أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عزالدين بوغانمي - حدث 25 جويلية، صراع الإرادات: بين استئناف المسار الثوري، وإعادة ترميم ائتلاف الطبقات المهيمنة















المزيد.....

حدث 25 جويلية، صراع الإرادات: بين استئناف المسار الثوري، وإعادة ترميم ائتلاف الطبقات المهيمنة


عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)


الحوار المتمدن-العدد: 8330 - 2025 / 5 / 2 - 20:11
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


مساء الخير

اليوم أريد التكلّم مع أنصار السّلطة، وتطوير النقاش معهم حول بعض المسائل المهمّة التي تساعدنا على التمييز بين عدّة أمور ملتبسة في أذهان الناس:

التمييز بين المعارضين لسلطة قيس سعيد، وبين المجرمين الذين وصلوا للسلطة سنة 2011، والتفّوا على دمّ الشهداء، وخرّبوا الثورة والدولة معا.

التمييز بين 25 جويلية كحدث شعبي فتح إمكانية استئناف المسار الثوري وتحقيق مطالب الشعب، التي عبّرت عنها حركة الثورة والتغيير 17 ديسمبر 14 جانفي.
وبين 25 جويلية الذي مثّل فُرصة لبيروقراطية الدّولة في استعادة نفوذها، وضبط معايير توزيع السلطة والمنافع على مختلف شرائح الطبقات المهيمنة.
وبين إرادة سرطان الجهاز السرّي الذي زُرع في مفاصل الإدارة على امتداد عشر سنوات. والذي يقاوم لإفشال الدولة وتخريبها.
وبين رئيس الجمهورية الذي وصل إلى قصر قرطاج بإرادة شعبية، وبشعار استئناف مسار الثورة. ولأنه بلا حزب سياسي ولا مشروع حكومي، فشل في فرض إرادته على بيروقراطية الدولة. بل أنّها ابتلعته وحوّلته إلى مجرّد خطاب انفعالي لا تأثير له.

من الأهمية بمكان تمييز هذه الأمور على نحو دقيق، لأنّ هنالك توجّه سخيف لوضع الجميع في سلّة واحدة، وخلط الأمور والأحداث والإرادات، بما جعل كلّ شيء غامض. وجعل الكلّ ضدّ الكلّ.

ومن البداية، ورفعًا لأيّ التباس، وحتّى لا أُتّهم ب"الوُقوف على الرّبوة"، أُعلن أنّي لستٍ محايدًا في الاتجاه العام. ولكنّي أحتفظ بحقّي في الاختلاف حتى مع الذين أشترك معهم في هذا الاتجاه العام.
أنا مع دستور 2022. ولست ضدّه. ومشكلتي مع السلطة السياسية ليست حول حدث 25 جويلية، بل مع تلاه. ومع عدم التزامها بتطبيق دستور البلاد. وفي هذا السياق، سأعرض في هذه الورقة بعض فصول الدستور، ونبحث عن مضامينها في سياسة الدولة، حتى نكون دقيقين ما أمكن. ولست أطالب بالنتائج وحسب، بل أطالب بالتّخطيط الذي يبيّن أنّ الدولة تسير في اتجاه تحقيق الأهداف الواردة في الدستور:

الفصل السابع والسّبعون:
تضبط التوجّهات التنمويّة في مخطّط التنمية الذي تقع الموافقة عليه بقانون.

سؤالي: أين مخطط التنمية؟
الجواب: ليس هنالك مخطط للتنمية.

الفصل المائة وإحدى عشر:
تسهر الحكومة على تنفيذ السياسة العامة للدولة طبق التوجّهات والاختيارات التي يضبطها رئيس الجمهورية.

السؤال: هل هنالك وثيقة تضبط السياسة العامة للدولة؟
الجواب: لا

الفصل الثّامن والأربعون:
على الدولة توفير الماء الصالح للشراب للجميع على قدم المساواة، وعليها المحافظة على الثروة المائية للأجيال القادمة.

