أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عزالدين بوغانمي - كيف سقط النظام السوري؟















المزيد.....

كيف سقط النظام السوري؟


عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)


الحوار المتمدن-العدد: 8484 - 2025 / 10 / 3 - 17:50
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


قبل البدء في نقاش هذا الموضوع، لي ملاحظات أعتقد أنها مهمّة لبعض الأصدقاء الذين يتصدرون المشهد التعليمي

أولا، حين تقرّر الارتماء في النقاش الدائر بين السوريين حول شرعية نظامهم الحالي، وما الذي حدث خلال الأيام المعدودة التي سقط على إثرها النظام، لا تنس أنك تونسي ولست سوريا.

ثانيا، الحرية هي الشرط الاول للالتزام بقضايا الثورة والتغيير والعدالة ... والأكاديمي الملتزم يُفترض فيه أن يكون مُتحرّرا من الأصفاد الأيديولوجية والنزعة الإطلاقية. والتحرر بهذا المعنى لا يجب أن يُفهم على أنه نوع من العزلة أو اللا مبالاة ولا انطواءً للمثقف في برج عاجي، بل هو جهد عقلي وأخلاقي شاق، لأن المترفع عن الجماعة كالمنغلق على ذاته. كلاهما ليس متحرّراً، بل أشد الناس عبودية إمّا لراحته الداخلية على حساب المجتمع، أو خدمة لسمعته الخاصة على حساب الحقيقة. إنما المقصود بالتحرر هنا هو ذلك الصراع الذي يجب أن يستمر في التصدي للتسرع والأحكام المسبقة.


فريقان يقودان جدلا محتدمًا في سوريا اليوم حول ما حدث بين 27 نوفمبر 2024 والثامن من ديسمبر يوم سقوط نظام بشار الأسد.

الفريق الأول يتحدث عن عبقرية أحمد الشرع وتمكّنه من الإطاحة بالنظام بعد أربعة عشر سنة من الصراع، وعليه "من يحرّر يُقرّر".

والفريق الثاني يقول أن النظام سقط بقرار دولي، وما هيئة تحرير الشام سوى عُملاء جيئ بهم للسلطة لخدمة أجندات أجنبية مكافأة لهم عن الخدمات الأمنية التي قدّموها للرّأعي الأجنبي.


طبعا أنا لا أدّعي معرفة ما حصل بدقّة تسمح لي بترجيح رأي هذا الفريق أو ذاك. إنّما سأكتفي في القسم الاول بالتذكير بعدد من الصراعات ضمن الإطار الوطني السوري التي حكمت تطور الدولة السورية منذ الاستقلال. وفي مرحلة ثانية سأحاول الإضاءة على أهم محطات الحرب الأهلية منذ مارس 2011 حتى سقوط النظام. لعلّ ذلك يساهم في الإجابة عن الأسئلة الغامضة بخصوص حدث 8 ديسمبر 2024.

مع تبلور النظام الإقليمي العربي بعد الحرب العالمية الثانية، انتهت سوريا التاريخية التي انتزع منها لبنان وفلسطين والأردن بموجب اتفاقية سايكس بيكوثم انتزعت منها السناجق السورية الشمالية (قيليقية والجزيرة الفراتية العليا) وضمّها إلى تركيا بموجب اتفاقية أنقرة عام 1921 بين فرنسا والحكومة القومية التركية مقابل اعتراف تركيا بالانتداب الفرنسي على سوريا. منذ ذلك الحين ولدت الجمهورية العربية السورية بجغرافيتها الحالية قلقة، ومنقوصة حتى أنها عجزت على تعريف نفسها والاقتتاع بهويتها ضمن الكيان الجديد. ولعل هذا ما يفسر ولادة الفكر القومي السوري، ثم العربي في دمشق تطلّعًا إلى تجاوز الهوية الملفقة نحو هوية أصلية حكمتها الجغرافيا منذ قرون. وكما في كل المجتمعات حين يغيب الإجماع على هوية البلد تطفو الهويات التحتية القائمة على العرق والدين والطائفة.

