عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)
الحوار المتمدن-العدد: 8349 - 2025 / 5 / 21 - 20:12
المحور:
قضايا ثقافية
هذا المنشور هو مقدّمة لقصّة طويلة تُوثّق تداخل تجربة حياتي الشّخصية في فرنسا، بتجربتي السياسية في علاقة بتطوّر الأوضاع في تونس منذ مطلع الألفية إلى اليوم. وإذا بقيت على قيد الحياة، وكُتِب لي أن أتقاعد وأتفرّغ للكتابة، ستكون هذه القصّة كتابا فيه ما يُقرأ.
كيف ندّعي الوطنية ونحن نعيش في المهجر منذ سنوات طويلة؟
كثير من الإشارات تصلني بطرق شتّى، أحيانا قليلة فيها إعجاب بارتباطي بالبلد رغم البعد. وأغلب الأحيان فيها شكّ وريبة حول مدى معقوليّة أن يظلّ الإنسان وطنيا بعد سنوات طويلة من الإقامة خارج الوطن. ولا شكّ أن مثل هذه التّساؤلات مشروعة جدّا، وفي غاية الأهمية. ومن هذا المنطلق أريد بداية الإضاءة على هذا الموضوع من موقع التجربة الشخصية.
صحيح أن العيش في الغرب لسنوات طويلة ليس أمرا سهلا، لأن المجتمع الغربي ماكينة متكاملة ثقافية اقتصادية اجتماعية سياسية قانونية إعلامية، تدور بإيقاع عنيف يعجن الفرد ويُغيّره.. ومع مرور الوقت تفصل هذه الماكينة المهاجر عن تربته الأصلية. ثمّ تبدأ بقطع منهجي للرّوابط مع بيئة المنشأ بما في ذلك الروابط الروحية والوجدانية الأكثر دقة وحميمية.
لذلك مسألة الالتزام الأخلاقي والسياسي تجاه الوطن، بالنسبة للمهاجرين، ليست مُتاحة إلا لأقلية قليلة جدّا من المتجذّرين الذين وصلوا إلى المهجر وشخصيتهم مبنية بالكامل على جهاز قيمي راسخ وخلفية أخلاقية عميقة، يصعب على أيّ ماكينة تغييرها بالعجن وإعادة التّشكيل.
أنا أتكلّم من موقع تجربتي الخاصة كمهاجر عشت وراقبت مسيرة عدد كبير من المهاجرين وأعرف أن مقاومة الذّوبان تحتاج تجذّرا وطنيّا وصلابة نفسيّة غير قابلة للاختراق.
الهجرة ليست مجرد انتقال من جغرافيا إلى أخرى. ولا هي حكاية مسافات تُقطع. إنما هي عملية اقتلاع من تربةٍ ثقافيةٍ واجتماعيةٍ وروحيةٍ بكل ما تحمله الكلمة من ثقل. وهي بهذا المعنى معركة وجودية يومية مع ماكينة ضخمة تُعيد تشكيل الإنسان ببطء، عبر أدوات متكاملة تعمل بتنسيق محكم: المدرسة، العمل، الإعلام، القانون، والفضاء العام.
في المجتمعات الغربية الحديثة، لا يمكن للإنسان أن يبقى كما هو. فالإيقاع العنيف للحياة، والفلسفة الفردانية التي تُمجّد الاستقلال الذاتي وتفكك الروابط التقليدية، تسير جميعها نحو هدف واحد: إدماج الإنسان أو سحقه. والإدماج في الدّول الغربية التي ظلّت "دولا وطنية" وفشلت في أن تكون "دولة مواطنية"، لا يعني مجرد الحصول على وظيفة أو إتقان لغة، بل هو إعادة بناء الشخصية وفق منظومة قيمية مغايرة لما نشأ عليه الفرد في بيئته الأصلية.
من هذا المنطلق، تصبح مسألة الحفاظ على الهوية، بكل أبعادها الروحية والثقافية والاجتماعية، فعلاً مقاومًا لا يُدرك معناه إلا من عاش التجربة في تفاصيلها اليومية. وهي مقاومة لا تُتاح إلا لمن وصل إلى المهجر بِجهاز قيميّ متجذر وخلفية أخلاقية سياسية عميقة يصعب على أي ماكينة، مهما كانت مُحكمة التنظيم، أن تخترقها أو تعيد تشكيلها.
هذا المجتمع ليس فضاءً بريئًا مفتوحًا، كما يُخيَّل للكثيرين. إنه منظومة رأسمالية ثقافية اجتماعية اقتصادية سياسية قانونية إعلامية سلوكية متشابكة، تتحرك ضمن منطق داخلي صارم، وتسعى باستمرار إلى إنتاج أفراد يتماهون مع قيمها ونسقها. من يدخل هذه المنظومة -طوعًا أو اضطرارًا- يجد نفسه في مواجهة ماكينة ضخمة تدور بإيقاع عنيف، تشتغل على إعادة تشكيل الفرد لا على استقباله كما هو.
