أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - بهجت العبيدي البيبة - الخطاب المزدوج: سيمفونية السياسة ونبض الشارع















المزيد.....

الخطاب المزدوج: سيمفونية السياسة ونبض الشارع


بهجت العبيدي البيبة

الحوار المتمدن-العدد: 8384 - 2025 / 6 / 25 - 19:51
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


في ردهات السياسة المعاصرة، التي غدت كمسرحٍ تتراقص فيه الأقنعة وتتلاشى الحقيقة خلف الستائر السميكة، لم يعد البيان السياسي مجرد مرآة تعكس النوايا الصادقة، بل تحوّل إلى قناعٍ محكم الصنع، يستر خلف طياته من الحقائق أضعاف ما يُفصح عنه. هنا، تتجلى بوضوح ظاهرة "الخطاب المزدوج"، تلك العقدة الأزلية التي باتت خيطًا رفيعًا ينسج في أغلب الملفات الشائكة والصراعات الكبرى. من البرنامج النووي الإيراني، الذي يلفه الغموض تارة ويصعد إلى السطح تارة أخرى، إلى ساحات غزة المشتعلة، التي تتوهج نارها بألسنة لهبٍ تارة وتخمد تحت رماد الصمت تارة أخرى. إنها لعبة التناقضات، حيث تتراقص الكلمات على شفاه المتحدثين، لكن المعاني الحقيقية تظل حبيسة الكواليس، تتوارى خلف ستار الصمت المطبق، أو تهمس في أذن من يمتلك مفاتيح الفهم.
إيران ومفارقة الخطابين: صوت السيادة يُذاع، وهَمْسُ التفاهمات يُخفى
حين يرتفع صوت التساؤل: هل نالت أمريكا من البرنامج النووي الإيراني؟ لا نجد الإجابة الشافية في البيانات الرسمية المذيعة على الملأ، بل في ذلك "الصمت" المحيّر الذي يُخيم على المشهد، وفي إلحاح واشنطن المتكرر على التفتيش الدقيق، وفي تلك النغمة المُباغتة التي تُصدرها طهران حين تعود فجأة إلى طاولة المفاوضات. إنها مفارقة الخطابين: فبينما تُخاطب طهران جمهورها الداخلي بنبرة العِزّة، والفخر بالصمود، وعدم التراجع عن المبادئ، تتجلى صورة أخرى خلف الأستار، حيث تُبحر الدبلوماسية الإيرانية في لجج التفاهمات السرية، بحثًا عن مخرجٍ متوازنٍ يرضي عقل الدولة وينهي الأزمات، ويُحقق مصالحها العليا. إنها تجليات السياسة الواقعية، حيث تُدار الأمور بمنطق البقاء والبراغماتية، بعيدًا عن صخب الشعارات الحماسية.

نماذج من العالم: من صخب موسكو إلى سكون بيونغ يانغ

إن ظاهرة الخطاب المزدوج ليست حكرًا على منطقة دون أخرى، بل هي فلسفة تتجلى في دهاليز السياسة العالمية:
- روسيا: تُتقن موسكو استخدام المنصة العلنية كساحة استعراض للقوة، تزهو فيها بعضلاتها العسكرية وتُعلن عن مواقفها المتشددة، مُوجهةً رسائل صارمة إلى خصومها. لكنها خلف الستار، تُراكم التفاهمات المعقدة مع خصومها التقليديين، وتُبرم الصفقات السرية التي تضمن مصالحها الاستراتيجية. إنها تُجيد فن الرقص على حبلين، توازنًا بين القوة المعلنة والدبلوماسية الخفية.
- كوريا الشمالية: تُتقن بيونغ يانغ لغة التهديد والوعيد، وتُبهر العالم بعروضها العسكرية الصاخبة، مُرسلةً رسائل مُفزعة عن قدراتها النووية. لكنها أبعد ما تكون عن الجنون الكامل؛ فكل تصعيد إعلامي مدروس، يُقابله ترتيب براغماتي سِرّي، يهدف إلى تحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية. إنها استراتيجية قائمة على إثارة القلق لكسب النفوذ، حيث يُصرف الانتباه عن الداخل بالتركيز على الخارج.
- الولايات المتحدة الأمريكية: تملك أمريكا مدرسة متكاملة في فن الخطابين، تُجسدها في أعلى مستوياتها. رئيسٌ يخاطب ناخبيه بخطاب الحزم والقوة، يُوعدهم بالانتصار ويُشحذ هممهم للحفاظ على الهيمنة. في المقابل، تُجري وزارتا الخارجية والدفاع حوارات هادئة، وأحيانًا سرية، مع الخصوم، تسعى إلى إيجاد حلول دبلوماسية للأزمات المعقدة، وفتح قنوات الاتصال التي تمنع التصعيد غير المرغوب فيه. إنها سياسة متعددة الأوجه، تتكيف مع متطلبات الساحة الداخلية والخارجية.