فورا بعد الاستقلال، تحولت سوريا، نظراً إلى أهمية موقعها الجيوسياسي، ومكانتها التاريخية، وتنوّع مكوّناتها، إلى ساحة صراع بين قوى إقليمية طامحة للزعامة والهيمنة.
بدأ التنافس على سوريا بين مصر والعراق والسعودية، فوجدت سوريا نفسها مسرحاً لصراعات الطاقة التي نشبت بين الولايات المتحدة وحليفها الإقليمي آل سعود من جهة، وبريطانيا وحليفها الإقليمي حكّام العراق (الهاشميين أحفاد الشريف حسين) من جهة ثانية. وكان أبرز هذا الصراع الخارجي انقلاب حسني الزعيم عام 1949 الذي دعمته المخابرات الأميركية وأطاح حكومة شكري القوتلي، ليقرّ اتفاقية الهدنة مع إسرائيل، كشرط لإنشاء "خط التابلاين" ينقل النفط السعودي إلى الساحل اللبناني، مرورا بالأردن وجنوب سوريا. لكن انقلابا آخر بدعم بريطاني - عراقي سرعان ما أطاح بحسني الزعيم، وجاء بسامي الحِنّاوي إلى الحكم، بغرض تمرير خط أنابيب نفط كركوك - بانياس. وسرعان ما أطاح أديب الشيشكلي بسامي الحنّاوي بدعم سعودي.

هذه الانقلابات المبكرة (ثلاثة سنوات فقط بعد الاستقلال)، تظهر أن النّخبة السورية التي تولت تسيير الدولة منذ استقلالها كانت عاجزة عن التفاهم فيما بينها وتوحيد شعبها، ولذلك أصبحت مسرحاً للصراعات الإقليمية والدولية، بما مهّد الطريق للتدخلات الأجنبية المتواصلة.


مع احتدام الحرب الباردة، وخروج المنطقة من دائرة التنافس البريطاني - الأميركي، وتحوّلها إلى ساحة مواجهة إيديولوجية وجيوسياسية كبرى بين الغرب الرأسمالي والمعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي، استعر التنافس على سوريا، وتجسد إقليميا في الصراع العراقي - المصري حول حلف بغداد. دون الدخول في التفاصيل التلريخية، ربح جمال عبد الناصر المعركة ضد حلف بغداد الذي تأسّس ضدّ تمدّد النفوذ السوفياتي عن طريق القومية العربية. بحيث انهار الحلفةعمليّاً بعد قيام الوحدة بين مصر وسوريا في فيفري 1958، وسقوط النظام الملكي في العراق في 14 جويلية من نفس السنة.
لم يستسلم آل سعود أمام زعامة عبد الناصر العربية، وكذلك عبد الكريم قاسم حاكم العراق بعد الثورة، الذي رفض الهيمنة المصرية، فاشتغلوا كلّ من جهته للإطاحة بتجربة الوحدة، فموّلوا ناظم القدسي ورفاقه من الضباط السوريين الذين نفذوا انقلاب الانفصال في دمشق سنة 1961.
والحقيقة أن قرار السوريين حلّ أحزابهم والارتماء في حضن عبد الناصر طلبا للوحدة، كان انعكاسًا لأزمة نظام داخلية وأزمة في بنية الدولة، وليس مجرد ميل قومي عروبي جارف، والدليل على ذلك هو فشل تجربة الوحدة ونهايتها بعد قيامها بثلاثة أعوام فقط.

لاحقا سيتراجع دور مصر الإقليمي بعد حرب 1967، وينهار بالكامل بعد وفاة عبد الناصر وتوقيع الرئيس السادات اتفاقيات كامب ديفيد (1978)، ومعاهدة السلام مع إسرائيل (1979).

