|
|
خصوصية الانتقال الديمقراطي في تونس وعوامل فشل التجربة
عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)
الحوار المتمدن-العدد: 8514 - 2025 / 11 / 2 - 16:47
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
عرفت تونس، منذ سنة 2011، انتقالًا سياسيًا فريدًا في العالم العربي، إذ مثّل لحظة تاريخية استثنائية فتحت أفقًا نحو الديمقراطية بعد عقود من السلطوية. غير أنّ ما سُمّي بـ"الانتقال الديمقراطي" لم ينجح في ترسيخ مؤسسات الحكم الرشيد، لأنّه انشغل بسؤال «من يحكم؟» بدل أن يُعالج سؤال «كيف نحكم؟». لقد أُجريت الانتخابات، ووُضع الدستور، وتكاثرت الأحزاب، غير أنّ كلّ هذه المظاهر الشكلية لم تُنتج نظامًا ديمقراطيًا مستقرًّا، بل أسست لحالة من التشظي والانقسام السياسي والمجتمعي، نتيجة غياب رؤية اقتصادية وإدارية واضحة ومتفق عليها، من جهة تُلطِّف آثار الأزمة المالية وانعكاسهاتها المباشرة على معيشة الناس، ومن جهة أخرى تضمن فعالية الدولة واستمراريتها.
من خلال دراسة تجارب الانتقال العديدة تبيّن أن بناء الديمقراطية في بلد يعيش أزمة اقتصادية حادّة، ومؤسسات مترهّلة، وضغوطًا مالية خارجية متفاقمة، لا يمكن أن يتحقق بآليات شكلية كالتصويت والتداول على السلطة فقط، بل يتطلب مشروعًا وطنيًا جامعًا يحدّد أولويات الحكم، وآلياته، وحدود التنافس السياسي داخله. فالديمقراطية بهذا المعنى ليست "نتيجة تلقائية للانتخابات"، بل ثمرة توافق وطني طويل النفس، يتأسّس على إدراك جماعي لمقتضيات المرحلة الانتقالية، وضبطٍ عقلانيٍ للعلاقة بين السياسة والدولة. ولعل المفتاح الاستراتيجي لنجاح عملية الانتقال من الدكتاتورية الى الديمقراطية في أيّ بلد، هو أولا وقبل كل شيء مدى قدرة النخب السياسية على التفاهم، ورفضها الخضوع لجماعات المصالح. والتخلي عن ذهنية الانتقام والاقتلاع، واستعدادها لتسوية تاريخية أساسها عدالة انتقالية نزيهة قائمة على الاعتراف والاعتذار وجبر الخواطر وطيّ صفحة الماضي. بعد ذلك تأتي بقيّة العوامل البنيوية التي تشكّل بتظافرها شروط الانتقال الديمقراطي: • تحرّر مؤسسة القضاء واستقلالها التامّ. • الإجماع على الدولة، وإيمان النّخب بحق الشعب المطلق في أن يُشرّع للأمور العامة. وبأن الدّستور وُضِع لكي يجعل حدود السلطات، ويضمن الحقوق والحريات . • غلق المنافذ على التدخل الخارجي. • حد معقول من الاستقرار الاقتصادي. • حدّ معقول من الاستجابة لمطالب الناس الأكثر تضرُّرًا من الفقر. • طبيعة القطاع الخاص غير الإجرامية ودرجة التزامه بالعمل ضمن القانون. • درجة تطور المجتمع المدني والمنظمات الجماهيرية. • درجة انخراط النخبة الإدارية العليا في عملية الانتقال الى الديمقراطية. • المساواة ودرجة انخراط النساء في الشأن العام. • مستوى التمدرس. • حجم الطبقة الوسطى. • غياب طموح الحكم لدى المؤسسة العسكرية.