السؤال: هل هنالك خطة لإنهاء فضيحة العطش في المزّونة وغيرها؟
الجواب: بصدق لا أعرف. وإذا موجودة، تفضّلوا بالإجابة.

الفصل السادس والأربعون:
العمل حقّ لكل مواطن ومواطنة، وتتخذ الدولة التدابير الضرورية لضمانه على أساس الكفاءة والإنصاف. ولكلّ مواطن ومواطنة الحق في العمل في ظروف لائقة وبأجر عادل.

هل هنالك برامج تشغيل واضحة ضمن رؤية وطنية متفق عليها، تشارك في إعدادها هياكل الدولة: رئاسة الحكومة ووزارة التشغيل ووزارة الاقتصاد، بالشراكة مع القطاع الخاص، مؤسسات الوظيفة العمومية، البنوك، الاتحاد العام التونسي للشغل، اتحاد الأعراف والمجتمع المدني؟
هل هنالك وثيقة رسمية تُحدَّد فيها أهداف سياسة التشغيل وآلياتها، ومجالات التدخل، مرفوقة بتشريعات وأوامر تضمن تنفيذها الفعلي بتوافق كل الأطراف المعنية، في إطار التزامات مشتركة، وبرنامج زمني مضبوط؟
الجواب: لا يوجد شيء من هذا.

الفصل الثّالث والأربعون:
الصحّة حقّ لكل إنسان. تضمن الدولة الوقاية والرعاية الصحية لكل مواطن، وتوفّر الإمكانيات الضرورية لضمان السلامة وجودة الخدمات الصحية. تضمن الدولة العلاج المجاني لفاقدي السند ولذوي الدخل المحدود.

هل هنالك مخطّط لإصلاح قطاع الصحة؟
الجواب: لا يوجد مخطط لذلك.

الفصل السابع والثلاثون:
حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة. لا يجوز ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات.

[هذا موضوع في غاية الأهمية، له علاقة بغياب روح السياسة التي تستطيع التّمييز بين حرية التعبير، والإساءة لرموز الدولة. سأعود عليه في خاتمة هذه الورقة].

الفصل الثامن عشر:
على الدولة توفير كل الوسائل القانونية والمادية للعاطلين عن العمل لبعث مشاريع تنموية.

هل توجد خطة مكتوبة لدى رئاسة الحكومة لبعض مشاريع تنموية؟
الجواب: لا توجد أي بادرة، عدا موضوع "الشركات الأهلية" الذي لا يبدو أنه برنامج قادر على حلّ مشكلة البطالة المتزايدة باطّراد.

الفصل السادس عشر:
ثروات الوطن ملك للشعب التونسي، وعلى الدولة أن تعمل على توزيع عائداتها على أساس العدل والإنصاف بين المواطنين في كل جهات الجمهورية.

هذا هو السؤال الأكبر والأخطر، وهو محور الصراع الحقيقي بين الشعب من جهة وجميع الحكومات المتعاقبة، بما في ذلك الحكومة الحالية.
هل هنالك خطة حكومية لإنهاء احتكار عدد من العائلات لـ 80% من القطاعات الاقتصادية الحيوية بما يُعيد الحياة للاقتصاد ويفتح مجالًا لمعالجة العاهات المزمنة كالتشغيل، وتوزيع الثروة، والميزانية العمومية؟

ودون ذكر العائلات، هل للدولة برنامج لإعادة النظر في احتكار قطاع النفط، الصناعات الدوائية، المواد الغذائية، القطاع المصرفي، التأمين، الإيجار المالي، تجارة السيارات، الشاحنات والآلات الثقيلة، الصناعة الإلكترونية، صناعة الجلد، تجارة المواد الإعلامية، العقارات، الإعلام، والقطاع الزراعي؟