ثم انهار العراق بعد حرب الكويت (1991)، والغزو الأميركي (2003).
وانكفأت السعودية بسبب تعقد علاقاتها مع الولايات المتحدة بعد هجمات 11 سبتمبر2001. وقد تزامن ذلك مع تناقص الاهتمام الأميركي بالنفط العربي وتحول الولايات المتحدة إلى أكبر منتج للطاقة في العالم.

خروج مصر من الجامعة العربية وانهيار الوضع العربي، انعكس على سوريا فزاد من ضعفها خصوصا بعد غزو العراق وإجبارها على الخروج من لبنان (2005).
هكذا انتقل التنافس على سوريا إلى القوى الإقليمية غير العربية، التي صعد نفوذها نتيجة الضعف العربي، وهي إيران التي استفادت من سقوط العراق، وتركيا التي بدأت تتّجه بأنظارها نحو المنطقة العربية، بعد فشل محاولات التحاقها بالاتحاد الأوروبي، وحسم الصراع بين الجيش والنخب الكمالية، من جهة، وبين القوى الاقتصادية المحافظة، لصالح هذه الأخيرة، ممثلة في حزب العدالة والتنمية كحزب ليبيرالي بخلفية إسلامية.

هنا بدأ التنافس على سوريا تُركياً/ إيرانيّاً، مع أدوار أقل أهمية لدول الخليج، لكن التنافس سينفجر بشدة بعد عام 2011 ليتحول إلى صراع بالوكالة مدمّر، شاركت فيه ما لا يقل عن 80 جنسية، بين دول ومليشيات ومرتزقة.
في أواخر عام 2023 بدا وكأن الإيرانيين ربحوا الحرب في سوريا، من خلال تثبيت نظام بشّار الأسد، وبدأ العرب والأتراك يقبلون هذه النتيجة بالانفتاح على الأسد وإعادة تأهيل نظامه. ورأينا كيف آستقبل الأسد في بعض العواصم بالترحاب والتسجيل وصولا إلى حضوره القمة. ورأينا كيف كان أردوغان يستجدي لقاءه، ولعلكم تذكرون عبارة الاسد الساخرة: "لماذا سنلتقي؟ لنشرب العصير ونأكل مرطبات مثلا؟"

لكن عملية طوفان الأقصى قلبت المشهد، إذ دخلت إسرائيل، التي ظلت تتحرّك في الظل، (منذ بداية الحرب على سوريا في 2011)، بقوة على الخط وغيّرت كل نتائجه. وقد تبنّى الصهاينة منذ 2013 سياسة "المعركة بين الحروب"، واستنزاف النظام والجماعات المتشددة في نفس الوقت، ولإضعاف الوجود العسكري الإيراني في سوريا. لكنهم استغلوا "طوفان الأقصى" لإخراج إيران كليّاً من المنطقة. ومع انشغال روسيا بحربها في أوكرانيا، بدا ممكنا لتركيا، خصوصاً بعد فوز ترامب في انتخابات نوفمبر 2024، تغيير نتيجة الحرب، بعد أن كانت قد سلمت بخسارتها لها في سورية.

فوجئت إسرائيل بهشاشة نظام الأسد وسرعة انهياره، وتسلم هيئة تحرير الشام مقاليد الحكم في دمشق. وفيما وضعت تركيا ثقلها وراء النظام الجديد، شعرت إسرائيل بأنها استبدلت خصماً بآخر (إيران بتركيا).

بسقوط نظام الأسد وخروج إيران، انتهى فصل من الصراع على سوريا وبدأ فصل جديد، طرفاه الرئيسان تركيا وإسرائيل. وفيما يحاول الروس والعرب البقاء في المعادلة، أو انتزاع أدوار فيها، يحاول الأميركان الخروج منها، إنما بعد ترتيب الساحة لصالح المشروع الصهيوني وفق رؤيتهم.