لو طبّقنا هذه الشروط على واقع تونس لتوصّلنا إلى استنتاجات جدّيّة تؤكّد أنّ جميع شروط العلوم السياسية للانتقال الدّيمقراطي مُتوفّرة ومجتمعة في بلدنا. وليست متوفّرة بالكامل وعلى نفس النّحو في أيّ بلد آخر، لا عربي ولا أجنبيّ. فهذه الشروط لها علاقة بعوامل تاريخية وجغرافية وثقافية وديمغرافية، تفاعلت جميعها بحيث كان هنالك تأثير لكلّ عنصر في باقي العناصر. ومحصّلة ذلك التفاعل عبر قرون، هي الوحدة السكّانية المتينة واستقرار الحدود منذ زمن بعيد، واستمرار مؤسسة الدولة وولاء السكان لها. ومن المؤكد أنّ هذه العوامل، هي التي بَنَت لغة التواصل وطبيعة العقد الاجتماعي، والعادات والمعتقدات وتجارب التّأمّل، والعلاقة بالأرض وبالطبّ وبالأحوال الشخصية وبقضيّة العبودية وبوضع المرأة، وبسلوك الناس، وبقدرتهم على التكيّف، وتواصلهم واختلاطهم ببعضهم واندماجهم، وحتى طبيعة الأهازيج الموسيقية لها علاقة بهذه العوامل التونسية الخالصة، التي لا يمكن نسخها ولا نقلها مجتمعة إلى أيّ بلد آخر. وأعتقد أنهاّ ستنعكس، في العهود الأخيرة على الهوية الوطنية، التي كانت أساس المواجهة مع الاستعمار. وستنعكس على محاولات التنميّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وعلى التعليم ودرجة التمدّن. وعلى الفن والأدب. وعلى منسوب الانفتاح على المنجز العلمي. وعلى التطلّع للاندماج المغاربي والعربي. وعلى مستوى الاتصال والتواصل مع الشعوب الأخرى. وأخيرا على استعداد التوانسة لتأسيس نظام ديمقراطي يصون الحرية والكرامة للجميع.
وعلى الرّغم من أن هذه الاستنتاجات حول شروط الانتقال إلى الديمقراطية، من الخطأ العلمي والسياسي الكبير إسقاط تجارب الانتقال الأوروبية على الحالة التونسية على نحو تُغفل معه الفوارق البنيوية والمحيطية. ففي سبعينات القرن العشرين، احتضنت أوروبا الغربية الانتقال الديمقراطي في إسبانيا والبرتغال، ودعمته بالمال والاستثمارات والضمانات الأمنية. وكذلك في التسعينات، تحوّلت دول أوروبا الشرقية من حكم الحزب الواحد إلى الديمقراطية، تحت المظلّة الأوروبية سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا. لأنّ أروبا الغربية كانت تخشى على استقرارها من انهيار الأوضاع الإنسانية والامنية على حدودها وداخل فضائها القاري. أما في تونس، فالوضع كان معكوسًا تمامًا، بحيث واجهت التجربة التونسية تصميمًا خليجيًا واضحًا على إفشالها، حتى لا تتحوّل إلى نموذج عربي يهدد شرعية أنظمة الحكم الوراثية في الخليج. وهكذا وُجدت الديمقراطية التونسية في بيئة عدائية خارجيًا، وهشّة داخليًا، فكان فشلها حتميًا ما دامت افتقدت الإجماع الوطني الصلب القادر على حمايتها من التفكك والانقسام. وهنا، في قلب هذا الموضوع يأتي الحديث عن حركة النهضة كأحد أهم عوامل الفشل في التجربة التونسية، بوصفها معول التخريب الأوّل الذي مسكت به الرجعية في الإقليم والعالم لنسف مضمون الثورة.
عليّ أولا أن أعترف بأنّي كنت من أشدّ المدافعين عن حقّ الإسلاميين في المشاركة كحزب سياسي، مثلهم مثل كل التيارات الفكرية. معتقدا على نحو يقينيّ أن إقصاء الإسلاميين، أو أي تيار آخر هو تقويض لإمكانية بناء الديمقراطية. مُطمئنًّا لكون تونس صاحبة أعرق الدساتير المكتوبة في التاريخ، لا يُخشى عليها من التطرّف. فهي البلد الذي حرّم العبودية قبل الولايات المتحدة وفرنسا وتركيا. وهي التي كتبت منذ قرنين دستور عهد الأمان، الذي سوّي بين جميع السكّان على اختلاف دياناتهم حين كانت معظم أمم الدنيا تعيش عهود الظلمات. وهي التي أنجبت نخبة فرضت عملية إصلاح متدرّجة داخل المؤسسة الدينية وداخل الدولة والمجتمع. فمن الطبيعي، بعد كل هذا الميراث الشاهق، أن تكون المساواة مسألة محسومة. وكذلك الديمقراطية واحترام القانون. ولكن بعد أن وصلت حركة النهضة للحكم. بعد التجربة المرة، صرت أكرّر تلك الحكمة التي تقول: "إن النظرية رمادية اللون، وحدها شجرة الحياة خضراء إلى الأبد". وفهمت بأن تونس ما كانت لتصل إلى هذا الوضع المُهين، لولا هذا الجسم الغريب عليها وعلى أهلها وعلى إسلامها.
