عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)
الحوار المتمدن-العدد: 8329 - 2025 / 5 / 1 - 22:18
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
على مدى التاريخ، كانت الهويات الحضارية الكبرى هدفًا مستمرًا للقوى الطامحة للهيمنة، إدراكًا منها أن ضبط الجغرافيا لا يتحقّق إلا عبر هندسة الذاكرة وإعادة تشكيل الانتماءات. واليوم، في ظل التحولات الجيوسياسية الحادة، يشهد الفضاء العربي محاولات ممنهجة لإعادة تركيب هوياته الحضارية، عبر توظيف الأبحاث العلمية الحديثة، خصوصًا في مجالات الجينات والأنثروبولوجيا الحيوية.
تشكل الدراسة الجينية الأخيرة، الصادرة عن مجلة Nature بإشراف جامعة Harvard، والمتعلقة بأصول سكان قرطاج، محطة مركزية في هذا المسار. إذ تتجاوز معطياتها الطابع العلمي الصرف، لتندرج ضمن مشروع سياسي-ثقافي أوسع يستهدف ضرب العروبة الحضارية الجامعة، وفصل مكوّنات المغرب العربي عن المشرق.
عدة أسئلة تفرض نفسها حين نتأمّل هذا الموضوع. سنحاول طرحها في علاقة بالتوظيف السياسي لنتائج الدراسة الجينية محلّ النقاش.
إلى أي مدى تُوظف الأبحاث الجينية الحديثة كأداة سياسية لتفكيك العروبة الحضارية في شمال إفريقيا والشرق الأوسط؟
كيف تتقاطع هذه الأبحاث مع رهانات القوى الاستعمارية الجديدة؟
ما أوجه التشابه بين ما يحدث اليوم وما مارسه الاستعمار الكلاسيكي في القرن التاسع عشر؟
ما تأثير هذه السرديات "العلمية" على البناء الرمزي والهوية الجماعية في تونس. وفي بلدان أخرى مثل مصر والعراق؟
عناصر السياسة المختبئة داخل الدراسة:
1. أن الأبحاث الجينية الأخيرة لا تكتفي بإنتاج معرفة بيولوجية، بل تسعى لإعادة صياغة الهويات الحضارية وفق رؤى تتماهى مع مصالح القوى الاستعمارية المعاصرة.
2. أن هذه الأبحاث تُستخدم لإحياء هويات محلية معزولة (أمازيغية، فرعونية، بابلية...) وإعادة توزيع الخريطة الهوياتية بما يخدم مشاريع التقسيم الناعم.
3. أن الخطاب الأكاديمي الغربي حول تاريخ المنطقة لا يزال محكومًا بثقافة استشراقية، تعيد إنتاج ذات الأنماط الإقصائية تحت غطاء "العلم المحايد".
لكي ننجح في تقديم مقاربة تحليلية متماسكة، سيما من خارج اختصاص الدراسة، ينستند إلى عدد من الأطر النظرية:
أ/ نظرية المعرفة والسلطة لدى ميشيل فوكو، التي ترى أن إنتاج المعرفة جزء لا يتجزأ من بنيات السيطرة المجتمعية والسياسية.
ب/ الاستعمار المعرفي كما صاغه إدوارد سعيد، والذي كشف كيف استخدم الغرب أدوات المعرفة للهيمنة على الشرق.
ج/ نظرية صناعة الهويات التي ترى أن الهوية الاجتماعية والتاريخية تُبنى عبر خطاب سياسي-ثقافي، يُنتج في لحظات صراع ويعاد تشكيله حسب ميزان القوى.
موضوع الدراسة الجينية حول قرطاج
نشرت مجلة Nature البريطانية في عددها الصادر منذ أسابيع، دراسة جينية استغرقت ثماني سنوات في مختبرات جامعة Harvard، تحت إشراف البروفسور David Reich. تضمنت الدراسة تحليل الحمض النووي لـ 103 عينات بشرية من مدافن تعود إلى الفترة الممتدة بين القرن السادس والثاني قبل الميلاد.
خلصت نتائج البحث إلى:
أن نسبة التأثير الجيني للفينيقيين في قرطاج كانت ضئيلة جدًا.
أن ثلاثة فقط من العينات أظهرت جذورًا شرق متوسطية (كنعانية)، وهم من مهاجرين في صقلية وسردينيا.
أن غالبية سكان قرطاج كانوا من أصول محلية (نوميدية) مع خليط من عناصر متوسطية.
أن تحولات ثقافية كبرى (كالانتقال من حرق الجثث إلى الدفن) تزامنت مع تغيرات ديموغرافية لا صلة لها بالفينيقيين.
أن الهوية القرطاجية تشكلت ضمن الفضاء المحلي لشمال إفريقيا، دون امتداد فعلي نحو بلاد الشام.
كيف نقرأ نتائج الدراسة؟
من الناحية المنهجية، يصعب فصل هذه الدراسة الجينية عن سياقها السياسي والثقافي. إذ تُطرح عدة إشكاليات:
. محدودية العينة وضعف الاستنتاج العام
لا تتجاوز العينة محل الدراسة 103 عيّنة، وهو رقم هزيل بالنسبة لفترة تمتد على أربعة قرون. كما أن التوزيع الجغرافي لتلك العينات ظل محدودًا ضمن رقعة أثرية ضيقة في قرطاج الكبرى. إن هذا القصور المنهجي يجعل الاستنتاجات العامة حول أصول سكان قرطاج محفوفة بالمخاطر العلمية.
