|
تشوّه البنية الكولونيالية وتحوّلاتها الاقتصادية والسياسية
عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)
الحوار المتمدن-العدد: 8368 - 2025 / 6 / 9 - 01:24
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
من الخطأ الفادح أن ننظر إلى الاستعمار كحقبة انتهت بخروج الجيوش الأجنبية ورفع الأعلام الوطنية، لأن الاستعمار كحضور مادي إداري وعسكري زال بمفعول الاستقلال. ولكن كمنظومة اقتصادية اجتماعية وثقافية، لم يُغادر، بل أعاد إنتاج نفسه عبر بنى جديدة وبأدوات محلية، ليتحوّل من استعمار مباشر إلى هيمنة بالوكالة. وهنا تكمن خطورة ما أفرزته تلك المرحلة من بنية كولونيالية مشوّهة. فالهيمنة الأجنبية تقضي على البرجوازيات الوطنية التي عرفتها تجارب التحرر الوطني في العالم، وتضع مكانها برجوازية من طينة مافيوية هجينة، لا تبني اقتصادًا ولا تحمي سوقًا، ولا ترى في الإنسان قيمة مضافة إلا باعتباره زبونًا مستهلكًا أو أداة للاستغلال. نشأة برجوازية طفيلية خارج شروط التطور الطبيعي في أغلب تجارب الدول التي خاضت مسارات تحرر وطني، نشأت برجوازية وطنية كانت تحمل مشروعًا مزدوجًا: بناء السوق الوطنية، وتحقيق الحدّ الأدنى من الرفاه الاجتماعي حتى تضمن حراكًا اقتصاديا مستقرا وسوقًا داخلية قادرة على استيعاب الإنتاج الوطني. غير أن البنية الكولونيالية في بلادنا أعادت إنتاج الامتيازات العائلية والزبونية القديمة مطلع السبعينات، وأفرزت طبقة برجوازية طفيلية، لا تملك أدوات الإنتاج، ولا تهتم بتطوير قوى الإنتاج، بل تخصصت في الصفقات، والسمسرة، والتحيّل، وافتكاك الريع، معتمدة على التهرب الضريبي، المضاربة، شبكات الفساد، واستغلال الثغرات التشريعية، الأمر الذي جعل من النشاط الاقتصادي برمّته حالة مافيوزية. هذه البرجوازية الطفيلية ليست نبتًا غريبًا عن البنية الكولونيالية، بل هي امتداد وظيفي لها، إذ حافظت على منطق الاستنزاف والتبعية، دون أن تدخل في مسار بناء ذاتي مستقلّ عن المراكز الرأسمالية الغربية.
تشوه الوظيفة الاقتصادية والاجتماعية للبرجوازية في المجتمعات السليمة، تملك الطبقة البرجوازية، مهما كان نظامها، وظيفة اقتصادية واضحة: تنمية السوق الوطنية، خلق فرص شغل، وتحقيق تراكم رأسمالي داخلي يمكّن من بناء قطاع خاصّ منتج. كما تملك وظيفة اجتماعية: استثمار في التعليم، في البنى التحتية، في الخدمات الصحية والثقافية، من باب ضمان الاستهلاك، وتحصين السوق من الهزات الاجتماعية.
أما في حالة البرجوازية الطفيلية، فمجرد وجودها يشكل تعطيلًا ممنهجا لهاتين الوظيفتين. فهي لا تستثمر في الموارد البشرية إلا بقدر ما تحتاجه آلاتها الوظيفية. لا تنتج ثروة، بل تعيد تدوير الثروات المستنزفة من الطبقات الشعبية. لا تدفع ضرائب، بل تفرض قوانين تتيح لها الإفلات الضريبي. ولا تخلق مؤسسات، بل تنتج واجهات اقتصادية سرعان ما تنهار متى تعرّضت الدولة لأزمة. ليس من باب المبالغة القول إنَّ التشوّه الذي أحدثته البنية الكولونيالية في مجتمعاتنا لم يقتصر على البنى الاقتصادية والاجتماعية فحسب، بل طال أيضًا التشكيلات السياسية، والثقافية، والرمزية. فقد أنتجت هذه البنية الاستعمارية، برجوازية رثّة طفيلية لا تملك مؤهلات البرجوازية الوطنية التي عرفتها تجارب التحرّر القومي في العالم، من حيث ارتباطها الموضوعي بمشروع بناء السوق المحلية وتثمين الموارد البشرية، وتأسيس منظومات إنتاج متكاملة تؤمّن استمرارية الدورة الاقتصادية وتحقق التراكم، بما ينعكس على تحسين شروط حياة المواطنين ويرفع قدرتهم الاستهلاكية، ويؤمّن استقرار البلاد.