الإسلام السياسي وُلِد ضدّ التحديث:
عندما نتحدث عن جذور التيار الإسلامي السياسي، غالبا ما يتوقف الدّارسون في عشرينيات القرن الماضي عندما ظهرت جمعيّتيْ "الشبان المسلمين" و"الإخوان المسلمين" في مصر. والحقيقة أن هنالك بداية ارتبطت بعهد التنظيمات العثمانية (أربعينات التاسع عشر)، وهو برنامج واسع النطاق لتحديث الدولة ونمط الاجتماع، وبناء علاقة من نوع جديد بين الدولة والمجتمع، قاده رجال حكم كبار، مثل رشيد باشا، فؤاد باشا، وعلي باشا الذين سعوا إلى استبدال مؤسسة الدولة التقليدية محدودة السلطات بنموذج دولة حديثة مركزية لها سيطرة مطلقة على أرضها وشعبها. وهكذا تمّ إلغاء الأنظمة الوسيطة الضرائبية، وتأسست علاقة ضرائبية مباشرة بين الدولة وموطنيها. وتم تنظيم الجيش ليصبح مؤسسة محترفة على ذمّة وزارة الحربية. كما سيطرت الدولة على مجال التعليم، فأنشأت وزارة مركزية لنشر التعليم الحديث والتحكم في المناهج، وأُلغي نظام القضاء التقليدي ومرجعيته الفقهية التي ظلت بيد "العلماء" منذ بزوغ الإسلام. ثم، وبالتّدريج وضعت هذه الدولة الناشئة يدها على قطاع كبير من الأوقاف لتعزيز مصادر دخلها، وتوفير الأموال الضرورية لتلبية حاجات مؤسسة الحكم والإدارة المتسعة بصورة غير مسبوقة في تاريخ الاجتماع الإسلامي.
هذا المشروع التحديثي الجديد ولّد عددا من التطورات، أبرزها: وُلِدت وزارة عدل بنظام عدلي حديث وقوانين تُشرّعها الدولة. وقد استبطن المشروع التحديثي قوانين وتشريعات زمنية وضعية لا تخضع تمامًا للفقيه. التطور الثاني، ارتبط بالتضخم الهائل لجسم البيروقرطية الإدارية وتوسّع سلطاتها بشكل غير مسبوق. ولم يعد القضاء وأمور الزواج والطلاق والتربية والتعليم والفتوى متروكة لطبقة العلماء، وبالتالي لم يعد الإصلاح ممكنا بأهل الحل والعقد من خلال النّصح والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وإنما أصبح مرتبطا بإسقاط هذه الدولة ذات السيطرة المطلقة على كل مناحي حياة الجماعة المسلمة من حماية حدود الامبراطورية، إلى التجارة والأمن والمؤونة والتعليم والتشريع والضرائب. كان لهذه التطورات الكبرى تأثيرات على الاجتماع الاسلامي، طالت المكانة الاجتماعية لطبقة العلماء وطالت امتيازات وجهاء السلطنة الذين هُمّشوا وضُرِبت مصالحهم المادية بسبب سيطرة الدولة على الأوقاف، وضُرِبت مكانتهم المعنوية حين سُحبت منهم مهام القضاء والتعليم. ولذلك شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر عددًا من الثورات المناهضة لما يعرف ب"عهد التنظيمات" قادتها جماعة سمّت نفسها "العثمانيين الشبان"، أو "العثمانيين الجدد" مثل شِيناسي ونامق كمال، ومدحت باشا... وغيرهم من الذين اعتبروا الدولة الجديدة مؤسسة استبدادية تدمر قيم الاسلام بهدف توكيد احتكارها للسلطة والحياة. والحل عند "العثمانيين الشبان"، هو العودة إلى النظام التقليدي ما قبل التنظيمات. ولأول مرة في تاريخ المسلمين تولد معارصة تطالب ب"العودة