عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)
الحوار المتمدن-العدد: 8414 - 2025 / 7 / 25 - 09:45
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
حين يدور الحديث عن النظام السوري في عهد حافظ الأسد وعهد ابنه، ينقسم التوانسة بين المدح والهجاء. والحال أن السياسة لم تكن يومًا بيضاء ناصعة ولا سوداء مظلمة، بل كانت على مرّ العصور رمادية اللون.
في معادلة مقاومة الكيان الصهيوني، لم تكن سوريا مجرّد "دولة جوار"، بل كانت عقدة مركزية فيما يمكن تسميته بـ"حزام النار" أو "دوائر الاشتباك الاستراتيجي". فبحكم الجغرافيا السياسية والديمغرافيا وتسييس العسكر، وطبيعة النخبة التي حكمت البلاد بعد الانفصال، شكّلت سوريا، بعد كامب ديفيد، وانتصار الثورة الإيرانية، شريانًا حيويًا في منظومة المقاومة، خصوصًا كعمق استراتيجي لحزب الله، وممرًّا للذخيرة والسلاح والخبرة إلى غزة.
ولهذا، فإن استهدافها كان أولوية دائمة للمشروع الأمريكي الصهيوني، خاصّة بعد 2003، حيث أصبح إسقاط دمشق جزءًا من مشروع "إعادة تشكيل الشرق الأوسط الجديد".
مع ذلك من الخطأ اختزال دور سوريا في صورة "الدولة الثورية المقاومة" دائمًا، لأن النظام السوري لعب في أوقات أخرى أدوارًا وظيفية حين تعلّق الأمر بتهديد المقاومة لأمن النظام الإقليمي بما في ذلك أمن إسرائيل.
صحيح أن قوات الردع العربية دخلت إلى لبنان بقرار من الجامعة العربية، لكن بضوء أخضر أمريكي/إسرائيلي. وكان دورها المعلن وقف الحرب الأهلية، لكنها ساهمت في ضبط المقاومة وتحجيمها وإنهاء وجودها، وتورّطت في مذابح وحشية منها مجزرة تل الزعتر التي ارتكبتها الميليشيات الانعزالية بغطاء سوري. كما تم التضييق على كثير من الفصائل الفلسطينية التي لم تخضع لخطِّها الوظيفي. في المقابل ظلت جبهة الجولان المحتل، هادئة إلى أن سقط النظام، ما فُهم، منذ زمن الأسد الأب، كنوع من "الضمان المتبادل" رغم العداء العلني.
يعني علينا أن نتكلم عن التاريخ بأقصى درجات الموضوعية والتماسك الأخلاقي، حتى لا نتّهم النّاس بما ليس فيهم، وأيضا حتى لا نبرّر للأنظمة خطاياها ولا نُجمّل جرائمها. فقد أدّت سوريا الأسدية دورًا مزدوجًا: كانت جسرًا للمقاومة وداعمًا نوعيًا لها، لا سيما بعد تحالفها مع إيران، لكنها أيضًا حاصرتها أحيانًا حين رأت فيها خروجا عن حسابات النظام في دمشق. وعموما يمكن القول بالبُعد الموضوعي، كان لسوريا موقع مهم في دوائر النار حول إسرائيل، لكنه لم يُستثمر دومًا بما يخدم المقاومة، بل وُظّف أحيانًا لترويضها أو احتوائها أو كسرها.
وهنا تبرز أهمية التمييز بين الدولة السورية كشعب وأرض وتاريخ، وبين النظام السوري كسلطة وشبكة مصالح طبقية. وحينئذ، نُعطي ما لله لله، وما لقيصر لقيصر.
لا تُدار القضايا الإقليمية في عالمنا العربي من خلال الشرعية أو المبادئ، بل عبر ميزان المصالح والتحالفات، ومصالح الأنظمة أولا وفي الأخير، حتى لو كان الثمن الدخول في مغامرات تُقوّض مقدّرات البلاد وركائز الدولة. لذلك كثيرا ما يتحوّل "المؤقت" إلى "دائم"، وكل "دائم" يظل استقرارا هشّا قابل للتّهاوي في انتظار هبوب الرياح بتغيّر ميزان القوة أو تغيّر مزاج الحاكم في هذه العاصمة أو تلك.
من قمة الرياض أكتوبر 1976 إلى الطائف: كيف مهّدت التفاهمات لهيمنة سوريا على لبنان وممارسة الرقابة على المقاومة ولجمها؟
لم يكن التدخل السوري عام 1976قرارا محليا معزولًا، بل هو قرار عربي جاء تتويجًا لتفاهمات إقليمية ودولية ناجمة عن مخاوف من انتصار الخط الوطني اللبناني، بخلفيته اليسارية، والمنخرط في معركة تحرير فلسطين. فرأت الدول العربية والقوى الغربية في سوريا قوة "منضبطة" قادرة على فرض الاستقرار في لبنان.