هل هنالك خطة للحدّ من تغوّل الطبقة البرجوازية الطفيلية، ومركزتها الفاحشة للثروة والسلطة، وبذلك عطّلت مبدأ المنافسة العادلة، وقلّصت فرص الاستثمار لفائدة المؤسسات الصغرى والمتوسطة، وساهمت في تعميق البطالة وغياب العدالة في توزيع الثروة، ورهنت الدولة للمؤسسات المالية العالمية؟
هل وضعت حكومة الرئيس مخططًا لضرب الاقتصاد الرّيعي المغلق الذي جوّع الشعب، وخرّب الميزانية العمومية، وفاقم الفوارق الجهوية والاجتماعية، وقوّض كل إمكانية لتغيير منوال التنمية على نحو يسمح، باستعادة الشعب لمقدراته وعث برامج حقيقية للتنمية والتشغيل؟

الجواب: لا طبعًا، لأنّ هذه المهام تتطلّب حكومة سياسية عندها خلفية اجتماعية. ولا يمكن للأجهزة الأمنية كجزء من بيروقراطية الدولة أن تقوم بهذه المهمة. فبيروقراطية الدولة شريحة طبقية مرتبطة بألف حبل وحبل، على امتداد سبعين عاما، بالطبقات المسيطرة على اقتصاد تونس وسياستها. بل لعلّها العمود الفقري للحكم وتوزيع المنافع والوظائف وتنظيم عملية السيطرة عبر القوانين والأجهزة الصلبة.
ولذلك نرى الأجهزة الأمنية توجّه الرئيس للمطحنة في الدهماني، لِبقيّة جرّار ومحاريث فاسدة في هنشير الشعّال، لِعطّار في واد الليل خبّأ طنّ من العدس... وهلم جرّا.

الفصل المائة:
رئيس الجمهورية يضبط السياسة العامة للدولة ويحدّد اختياراتها الأساسية ويعلم بها مجلس نواب الشعب والمجلس الوطني للجهات والأقاليم. وله أن يخاطبهما معًا إمّا مباشرة أو عن طريق بيان يوجّه إليهما.

أين هي السياسة العامة؟
هل عندكم وثيقة مكتوبة؟
هل تكلّم بها الرئيس لمجلس نواب الشعب ومجلس الجهات والأقاليم؟

لقد سمعنا شعارات: الاعتماد على النفس، محاربة الفقر، محاربة الاحتكار، استعادة الأموال المنهوبة... وهذه لا يمكن اعتبارها سياسة عامة للدولة.

الآن، ننظر إلى المحكمة الدستورية.
ماذا يقول الدستور؟
وما هي أهمية المحكمة الدستورية في قوة الدولة ومكانتها؟
وما هي مخاطر غياب المحكمة الدستورية على استقرار البلاد؟

الفصل المائة وتسعة:
عند شغور منصب رئيس الجمهورية لوفاة أو لاستقالة أو لعجز تامّ أو لأيّ سبب من الأسباب، يتولى رئيس المحكمة الدستورية فورًا مهامّ رئاسة الدولة بصفة مؤقتة لأجل أدناه خمسة وأربعون يومًا وأقصاه تسعون يومًا.

الفصل المائة السابع والعشرون:
تختص المحكمة الدستورية بالنظر في مراقبة دستورية القوانين.

المعاهدات التي يعرضها رئيس الجمهورية قبل ختم قانون الموافقة عليها.

القوانين التي تحيلها عليها المحاكم إذا تمّ الدفع بعدم دستوريتها.

النظام الداخلي لمجلس نواب الشعب والنظام الداخلي للمجلس الوطني للجهات والأقاليم.

إجراءات تنقيح الدستور.

مشاريع تنقيح الدستور للبتّ في عدم تعارضها مع ما لا يجوز تنقيحه حسب ما هو مقرّر بهذا الدستور.

الفصل المائة والتاسع والعشرون:
ينص قرار المحكمة على أنّ الأحكام، موضوع الطعن، دستورية أو غير دستورية، ويكون قرارها معلّلا وملزما للجميع. وينشر بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية.

السؤال: أين المحكمة الدستورية؟
الجواب: المحكمة الدستورية معطّلة. والفصول المتعلقة بها والتي نقلتها حرفيا من نص الدستور كافية لتشرح بكل وضوح مخاطر غيابها.