الإعلام: ضابط إيقاع الخطاب... ومُكسر النوتة أحيانًا

لم يعد الإعلام مجرد ناقل للأخبار، بل غدا شريكًا أساسيًا في صياغة الروايات، مُتحكمًا في إيقاع الخطاب ومُغيرًا لنغمته أحيانًا:
- الجزيرة: تُعيد قناة الجزيرة، على سبيل المثال، رسم القضية الفلسطينية بسردية تُشبع الوجدان العربي وتُلامس شغاف القلوب: ضحايا، مقاومة، عدالة. إنها تُبرز الجانب الإنساني للصراع، وتُعزز من الرواية العربية الأصيلة للقضية.
- بي بي سي وسي إن إن: في المقابل، تُقدم قنوات عالمية مثل "بي بي سي" و"سي إن إن" قصة أقل عاطفة، وأكثر اتكاءً على مصطلحات القوة والجغرافيا السياسية، وغالبًا ما تكون أقل توازنًا في عرضها للحقائق. إنها تُركز على الأبعاد العسكرية والاستراتيجية للصراع، وتُقدم الروايات التي تُناسب جمهورها الغربي.
إن الإعلام هنا لا يعرض الأحداث فحسب، بل يُعيد كتابتها، ويُصيغها وفقًا لمنهجيته التحريرية، وبيئته السياسية، ومصالحه التي تُمليها عليه خلفيات التمويل والتوجهات الأيديولوجية. إنه صانع رأي، لا مجرد ناقل للخبر.

منصات التواصل: حين صار الهاتف أقوى من القناة

هنا جاء الانقلاب الكبير، الذي قلب الموازين وأحدث زلزالًا في بنية الخطاب: لم تعد الرواية حكرًا على الدولة وإعلامها التقليدي. لقد تحوّل المواطن العادي إلى صانع محتوى، وناقل للخبر، ومُشكل للرأي العام. أصبح ناشط شاب في غزة، مسلحًا بهاتف ذكي وشبكة إنترنت، يُحدث فرقًا عالميًا بفيديو لا تتجاوز مدته 30 ثانية، يُصور فيه لحظة قصف، أو يُوثق فيها معاناة، أو يُشارك فيها صرخة ألم. ووسمٌ بسيط، مثل #GazaUnderAttack، يستطيع أن يُشعل احتجاجات عارمة في عواصم بعيدة، وأن يُحرك الرأي العام العالمي، ويُغير من مسار النقاش.
لكن رغم هذا التحرر الظاهري، لا تزال هذه الساحة الرحبة تخضع لضغوط الرقابة والتحديات الخوارزمية المعقدة، التي تُخفي أحيانًا الأصوات المزعجة، أو تُكافئ السرديات المقبولة فقط، أو تُوجه المحتوى بما يخدم مصالح جهات معينة. إنها حرية مقيدة، تُصارع قيود الخوارزميات وتحديات الرقمنة.

من يتحكّم بالرواية، يتحكّم بالمصير

في هذا المشهد المُتشظي، الذي تتداخل فيه الخيوط وتتداخل الأصوات، لم تعد السياسة تُمارس فقط في البرلمانات، أو في أروقة المؤتمرات الدولية، بل امتدت لتشمل قنوات يوتيوب، وغرف تويتر، ولقاءات "خلف الكواليس" التي تُعقد في الخفاء. والخطاب المزدوج هنا ليس مجرد خيانة للصدق أو تلاعب بالحقائق، بل هو أحيانًا ضرورة حتمية للبقاء والمناورة في عالمٍ تُشكل فيه المصالح القطبية، وتتصارع فيه القوى. إنه فن البقاء في صراع البقاء.
لكن الأخطر من كل ذلك، هو أن يستمرّ الجمهور في تصديق الواجهة اللامعة، وأن ينخدع بالخطاب المعلن، دون أن يتجرأ على سبر ما وراءها، أو يكتشف الخيوط الخفية التي تُحرك الدمى على خشبة المسرح. إن الوعي بحقيقة الخطاب المزدوج هو أولى خطوات التحرر من سطوة التضليل، وفهم الديناميكيات الخفية التي تُشكل واقعنا.



