن بعض المجتمعات اليوم ما زالت تخوض صراعًا داخليًا لدمج الفهم العلمي للكوارث مع الإيمان الديني، والتحرر من التفسيرات التبسيطية التي قد تعيق التفكير النقدي والاستعداد العملي لمواجهة هذه التحديات الطبيعية.
#بهجت_العبيدي_البيبة (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