حتى لا يظل التحليل غامضا، نحن مضطرّون لتعقّب جذور هذه الفئة ومسار تطوّرها. والوقوف على أهم المحطات التاريخية التي انتعشت فيها أو ضعُفت، حتى نفهم على نحو واضع ماذا نقصد بعبارة "البرجوازية الطفيلية". وحتى ندرك أنه حين نتحدث عن البرجوازية الطفيلية في تونس، فنحن لا نحيل إلى توصيف أخلاقي أو مجرّد تصنيف طبقي مجاني، بل إلى تشكّل تاريخي بدأ في مرحلة ما قبل الكولونيالية. وتبلور كطبقة في عهد الاستعمار. واستمر ينخر دولة الاستقلال مع مختلف التحولات السياسية والاقتصادية.
نظريا، وبصفة عامة البرجوازية الطفيلية تعيش على الريع والامتيازات والوساطة، وتعتمد في وجودها واستمرارها على التبعية البنيوية للخارج. وواقعيا تشكّلت ضمن شراكة مع الاستعمار الفرنسي منذ آواخر القرن 19، من خلال وسطاء مصرفيين وعقاريين، وسماسرة تجاريين، وموظفين محليين في خدمة المصالح الكولونيالية.
استثمرت هذه الفئة في المضاربة العقارية، تجارة المواد الاستهلاكية المستوردة، وتهريب العملة والبضائع، مستفيدة من الفوارق بين السوق المحلّية والسوق الفرنسية.
مباشرة بعد الاستقلال، اعتبر بورقيبة أن بقاء هذه الطبقة خطر على مشروع بناء الدولة الوطنية. فجاءت محاكمات 1958 التي شملت جزءً من رموزها من كبار الملاّك والمرتبطين جذريًّا بالاستعمار. وتمّت مصادرة أملاكهم، بما في ذلك العقارية والتجارية، في محاولة لتفكيك شبكاتهم الاقتصادية. وقد تم إبعادهم فعلا، وكان الإبعاد مؤلما جدا في عدة حالات، (ولسنا بحاجة إلى ذكر ألقابهم تفاديا لما قد يُفهم كإساءة لأحفادهم، وهم مواطنون توانسة لا دخل لهم في ما مضى، ولا نكنّ لهم سوى الاحترام والأخوة).
مع أزمة التعاضد آواخر الستينيات، وجّهت هذه الطبقة ضربتها الأولى لملامح مشروع وطني مُتعثّر من خلال تغلغلها مجددا في الحزب والدولة. بحيث استثمرت الأزمة الاجتماعية والاقتصادية الناجمة عن أخطاء سياسة التعاضد العشوائية لإفشال مشروع الإنتاج الجماعي. وكانت ذراعها السياسية تستعد لمرحلة الانفتاح الاقتصادي.
هذا ما حصل مع مجيء المرحوم سي الهادي نويرة وقوانين أفريل 1972، حيث وجدت هذه الطبقة فرصة ذهبية في التحالف مع رأس المال الأجنبي. وتحوّلت إلى وسيط محلي للاستثمارات الأجنبية، تحصل على الامتيازات والإعفاءات، مستفيدة من استغلال اليد العاملة الرخيصة. وظلت فوق المساءلة.
آواخر عهد بورقيبة اندلعت أزمة المديونية فالتجأت الدولة الى تطبيق سياسات الإصلاح الهيكلي تحت إشراف صندوق النقد الدولي. وهكذا عزّزت البرجوازية الطفيلية تحالفها مع المؤسسات المالية العالمية. ومع الوقت سيطرت على مفاصل القرار الاقتصادي، وكانت المستفيد الأول من تفكيك القطاع العمومي ورفع الدعم.