#بهجت_العبيدي_البيبة (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين مطرقة الانسحاب وسندان العزلة: إيران ومعاهدة حظر الانتشار ...
- الضربة التي هزّت الصمت: إعادة رسم موازين الردع في فجر يونيو
- -قافلة الصمود: مصر… بين عبء التاريخ وجسارة الموقف
- مصر وتركيا: من ترسيم خط أحمر إلى تدريبات عسكرية مشتركة
- حين يُصبح الدعاء سلاحًا للكراهية: تأملات في سقوط إنساني واغت ...
- العودة من العدم: حينما يعيد العلم المندثرين إلى الحياة
- في خان الخليلي… حيث تمتزج نكهة التاريخ برسائل السياسة
- حينما تتحكم النسبية في خرائطنا: كيف غيّرت نظرية آينشتاين طري ...
- الإنسانية فوق الطائفية: قراءة في مبررات العنف ضد الأبرياء في ...
- عندما تصبح الخرافة تهديدًا للوعي: قراءة نقدية في تصريحات حول ...
- الصيام عبر الزمن: من عادات القدماء إلى عبادة الإسلام
- رمضان… حين يشرق النور في القلوب
- التحديات السكانية في القرن الحادي والعشرين: قراءة مالتوسية ف ...
- الانتخابات الألمانية 2025: تحولات سياسية كبرى وتداعياتها على ...
- عندما يسخر الجهل من المعرفة
- مصر… حائط الصد الأخير في وجه مخطط التهجير
- ترامب ومكتب الإيمان: بين صعود الأصولية والصدام المحتمل
- حادث السويد الدامي: الإرهاب لا لون له ولا حدود
- التناغم الأمريكي-الإسرائيلي بين التصريحات والرموز: قراءة في ...
- الإعلام بين الإنصاف والتحريف - قراءة في تصريحات مارسيل كولر


المزيد.....




- فيديو لدخان يتصاعد من طائرة ركاب أمريكية بعد إقلاعها من لاس ...
- ترامب من قمة الناتو: قد نتحدث مع إيران الأسبوع المقبل وبوتين ...
- بلغاريا: الفهد الأسود لا يزال طليقًا بعد ستة أيام من البحث ا ...
- إسرائيل وإيران تحتفيان بـ-النصر-.. فمن هو الخاسر إذن؟
- -يوم صعب وحزين- لإسرائيل ـ مقتل سبعة جنود بعبوة ناسفة في غزة ...
- من الانقلاب إلى العقوبات.. محطات العداء بين طهران وواشنطن
- ماذا نعرف عن مصير اليورانيوم المخصب لدى إيران بعد الضربات ال ...
- مخزية ودنيئة.. إيران ترد على إشادة أمين عام الناتو بالضربات ...
- خسائر الاحتلال بغزة تزيد الضغوط على نتنياهو لوقف الحرب
- هل انتهت حرب الـ12 يوما بين إسرائيل وإيران؟ وما مكاسب كل طرف ...


المزيد.....

- كذبة الناسخ والمنسوخ _حبر الامة وبداية التحريف / اكرم طربوش
- كذبة الناسخ والمنسوخ / اكرم طربوش
- الازدواجية والإغتراب الذاتي أزمة الهوية السياسية عند المهاجر ... / عبدو اللهبي
- في فوضى العالم، ما اليقينيات، وما الشكوك / عبد الرحمان النوضة
- الشباب في سوريا.. حين تنعدم الحلول / رسلان جادالله عامر
- أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب ... / بشير الحامدي
- الحرب الأهليةحرب على الدولة / محمد علي مقلد
- خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية / احمد صالح سلوم
- دونالد ترامب - النص الكامل / جيلاني الهمامي
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4 / عبد الرحمان النوضة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - بهجت العبيدي البيبة - الخطاب المزدوج: سيمفونية السياسة ونبض الشارع