تبدأ العملية من علاقتك بأطفالك في المدرسة، حيث يتعلم الطفل مبادئ راقية جدا، الحرية، السلطة، العلاقات الاجتماعية، المواطنة، والتاريخ… وضمنها مفاهيم لا تتفق بالضرورة مع ما تربيت عليه في بيئة منشئك. ثم يتواصل الضغط في سوق العمل، حيث الفرد مُجبرٌ على اعتناق قيم الكفاءة الفردية، والسّباق المحموم، والإنجاز المادي بوصفها مؤشرات "العقل الأداتي" للنجاح والجدارة.
أما الإعلام، بما يحمله من رسائل معلنة وخفية، فيمارس وظيفته الناعمة في تشكيل الأذواق، القيم، النظرة إلى الذات، وللعالم. حتى الفضاء العام، من المقهى إلى الشارع إلى علاقات الجيرة، يتحول إلى فضاء تعليمي يومي يُعيد ضبط سلوك المهاجر وعاداته وفق السائد.
هذه المنظومة لا تفرض سلطتها بالقوة المباشرة، بل تمارس تأثيرها عبر التكرار، الإيقاع السريع، والضغط النفسي الجماعي. ومع مرور السنوات، يفقد المهاجر تدريجيًا صلته بتربته الأصلية. لا لأنّه خانها، بل لأن الماكينة تعمل بصمت، عبر ثقافة الحياة اليومية التي تُعيد تشكيل وعيه وانتماءاته.
هكذا، يجد المهاجر نفسه أمام خيارين:
إما الذوبان التام والقبول بإعادة التشكيل.
أو المقاومة… وهي معركة قاسية لا يقدر عليها إلا من كان في داخله وطن متين.
من موقع التجربة لا من موقع التنظير. من الوهلة الأولى كنت جاهزا للعيش في هذا البلد دون أيّ تعقيد. ولكن دون أن أفقد ذاتي. ومع مرور الوقت، بدأت أكتشف تدريجيًا آليات التّذويب عبر مسار بطيئ يتسلل إليّ دون أن أشعر. وبدأت ألاحظ تغيّر كثير من الأصدقاء أمثالي، ممن كانوا في يوم ما يتحدثون بحماس عن قضايا أوطانهم، عن ذكريات طفولتهم، عن أعيادهم وعاداتهم، ليتحولوا شيئًا فشيئًا إلى نسخ باهتة من الثقافة الجديدة. حتى صاروا يتجنّبون لغتهم الأصلية في الأماكن العامة، يُخفون أسماءهم الحقيقية. فيهم حتّى من رفض خِتان أطفاله. ومن سمّاهم بأسماء فرنسية، وكأنّهم "يعتذرون" عن ماضيهم.
كنت أراقب ذلك وأشعر بأنني أمام صراع صامت. لم تكن المسألة رفضًا للاندماج في مستوى قيم الجمهورية مثلا، أو في معنى كراهية البيئة الجديدة، بل بالعكس، لقد تعلمت الكثير في هذا البلد، وأحببت كثيرًا من تفاصيله. ولكن في المقابل كنت مُصرّا على مقاومة عملية ناعمة تُحاول أن تنتزع مني جذوري قطعةً قطعة. وترفض ضمنيّا قُبولي كما أريد أن أكون
عشرات المواقف الصغيرة اليومية: حين تُسأل عن أصلك فترى نظرات الرّيبة أو الاستعلاء. حين تُستدعى لتفسير ما يجري في تونس في لحظة توتّر اجتماعي. القلق الذي تراه في الملامح حين تتكلّم عن أهمية الفلسفة الاسلامية، عن مساهمة بن رشد أو ابن خلدون في تشكيل كونية الفكر والقيم. حين ينزعج زميلك لأنك تتحدث بلغتك مع عربيّ آخر أو حتى في الهاتف. تلك اللحظات العابرة كانت بالنسبة لي إشارات متواصلة إلى أن ماكينة التّذويب التي لا تهدأ ليست رسميّة مُعلنة، بل مجتمعية مُنبثّة في كلّ مكان.
لا أدّعي أيّ بطولة، وإنّما أزعم أني أدركت مبكرًا، كما أدرك كثيرون، أن مقاومة هذا المسار تتطلب صلابة داخلية، وإيمانًا عميقًا بجدوى الحفاظ على الانتماء كحاجة وجودية تمنع الضّياع في الزّحام. وشيئًا فشيئًا، تنشأ الحاجة إلى الثقافة كسلاح وحيد مُتاح. هنا بدأت علاقتي بالتّراث.
في مواجهة ماكينة الذّوبان، كان لا بد من العثور على أداة مقاومة لا تُستهلك سريعًا، ولا تتآكل تحت ضغط الحياة اليومية. أوّلًا لم أقطع صلتي بالوطد في أيّ وقت من الأوقات، وفي أيّ ظرف من الظّروف، رغم ما نشأ من خلاف بيني وبينهم في بعض المحطات السياسية. وقد يكون الطابع النّخبوي لهذا التيّار، وما فيه من انفتاح وقابلية التعايش مع الاختلاف، عاملًا أساسيًا ساعدني على استمرار ارتباطي به. وثانيا وجدت في الثقافة العربية من الأفكار والمعاني والقيم ما يكفي ليكون حصنًا داخليًا يحمي قناعاتي الوطنية والتزامي تجاه بلادي.
