عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)
الحوار المتمدن-العدد: 8332 - 2025 / 5 / 4 - 21:37
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
المثقف والسياسي الحقيقي، يجب أن يرتبط بطموحات شعبه. لا سيما بطموحات جيل الشباب الذي فجر الثورة، ورمى بنفسه في المعركة قاتلا أو مقتولا. وواجه الرصاص، ومن أجل التغيير، من أجل دولة لكل المواطنين، من أجل لقمة عيش كريمة، قدّم حياته، وهي الشيء الوحيد الذي يملكه.
اندلعت الثورة في تونس، وكانت شاملة إذ غطت كل المناطق، وواسعة من حيث مشاركة كل فئات الشعب، وعميقة من حيث مضمونها السياسي، إذ طرحت مسألة إسقاط نظام الحكم. ونجح الشباب في إسقاطه.
وما كان لشباب الثورة أن ينجح في إسقاط النظام، لو لم ينجح في تجاوز الأحزاب والتنظيمات السياسية القائمة آنذاك، بل وتهميشها ومنعها من القيادة.
فلماذا همّش الثوار الأحزاب؟
لأنه لما كانت حركة الجماهير متدفّقة، والأحداث تتسارع، والشهداء يتساقطون، والنظام يتهاوى، كانت الأحزاب متردّدة ومرتبكة، ومنقسمة. بعضها سارع لإنقاذ بن علي ونظامه. والبعض الآخر أجبره الشارع على اللحاق به. فالتحقت مشتتة بلا بوصلة ولا خطة، محاولة قدر الإمكان تغيير ثوبها حتى تتلاءم مع اللحظة فيقبلها الشعب.
لقد كان شعب تونس العظيم هو الذات السياسية الوحيدة الفاعلة والمتحكمة في ذلك المنعرج التاريخي، لا بن علي، ولا أحزاب المعارضة ولا الاتحاد الأوروبي ولا الأمريكان كما روّج المغرضون وتبعهم التّافهون.
إن الثورة هي ذلك الزمن الوطني الأحمر الذي تحوّل فيه "الشعب" من مَجَاز ومصطلح إلى حقيقة سياسية وبركان بشري جارف لا يقوى على إيقافه أحد. فمنذ اللحظة الأولى لأندلاع الأحداث، أعلن الشعب عن نفسه عاري الوجه، والتحم ببعضه، دون وسيط ايديولوجي ولا حزبي، ولا مؤطّر باستثناء النقابيين الذين هم جزء أصلي أصيل من شعبهم. ونجح الشباب في إنجاز مهمته الأولى. ولكن حلّت النكبة ما أن تسلّلت أحزاب الطابور الخامس بالتدريج إلى واجهة الأحداث. وكان ذلك بمثابة الطعنة القاتلة للثورة، لأن تلك الأحزاب الانتهازية الفارغة، التي كان يُفترض أن ترحل مع منظومة الحكم، استولت على عنق الثورة. وردّتها على أعقابها.
هكذا غُدر الشباب بالتقسيم، فأخفق في بلورة قيادة مستقلة، وتم تمزيقه وضرب وحدته على يد تلك النخب التي ركبت على الأحداث، ثم قادت الشعب إلى فخّ مُميت بالتنسيق مع القوى الاستعمارية وبتوجيهها.
وحّد الاستعمار كل النخب المرتبطة به، إسلامية متطرفة وعلمانية وظيفية، وعَقَد بينها زواج متعة مؤقّت، في انتظار ترتيب الأوضاع، وإعادة صياغة المشهد السياسي على نحو عدواني يضمن وأد الثورة وإفساد نتائجها. وتدفقت أموال الريع النفطي من دول الخليج. وشهدت البلاد أكبر حركة مال وأكبر تنسيق مخابرات في تاريخها كله. وجيء بالرّايات السوداء. وتحوّل همّ المجتمع من مسار تحقيق أهداف الثورة، إلى مسار مكافحة الإرهاب والحفاظ على الدولة. حيث تمت مساومة التوانسة على أمنهم على أساس: "إما الإذعان أو الفوضى والإرهاب". وأهدر راشد الغنوشى دم المؤسسة العسكرية والأمنية بغاية تصفية جيوب مقاومة الهجوم على المؤسسات. ودوّى الرصاص لتصفية شكري بلعيد السياسي الوطني العنيد، المنحاز لشعبه، لإسكات البقية. وتلا ذلك اغتيال الحاج محمد البراهمي، الرجل الذي أعطى للمشروع الوطني سنده العروبي التقدمي ... وتوالت المصائب. وتوقف الاستثمار، وتوسعت رقعة الفقر، وعمّ الفساد، ونُهِبت خزائن الدولة ومقدّرات البلاد كما لم يحدث ذلك من قبل أبدا... ووُلد من ذلك الزواج العاهر القبيح مشهدا سياسيًا لقيطًا، يقوده الإرهابيون والكناطرية والخَوَنة وقُطّاع الطرق، وسقط المتاع. وبدأت تلك الأجسام اللقيطة تتناحر فيما بينها بالتشكيك في بعضها البعض. ولضمان القضاء على الثورة كفكرة ألهمت شعوب العالم، اتُّخِذ القرار الدولي بالإبقاء على القوة الأكثر ظلامية وتطرُّفًا وعداءًا لمعنى الوطنية ومعنى المدنية، والمرتبطة مباشرة بالأجندة الاستعمارية في المنطقة بِرُمتها.