لاحقا ستمثل اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي 1995 خطوة إضافية في رهن الاقتصاد الوطني لصالح الأسواق الخارجية. وكانت البرجوازية الطفيلية أحد أبرز داعميها، لأنها فتحت أمامها سوق السلع الاستهلاكية الأوروبية. ودمّرت النسيج الصناعي المحلّي المنافس لها. وكرّست اقتصادًا ريعيًا طفيليًا قائمًا على الاستيراد والمضاربة.
مع تراكم نتائج الخيارات النيوليبرالية، اندلعت الأزمة الاجتماعية الحادّة سنة 2008، خاصة في المناطق المهمّشة المحرومة من عائدات خيراتها. فكانت انتفاضة الحوض المنجمي أوّل كسر علني لطوق الهيمنة الطفيلية، لكن النظام تحالف مجددًا مع هذه الطبقة لسحق التحركات.
بعد الثورة، سرعان ما تحالفت البرجوازية الطفيلية مع حركة النهضة بحكم الطبيعة الفاسدة المشتركة إذ تعانقتا في الاقتصاد الموازي والتهريب والتدليس والابتزاز. حيث كان لحركة النهضة امتدادات عميقة في السوق السوداء قبل الثورة. ولكنها ظلت، في عهد بن علي، على هامش المنظومة بحكم غياب الغطاء السياسي الذي توفّر لها قانونيا وتشريعيا ومن خلال مؤسسات الدولة طيلة العشرية السوداء.
ولقد أصبح من المعلوم اليوم أن التهريب وغسل الأموال والإثراء غير المشروع واقتصاد الإرهاب،، كلها ملفّات قضائية في أروقة العدالة. ولم تعد المسألة مقولات نظرية مجرّدة.
على أية حال يجدر التذكير بالإشارة السابقة، في هذه الورقة، إلى أن البرجوازية الطفيلية بحكم الطبيعة والدور والوظيفة لا يمكنها الاستمرار إلا ضمن منظومة تبعية كولونيالية، لأن مصالحها لا تقوم إلا على خدمة رأس المال الأجنبي وشبكات الريع. ولذلك فإن عبارة "العمالة" ليست تهمة أو شتيمة، بل وصف لوظيفتها الاقتصادية والسياسية. وهي ليست مجرّد فئة من رجال الأعمال، بل أداة تخريب ووسيط استعماري من أوكد مهامّه إجهاض أي محاولة بناء اقتصاد وطني. وإفساد السياسة. وإدارة التحالف بين النفوذ الخارجي والفساد الداخلي. وستظلّ الخطر الأساسي أمام أي مشروع وطني سيادي. وهذا بالضبط ما يفسّر ثورتها على الشعب اليوم.
بحكم بنيتها المافيوزية ومنطقها الزبوني، اخترقت المشهد السياسي، مستفيدة من هشاشة الطبقة الوسطى، وتقهقر المعيشة وغياب القانون، فموّلت الأحزاب اليمينية الليبرالية والدينية، وعملت على تصعيدها للحكم لضمان استمرار مصالحها. كما امتدّت يدها للاستحواذ على جزء من اليسار، وتحويله إلى يسار طفيلي وظيفي تستخدمه في معركتها من داخل الحركة الشعبية والحقوقية.