إلى الشريعة"، واضعين بذلك أسس التماهي بين الدولة المركزية الحديثة والكُفر، وبين عدل الشريعة ونظام الحكم التقليدي، نظام ما قبل الدولة والإدارة. ذلك أن الشريعة في الموروث الإسلامي مثلت "خطاب المجتمع" وليس مؤسسة قانونية علوية ومفروضة. بمعنى أن الشريعة كانت الفضاء الذي يتشكل فيه السلوك العام للناس، ومعايير العلاقات، فهي ثقافة الجماعة المحلية في كل إقليم، لغتها، عاداتها وتقاليدها، مقاييس المعروف والمنكر في حياتها، وليست جملة التشريعات الواضحة الملزمة للمسلمين على امتداد الإمبراطورية. ولذلك كانت دعوة "العودة إلى الشريعة" غير واقعية لأنهم صوّروا الشريعة باعتبارها وضعًا تشريعيا كان قائما وجرى "التخلي عنه" ويجب "العودة إليه". وظلت هذه الجماعة تكفّر الدولة وتشنّ عليها الغارات لما يقارب أربعين عاما، إلى أن جاء عبد الحميد بداية الثمانينات ليقضي عليها. في العقود اللاحقة، سيظل هذا الخطاب التكفيري العنيف، ليؤدي في النهاية إلى ولادة التيار الإسلامي السياسي. اصطدمت المنطقة مباشرة بعد ولادة الدولة العربية الحديثة بعدوّ لدود يتربّص بها لتحطيمها. وسرعان ما انفجر العنف في مصر من اغتيال النقراشي إلى اغتيال السادات. ثم توسّع ليطال سوريا الثمانينات، وجزائر التسعينات.. وبعد ذلك، أو بسببه ولدت الجماعات الإسلامية المسلحة العابرة للحدود والقارات.
خلاصة القول، والحقيقة المركزية التي يجب الانتباه إليها وزيادة النظر فيها وتفكيكها وإعطائها من الجهد البحثي لفهمها على نحو أكثر وُضوحًا، هي أن جماعات الإسلام السّياسي وُلِدت في أصلها وجذورها ضدّ قيام الدولة الحديثة. وهي بهذا المعنى قوى طُفيليّة مُعطّلة لمسار التاريخ، ومن المؤسف القول بأنّ بناء الديمقراطية في ظل وجود هذه الجماعات هو ضرب من الوهم. وهذا بالضبط ما يُفسّرُ الخراب الذي تُخلّفه هذه القوى كُلّما عثر التاريخ ومكّنها من الحكم في أي بلد من البلدان. وهو أيضا ما يُفسّر فشل التجربة الديمقراطية في تونس. إذا لا يمكن بأية حال من الأحوال بناء نظام ديمقراطي بالتعاون مع طرف سياسي تقوم عقيدته على رفض الدولة نفسها، مُستعينا بالتطرف والعنف والإرهاب ورفض الانسجام مع قيم العصر ومع منظومة حقوق الإنسان الكونية. وهذا في حدّ ذاته يمنع قيام مرجعية وطنية جامعة، ويمنع ولادة كتلة تاريخية قادرة على عقلنة السياسة وقيادة البلاد إلى الأمام ... ولا يمكن لأي مجتمع عربي أو مسلم أن يتحرك إلى الأمام ما لم يحسم الإجماع حول دور الإسلام وموقعه في المجال العام، على نحو يجعل من قضايا الإجماع الداخلي ثقافة اجتماعية راسخة. وما دام هنالك إسلام سياسي ستظل هذه المجتمعات تُصارع أسئلة الديمقراطية والحريات والهوية والمواطنة ودور الدولة وعلاقاتها بالعالم، وأيضا أسئلة الفقر والتنمية. فشعوب ونخب لا تستطيع التوافق الأدنى حول المسائل الكبرى التي تُبنى عليها الأوطان والأمم، ستبقى عُرضة للتمزق والحروب الداخلية والفساد والعنف والتطرّف بشتّى أنواعه.
