أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - بهجت العبيدي البيبة - من القرى إلى القبائل: قراءة في تحوّل البنية الاجتماعية والسياسية في الوجه البحري














المزيد.....

من القرى إلى القبائل: قراءة في تحوّل البنية الاجتماعية والسياسية في الوجه البحري


بهجت العبيدي البيبة

الحوار المتمدن-العدد: 8510 - 2025 / 10 / 29 - 15:00
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


منذ أواخر عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، بدأت ملامح جديدة تتشكّل في المشهد الاجتماعي المصري، خاصة في محافظات الوجه البحري. لم يكن مألوفا أن تتخذ العائلات الكبيرة موقعا سياسيا صريحا، أو أن تُعقد المؤتمرات باسمها لإعلان التأييد أو المبايعة، كما صار الحال في العقدين الأخيرين.
تاريخيا، كان هذا النمط من التنظيم الاجتماعي يتركز في الصعيد حيث البنية القبلية أقدم وأكثر رسوخا، وحيث تضطلع القبيلة بدور مركزي في ضبط العلاقات الاجتماعية وتسوية النزاعات. أما في الوجه البحري، فقد كانت الروابط العائلية قائمة، لكنها لم تكن تُستثمر سياسيا أو تُمارس نفوذا عاما بهذا الشكل الواسع.
ولذلك فإن انتقال هذه الظاهرة من الصعيد إلى الدلتا لا يمكن أن يُقرأ بوصفه صدفة، بل تحوّلا بنيويا يعكس تغيرا في علاقة المواطن بالدولة، وفي الطريقة التي تُدار بها السياسة والمجتمع على السواء.

من المهم أن نُدرك أن القبلية الجديدة في الوجه البحري ليست "عودة رومانسية" إلى الماضي، بل هي إعادة توظيف اجتماعي للروابط التقليدية في سياق سياسي معاصر.
فمع تراجع دور الأحزاب وانكماش النقابات وضمور المشاركة السياسية المؤسسية، وجدت الدولة نفسها تعتمد، في كثير من الأحيان، على ما تبقى من شبكات اجتماعية فاعلة لضمان الاستقرار وحشد التأييد — أي على العائلات الكبرى والزعامات المحلية.
النظام الانتخابي بدوائره الحالية، والاعتماد المفرط على العلاقات الشخصية، جعلا الولاء العائلي وسيلة لضمان النفوذ السياسي. وهكذا تم تشجيع العصبيات الصغيرة لتكون أدوات ضبط اجتماعي وتحشيد سياسي، في مقابل تراجع مفهوم المشاركة المدنية القائمة على البرامج والأفكار.

يتوازى هذا التحول مع تراجع ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة. حين يعجز المواطن عن الوصول إلى العدالة السريعة، أو يجد أن الخدمات لا تُمنح إلا بالواسطة، يلجأ إلى البنية الأكثر أمانا بالنسبة له: العائلة.
العائلة هنا ليست فقط رابطة دم، بل مؤسسة موازية للدولة تؤمّن الحماية، وتوفّر الواسطة، وتُعيد الاعتبار للفرد في مواجهة بيروقراطية ضخمة لا تراه إلا رقما في طابور طويل.
لكن هذه "الدولة العائلية" بطبيعتها غير ديمقراطية، لأنها تقوم على الولاء لا على القانون، وعلى العصبية لا على المساواة. إنها استجابة اجتماعية مفهومة، ولكنها في الوقت ذاته تُقوّض أسس الدولة الحديثة التي ناضلت أجيال لبنائها منذ فجر القرن العشرين.

حين تتعدد الولاءات داخل المجتمع – للعائلة، أو للعشيرة، أو للزعيم المحلي – يبهت الولاء الأكبر للدولة.
وحين يصوّت المواطن استجابة لقرابة الدم لا لقناعة البرنامج، يتحوّل النظام السياسي كله إلى سوق للولاءات، يفقد فيه الصوت الانتخابي معناه المدني.
هذه ليست أزمة إجرائية، بل أزمة وعي وشرعية، لأن الدولة الحديثة لا تقوم إلا على عقد اجتماعي يقوم على الحقوق والواجبات المتساوية.
تأتي القبلية السياسية، في المقابل، لتعيد إنتاج مجتمع هرمي لا يرى الأفراد إلا عبر مواقعهم داخل البنية العائلية، فيتحوّل المواطن إلى تابع، وتتحوّل المواطنة إلى امتياز.
وبكل تأكيد لا يمكننا تجاهل البعد الاقتصادي.
فمع تفكك ملكية الأرض وتراجع الزراعة وصعود اقتصاد الخدمات والوساطة، أصبحت العائلة شبكة الأمان الاقتصادي، والممر الذي تُوزّع عبره الفرص.
المقاول الصغير يجد عمله بفضل قريب نافذ، والموظف يُعين بشفاعة ابن عمّه، والشاب يهاجر بمعونة العائلة.
هكذا تتحول القرابة إلى عملة اجتماعية واقتصادية في آن، وتُعاد هندسة المجتمع على أساس شبكات مغلقة من المصالح المتبادلة.