غُدِرت الثورة، ولكن بقيت روحها التي توزعت وزُرِعت في النفوس، ورغم الخيبات ظل الشباب يشعر بأنه أمين عليها وعلى أهدافها. ولذلك استمر الاحتجاج الرافض لهذه الجناية التاريخية التي آرتكبت ضد البلد، ولهذا الانقلاب على دماء الشهداء. ونبت في قلوب الناس، رغم كل ما فعله الخونة، شيء عزيز، اسمه الكبرياء، أشْعَرَ الناس بضرورة الإطاحة بالعصابات الحاكمة، دون الإطاحة بالدولة. وليس ثمة ما يفسر هذا الخيار سوى الشعور العام بالانتماء للوطن، بكل ما يحتويه هذا الشعور من محتوى قيمي وحضاري يحضر عند الشعوب كلما شعرت بالتهديد، وضاق بها الحال.
لست في حاجة إلى تعديد الجرائم التي آرتكبت في العشرية السوداء، فلقد تحولت إلى معيش يومي للتوانسة وحقائق تُلمس وتُرى في مستوى معيشة الناس الذي بلغ حدود الجوع والتسوّل.
استمرّ هذا الشعب الكبير يُقاوم بطرائقه الخاصة، بعد أن غدرته نخبة وسِخة تتعارك من أجل المزيد من نهب الموارد وبيع القرار الوطني جهارًا نهارًا، بلا خجلٍ ولا وجلٍ ولا حُمرة في الوجه. استمرّ هذا الشعب العريق المجرّب، في خوض معركته باستخدام الر.ّموز، متجاوزا أشكال المقاومة الحسية العنيفة، خوفا منه على البلد.
سقطت ثقة الناس في النخب الحزبية سقوطا تامّا، وحاولوا التخلّص منها. ولكن قوة المال والأجهزة المخترَقَة كهيئة الانتخابات ومؤسسات الأمن والقضاء، تصدّت لثورة الصناديق الهادئة، التي عبّرت عن نفسها في الانتخابات البلدية 2018، حيث تقدمت القائمات المستقلّة الآتية من خارج المنظومة على القائمات الحزبية. ولم تفهم النخبة تلك الرسالة. ثم تراجعت حظوظ حركة النهضة حزب الإجرام الرئيسي في الانتخابات التشريعية 2019. ولم تُفهم الرسالة. وكانت المفاجأة الثالثة في الانتخابات الرئاسية، حيث فرض الشعب مُرشّحه الذي فاز فوزا ساحقا بلا مال ولا إعلام ولا لوبيات.
طبعا مسألة الإصلاح وإعادة بناء الدولة على أسس سليمة، هي مسألة بالغة التعقيد، تحتاج إلى تخطيط وإستراتيجيات وأحزاب وطنية مسؤولة، وإصلاح للوضع الاقتصادي وتحرير للقضاء والأمن من هيمنة الجماعة. وينبغي من أجل ذلك، رسم خطة تشمل كل القطاعات. فإذا كانت الإطاحة بالعصابة ممكنة بالشارع وبعفوية الجماهير، فإنه من المستحيل تسيير دولة وحكم بلاد بالعفوية. ذلك أن قضية الحكم تحتاج جسمًا منظما لديه فكر وإستراتجيا للتغيير التدريجي الجاد والمثابر..
