بهجت العبيدي البيبة
الحوار المتمدن-العدد: 8383 - 2025 / 6 / 24 - 14:07
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في دهاليز السياسة الدولية، حيث تتشابك المصالح وتتصارع الإرادات، تبرز قضية البرنامج النووي الإيراني كواحدة من أكثر العقد تعقيدًا وإثارة للقلق. فما بين شبح امتلاك سلاح الدمار الشامل وطموحات التنمية السلمية، تتأرجح طهران على حافة قرار مصيري قد يعيد تشكيل خارطة الشرق الأوسط، بل والعالم بأسره: الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية (NPT).
إن المعاهدة، التي تُعد حجر الزاوية في نظام منع الانتشار النووي العالمي، تمنح الدول حق الاستفادة من الطاقة النووية للأغراض السلمية، مقابل التزامها بعدم تطوير الأسلحة النووية. إيران، كإحدى الدول الموقعة عليها، لطالما أكدت سلمية برنامجها. لكن الضغوط الدولية المتزايدة، والتصعيد المستمر في التوتر، يدفعان البعض للتساؤل: هل يمكن أن تدفع طهران الثمن الباهظ للانسحاب؟
لا شك أن خروج إيران من المعاهدة، وإن كان ممكنًا من الناحية القانونية بموجب المادة العاشرة، ليس قرارًا يمكن اتخاذه بخفة. إنه أشبه بالقفز في المجهول، فالعواقب المحتملة تتجاوز بكثير أي "مكاسب" متوهمة.
أولى هذه التداعيات هي العزلة الدولية الشديدة. ستجد طهران نفسها مطوقة بسياج من العقوبات التي ستجعل ما تعانيه اليوم يبدو هينًا. سيُغلق العالم أبوابه المالية والاقتصادية في وجهها، لتُصبح كيانًا منبوذًا على الساحة الدولية. لن تُكتفى بالعقوبات الاقتصادية فحسب، بل ستمتد لتشمل العلاقات الدبلوماسية، وربما العضوية في المنظمات الدولية.
الأخطر من ذلك هو إسدال الستار على أي رقابة دولية. فبمجرد الانسحاب، ستُرفع يد الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن منشآت إيران النووية. سيتحول برنامجها إلى صندوق أسود، لا يعلم أحد ما يدور في جنباته، مما سيزيد الشكوك ويغذي التكهنات حول طبيعته وأهدافه. هذا الغموض هو الوصفة المثلى لتصعيد التوترات.
إن المشهد الأكثر قتامة الذي قد ينجم عن هذا الانسحاب هو اندلاع سباق تسلح نووي في المنطقة. فإذا ما امتلكت إيران سلاحًا نوويًا، حتى لو كان لأغراض "الردع"، فإن جيرانها، وخاصة الدول التي ترى في إيران تهديدًا لأمنها، لن يقفوا مكتوفي الأيدي. قد تندفع هذه الدول، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية ودول أخرى، نحو تطوير برامجها النووية الخاصة، لتتحول المنطقة من ساحة صراعات تقليدية إلى ساحة حرب نووية محتملة، لا يملك أحد القدرة على التنبؤ بنتائجها.
وهذا يقودنا إلى الخطر الأكبر: المواجهة العسكرية. فامتلاك إيران لسلاح نووي يُعد خطًا أحمر لعدد من القوى الإقليمية والدولية، وعلى رأسها إسرائيل والولايات المتحدة. إن الحديث عن ضربات عسكرية وقائية ضد المنشآت النووية الإيرانية لن يعود مجرد تهديد على الأوراق، بل قد يصبح حقيقة واقعة، تدفع المنطقة إلى هوة الحرب الشاملة.