والسؤال الأهم من كل التفاصيل: هل سينجح السوريون، هذه المرة، في تحقيق سلام دائم بينهم، ويكفّون على أن يكونوا أدوات في صراع إقليمي ودولي تهدف جميع أطرافة إلى السيطرة على سوريا وتمزيق شعبها؟

هل سقط النظام أو تمّ إسقاطه

فوق التحدّيات السياسية والأمنية والاقتصادية الكبرى التي تواجهها سوريا اليوم وتعمّق الهوّةَ بين مختلف مكوّناتها، على خلفيات إثنية وطائفية وقبلية ومناطقية، اندلعت معركة إضافية حول حقيقة ما جرى في الأيام الـ 12 التي انتهت بسقوط الأسد ونظامه، بين 27 نوفمبر و8 ديسمبر 2024. بحيث دخل السوريون، وجزء من العرب (بما في ذلك نشطاء وجامعيون توانسة) في صراع السرديات الذي اكتسب زخما كبيرا بعد تصريح الرئيس الانتقالي أحمد الشرع عن حصول تفاهمات مع الروس عقب معركة حماة، أدّت إلى تفادي القتال في الطريق إلى دمشق، سواء من الشمال أو من الجنوب.
تحوّل هذا الجدل إلى ما يشبه الاحتقان في الشارع السوري، بين تيّار ينسب الفضل في إسقاط نظام الأسد إلى "عبقرية" أحمد الشرع وجماعته وقدرتهم على التخطيط والتنظيم والاستعداد الطويل للفصائل المسلحة، وفي مقدمها هيئة تحرير الشام، ويبني على هذه السردية شرعية حكمها، وتفرّدها بقيادة البلد تحت شعار "من يحرّر يقرّر"، وبين تيار آخر يرى أن هيئة تحرير الشام حركة إرهابية جاءت محمولةً إلى السلطة بتفاهمات دولية، ويساعدُ هذا الفريق في ترويج فرضيته تلك، الغموض الذي ما زال يلفّ مسائل عديدة، مثل من هي الجهة التي أصدرت أوامر إلقاء السلاح وانسحاب قوات النظام، بما في ذلك من جبهة الجولان؟
وما حقيقة مجريات اجتماعات الدوحة ليلة سقوط النظام، وسلوك روسيا وإيران في أثنائها، وترتيبات الساعات الأخيرة لهروب الأسد؟


طبعا هدف هذه السردية الثانية لا تخلو من الرغبة في نزع الشرعية عن النظام الجديد، وتصويره كأنّه نتاج صفقة دولية، وعلاقات تخادم أمنية، وتعهدّات قُطِعتْ بخصوص العلاقة مع إسرائيل، وتوجّهات السياسة الخارجية السورية في المستقبل.

بعيدا عن السرديتَين، أرجّحُ أن الانهيار الصادم لنظام الأسد شكّل مفاجأةً للجميع، بمن فيهم هيئة تحرير الشام وتركيا والعرب وإسرائيل وإيران وروسيا، وحتى الولايات المتحدة، بإقرار وزيرَي الخارجية والدفاع في إدارة الرئيس بايدن، أنتوني بلينكن ولويد أوستن. ورغم أنّ الجميع كان يدرك ضعف نظام الأسد، إلا أنّ أحدًا لم يتوقّع ذلك القدر من الهشاشة التي بات عليها في السنوات الأخيرة. فما بين 2020 و2024 توالت أزمات كبرى متداخلة في الزمن ومترابطة في نتائجها ضربت أعصاب النظام الاقتصادية وفتّتت ركائزه من الداخل، وأفقدته أدوات السيطرة تدريجيًا، حتى غدا كيانًا فارغًا من القوة والقدرة على المواجهة.
سأحاول العودة على هذه الأزمات تباعًا لنرى إلى أيّ حدّ انعكست على بنيان النظام.