لم يكن الأمر يتعلق بقراءة الكتب فقط، بل بوعي عميق بأن الهوية الثقافية ليست مجرد ميراث نتباهى به أو نُمجّده، بل درع معنوي يُعيد للإنسان توازنه حين يشعر أن كل شيء حوله يدفعه نحو النّسيان.
ففي الغربة، يتحول الدين على سبيل المثال، تدريجيًا إلى ثقافة. لا لأنه جوهر عقدي، بل لأن المهجر يعيد ترتيبه داخل فضاء هوياتي، فيصبح جزءً من خصوصيتك رغمًا عنك، ورابط من روابطك ببقية العرب والتوانسة على وجه الخصوص، ومجال لاستعادة تفاصيل الحياة في تونس.
بين قوسين، في هذه النقطة بالذات هاجمني بعض "اليساريين" الضيّقين، أولائك الذين جاؤوا للفكرة اليسارية هاربين من أعطابهم النفسية وتعقيدات وأوجاع خفيّة مكبوتة عاشوها في طفولتهم. فوجدوا في اليسار ساحة تمرّد في الفضاء العام، تُخفي تمرّدهم على تلك الآلام الدّفينة في ذواتهم وفضائهم الخاص. هاجموني دون فهم لما كنتُ أتكلّم فيه من داخل تجربة الهجرة، فكان أن قالوا عني "داعية إسلامي"... وأوصاف أخرى تنضح بالشرّ السّاكن في تلك الذّوات الموتورة.
على أيّة حال، ما أريد قوله هو أن المهجر، يُغيّر الوظائف النّفسية والاجتماعية للدين. حيث تتحول الأعياد -على سبيل المثال- إلى مناسبات للم الشّمل وتثبيت الوجود. وتُصبح المآتم أو الأعراس طقوسا اجتماعيّة أكثر منها فرائض أو واجبات. وتصبح العبارات الدينية اليومية، من تحية وسلام ودعاء، أدوات تذكير خفي بأنك لست وحدك.
على هذا النحو، فهمت أن الثقافة، في شمولها، ليست مجرد رموز فولكلورية، بل طريقة في تنظيم الوجدان، في الحفاظ على الرّوابط غير المرئية مع من رحلوا ومع ما خلّفناه وراءنا. وأن اللغة، المطبخ، الموسيقى، الأمثال، العادات الصغيرة… كلها ذخيرة للمقاومة الصامتة. فما دمت تتحدث لغتك، وتحتفل بطقوسك، وتحفظ شواهد ذاكرتك، فأنت لم تذُب بعد. وهكذا، وجدت نفسي أُعيد ترتيب علاقتي بالثقافة والهوية، لا كماضٍ أحنّ إليه، ولا كعبادة، بل كأداة بقاء.
علاش وكيفاش؟
لأنه مع مرور السنوات، أدركت أن مقاومة المحْو الثقافي ليست معركة مباشرة وصراع مع سلطة مرئية. بل هي مقاومة يومية، صامتة، تتجلى في التفاصيل الصغيرة: أن تحافظ على اسمك كما هو، أن تتحدث لغتك مع أولادك، أن تصرّ على رواية حكايات جدّتك لأطفالك، أن تحافظ على حنينك دون أن تخجل منه.
فمقاومة التذويب في ظل دولة تفهم الإدماج كعملية مَحو، ليست مشروعًا سياسيًا مُضادًّا للمحو، بل ممارسة وجودية أبسط بكثير. أن تحمي ما تبقى منك في فضاءٍ يشتغل على محوك. لا يعني هذا العزلة، ولا رفض التفاعل مع المجتمع الجديد، بل وعيٌ يقظ بمسار الذوبان وبتكلفة الاستسلام. فلا يوجد قمع مباشر يمنعك من أن تبقى تونسيًّا. لكن القمع هنا ناعم، لزج، يمارس سطوته عبر ثقافة العمل، عبر اللغة، عبر الإعلام، عبر ضغط التماثل، حتى تصحو يومًا فلا تجد فيك إلا ما صنعوه. حينئذ يحميك المطبخ، لغة الحوار مع الأبناء، تفاصيل العيد، طريقة تشييع موتانا، الموسيقى التي نستمع إليها ونردّها.
ببساطة شديدة، الوطنية، هنا، أن تبقى قلبك معلقًا هناك، ويدك تعمل هنا، وعقلك يبحث كيف تكون نافذة تونس على العالم. وممنوع أن تتحول إلى مرآة تعكس ثقافة الآخرين المُركّبة فيك تركيبًا سيّئا.
تلك كانت خلاصة تجربتي، وما زلت على يقين أن الغربة اختبار وجودي طويل، لا يخرج منه سليمًا إلا من حمل جذوره داخله، لا في جواز سفره.
#عزالدين_بوغانمي (هاشتاغ)
Boughanmi_Ezdine#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