إن المستفيدين لهذه العودة القبلية كُثر: النخبة المحلية التي تضمن استمرار نفوذها. وكذلك السلطة المركزية التي تجد في هذه الشبكات أدوات للضبط دون تكلفة مؤسسية. وبكل تأكيد رجال الأعمال والوسطاء الذين يستثمرون الولاءات العائلية لتسيير مصالحهم.
أما الخاسر الأكبر، فهو فكرة الدولة الوطنية ذاتها — تلك التي يفترض أن تساوي بين أبنائها دون النظر إلى أصولهم أو روابطهم. الخاسر هو المواطن الذي لا يجد لنفسه مكانا إن لم يكن "من العائلة"، والشاب الذي يُسأل قبل أي امتحان عن "ابن مين في البلد".

إن هذا النمط الذي عُمِل ومازال يعمل على ترسيخه لا يمكن أن يزول بقرار أو بخطاب، بل بإعادة بناء الثقة في المؤسسات المدنية الحديثة.
وإذا كان هناك نية حقيقية لإصلاح ما تفسده مثل هذه الظواهر والتي تجد من يتبناها ومن يرسخها فالطريق معلومة حيث لابد من تفعيل العدالة المحلية والمؤسسات الوسيطة لحل النزاعات بدل الجلسات العرفية. وإصلاح منظومة التعليم والإعلام لترسيخ قيم المواطنة لا العصبية، بالإصافة إلى تمكين المجتمع المدني الحقيقي ليكون شبكة بديلة للتكافل. فضلا عن تجفيف منابع الفساد والمحسوبية التي تعيد إنتاج التبعية.
والخلاصة التي نذهب إليها أن القبلية في الوجه البحري ليست "إحياء للتراث"، كما قد يتصور البعض، بل هي عودة اضطرارية إلى الوراء حين تفشل الدولة في أن تكون حاضنة للمجتمع.
إنها صرخة صامتة من مجتمع يبحث عن الأمان وسط اضطراب التحولات. إن الأمان الحقيقي لا يأتي من انغلاق رابطة الدم، بل من انفتاح القانون، ولا من الولاء للأسماء، بل من الولاء للمبادئ.
ومصر — بتاريخها العريق في بناء الدولة منذ الفراعنة حتى محمد علي — تستحق أن تبقى دولة مواطنة وعدل، لا دولة عائلات ونفوذ.
إنها لحظة تستدعي أن نعيد السؤال القديم الجديد:
هل نبني وطنا يضم الجميع تحت راية القانون، أم نكتفي بظلّ عائلة تحمينا من دولة غائبة؟



#بهجت_العبيدي_البيبة (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما بين إلغاء الليل وجعل النهار سرمديا … وإلغاء العقل
- حول مولد السيد البدوي... حين يتحول الدين إلى ثقافة والثقافة ...
- العقل العربي بين الرغبة في الصواب وفقدان البوصلة
- السابع من أكتوبر في الميزان: من رصاصة الغضب إلى طاولة التفاو ...
- تناقض حفيظ دراجي الكاشف: وصف فتح بالاحتلال ووصف حماس ب -ضربة ...
- خطة ترامب وإفراغ القضية الفلسطينية من معناها
- حكاية الصراخ أمام سفارة مصر والصمت أمام سفارة إسرائيل
- مأجورون يتربصون بمصر ويصمتون عن ضرب الدوحة
- في عيد النيروز... ميلاد الإنسان من ربيع الكون
- -إسرائيل الكبرى-... حلم يواجه الواقع
- حين تُجرَح أيادي الخير: تحليل نقدي لمحاولات تشويه الدور المص ...
- الوطن بين الوعي وزيف الشعارات: درس التاريخ يتجدد
- المذنبات: من نذر الشؤم إلى رسل الكون
- قرار الوزير.. وخرافة الأرقام: هل يُقاس الإيمان بدرجات الغش؟
- البكالوريا المصرية: حلمٌ يولد في غير أوانه؟
- تباين التقارير الأمريكية حول المنشآت النووية الإيرانية: لعبة ...
- الخطاب المزدوج: سيمفونية السياسة ونبض الشارع
- بين مطرقة الانسحاب وسندان العزلة: إيران ومعاهدة حظر الانتشار ...
- الضربة التي هزّت الصمت: إعادة رسم موازين الردع في فجر يونيو
- -قافلة الصمود: مصر… بين عبء التاريخ وجسارة الموقف


المزيد.....




- فيضانات مفاجئة تجتاح كوبا ليلًا.. فيديو يظهر لحظات صادمة
- عضة أنقذتها.. فتاة شجاعة تتصدى لرجل حاول اختطافها في شارع بت ...
- مجازر وقتل جماعي.. صور أقمار صناعية تكشف عن -تطهير عرقي- في ...
- لامين يامال يطرق أبواب قصر بيكيه وشاكيرا!
- منظمة أطباء بلا حدود تقول إن ليبيا أمهلتها حتى التاسع من تشر ...
- المنظمة الدولية للهجرة في السودان تحذر من وضع إنساني كارثي
- إعلان عباس بشأن من يتولى الرئاسة الفلسطينية حال شغور المنصب ...
- ليبيا: السلطات تمهل أطباء بلا حدود حتى التاسع من نوفمبر لمغا ...
- صحف عالمية: نتنياهو ينسف هدنة غزة ويُتهم بالتفريط بسيادة إسر ...
- متاحف قطر تفتتح معرضين يحتفيان بالفن الهندي الحديث والحذاء ا ...


المزيد.....

- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - بهجت العبيدي البيبة - من القرى إلى القبائل: قراءة في تحوّل البنية الاجتماعية والسياسية في الوجه البحري