بدأ التدخل تحت عباءة "قوات الردع العربية"، لكنه تحوّل تدريجيًا إلى وصاية استمرت ثلاثين عامًا بغطاء عربي وقبول أمريكي/إسرائيلي ضمني.
فمع تصاعد الحرب الأهلية وسقوط بيروت الغربية في قبضة تحالف القوى الوطنية اللبنانية ومنظمة التحرير، نشأت خشية مشرقية وأمريكية من تحول لبنان إلى قاعدة للنفوذ السوفياتي ومنطلق للثورة باتجاه منابع النفط.
اتُّفِق في قمة الرياض الطارئة أكتوبر 1976على إرسال قوات مسلّحة لضبط الوضع اللبناني تحت إسم "قوات الردع العربية"، التي كانت عمليًا قوات سورية بنسبة تفوق 90%. تمّ الاتّفاق على المبدأ، لكن كلّ طرف كان له حسابه:
مصر السّادات: كانت تستعدّ لتسوية مع إسرائيل، ورأت في التدخل السوري خطوة لتهدئة الوضع الإقليمي، تُفيد مستقبل العلاقة مع أمريكا وتل أبيب.
الولايات المتحدة: منحت ضوءًا أخضر ضمنيًا خوفًا من انتقال لبنان إلى المعسكر السوفييتي.
إسرائيل: ما كانت لتقبل لو لم تكن لها ضمانات بأن الوجود السوري سيُنهي الوجود الفلسطيني المقاوم. وهذا ما تمّ بعد حرب بيروت 1982 وترحيل المقاومة إلى تونس.
العراق: رفض الاتفاق بشدة واعتبره محاولة من النظام السوري للهيمنة على لبنان. وحاول لاحقًا تسليح فصائل فلسطينية وأخرى لبنانية مسيحية مناهضة لدمشق.
السعودية: رغم برود العلاقة السعودية السورية في ذلك الوقت، قبلت الرياض وشجعت المبادرة، واحتضنت القمة لأن اليسار اللبناني أصبح يُشكّل تهديدًا مُضاعِفا بعد سقوط اليمن الجنوبي في يد اليسار الماركسي المدعوم من الاتحاد السوفياتي. وحيث كانت للحزب الشيوعي اللبناني، ومنظمة العمل الشيوعي، والحزب الاشتراكي التقدمي، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والجبهة الديمقراطية علاقات وثيقة وتعاون كبير مع اليمن الجنوبي"الشيوعي" .
سوريا ذاتها، لم تحشد التأييد لتدخلها في لبنان بمحض فائض القوة ، بل كان ضرورة استراتيجية لنظام يعيش تحت ضغط جيوسياسي: من الشمال توتّرات مستمرّة مع تركيا بسبب قضية لواء إسكندرون الأزلية، وبسبب الوجود العسكري لحزب العمال الكردستاني على التراب السوري.
ومن الجنوب التهديد الإسرائيلي وجرح الجولان المفتوح منذ 1967
ومن الشرق توتّر متصاعد مع العراق خصوصا، بعد صعود نجم صدام حسين، الذي سيطر على الحزب والأجهزة الأمنية وأصبح هو الحاكم الفعلي سنوات قبل استقالة الرئيس أحمد حسن البكر آواخر 1979
كان حافظ الأسد محاطا بالأعداء، ما دفعه لاتخاذ قرارين كبيرين سيكون لهما تأثير بالغ على النظام وعلى سوريا لعقود لاحقة:
القرار الأول: تحالف مع شاه إيران تحالفا متينًا، وحين أَطاحت به الثورة سنة 1979، وجاء الخميني للحكم، انقلب حافظ الأسد على الشّاه، وبارك الثورة وسارع للاعتراف بالنظام الجديد، وازداد التحالف مع إيران ليصبح استراتيجا وحيويًّا.
القرار الثاني: الاستحواذ على لبنان كورقة وحيدة متاحة له لبناء نفوذ إقليمي، وتحقيق توازن مع الخصوم، فدخلها كضامن للاستقرار، ليحوّلها بعد تغيّرات كبرى طرأت على المنطقة، إلى عمق دفاعي ومجال مناورة إقليمية ودولية.