لم تقتنع النخبة السياسية الديمقراطية في تونس بأن التيار الإرهابي المخادع، سيظلّ واقفا خارج المشترك الوطني، ورافضًا لأيّ إجماع. وسيظل يترصّد فرصة توفّر ظروف تُمكّنه من هدم الدولة، وهدم مكاسب المجتمع، حتى يعود بها إلى ما قبل التنظيمات العثمانية، أي إلى زمن السّيبة والتسيّب. لم تفهم هذه النخبة أن مهمة بناء دولة ديمقراطية تبدأ بعزل الإسلام السياسي من خلال إجماعها على الحد الادنى الجمهوري الديمقراطي. بعد ذلك سيتمكّن التوانسة من بناء مؤسسات دستورية حقيقية غير مغشوشة، ونظام ديمقراطي حقيقي غير مغشوش. أمّا وحركة النهضة موجودة كحزب سياسي يندمج بالإرهاب، ويستقوي على الدولة بجهاز سرّي، ويضع رقبة تونس على ذمة دول وجماعات أجنبية. فإن الحلم بأن هذا البلد سيستقرّ، أو يبني حجرا، أو يتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، هو أمر مستحيل، وضرب من الخيال.
إذن وجود حركة النهضة في حد ذاته هو عائق من عوائق الاستقرار، فضلا عن كونها عامل رئيسي من عوامل إجهاض التجربة الديمقراطية. وتونس العميقة، بعد أن جرّبت حكم هذه الجماعة، لن تقبل بحكم أي نخبة تتحالف معها. ذلك أن تونس "مجتمع دولةٍ" يرفض السّيبة منذ قرون، وعنده ذاكرة ومخزن من الدّروس. وبرأيي سقطت النهضة حين استفزت ذاكرة المجتمع وتعمّدت تخريب الدولة وإضعافها. هذه بلاد ذات حدود مستقرة منذ آلاف السنين، واستقرار الحدود ساعد على استقرار الهوية واندماج السكان، وسهّل تحوّلهم في العصر الحديث إلى شعب موحّد يمتلك ثقافة متراكمة، وحركة إصلاح مستمرة، ونُخبًا لعبت دائمًا دور الوسيط بين الدولة والمجتمع. ولم يعرف هذا الشعب فراغًا سياسيًا أو ثقافيًا حقيقيًا منذ قرون، إذ ظلّت الدولة، في أشكالها الحفصية ثم الحسينية ثم الوطنية، الإطار الجامع الذي حافظ على استمرارية المؤسسات وعلى حدٍّ أدنى من التوازن الاجتماعي. ومن هنا يمكن القول إنّ المجتمع التونسي يقوم، في عمقه التاريخي، على "عقد اجتماعي ضمني" يربط بين الشعب والدولة، بما يضمن استمرارية تغذية الثقة في منظومتها الرمزية. بحيث يستحيل على أي حركة سياسية تونسية أن تجمع بين ولاء الناس واستعداء الدولة.
مع الأسف النخبة السياسية التي تولّت الحكم بعد الثورة، واستسهلت التعاون مع حركة النهضة لم تنتبه إلى حسّاسيّة التفاعل بين الخصوصية التونسية ومناخ الحرية المنفلت، ولم تدرك الأثر الخطير لتلك الصراعات التي احتدمت بين القوى السياسية من أجل الكراسي، في ظل ارتفاع سقوف المطالب الاجتماعية.
بهذا المعنى، لم يكن فشل الانتقال مجرّد نتيجة لأخطاء في التوافقات السياسية أو الضغوط الخارجية، بل كان أيضًا سوء قراءة لهوية المجتمع التونسي وتكوينه التاريخي العميق. ومن هنا تأتي الحاجة إلى طرح سؤال "الإجماع الداخلي" بوصفه واحد من أهم شروط الانتقال من النظام الشمولي إلى النظام التعدّدي. والإجماع، في هذا السياق، لا يعني "وحدة فكرية أو تماهيِا مثاليا شاملًا"، ولا يعني "طمسا للصراع الطبقي"، بل يعني توافقًا وطنيًا واسعًا حول القضايا الكبرى، يؤمّن الحدّ الأدنى من الاستقرار ويضمن إدارة الخلافات دون الانزلاق إلى العنف. وهو، في ظنّي وتقديري، السبيل الوحيد لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، وترسيخ قاعدة عقلانية للحكم، وتجاوز منطق جرّ البلاد إلى صراع المحاور الإقليمية التي عطّلت البلاد وضيّعت عليها جيلا من لحمها ودمها.