فما هي العوامل البنيوية التي ساعدت على خلق يسار طفيلي وظيفي؟
التغيرات البنيوية العميقة التي شهدها الاقتصاد التونسي والطبقة العاملة، بسبب السياسة الاقتصادية التي قام عليها الإصلاح الهيكلي أواسط الثمانينات، ومفاعيل اتفاقية الشراكة أواسط التسعينات، ثم الازمة المالية العالمية سنة 2008، ولاحقا الخراب الذي تعرضت له البلاد خلال حكم حركة النهضة ... كل هذه العوامل كان لها الأثر العميق على السياسة والاجتماع. شكلت الطبقة العاملة في المؤسسات العمومية، والمصانع، والموانئ، والسكك الحديدية، والفلاحة، والتجارة، العمود الفقري للقاعدة الاجتماعية للحركة اليسارية، حيث كانت تضم تجمعات تُعد بعشرات آلاف الأجراء، يعيشون أوضاع استغلال تهيؤهم للنضال النقابي، وحيث تمثل النقابات خزانا بشريا للمنظمات اليسارية، تغذيها بثقافة التضامن العمالي. وتراهن على هذه الطبقة في مشروع التغيير. فماذا حدث بعد تنفيذ برنامج الإصلاح الهيكلي والتزام الدولة باتفاقية الشراكة وما تلا ذلك من أزمات متتالية أدت إلى سقوط بن علي، ثم سنوات التخريب الممنهج الذي مارسته حركة النهضة متعمدة إسقاط الدولة التي تمنعها من تنفيذ مشروعها ؟
أدت السياسات الليبيرالية التي دفعت باتجاهها المنظومة الكولونيالية إلى: تقليص نفقات الدولة، بيع مؤسسات عمومية، رفع الدعم. تحرير التجارة، تسهيل الاستثمارات الأجنبية. توقف الاستثمار غلق المؤسسات تسريح عشرات آلاف العمّال وتفقيرهم تفكيك المصانع أو خوصصتها (والمُلّاك الجدد غالبًا طردوا العمّال القدامى). تقليص عدد الوظائف الثابتة والمهيكلة. نمو القطاعات الهشة والهامشية تضاعف عدد العمّال في القطاع الموازي (دون عقود، دون حماية اجتماعية). انتشار الحرف الهامشية (بائع متجوّل، عامل حضيرة…) تقلّص فرص العمل النقابي المنظّم. تشرذم الطبقة العاملة، وصعوبة في تنظيمها سياسيا ونقابيا. تغيّر ثقافة العمّال فمع تفكك المصانع الكبرى والمؤسسات العمومية، فقد العمّال الإحساس بالانتماء الجماعي. انتشرت ثقافة الفردانية والبحث عن لقمة العيش بأي وسيلة. وتراجع الوعي الطبقي والالتزام السياسي. مقابل تغول الاقتصاد الطفيلي، حيث توجّه كثير من العمّال المسرّحين أو الشبّان العاطلين نحو التجارة الهامشية، السمسرة، العمل الموسمي، والاقتصاد الموازي والأنشطة الطفيلية. هذه الأنشطة لا تُنتج ثقافة تضامن ولا تنظيما سياسيًا، بل تشجّع على التنافس الفردي.
هكذا وجد اليسار نفسه معزولًا فاقدا لحواضنه الاجتماعية الطبيعية. فتراجع نفوذه، وأصبح عاجزا عن استقطاب الشبّان الذين أصبحوا يفضّلون إما البحث عن الهجرة أو العمل في القطاع الموازي، بعد تفكيك المؤسسات الإنتاجية الكبرى.
جزء من اليسار، وتحديدا اليسار الوطني الديمقراطي انتبه منذ سنوات طويلة إلى أن الواقع الطبقي في بلادنا لا يخضع للثنائيات الكلاسيكية الواضحة بين بورجوازية وطبقة عاملة كما تشكلت في أوروبا القرن التاسع عشر، بل هو خارطة فئات اجتماعية مختلفة المواقع متعددة الأنشطة الإنتاجية، وقد تعقّدت مع تنامي القطاعات الخدمية وتعددها، وتوسع أشكال العمل الهش غير النظامي، فعلى سبيل المثال نجد الطبقة العاملة الصناعية تمثل اليوم 31% من مجموع المنتجين. وبجوارها نجد طبقة هامشية ممتدة (تجار صغار، حرفيين، أصحاب مقاهي، سواق تاكسي، سماسرة أسواق، موظفين، مهنيين أحرار، صغار مقاولي البناء، النقل غير المنظّم، التجارة الجائلة… وكذلك عمال الاقتصاد الفوضوي وغير الرسمي الخارج عن المنظومة القانونية للدولة، والذي يمثّل مخرجات بنية اقتصادية غير قادرة على خلق شغل قار ومنتج....)
هذه الفئة توسّعت أكثر من حجمها الطبيعي بسبب ضعف الرأسمال الوطني وغياب صناعة قوية، وتضخم القطاع الخدمي والتجاري الهش، وتمدّد الاقتصاد الموازي. وبالتالي صارت هذه الطبقة الممتدة قوة اجتماعية وازنة أكثر بكثير من الطبقة العاملة لكنها شديدة التشتّت، بلا حماية اجتماعية، ويصعب تنظيمها نقابيًا، رغم هشاشتها أمام الاستغلال. هذا المشهد المُتّسم بتشتّت حوالي 70% من قوى التغيير، حتم ليس فقط تنظيمًا يساريا منفتحا، بل إعادة إنتاج الوعي الطبقي ذاته، ارتباطا بسياق بلادنا وتعقيداته، ما فرض العمل بكثير من التعاون والمثابرة الجادّة على إبداع آليات نضال جديدة، تُنظّم قوة اجتماعية ديمقراطية مستقلة تضمّ الطبقة العاملة الصناعية، وعموم هذه الشرائح المشتتة والتي تغطي الغالبية العظمى من المنتجين..