ثم جاءت رسالة الشعب الثالثة مع حلول شتاء 2020-2021، ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية والمعيشية، جرّاء انخفاض نسبة النمو التي وصلت ما دون الصفر (-6%)، واستمرار تصاعد نسب البطالة (16.2%)، وتراجع سعر صرف الدينار، وارتفاع أسعار المواد الأساسية، وتدنّي جودة الخدمات الصحية، وتداعيات جائحة كورونا، وتفاقم مظاهر العجز... وردا على هذه الأوضاع اندلعت صدامات ليلية بين القوى الأمنية ومجموعات من الأطفال القصّر في ضواحي العاصمة وفي الأحياء الفقيرة في ولايات القصرين وسيدي بوزيد والقيروان وسوسة وبنزرت ... وقد احتل حي التضامن واجهة الأحداث خلال الأيام الخمسة للمواجهات، وحي التضامن-كما هو معلوم- أكبر الأحياء الشعبية في البلاد وأعلاها كثافة سكانية. وهو محرار الوضع الاجتماعي، ومؤشّر رئيسي على استقرار الحكم من عدمه.
كان مشهد انتفاضة الأطفال ليلا، مشهدا موحشا وحزينا، يحمل أخطر الرسائل رمزية. فلم يسبق أطفال تونس في هذه الملحمة إلا أطفال فلسطين في مواجهة الاحتلال الصهيوني. وكأن حنظلة تونس الغاضب، ذلك الطفل الذي تركه الشهيد ناجي العلي، مخفي الوجه، معقود اليدين، قد ملّ مراقبة الأحداث في صمت، فاستدار ونزل للشارع عاريا في وجه برلمان وسخ قليل الحياء.
كان العنوان الأول لخروج الأطفال على حكم الخونة، يعني نهوض تونس لتعلن أن مستقبلها مُهدّد.
أمّا العنوان الثاني لهذه الرسالة الرمزية العنيفة، هو فقدان الأسرة التونسية السيطرة على أطفالها بسبب ضيق اليد، على أن الأسرة تُشكّل الخلية الأولى التي تقوم عليها أي دولة في العالم.
وثالث عناوين الرسالة هو أنّ الأمّ التونسية مستعدّة لتقديم فلذات أكبادها من أجل تطهير البلاد من سرطان مُصمّما على قتلها.
وأخيرا، كون هذه العصابة التي ثار ضدها الأطفال، ليس لها مستقبل.
طبعا برلمان أغلبيته قُطاع طرق وانذال يفتقدون إلى أدنى حسّ أخلاقي ليس بوسعهم فهم مثل هذه الرسائل الرمزية الكبرى.
مرّ الشتاء، وواجه التوانسة العُزّل مصيرهم في مواجهة الموت. فكان الوباء يحصد الأرواح يوميا بالعشرات... وعوض أن نرى رئيس الحكومة في مكتب متنقّل يقود الحرب على الكورونا في صفّ شعبه، وصلت صوره من مسبح أفخم نزل الحمامات، وهو يتنقّه، ويُمارس متعته في بحبوحة ورغد العيش. وانفجر هذه المرة الشعب والدولة معا في وجه الاحتلال الداخلي ذات 25 جويلية تاريخ الرموز والتحولات الكبرى.
هكذا وضع الشعب حدًّا لحكم الطابور الخامس، فهبّ رموزه إلى السفارات والعواصم الغربية مستنجدين بأصحاب القرار ومُشغّليهم، ليفرضوهم مرة أخرى على تونس وشعبها. ولعل ما يجري هذه الأيام من تحريض على الدولة ورئيسها، يندرج في هذه المهزلة التي شهد الشعب فصولها منذ 2011. ولكل هذه الأسباب، وبالرغم من الضعف الفادح لآداء الحكومة وانعزالية الرئيس، فإن الموقف الوطني الصافي يفرض على كل تونسي مملوء بانتمائه لتراب هذا البلد، الانحياز لشعبه، والالتحام به، والالتزام برفض التدخل الأجنبي، والاستمرار في الضغط من أجل محاكمة المجرمين، وعزل الطابور الخامس، مهما كانت التكاليف. وسيسقط الخونة آجلًا أم عاجلا. وليس ثمة من ضمانة لمستقبل أفضل إلا افتكاك السيادة على قرارنا الوطني "فاضرب لهم طريقا في البحر يَبَسًا لا تخاف دركا ولا تخشى"
#عزالدين_بوغانمي (هاشتاغ)
Boughanmi_Ezdine#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