في ما يلي، تحليل لتجربة التوافق السياسي التي جمعت بين "النداء" و"النهضة"، والتي شكّلت، رغم ادعائها الواقعية، نقطة الانكسار الكبرى في مسار الانتقال الديمقراطي، تليها قراءة في ملامح الإجماع الوطني الممكن القادر على ترميم الدولة وإعادة الثقة إلى المجتمع.
التجربة الديمقراطية في تونس: من "توافق الضرورة" إلى انهيار الثقة الوطنية
مقدّمة لا بد منها:
في تدوينة له بعنوان "النداء والنهضة مرّة أخرى"، اعتبر السيد خالد شوكات أنّ تونس لم تعرف قوتين قادرتين على تأسيس ديمقراطية مستقرّة سوى حركتي نداء تونس والنهضة، مؤكّدًا أنّ نجاح أي نظام ديمقراطي يمرّ عبر ثنائية حزبية تمثّل الوسط وتستطيع التوافق والتداول على السلطة.
وقد علّقت على تدوينته بما يشير إلى أنّ هذا الخطاب، وإن بدا في ظاهره دعوةً إلى الواقعية السياسية، يغفل عن جوهر الأزمة التونسية: أنّ "توافق النداء والنهضة" لم يكن مشروعًا وطنيًا، بل صفقة ظرفية محكومة بالمصالح، كانت نتيجتها المباشرة انهيار الثقة بين الشعب والنخب، وتفكّك العقد الاجتماعي، وصعود الشعبوية كردّ فعل انتقامي على عشرية الخيبة.
أولًا: ثنائية "النداء والنهضة" كتحالف مصلحي لا كركيزة ديمقراطية
لم يكن التحالف بين "النداء" و"النهضة" تجسيدًا للتوازن الديمقراطي كما يدّعي البعض، بل كان تواطؤًا ناعمًا بين قوتين تبحثان عن البقاء في الحكم. فبدل أن يقود التوافق إلى مأسسة الانتقال الديمقراطي، تحوّل إلى غطاء لخصخصة أجهزة الدولة وتقاسم النفوذ بين لوبيات المال والسياسة تحت شعار "الوحدة الوطنية". وهكذا تمّ تعطيل المحاسبة، وتجميد مسار العدالة الانتقالية، وتبييض الفساد، ما جعل "التوافق" آلية لتثبيت الفشل بدل تجاوز الأزمة. ومن ثمّ، فإنّ تلك التجربة لم تكن "ثنائية الوسط الديمقراطي"، بل ثنائية المصلحة والعطش للمناصب، والتي عجزت عن إنتاج رؤية وطنية جامعة.
ثانيًا: تفكيك مؤسسات الدولة
بسبب هيمنة المنطق الحزبي والولاءات، تمّ ضرب الإدارة التونسية في صميمها عبر: التعيينات على أساس الولاء بدل الكفاءة؛ تحييد أجهزة الرقابة والإشراف المالي؛ تعطيل المشاريع العمومية وتخريب المناخ الاستثماري. هكذا انتقلت الدولة من فاعل منظم إلى جهاز مترهّل، خاضع للزبونية، ما أدى إلى انكماش اقتصادي وارتفاع المديونية والبطالة. فيما انشغلت النخبة الحاكمة بالصراع على المناصب والمكاسب بدل معالجة أولويات الشعب. فغابت الرؤية الاستراتيجية، وأصبح البرلمان مسرحًا للمزايدات، والأحزاب مجرّد أدوات تفاوضية داخل منظومة مصالح متداخلة بين المال والسياسة. هذا السلوك أفرغ الثورة من محتواها، وحوّل الديمقراطية إلى واجهة شكلية لمجتمع مأزوم.
ثالثا: الانفصال عن المجتمع
تعاملت النخبة مع الشعب ككتلة غوغائية تصلح فقط كخزان انتخابي، دون إدراك لخصوصيات المجتمع التونسي، ففقدت قدرتها على فهم المزاج الشعبي، وعلى التفاعل مع تحوّلاته الثقافية والاجتماعية. نتيجة لذلك، انقطعت العلاقة بين الشعب والنخبة، وانهار ما يشبه العقد الاجتماعي التاريخي الذي كان يربط التونسيين بدولتهم.