مواقف إقليمية متضاربة: معادلة نووية معقدة
تتفاعل دول المنطقة مع الملف النووي الإيراني ومع امتلاك إسرائيل للسلاح النووي من منظور مصالحها الأمنية والاستراتيجية، مما يخلق معادلة بالغة التعقيد:
1. مصر: هاجس الاستقرار ونزع السلاح الشامل
لطالما كانت مصر من أشد المؤيدين لإخلاء الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل، بما في ذلك الأسلحة النووية. موقفها يقوم على مبدأ شمولية نزع السلاح، أي أن نزع السلاح يجب أن يشمل الجميع دون استثناء.
- من امتلاك إيران: ترى مصر أن امتلاك إيران لسلاح نووي يمثل تهديدًا بالغًا للاستقرار الإقليمي ويقوض جهود منع الانتشار. تخشى القاهرة من أن يؤدي ذلك إلى سباق تسلح نووي في المنطقة، وأن يزيد من تعقيدات الصراعات القائمة. لذلك، تدعو مصر باستمرار إلى حل دبلوماسي يضمن سلمية البرنامج الإيراني تحت الرقابة الدولية الصارمة.
- من امتلاك إسرائيل: تعتبر مصر أن امتلاك إسرائيل للسلاح النووي، وهي الدولة الوحيدة غير الموقعة على NPT في المنطقة، يمثل خللاً أساسيًا في موازين القوى ويهدد الأمن القومي للدول العربية. تطالب مصر إسرائيل بالانضمام إلى NPT وإخضاع منشآتها للرقابة الدولية، وتعمل على إقامة منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط كحل جذري لهذا التحدي.
2. المملكة العربية السعودية ودول الخليج: تهديد وجودي ومطلب للردع
بالنسبة للسعودية ودول الخليج، يمثل البرنامج النووي الإيراني، خاصة مع سياسات طهران الإقليمية، تهديدًا وجوديًا مباشرًا لأمنها القومي.
- من امتلاك إيران: تعارض هذه الدول بشدة أي امتلاك إيراني للقدرة النووية العسكرية. تعتبره تهديدًا مباشرًا لاستقرارها ولأمن الملاحة في الخليج، وتخشى أن تستخدم إيران هذا السلاح كأداة لفرض نفوذها وهيمنتها في المنطقة. لذلك، تدعم هذه الدول جميع الجهود الدولية لضمان سلمية البرنامج الإيراني، وتطالب بعقوبات صارمة إذا ما تجاوزت طهران الخطوط الحمراء. في المقابل، لو امتلكت إيران سلاحًا نوويًا، فقد تجد هذه الدول نفسها مضطرة لإعادة تقييم خياراتها الدفاعية، بما في ذلك احتمال تطوير قدرات نووية خاصة بها أو تعزيز مظلتها الدفاعية من قوى دولية.
- من امتلاك إسرائيل: على الرغم من أن إسرائيل ليست التهديد المباشر الذي تمثله إيران بالنسبة لهذه الدول، إلا أن امتلاك تل أبيب للسلاح النووي يُنظر إليه كجزء من ميزان القوى غير المتوازن في المنطقة. ومع ذلك، فإن التركيز الأكبر ينصب حاليًا على احتواء التهديد النووي الإيراني، وفي ظل التقاربات الإقليمية الأخيرة، أصبحت بعض هذه الدول تُفضل التعامل مع التحدي الإيراني على أولوية مسألة السلاح النووي الإسرائيلي علنًا، رغم أنها لا تزال تلتزم بموقفها الرسمي الداعي لشمولية نزع السلاح.
3. تركيا: طموحات إقليمية وتوازن استراتيجي
تتبنى تركيا موقفًا أكثر دقة، فهي دولة طرف في NPT، ولها طموحات لتعزيز نفوذها الإقليمي كقوة صاعدة.
- من امتلاك إيران: تعارض تركيا علنًا امتلاك إيران لسلاح نووي، وتدعو إلى حل دبلوماسي للأزمة. لكن موقفها يتسم ببعض الحذر، فهي لا ترغب في تصعيد يؤثر على مصالحها الاقتصادية مع إيران، كما أنها تسعى للحفاظ على توازن في علاقاتها مع القوى الإقليمية. ومع ذلك، فإن أي تحرك إيراني نحو السلاح النووي سيُجبر أنقرة على إعادة تقييم استراتيجيتها الأمنية، وقد يدفعها إلى التفكير في تعزيز قدراتها التكنولوجية والعسكرية لضمان توازن القوى الإقليمي.