الاستنتاج:
هذه مآخذنا على السلطة. وكما تلاحظون، المشكلة ليست مع الدولة. بل مع الإساءة للدولة. وكلّ الملاحظات التي سيقت حول عدم تطبيق الدّستور، فيها ضرب لجدية الدولة وسمعتها، وفي صورتها التي تصل للمواطن، وتصل للعالم. وليست لنا مشكلة مع الرئيس حين أطاح بحركة النهضة الإرهابية وأضعف نفوذها خاصة في مؤسستي العدالة والأمن. بل مشكلتنا في كونه لا يملك رؤية سياسية، ولأنه حذف السياسة نهائيا، بسبب عدائه للأحزاب، وعزله لنفسه، ممّا جعله أعزلا بيد الأجهزة التي تشتغل في اتجاه مختلف وأهداف مختلفة عن الأهداف التي انتخبه من أجلها الشعب.
دليلي على ذلك هو التّناقض الذي نشاهده منذ 2019، بين خطاب الرئيس، وما تُمارسه السلطة في الواقع.

هذا علاوة على الممارسات الاعتباطية الناجمة عن قيادة الأجهزة الأمنية للدولة دون مرجع سياسي. وما يمكن أن ينجرّ على ذلك من قرارات غريبة عجيبة، كأن يُحال "كيسنجر" كمُتّهم في قضية التآمر. وكأن يُتّهم طفل مُختل عقليًا بالإرهاب...

لماذا وصلنا إلى هذا المستوى؟
لأنه، كما كتبت في مقال سابق، الإدارة لوحدها دون توجيه سياسي تتحول إلى كارثة. وعلى سبيل المثال لا يمكن لأي دولة حديثة أن تُدار بوسائل أمنية بحتة، إذ يُفترض في السلطة السياسية أن تحسن قراءة الوقائع والمعطيات، وتعيد توزيعها ضمن رؤية وطنية مٍتّزنة. لكن حين تغيب السياسة، وتستأثر الأجهزة الأمنية بمفاصل القرار، تُدفع الدولة إلى ممارسات ارتجالية تضر بجدية مؤسساتها، وتُسيء إلى علاقتها بشعبها.

لماذا يجب التّشديد على هذه المسألة؟
لأن الأجهزة الأمنية لها دور وظيفي محدود، لا يتعدّى جمع المعلومات، وتقديمها للسلطة التنفيذية. لا تستطيع، بحكم الاختصاص وبحكم العقلية البوليسية، ليس من مشمولاتها أن تفعل أكثر. وهذه المعلومات في حدّ ذاتها، لا يمكن بأيّ حال من الأحوال تحويلها آليًّا إلى قرارات سياسية تنفيذية، وإنما هي مادة أولية ينبغي أن تُفحص سياسيًا واستراتيجيًا، لتمييز ما يستحق المتابعة مما لا أهمية له.

وحين يتحوّل التقرير الأمني إلى قرار تنفيذي، بحيث تتصرف السلطة استنادًا إلى تقارير أمنية خام، دون تأويل سياسي أو تمحيص، تقع الدولة في المحظور. فالكثير من التقارير يتضمن تهويلًا أو تأويلًا من زاوية أمنية ضيقة. وهنا يُصبح القرار الرسمي انعكاسًا لفهم أمني محدود، لا لرؤية سياسية شاملة.
وهنا أفتح قوسًا بسيطًا لأضرب مثلا مجرّدًا لا علاقة له بأي حادثة جدّت في الواقع:
أمام مشهد لقاء في مقهى في البحيرة أو في الحمامات أو في حلق الواد لعدد من الأمناء العامين لأحزاب مختلفة في التوجّه ومتنافسة على الحكم، لا يمكن لِرجل الأمن أن يفهم هذا المشهد إلّا من زاوية نظر أمنية تفرض عليه طرح أوّل سؤال: "أمن الدولة". وهذا ليس غريبا.
أما رجل الدولة الذي يرى معارضيه مجتمعين رغم خلافاتهم، فإن أوّل سؤال يمكن أن يطرحه على نفسه يتلخص في "مدى نجاعة سياسة الدولة.
وفي الوقت الذي يتمنى فيه الشرطي أن يعتقلهم لمعرفة ما الذي جمعهم. قد يسعى رجل الدولة إلى احتواء جزء منهم عبر الحوار.