رابعا: النفاق والانتهازية كأصل لأزمة الثقة
ما يجري اليوم هو نتيجة مباشرة ومنطقية جدا لما حدث في تلك المرحلة المفصلية من تاريخ الثورة، مباشرة بعد انتخابات 2014 التي أقفلت الحكم المؤقت، وفتحت حكم المؤسسات المنتخبة. مع الأسف الشديد تمّ هدر الثورة ومعانيها خلال تلك السنوات الخمس. بالمناسبة بدأ الشعب التونسي يُدرك إفلاس النخبة الحاكمة منذ الانتخابات البلدية 2018، لما تقدمت القائمات المستقلة عن القائمات الاحزاب. ثم انفجر الصراع بين رئيس الجمهورية المرحوم الباجي قائد السبسي وحركة النهضة التي نجحت في تمزيق نداء تونس.
كلّ تلك الممارسات المنحطة والتي لا علاقة لها بمصالح الاغلبية الشعبية خلقت منسوبًا لا يُطاق من الاحتقار تجاه الاحزاب السياسية. ولذلك نلاحظ موقف التوانسة العنيف اليوم من "القوى الديمقراطية" المتحالفة مع النهضة ضد نظام قيس سعيد، بعد أن كانت اتهمتها بالإرهاب والتسفير. إن هذا التحالف أسقط آخر حاجز أخلاقي في السياسة التونسية. إذ صار التقلّب في المواقف فضيلة، والصفقات المؤقتة مبدأً، و"الواقعية السياسية" غطاءً للمقايضة.
هذا النفاق الذي برّره البعض بحجّة "مواجهة قيس سعيّد" عمّق السخط الشعبي، لأنّه أعاد إنتاج منطق الصفقات ذاته الذي أفسد مرحلة التوافق الأولى. لقد تحوّل المشهد السياسي إلى صراع بلا قيم، أفقد الناس الثقة في الجميع، وأوحى بأنّ السياسة لا تحتكم لأي معيار أخلاقي.
خامسا: سنوات الهدر والأوضاع النفسية والاجتماعية التي أفرزتها:
بعد الشعور بالخديعة والخذلان لسنوات طويلة، حين تتكاثر الخطابات المتناقضة اليوم، يميل المواطن إلى تصديق ما يريحه نفسيًا. فتُستغل هذه الهشاشة في مواصلة التلاعب بالعواطف سواء من جهة الحكم أو المعارضة، بدل بناء وعي سياسي نقدي.
بعد سنوات من الفوضى والخيبات صار المواطن يفضّل "النظام" على "الحرية"، ولو بثمن العودة إلى التسلّط. ومع كل فشل جديد، يتعاظم الحنين إلى سنوات الاستقرار وتُستحضر صورة نظام بن علي، لا حبًّا فيه، بل هروبًا من الفوضى. فكانت العودة إلى الدولة الصارمة ردَّ فعل نفسي على انهيار الثقة في النخب وانتقامًا رمزيا منها.
بهذا المعنى انتخاب قيس سعيّد سنة 2019 لم يكن تفويضًا لمشروع سياسي، بل عقابًا للنخب القديمة. لقد مثّل سعيّد، في المخيال الجمعي، "الاستقامة الزاهدة" مقابل "فساد الطبقة السياسية"، فالتفّ الناس حوله كفعل انتقام جماعي أكثر من كونه اختيارًا عقلانيًا.
سادسا: الأزمة الاقتصادية كنتيجة للتخريب المؤسسي
الأزمة التي تعيشها تونس اليوم ليست عفوية، بل نتيجة سياسات ممنهجة لتفكيك الدولة، انهيار مناخ الاستثمار، تعطّل المشاريع العمومية، تصاعد المديونية والاقتصاد الموازي، تعطّل الإدارة بفعل الولاءات الحزبية.
لهذا، أعتقد كان هنالك تداخل بين الأزمة السياسية والأخلاقية والاقتصادية، ساهمت جميعها في إنتاج وضعٍ شامل من الانهيار، جعل البلاد تدور في حلقة مفرغة من الغضب والعجز.
حين تفشل النخب في بناء مشروع وطني جامع، وتتعالى على الشعب، فإنّ الناس يبحثون عمّن يجسّد "الخلاص". في السياقات ذات البنية المركزية مثل تونس، يبرز ما يسميه علماء الاجتماع بـ "اللجوء إلى الشخصية المخلّصة" هكذا صعد قيس سعيّد، ليس كمشروع بديل، بل كـرفض جماعي للمنظومة السياسية السابقة. إنّه ردّ فعل اجتماعي على الإحباط، لا ثمرة وعي سياسي جديد.