وهنالك يسار آخر دوغمائي وقبلي تقوم العلاقات فيه على الخضوع ونبذ التفكير والانضباط للقيادة. فظل بلا أفكار ولا خيال يلوك شعارات لا علاقة لها بالواقع. الأمر الذي سبّب له نزيفا خياليا أذ غادره كل الأذكياء بلا استثناء. وانتهى إلى "يسار" بلا قضية.
بحكم طبيعتها الطفيلية، لا يمكن للبرجوازية الطفيلية أن تحمي موقعها دون اختراق المشهد السياسي. ولأنها لا تملك قاعدة اجتماعية شرعية، فقد عملت على تمويل الأحزاب الليبرالية واليمينية، مستفيدة من فوضى الساحة السياسية بعد 14 جانفي، فصنعت قوى سياسية تحمي مصالحها، وتضمن إعادة إنتاج شبكاتها الريعية. ولذات الأهداف اخترقت الساحة اليسارية فصنعت ما يمكن تسميته "يسارًا طفيليًا"، بلا مشروع تحرر وطني حقيقي. يسار يخوض معاركها ضد خصومها، من نوافذ الحقوق والحريات، مستخدمًا شعارات ثورية مزوّرة. وهكذا تتحوّل شعاراته إلى وسيلة لتصفية الحسابات داخل معسكر النفوذ الطبقي المهيمن.
ماهي العوامل التي أضعفت اليسار، حتى تحول جزء منه إلى خادم عند البرجوازية الطفيلية.
ببساطة استخدمت المال الفاسد لرشوة بعض القيادات الاعتبارية -المُهيّأة والمتمرّسة على جمع الأموال لتحصين مواقعها القيادية- وهي على كل حال شخصيات معروفة بأدوارها في صراع الأجنحة منذ إبعاد الحبيب عاشور، وتنصيب إسماعيل السحباني. وكذلك دورها في أزمة اتحاد الطلبة. وفي التحالف مع نظام بن علي. ثم الانخراط في الترتيب الدولي الذي صنع جسر عودة النهضة من خلال 18 أكتوبر. وبعد ذلك في جبهة الإنقاذ مع النظام القديم ضد حركة النهضة. واليوم من خلال الدعوة لتشكيل جبهة معادية للفاشية مع النهضة ضد قيس سعيد.
طبعا هذه المسيرة الطويلة من التقلّبات والسياسات الوظيفية يتمّ تبريرها نظريا بقصص وقياسات فقهية مُضحكة، ولكنّها تنطلي على قطاع واسع من جمهور تربّى على القنانة والطاعة. والأصل أن هذه التقلّبات تُفسّر دور يسار طفيْلي تحت الطّلب، يشتغل كبنادق للإيجار في ساحات الحروب. أنه يسار البرجوازية الطفيلية المُصمّم على شاكلتها ومن جيناتها يشبهها، يخوض معاركها بشعارات ثورية مزوّرة. حتى صار مجرد ورقة إضافية في يد لوبيات المال الفاسد، تستعمله لتأبيد منظومة التبعية، والتغطية على أدوارها التخريبية في الاقتصاد والمجتمع. فيُزجّ به في معارك وهمية، وشعارات استعراضية، وخطابات خشبية تعيد إنتاج نفس المنظومة الرمزية التي أسّستها الكولونيالية في نسختها المحلية.
في هذا الجزء حاولنا فهم آليات تغلغل هذا النمط الهجين من البرجوازية في مفاصل الدولة والمجتمع، ورصدنا مسارات تحوّلها من فئة طفيلية على هامش الاقتصاد، إلى قوّة مهيمنة تتحكم في القرار السياسي، وتصوغ المشهد الإعلامي، وتعيد تشكيل الخارطة الحزبية بما يخدم مصالحها. وحاولنا، قدر ما تتحمله هذه الورقة، رصد مساهمة هذا المسار في إجهاض كل محاولات الإصلاح، وفي تكريس الهشاشة البنيوية للمجتمع، وفي تصنيع معارضة وهمية تؤبّد وجود هذه الطبقة الطفيلية، وتعيد إنتاج منوال تبعية مقنّع.