الأولى: أزمة البنوك اللبنانية (2019) التي جفّفت أهم شريان تمويلي للنظام بالعملة الصعبة، إذ كان الاقتصاد السوري، في ظل الحصار والعقوبات، يعتمد على النظام المصرفي في بيروت لتأمين الدولار وتمرير الحوالات والتعاملات التجارية. ومع انهيار هذا الشريان، دخلت الدولة في مرحلة من شحّ العملة الأجنبية أدت إلى عجز غير مسبوق على توفير الحد الادنى من احتياجاتها.

الثانية: جائحة كورونا (2020) أضافت ثقلًا جديدًا على الخزينة المتهالكة، بعدما ارتفعت أسعار الدواء والغذاء والشحن عالميًا، في وقت كانت فيه الدولة السورية عاجزة تماما على إصلاح المنظومة الصحية ومواجهة الوباء.

الثالثة: "قانون قيصر" الأميركي الذي دخل حيّز التنفيذ في جوان 2020، والذي ضيّق الخناق على ما تبقّى من منافذ للنظام نحو الخارج، فانهارت الليرة السورية إلى مستويات غير مسبوقة، حتى أن بعض التقارير تحدثت في حينه عن بلوغ التضخم أكثر من 500% خلال أشهر قليلة، وهو رقم كافٍ لنسف القدرة الشرائية لمعظم السوريين.

هذا الانهيار الاقتصادي كان له أثر مباشر على البنية الاجتماعية حتى في حواضن النظام. ففي الساحل السوري، معقل الطائفة العلوية، اندلعت احتجاجات شعبية في 2021 بسبب ندرة الخبز والمحروقات وغلاء المعيشة، وهو ما كشف تآكل قاعدة الولاء الاجتماعية التي طالما اعتبرها الأسد ضمانة بقاءه.

مع العجز المتفاقم، اضطرت الدولة إلى تسريح جزء من قوات الاحتياط لعجزها عن دفع الرواتب، فيما دفع الفقر والفساد كثيرًا من الجنود إلى بيع أسلحتهم في السوق السوداء، وهو ما أسهم في اتساع موجات التهريب والخطف وطلب الفدية. وقدّرت التقارير أن نحو ثلث الجيش السوري انشقّ أو تفكك عمليًا خلال هذه الفترة، ما حوّل المؤسسة العسكرية إلى جهاز مترهّل فاقد للانضباط والولاء بسبب أن الجوع وصل إلى القادة وأُسرهم، فما بالك بالضباط الصغار وضباط الصف والجنود.

ما زاد الوضع تعقيدًا أنّ النظام كان فقد السيطرة على شرق الفرات، المنطقة الأغنى بالنفط والقطن، والتي تُعرف اصطلاحًا بسوريا المفيدة. وهذا ما جعل النظام معتمدًا بالكامل على الدعم الخارجي، وعلى التهريب لتغطية حاجياته من الطاقة.

الأزمة الرابعة: اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية:
لعبت مفاعيل التحولات الإقليمية والدولية دورًا حاسمًا في انهيار نظام الأسد. فقد اندلعت الحرب الروسية - الأوكرانية (فيفري 2022)، فاضطر بوتين إلى سحب جزء كبير من قواته من سورية للزجّ بها في معركة أوكرانيا، ما انعكس على الوجود العسكري الروسي في قاعدة حميميم التي لم يتبقّ فيها سوى ستة طائرات مقاتلة، بعد أن كانت تحتضن ثمانية وأربعين في ذروة التدخل الروسي عام 2016 والذي هزم داعش وقلب موازين القوى، فاستعاد النظام سيطرته على مجمل التراب السوري باستثناء مناطق "خفض التصعيد" الأربعة.
في الخلال غابت عن المشهد السوري جماعة فاغنر، فعلى إثر تمرّد قائدها (بريغوجين) استدرجته المخابرات الروسية وحيّدته في حادث طائرة كما هو معروف. ثم أعادت المؤسسة العسكرية الروسية هيكلة تلك القوات عام 2023، وأرسلتها إلى أفريقيا تحت مسمّى "فيلق أفريقيا".
مجمل القول بات بوتين في حاجة إلى السلاح وإلى المساعدة، حتى أن النظام جند له أعداد هائلة من المتطوعين للقتال إلى جانب القوات الروسية في أوكرانيا.