. العلاقة بين الثقافة والعرق
تفترض الدراسة ضمناً أن الهوية الثقافية مرتبطة بشكل حتمي بالخلفية الجينية. وهو توجه يتناقض مع مبادئ العلوم الاجتماعية الحديثة التي تؤكد أن الهوية كائن ثقافي متحول، يتشكل بفعل عوامل اللغة، الأسطورة، المؤسسة، الحروب، الديانة، ولا يخضع حصريًا للجينات.
. تجاهل العلاقة بين الفينيقيين والنوميد
تتعمد الدراسة تغييب البعد التفاعلي بين الكنعانيين (الفينيقيين) وسكان شمال إفريقيا الأصليين (النوميد). فمن غير المنطقي أن يتم اختزال التأثير الحضاري في مجرد نسب جيني، في حين أن الثقافة تترك أثرها في اللغة والديانة والتنظيم الاجتماعي والفنون والمعمار.
. توظيف سياسي للنتائج
تبرز النتائج في سياق سياسي معاصر يشهد صعود نزعات أمازيغية محلية، تغذيها أطراف استعمارية سابقة وحالية، بهدف تقويض العروبة الحضارية. حيث تسعى بعض الدوائر إلى تعويض فكرة العروبة بهويات جهوية ضيقة تمهد لتفتيت النسيج الثقافي الجامع.
حالات موازية:
في مصر: إعادة إحياء الفرعونية، حيث شهد الخطاب الأكاديمي والإعلامي في مصر، منذ مطلع الألفية الثالثة، موجة دعائية تعيد الاعتبار للفرعونية كهوية أصلية متمايزة عن العروبة. وقد جرى ذلك من خلال:
التركيز على الملامح الجينية للمصريين القدماء (كما في دراسات المومياء الملكية).
إحياء رمزية الأهرام والفراعنة كرموز سيادية مضادة للهوية العربية.
في العراق: استدعاء البابلية
على نفس المنوال، رُوج في العراق، خاصة بعد 2003، لفكرة الهوية البابلية-الآشورية، باعتبارها هوية أصلية مقابلة للعروبة. وتظهر هذه النزعة في تبجيل التراث السومري والبابلي في المتاحف والإعلام.
في شيوع دعوات إلى "فك الارتباط مع العروبة" لدى فئات من النخب الثقافية.
ف إعادة كتابة سردية العراق القديم بمعزل عن كنعان والهلال الخصيب.
حول الأدوات والاستراتيجيات
يمكن ملاحظة أن أدوات إعادة تشكيل الهويات في الحالات الثلاث (تونس، مصر، العراق) تتشابه في اعتمادها على:
دراسات جينية مشكوك في حيادها.
إعادة قراءة التاريخ بمنهجيات استشراقية محدثة.
الترويج الإعلامي المكثف بالتوازي مع هذه الأبحاث.
استثمار المظلومية التاريخية للأقليات.
دفع نزعات الانفصال الثقافي عن الفضاء العربي.
عدة شباب روّجوا هذه الدراسة بِزهو شديد، ولغة لا تخاو من الفخر بالتاريخ القرطاجي. وكأنّما وجدوا في الدراسة ما يُزيل على قلوبهم حرج الانتماء للعروبة زمن الانكسار. وكأن هذه السردية ملجأ نفسيا يٍضمّد جروح غزة وقروح فلسطين. وقد نجد بعض العذر لهؤلاء الشباب وهم ينساقون طوعًا إلى حيث يريد الاستعمار. ولكن القراءة المتأنية لهذه الدراسة الجينية حول قرطاج، تكشف أنها لا تقف عند حدود البحث العلمي الصرف، بل تنخرط في مشروع أشمل يستهدف تفكيك العروبة الحضارية في المنطقة. وهو ما يتقاطع مع موجة متنامية من محاولات صناعة هويات محلية ضيقة، بهدف تقويض الفضاء العربي الجامع، وتفكيك أدوات مقاومته الحضارية والثقافية.
وهنا تبرز الحاجة إلى إعادة تحرير التاريخ من القراءة الجينية الاختزالية. وإحياء القراءة الحضارية التراكمية لتاريخ المنطقة. ومواجهة الاستعمار المعرفي الجديد عبر مراكز بحث عربية مستقلة.
المراجع
1. David Reich et al., "Genetic history of Mediterranean populations", Nature, 2025.
(ديفيد رايش وآخرون، "التاريخ الجيني لشعوب البحر الأبيض المتوسط"، مجلة نيتشر، 2025).
2. Edward Said, "Orientalism", Vintage Books, 1978.
(إدوارد سعيد، "الاستشراق"، كتب فينتاج، 1978).
3. Michel Foucault, "Power/Knowledge: Selected Interviews and Other Writings", 1980.
(ميشال فوكو، "السلطة/المعرفة: مختارات من الحوارات والكتابات"، 1980).
4. Eve MacDonald, "Carthage: A New History of an Ancient Empire", forthcoming.
(إيف ماكدونالد، "قرطاج: تاريخ جديد لإمبراطورية قديمة"، سيصدر لاحقًا).
5. Albert Hourani, "A History of the Arab Peoples", 1991.
(ألبرت حوراني، "تاريخ الشعوب العربية"، 1991).
#عزالدين_بوغانمي (هاشتاغ)
Boughanmi_Ezdine#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