1976–1989: عسكرة النفوذ واستثماره سياسيًا
بدعم عربي مباشر، ودعم غير مباشر من القوى الكبرى، رسّخت سوريا وجودها في لبنان، فدعمت ميليشيات متعددة، ولعبت على التناقضات الطائفية. وحتى الاجتياح الإسرائيلي للبنان صيف 1982 لم يُنهِ هذا النفوذ، بل أعاد تموضعه، وأخرج الفلسطينيين إلى تونس، فزادت دمشق قبضتها على البقاع والشمال أساسًا مستفيدة من الانقسامات اللبنانية.
اتفاق الطائف (1989): تقنين الوصاية
جاء الطائف في ظرف شهد فيه الإقليم والعالم تحوّلات كبرى:
انهيار الاتحاد السوفياتي،
نهاية الحرب العراقية-الإيرانية،
استنزاف لبنان داخليًا وكسر ظهر الخط الوطني المقاوم
نظّم اتفاق الطّائف 1989 الوجود السوري رسميًا، وكرّس حضوره الأمني عبر بند "إعادة الانتشار" بدل الانسحاب. لكن بعد أقل من سنة واحدة، ستتغير الأوضاع على نحو تراجيدي بغزو العراق للكويت
حرب الخليج (1990): لحظة التمكين السوري الكامل
كان غزو العراق للكويت لحظة حاسمة، ستتسبّب في تحطيم العراق، واحتلال الخليج العربي بالقواعد العسكرية الغربية، وتصاعد تخريب دول المنطقة بالإرهاب، وتراكم الأزمات، وما تلاها من مصائب أخذت المنطقة إلى ما هي عليه اليوم من تخاذل وهوان.
التقط حافظ الأسد الفرصة بدهائه المُعتاد، واستثمرها استثمارًا بالغ السّوء، فانضمّ للتّحالف ضد العراق، وأرسل وحدات عسكرية رمزية إلى حفر الباطن تحت قيادة الجنرال الأمريكي شوارتسكوف، فحاز في نفس الوقت على رضا واشنطن ودعم الخليج، وضمن صمت الجميع على تمدّده في لبنان.
في أكتوبر 1990 كان الأمريكان يُجهّزون القوى استعدادا للحرب على العراق، ولأنهم فشلوا، إلى ذلك الحين، في استصدار قرار من مجلس الأمن يُشرّع الحرب بسبب معارضة الصين وتلكّؤ الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتيران. وقبل 29 نوفمبر 1990، تاريخ، صدور قرار مجلس الأمن عدد 678 الذي منح العراق مهلة إلى 15 جانفي 1991 للانسحاب من الكويت، وفوض الدول باستخدام "جميع الوسائل اللازمة" لإجباره على الانسحاب من الكويت بعد انقضاء الموعد النهائي.
قبل صدور ذلك القرار، كان الأمريكان يتعاملون مع العرب بحذر بسبب الانقسام الحاد الذي شهدته قمة القاهرة في أوت، وحيث لم صوّت على البيان الختامي سوى إحدى عشر دولة. وكان المطلوب ضمان الأمريكان لغطاء عربي يجعل شنّ الحرب على العراق عملا شرعيا. فاستغل حافظ الأسد تلك الظروف، شهر قبل صدور قرار مجلس الأمن، أي آواسط أكتوبر 1990، وأمر باجتياح الجيش السّوري المناطق التي كانت تحت سيطرة قائد الجيش اللبناني الجنرال ميشال عون الرافض للطائف وللوجود السوري والمدعوم من العراق آنذاك.
هُزِم الجنرال واحتمى بالسّفارة الفرنسية. وهكذا أنهى حافظ الأسد كلّ مقاومة داخلية للوجود السوري في لبنان، لتبدأ مرحلة وصاية كاملة.
بين قمة الرياض 1976، وغزو الكويت، رسم حافظ الأسد مسارًا معقدًا جمع فيه بين الغطاء العربي، والضوء الأخضر الأمريكي، والتقاطع مع المصلحة الإسرائيلية، فحوّل الوجود السوري في لبنان إلى ما يُشبه الاحتلال حتى عام 2005، تاريخ خروج الجيش السوري بعد اغتيال رفيق الحريري. وما بين حفر الباطن ونفي ميشال عون إلى فرنسا، حوّل الأسد لحظة عربية مأزومة إلى فرصة وصاية طويلة، ضمن معادلة باردة:
"لبنان المستقر، هو لبنان الخاضع لسوريا".
تكاليف هذه المعادلة سيدفعها إبنه (بشّار) الذي ورث عنه السلطة والعنف، لكنه لم يرث الدّهاء وحسن اللّعب على التناقضات. فكان أن انتهى الجمل بما حمل في "وادي القرى".
#عزالدين_بوغانمي (هاشتاغ)
Boughanmi_Ezdine#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