الخامسة طوفان الأقصى :

تعرّضت القوات الإيرانية في سوريا إلى ضربات متكررة منذ بدأ الرد على طوفان الأقصى إلى أن قُصقفت السفارة. ولن أدخل في تفاصيل معروفة. ولكن بالمجمل كان واضحا ابتداء من جوان 2024 أن الصهاينة وضعوا معظم ثقلهم العسكري على الجبهة اللبنانية، وقد اتخذوا قرار القضاء على الوجود الإيراني في سوريا. بحيث بدأ الهجوم على لبنان، وقد تزامن اغتيال فؤاد شكر مع توجية ضربات غير متوقعة لقوات الحرس الثوري في سوريا، ما دفع بإيران، الحليف الأهم للنظام السوري إلى سحب قواتها الرئيسية وإعادة النظر في مبرر وجودها في الساحة السورية المخترقة بالكامل، ما جعل قوات الحرس الثوري عرضة لضربات مؤلمة جدّا وشديدة الدقة.
هكذا بدأ الإيرانيون ينسحبون تدريجيا، خاصة بعد أن منعهم الأسد من فتح جبهة الجولان، معتقدًا أن عدم التصعيد يجنّبه السقوط. هذا الخيار كلّف إيران وحزب الله خسائر جسيمة، وأفقد النظام السوري آخر سند عسكري مباشر على الأرض.


رغم كلّ هذه العوامل ظلّ الرئيس بشّار الأسد أسير قناعته بأن الحرب قد حُسمت لصالحه، خصوصًا بعد أن أعادت الدول الخليجية فتح قنوات التواصل معه، وظهرت رغبة دولية في إعادة احتوائه ضمن المعادلة التي سماها الملك عبد الله في حواره مع السّاي آن-آن "خطوة مقابل خطوة".

عاد بشار إلى الجامعة العربية وخطب في القمة خطابا مُثيرا. وظهر وكأن اطمئنانه للنصر جعله يغفل عمق التآكل الداخلي، ويتعامل مع الأزمة باعتبارها ظرفية وعابرة. غير أنّ الواقع كان مختلفًا: فقد كان النظام متداعيا للانهيار. وحين انطلقت العملية المسلحة من إدلب، والتي سمّاها أصحابها "ردع العدوان" أواخر نوفمبر 2024، لم يكن في قرارهم الوصول إلى دمشق كما تدلّ على ذلك تسمية العملية نفسها، غير أنه لم يكن هنالك ما يمنع سقوط النظام السريع.


ختامًا، أعتقد أن هذه العوامل مجتمعة هي التي أطاحت بنظام الأسدوي. يتبيّن من خلال هذا السرد التاريخي والسياسي منذ استقلت سوريا عام 1946 اإلى انهيار نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، أن هذا البلد كان على الدوام ساحة لتداخل الصراعات الداخلية والإقليمية والدولية، ما جعل القرارات الوطنية مرهونة بالتحولات الخارجية. الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، جنبًا إلى جنب مع تدخل القوى الإقليمية والدولية، وفي هذا السياق يمكننا قراءة انهيار النظام بسرعة غير متوقعة، رغم السنوات الطويلة من الصراع. وهذا يفتح الباب على سؤال مستقبل سوريا الذي يتعدى المواقف الصغيرة من هذا الحزب أو تلك الجماعة.
وربما من هذا المنطلق، كما أشرت في المقدمة، يقع على عاتق الجامعي والأكاديمي وصانع الرأي والمُؤثّر مهمة تقديم قراءة موضوعية للأحداث، بعيدًا عن استسهال الحكم المسبق أو الاكتفاء باتهام هذا الطرف أو ذاك بالعمالة أو التشكيك في نسبهِ (خاصة عندما يكون المتحدث تونسي يدلي برأيه في شأن شعب آخر).
الالتزام العلمي يحتاج إلى النزاهة والتوازن بين التحليل التاريخي والواقع السياسي والاجتماعي، وتأصيل الأحداث في بيئتها ضمن ديناميات القوى المحلية والإقليمية والدولية، وعدم الاقتصار على أحكام مسبقة أو شعارات جاهزة تُفسد الفكر والسياسة معا.