ولهذا السبب، عندما يغيب السياسي. ويُترك الأمني وحده يواجه الأوضاع، تشرع السلطة في ضرب هيبة الدولة، وتصبح خطرًا عليها.

لقائل أن يسأل: وكيف تصبح السلطة خطرا على الدولة؟
يحدث ذلك لمّا تتوسع الاعتباطية في اتخاذ قرارات متسرعة على أساس وقائع معزولة. ويصبح من السهل التعامل مع الرأي المخالف كـ"خطر أمني" بدلًا من فهمه على أنه "اختلاف سياسي". وهذا ما يُفسّر بعض الممارسات الماسّة من الحريات العامة.

وبهذا المعنى. تضعف الثقة العامة في الدولة، لما يدرك المواطن أنها تتحرك بمنطق أمني صرف. ويسهل تشويه صورة الدولة خارجيًا، إذ تُصنَّف باعتبارها قمعية فاقدة للحكمة.

وحتى تكون الصورة واضحة للجميع، سواء أنصار السلطة أو معارضيها. عندما نتكلّم على ضرورة وجود حكومة سياسية واعية بالأوضاع، وعندها مخطط يضبط قرارها، هذا لا يعني التقليل من قيمة العمل الأمني، بل يعني وضعه في حجمه الطبيعي. ذلك أن الإدارة لا يمكنها بناء قراراتها على التقارير الأمنية وحدها، بل تستأنس بها ضمن رؤية أوسع تحمي الدولة والمجتمع معًا. ولهذا السبب كلما غابت السياسة، وتمدّد النفوذ الأمني خارج حدوده الوظيفية، وجدت الدولة نفسها تتصرف على نحو اعتباطي، وتفقد احترام مواطنيها والعالم. وما من دولة تستقر أو تنجح إلا بقيادة سياسية متحكمة بالأوضاع، تستفيد من تقارير الأمن، لكنها تحكم بالعقل السياسي، لا بعين الأمن.

كلمة لأنصار السلطة:
لكل هذا الذي سردته عليكم بكل تجرّد وموضوعية، أعتقد أن الذين يعتبرون أنفسهم أوصياء على مسار 25 جويلية. ويتصرّفون بولاء أعمى كامل للسلطة القائمة. ومتأهّبون في كلّ لحظة للهجوم على النّاس وتشويههم بسبب معارضتهم للرئيس، عليهم أن ينتبهوا أن هذه السلطة ليست كلها شيئا واحدا اسمه "رئيس الجمهورية". بل هي بيروقراطية إدارية ظلت جزء من النظام لعقود طويلة، تسعى لإعادة السيطرة من جديد. وهي أجهزة متعوّدة على التحرّك ضمن نظام ائتلاف طبقي لا يمكن القفز عليه. وهي بقايا حركة النهضة في جميع مفاصل الإدارة ولها أجنداتها وأهدافها. وهي قضاء لا يمكن أن يتعافى بسهولة، ويتحول إلى قضاء مثالي بقرار من وزيرة العدل، أو بأمر من رئيس الجمهوريّة. وعلى رأس كل مكوّنات هذه السلطة، وفي قمّتها عندنا رئيس جمهورية مجرّد من السياسة بكل ما تعنيه عبارة التجريد من معنى. ويرفع شعارات الإصلاح كلّ يوم، على نقيض إرادة بقية مكوّنات السلطة الأخرى.
التمييز مهم، لأنه يعفينا من خلط الأبيض والأسود والحلال والحرام. ويُخلّصنا من الحَوَل الذي يجعلنا لا نُفرّق بين المجرم والمعارض.
أقول قولي هذا لأنّ أغلبية هؤلاء، لأنهم أخفقوا في التمييز بين الأمور، صاروا لا يختلفون في شيء عن ذلك الجهاز الإعلامي الذي بنته حركة النهضة أيام حُكمها لتشويه الناس. ويغفلون على أن الشعب التونسي اليوم، صار يعرف بالأدلّة جرائم هتك الأعراض التي ارتكبتها النهضة من أجل البقاء في الحكم بأيّ ثمن. تتذكّرون كيف كانت جريدة الضّمير تصف المرحومة مية الجريبي ب"حمّالة الحطب"، ونجيب الشابي ب"الشيخ العميل لفرنسا"، ونجيبة الحمروني "العمياء المُصابة بالحول"... والتشويهات التي طالت الجميع بلا استثناء، بما في ذلك قيادات النهضة الذين استقالوا منها. والجرائم المالية والاستيلاء على الأملاك المصادرة ... وغيرها من الجنايات التي ارتكبت في حقّ الدولة والوطن والشعب. والتي لم تعد تحتاج إلى قرائن إثبات لأنّ صفحات الفاسبوك وقنوات اليوتوب التي كشفت تلك الأسرار، كانت تشتغل عند النهضة. وقد توصّلت الأبحاث إلى أن ميزانياتها كانت تُصرف من مكتب مُعاذ الغنوشي. ثم انقلبت وفكّت ارتباطها بمونبليزير بعد 25 جويلية لتؤثّث جزء من المشهد الإعلامي الموالي للسلطة اليوم.