- من امتلاك إسرائيل: تؤيد تركيا رسميًا إخلاء الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل، وتنتقد عدم انضمام إسرائيل إلى NPT. ومع ذلك، فإن العلاقة المعقدة بين تركيا وإسرائيل، والتي تتراوح بين التعاون والتنافس، تجعل موقف أنقرة براغماتيًا. في حين أنها تثير القضية النووية الإسرائيلية من منطلق مبادئ منع الانتشار، فإن أولويتها في الوقت الراهن هي منع ظهور قوة نووية جديدة في جوارها، وهي إيران.
بين نبض الشعوب وحسابات الدول: مفارقة السلاح النووي
هنا تتجلى إحدى أعمق المفارقات في معادلة الصراع، حيث يتباعد موقف الدولة كمؤسسة ذات حسابات استراتيجية معقدة عن نبض الشارع ووعي الأفراد. ففي حين تلتزم دول مثل مصر والسعودية وتركيا بمبدأ منع الانتشار النووي إقليميًا وتدعو إلى منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل، وهو ما يعني رفض امتلاك إيران للسلاح النووي، نجد أن جزءًا كبيرًا من الرأي العام العربي والإسلامي يحمل منظورًا مختلفًا تمامًا.
تتولد هذه الرؤية الشعبية من مزيج من العوامل:
- الإحساس بالظلم التاريخي: يرى قطاع واسع من الجماهير أن المنطقة تعاني من خلل تاريخي في ميزان القوى، خاصة مع امتلاك إسرائيل لسلاح نووي خارج أي رقابة دولية. هذا الوضع يُنظر إليه كإهانة للسيادة العربية والإسلامية.
- التضامن الديني والقومي: الضربات التي تعرض لها البرنامج النووي الإيراني من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي تُفسر شعبياً كـ"حرب على الإسلام" أو استهداف لقوة إقليمية ذات طابع إسلامي، تُعزز من التعاطف مع إيران وتدفع نحو دعم امتلاكها لسلاح نووي كـ"قوة ردع" في مواجهة ما يُنظر إليه على أنه تهديد وجودي للمنطقة.
- العجز الملموس لدولهم: يشعر الكثيرون في الشارع العربي والإسلامي أن دولهم لم تتمكن من فعل الكثير إزاء ملف إسرائيل النووي، أو أنها لم تضغط بما يكفي لإخلاء المنطقة من الأسلحة النووية بشكل شامل. هذا الشعور بالعجز يدفعهم للبحث عن "قوة موازية" قد تتمثل في امتلاك إيران لسلاح نووي.
- التفكير الفردي مقابل المؤسسي: يميل الأفراد إلى التفكير من منظور العواطف، الهوية، والعدالة التاريخية، وقد يرون في امتلاك قوة رادعة استجابة سريعة للتهديدات. بينما الدول (كمؤسسات) تفكر بمنطق البقاء، استقرار النظام، المصالح الاقتصادية، والتحالفات الدولية. الدولة تدرك أن امتلاك إيران للسلاح النووي قد يعني عقوبات كارثية، وحربًا إقليمية لا تُحمد عقباها، وتهديدًا لاستقرارها هي نفسها، بغض النظر عن العدو المفترض.
هذا التباين يضع الدول في موقف حرج، بين مطرقة رغبات شعوبها التي تتوق لقوة موازية، وسندان الحسابات الاستراتيجية التي ترى في الانتشار النووي الإيراني كارثة محققة. الدول التي تقع في دائرة الصراع المباشر مع إيران أو إسرائيل (مثل مصر والسعودية ودول الخليج وتركيا) هي الأكثر تأثرًا بهذا التباين، حيث تجد نفسها في مواجهة ضغوط داخلية وخارجية متضاربة.