#عزالدين_بوغانمي (هاشتاغ)       Boughanmi_Ezdine#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حول مسألة -المساجد في المعاهد التونسية-
- حنظلة تونس في شوارع الليل ، حتى لا ننسى !
- تمييز السياقات هو الحدّ الفاصل بين القراءة الموضوعية وسردية ...
- -المؤامرة الغربية لإسقاط نظام قيس سعيّد- بين الوقائع والدّعا ...
- بخصوص مشروع قانون -استعادة الديمقراطية في تونس-.
- مرّة أخرى دفاعا عن التاريخ الاتحاد العام التونسي للشغل وحزب ...
- الاتحاد العام التونسي للشغل والحزب الحاكم: فروق جوهرية لا يج ...
- الأزمة النقابية في تونس: بين فساد البيروقراطية وتواطؤ الفاعل ...
- مقاومة الاستعمار خيار شعبي، وكل الحكومات معادية لبنادق الثوّ ...
- من التبعية إلى التمويه: أوروبا بين الإخضاع الأميركي والاستثم ...
- النظام السوري وازدواجية الأداء في لبنان وفلسطين
- سوريا الأسد: في توازن السلاح والسياسة، دعم المقاومة كتحجيمها
- العدوان الصهيوني ومشروع إسرائيل الكبرى
- الصهاينة يريدون سوريا مقسمة
- الفتنة الطائفية في سوريا صنيعة الخارج
- صعوبة التّمييز يخلق فوضى النقاش حول المُستهدف من التغيير: ال ...
- صفقة ترامب/نتنياهو: هدنة في غزة مقابل -شرق أوسط-إسرائيلي
- غزة على أعتاب تهدئة... وفلسطين في مهبّ صفقة كبرى
- مجتمع ملفّق وعنصري
- المطالبة بفرض العقوبات على النظام ووقف المساعدات


المزيد.....




- مشهد نادر.. علماء يوثقون لقطات لمجموعة من الحيتان القاتلة ال ...
- تساقط ثلوج مبكر يشل البلقان ويترك آلاف السكان بلا كهرباء
- هل فتح ترامب الباب أمام ضربات أوكرانية داخل العمق الروسي؟
- هل تتجه حماس للموافقة على خطة ترامب؟.. ماذا تطلب وهل لديها ه ...
- الاحتجاجات في المغرب.. هل تتجه نحو التصعيد أو التهدئة بعد تص ...
- فرنسا: هل تنفع محاولات رئيس الوزراء لوكورنو لإغراء المعارضة؟ ...
- المغنية الأمريكية تايلور سويفت تطلق ألبومها الثاني عشر.. رقم ...
- المغرب: بين الحلم والاحتجاج.. -جيل زد- الشاب يكسر الصمت والخ ...
- إندونيسيا: هل حصلت وحدة الشرطة -بريموب-، فائقة العنف، على رخ ...
- خطة ترامب لإنهاء الحرب في غزة.. ما الخيارات أمام حركة حماس؟ ...


المزيد.....

- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب
- من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل ... / حامد فضل الله
- حيث ال تطير العقبان / عبدالاله السباهي
- حكايات / ترجمه عبدالاله السباهي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عزالدين بوغانمي - كيف سقط النظام السوري؟