القصد من كلّ هذا، أن السلطة، كما قلت، ليست شيئا واحدا منسجما منحازا للشعب. وأنّ سياسة خلط الأمور، واستسهال تخوين الناس وتجريمهم دون تمييز بمجرّد معارضتهم لسياسة السلطة، هي سياسة لا تبني شيئا. ولن تؤدّي إلّا لتعفين الأوضاع، وإثقال كاهل السلطة التي يدافع عنها أنصارها بالتجاوزات، وتشويه صورة الدولة، ومزيد تخريب المشهد السياسي والإعلامي.

وأخيرًا: كلمة لكلّ مبتوري الذاكرة، عديمي الذّوق، وكلّ الدُّمى التي لا تعرف حتى من يُحرّكها، وتشتغل خمّاسا عند مجهول. هؤلاء الذين يتّهمون الوطد، على غير دراية ولا فهم. ويشتغلون ليلا نهارا على تشويه أبرز قادة معركة تحرّر الشعب ومقاومة الظلامية والفساد، نقول لهم: مشروعنا يتناقض مع مشروع الأجهزة والدولة العميقة. وأقدم من قيس سعيد، وسيظل قائمًا بعده. قرأنا حدث 25 جويلية فرصة لاستئناف مسار الثورة، ورهانا على تطوّر الصراع لصالح التغيير، بضرب معاقل النظام الطبقي وأُسسه القائمة على اقتصاد الرّيع، وسيطرة الكمبرادور على مقدرات تونس، وارتهان الدولة للخارج.
هذه معركتنا، ومبرّر وجودنا داخل مسار 25 جويلية، الذي هو ساحة صراع حقيقي بين مشروع وطني شعبي من جهة، ومشروع الدولة العميقة والقوى الطبقية التي تمثلها من جهة أخرى. وكنا نسعى لجرّ رئيس الجمهورية لوضع برنامج سياسي عقلاني واضح ومكتوب، يُعبّر عن إرادة التوانسة الذين ساندوه ووقفوا في صفّه. وحتى لو فشلنا، وانتهى رئيس الجمهورية إلى التعبير عن إرادة الأجهزة في سعيها لإعادة ترميم النظام القديم. فهذا أهمّ ألف مرّة من الاصطفاف مع القيادة المجرمة لحركة النهضة التي أطلقت عليكم الرصّاص. أو الاصطفاف مع ألوية البرجوازية الرثّة التي لا تُعادي نظام المخازنية والدولة العميقة، وإنما تحصر معركتها ضد شخص الرئيس فقط، لأن النظام نظامها وأداتها، وهي تسعى لاستعادة نفوذها فيه وترميمه والمحافظة عليه وضمان استقراره واستمراره. ولا تسعى أبدًا لتغييره..