بالمختصر، تُخطئ القراءة التي تعتبر أنّ النداء والنهضة كانا "الركيزة الوحيدة الممكنة للديمقراطية"، فالتاريخ أثبت العكس: لقد كان هذا التوافق هو القاطرة التي جرّت البلاد نحو الفشل، لأنّه قام على المصلحة لا على المبادئ، وعلى التسوية بين الفسادين لا على التعاقد بين المشاريع. وإذا كان من درسٍ بعد عقدٍ ونصف من التجربة، فهو أنّ الثورة لم تُهزم بفعل الشعب، بل بفعل نخبةٍ خانت روحها. لقد حوّلت "سياسة البزنس" السياسة إلى سوق نخاسة، والحرية إلى فوضى، والدولة إلى غنيمة. ولذلك، لا مخرج من الأزمة التونسية دون نخبة جديدة منبثقة من الداخل الشعبي، قادرة على مصالحة السياسة بالأخلاق، وبناء مشروع وطني يعيد الثقة بين الدولة والمجتمع.
#عزالدين_بوغانمي (هاشتاغ)
Boughanmi_Ezdine#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لماذا لم يدافع الشعب التونسي عن -الديمقراطية-؟
-
المقاومة والحواف الأخلاقية لضبط العنف الضروري
-
الجدل المغلوط حولاتّفاقية التعاون الدفاعي بين توس والجزائر.
-
الحرب على إيران والبيئة الاستراتيجية لإسرائيل الكبرى
-
في الذكرى الثانية للطّوفان، دفاعًا عن المقاومة
-
مقترح ترامب، مناورة جديدة، ومواجهة جديدة بين المقاومة وأعدائ
...
-
كيف سقط النظام السوري؟
-
حول مسألة -المساجد في المعاهد التونسية-
-
حنظلة تونس في شوارع الليل ، حتى لا ننسى !
-
تمييز السياقات هو الحدّ الفاصل بين القراءة الموضوعية وسردية
...
-
-المؤامرة الغربية لإسقاط نظام قيس سعيّد- بين الوقائع والدّعا
...
-
بخصوص مشروع قانون -استعادة الديمقراطية في تونس-.
-
مرّة أخرى دفاعا عن التاريخ الاتحاد العام التونسي للشغل وحزب
...
-
الاتحاد العام التونسي للشغل والحزب الحاكم: فروق جوهرية لا يج
...
-
الأزمة النقابية في تونس: بين فساد البيروقراطية وتواطؤ الفاعل
...
-
مقاومة الاستعمار خيار شعبي، وكل الحكومات معادية لبنادق الثوّ
...
-
من التبعية إلى التمويه: أوروبا بين الإخضاع الأميركي والاستثم
...
-
النظام السوري وازدواجية الأداء في لبنان وفلسطين
-
سوريا الأسد: في توازن السلاح والسياسة، دعم المقاومة كتحجيمها
-
العدوان الصهيوني ومشروع إسرائيل الكبرى
المزيد.....
-
وزير الطاقة الأمريكي يوضح ما قصده ترامب بشأن -إجراء تفجيرات
...
-
مصرع خمسة متسلّقين ألمان في انهيار جليدي شمالي إيطاليا
-
مصادر لبي بي سي تنفي التوصل إلى هدنة إنسانية في السودان، وشا
...
-
ألمانيا - توقيف سوري بشبهة التخطيط لهجوم جهادي في برلين
-
إشهار كتاب دم على أوراق الذاكرة
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تسلم الصليب الأحمر جثث ثلاث رهائن في غ
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تسلم الصليب الأحمر جثث ثلاث رهائن في غ
...
-
كاتب إيطالي: هل تحقق القاعدة سابقة وتسيطر على دولة مالي؟
-
بلجيكا تحقق في رصد طائرة مسيرة فوق قاعدة عسكرية
-
عودة الكبار ورهان على التنوّع.. خريطة المسلسلات الخليجية موس
...
المزيد.....
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان
...
/ غيفارا معو
-
حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
جسد الطوائف
/ رانية مرجية
-
الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025
/ كمال الموسوي
-
الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة
/ د. خالد زغريت
-
المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد
/ علي عبد الواحد محمد
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
المزيد.....
|