في الجزء الثاني سنحاول طرح الأسئلة الجوهرية التي تحيل على جوهر الصراع المحتدم في بلادنا. وأيّ دور لليسار في بناء قُطب شعبي يُخرج التوانسة من حالة الفُرجة على المسرحية إلى حالة خوض الصراع الحقيقي ضد منظومة الفساد والإفساد بكلّ عناوينها الظاهرة والمُقنّعة.
#عزالدين_بوغانمي (هاشتاغ)
Boughanmi_Ezdine#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أمريكا هي الطاعون
-
المسؤولية الشعبية في الصراع الفلسطيني الصهيوني وضرورات قلب ا
...
-
قيس سعيّد وسياسة اللّيل
-
دولة السبعين عامًا: بيروقراطية المصالح وصراع الطبقات في تونس
...
-
مفهوم -الكتلة التاريخية- بين أنطونيو غرامشي والتلقي العربي:
...
-
في جوهر سؤال محمد لخضر الزغلامي: نحو نظرية عملية لتنظيم الطب
...
-
أوروبا المتأرجحة بين العجز والمراوغة، ما الذي غيّر موقفها من
...
-
النهضة أسقطتها جرائمها
-
حركة النهضة في أيامها الأخيرة
-
التحليل السياسي والفكري يجب أن يتمّ بعيدًا عن العواطف والموا
...
-
صوت يأتي من بعيد
-
الإمبريالية وتمويل المجتمع المدني في دول الجنوب العالمي
-
بين الثورة والإصلاح
-
حول القاضي والمُتّهم
-
تهرم سكاني في تونس وانفجار ديمغرافي إفريقي: قراءة استراتيجية
...
-
جذور المركزية الأروبية ومآلاتها البربرية
-
العوامل التي تمنع إقدام الغرب على تنظيم سيناريو الإطاحة بقيس
...
-
لماذا تعود الشعوب والأمم لقراءة تراثها وتفتيشه وبحثه وتمحيصه
...
-
حوار مع صديق لا يستقرّ على رأي
-
في منزلق سؤال الوزير السابق، السيد عبد اللطيف المكي عن -احتر
...
المزيد.....
-
-مصاصو الدماء الحقيقيون في أستراليا-.. اعترافات ضحية: شربوا
...
-
روسيا تعرض أكثر من 250 نموذجا من المعدات العسكرية في معرض دو
...
-
تعثر لترامب على سلم الطائرة على غرار مشاهد بايدن الشهيرة (في
...
-
التايمز: دخول الجيش الروسي إلى مقاطعة دنيبروبيتروفسك ضربة اس
...
-
الجيش الروسي يسقط 24 مسيرة جوية
-
تحالف أسطول الحرية يقول إن جنودا إسرائيليين صعدوا إلى السفين
...
-
إطلاق صفارات الإنذار في جميع أنحاء أوكرانيا
-
الجيش الإسرائيلي يسيطر على السفينة مادلين المتجهة لكسر حصار
...
-
حكام 22 ولاية أمريكية يستنكرون قرار ترامب إرسال الحرس الوطني
...
-
مفتي مصر ووزير الأوقاف ينعيان -البطل الشهيد خالد شوقي- بعد إ
...
المزيد.....
-
الازدواجية والإغتراب الذاتي أزمة الهوية السياسية عند المهاجر
...
/ عبدو اللهبي
-
في فوضى العالم، ما اليقينيات، وما الشكوك
/ عبد الرحمان النوضة
-
الشباب في سوريا.. حين تنعدم الحلول
/ رسلان جادالله عامر
-
أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب
...
/ بشير الحامدي
-
الحرب الأهليةحرب على الدولة
/ محمد علي مقلد
-
خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية
/ احمد صالح سلوم
-
دونالد ترامب - النص الكامل
/ جيلاني الهمامي
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
/ عبد الرحمان النوضة
-
فهم حضارة العالم المعاصر
/ د. لبيب سلطان
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3
/ عبد الرحمان النوضة
المزيد.....
|