#عزالدين_بوغانمي (هاشتاغ)       Boughanmi_Ezdine#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العلم والسلطة: تفكيك العروبة الحضارية في شمال إفريقيا والشرق ...
- القانون الدولي بين مبدأ عدم التدخل، ومسؤولية الحماية: آليات ...
- إضاءات حول المعتزلة
- آثار الدّعاية -الإسرائيلية- في الخطاب اليومي
- حول العبارة الخاطئة المنسوبة لكارل ماركس -إياكم والمساومة عل ...
- في إنكار دوغمائية اليسار
- الأزمة السياسية في تركيا وصراع البرجوازية الحاكمة
- وثيقة موجهة إلى رئيس الجمهورية: من الغضب إلى الفعل، ومن الخط ...
- عنوان الحرب هو التطهير العرقي. وليس استرداد الرّهائن
- زلزال سياسي في تركيا: بين اهتزاز شرعية أردوغان وصعود المعارض ...
- دعوة للارتقاء بالنّقاش وإخراجه من دائرة القدح العشوائي.
- مَن يقود الشرق الأوسط، لا بدّ له من السيطرة على سوريا
- سوريا في بيئة ملتهبة بالصراعات الدولية والإقليمية
- وتستمر المعركة بين الدم والغطرسة
- مفاعيل الإبادة الجماعية، وبداية تفكك الأبارتهايد الصهيوني
- المعارضة التونسية ستندثر إذا لم تُعيد تعريف نفسها وتتصالح مع ...
- مسار تغيّر النظام الدولي ودلالات صعود اليمين المتطرّف في فرن ...
- اليسار يحتاج تنظيما جديدا
- سوق التّجارة بمعاناة اليهود في أزمة كساد خانقة.
- نهاية رواية مُزوّرة!


المزيد.....




- -صليت وسط الأنقاض-.. علي شمخاني مستشار مرشد إيران يكشف ما حد ...
- كيف أحبطت قطر هجوم إيران على -العديد- أكبر قاعدة أمريكية في ...
- سي إن إن: هكذا أحبطت قطر الهجوم الإيراني على قاعدة العديد
- مراسل فرانس24 في طهران في قلب مراسم تشييع قتلى الحرب بين إسر ...
- ترامب: محاكمة نتنياهو تعيق قدرته على التفاوض مع إيران وحماس ...
- موجة حر شديدة تضرب جنوب أوروبا، فهل تغيّر طقس القارة العجوز؟ ...
- Day at the Races 789club – Cu?c ?ua t?c ?? m? màn chu?i th?n ...
- عاجل | وزير الخارجية الفرنسي: نعتزم مع شركائنا الأوروبيين ال ...
- العقوبات تتجدد.. هل تنجح أوروبا في كسر شوكة بوتين؟
- فيديو.. عامل معلق رأسا على عقب في الهواء بعد صدمة مفاجئة


المزيد.....

- كذبة الناسخ والمنسوخ _حبر الامة وبداية التحريف / اكرم طربوش
- كذبة الناسخ والمنسوخ / اكرم طربوش
- الازدواجية والإغتراب الذاتي أزمة الهوية السياسية عند المهاجر ... / عبدو اللهبي
- في فوضى العالم، ما اليقينيات، وما الشكوك / عبد الرحمان النوضة
- الشباب في سوريا.. حين تنعدم الحلول / رسلان جادالله عامر
- أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب ... / بشير الحامدي
- الحرب الأهليةحرب على الدولة / محمد علي مقلد
- خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية / احمد صالح سلوم
- دونالد ترامب - النص الكامل / جيلاني الهمامي
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4 / عبد الرحمان النوضة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عزالدين بوغانمي - حدث 25 جويلية، صراع الإرادات: بين استئناف المسار الثوري، وإعادة ترميم ائتلاف الطبقات المهيمنة