أما الشعوب العربية والإسلامية الأكثر بعدًا جغرافياً عن مركز الصراع، فقد لا يقع هذا التباين بنفس الحدة، نظراً لبُعدهم عن التداعيات المباشرة لأي سباق تسلح نووي أو مواجهة عسكرية محتملة، مما يتيح لهم التعبير عن مواقف أكثر عاطفية وتضامنية دون تحمل مباشر للتكاليف الاستراتيجية.
قد يرى البعض في تجربة كوريا الشمالية نموذجًا يمكن لإيران أن تحاكيه. فبيونغ يانغ، التي كانت يومًا عضوًا في المعاهدة، انسحبت منها في عام 2003، ومضت قدمًا في تطوير ترسانتها النووية. لكن المقارنة، وإن بدت مغرية، إلا أنها تخفي فروقات جوهرية.
كوريا الشمالية، بنظامها الانعزالي المطلق واقتصادها المتقوقع، تحملت ولا تزال تتحمل وطأة العقوبات الشديدة. موقعها الجيوسياسي، ومخاطر أي تدخل عسكري مباشر، منحاها هامشًا من "التسامح" الدولي الذي لا تتمتع به إيران. فالجمهورية الإسلامية، رغم العقوبات، لا تزال أكثر اندماجًا في الاقتصاد العالمي، ولها مصالح وتأثيرات إقليمية أوسع بكثير. كما أن المنطقة التي تتوسطها إيران، بخلاف منطقة شبه الجزيرة الكورية، تُعد قلب العالم النابض بالطاقة، وأي اضطراب فيها سيكون له تداعيات عالمية كارثية.
إن الفرق الجوهري يكمن في أن كوريا الشمالية أصبحت دولة نووية مُعلنة، ولهذا أصبح التعامل معها يقوم على أساس "الاحتواء والردع". أما إيران، فهي لا تزال في المنطقة الرمادية، بين القدرة النظرية والامتلاك الفعلي. وهذا الوضع يجعل المجتمع الدولي أكثر حزمًا في منعها من عبور الخط الفاصل.
في الختام، إن قرار الانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي، وإن كان يُقدم كدفاع عن "السيادة الوطنية" أو وسيلة للردع، فإنه في الواقع مقامرة كبرى. فالعزلة، والانهيار الاقتصادي، وشبح الحرب، واندلاع سباق التسلح، هي كلها سيناريوهات مظلمة تنتظر طهران إذا ما اختارت هذا المسار.
إن مواقف دول المنطقة تعكس قلقًا عميقًا من أي انتشار نووي إضافي، وتؤكد على أن المنطقة لا تحتمل ظهور قوى نووية جديدة. فبينما يمثل امتلاك إسرائيل للسلاح النووي تحديًا كامنًا يتجاهله الواقع الدولي حتى الآن، فإن التهديد الوشيك بامتلاك إيران له يدفع الدول الإقليمية إلى اتخاذ مواقف أكثر حزمًا وصرامة. هذه المواقف الرسمية غالبًا ما تتضارب مع الرغبات الشعبية الملتهبة، مما يضع الدول بين مطرقة تطلعات شعوبها وسندان حساباتها الاستراتيجية المعقدة.
يبقى السؤال الملح: هل تغلب الحكمة، وتُدرك طهران أن الحفاظ على عضويتها في المعاهدة، والعمل ضمن الأطر الدبلوماسية، هو المسار الأقل خطرًا، والأكثر استقرارًا، ليس فقط لأمنها القومي، بل لأمن المنطقة والعالم أجمع؟ أم أن رياح التحدي ستدفعها إلى حافة الهاوية، حيث لا عودة؟ المستقبل وحده من سيكشف الستار عن هذا المشهد المثير للقلق.
#بهجت_العبيدي_البيبة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