عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)
الحوار المتمدن-العدد: 8348 - 2025 / 5 / 20 - 01:36
المحور:
المجتمع المدني
منذ عقود الأموال الأجنبية حولت معظم المنظمات غير الحكومية من أدوات تحرر اجتماعي إلى أدوات مكمّلة للمشروع الإمبريالي والنيوليبرالي، مما ساهم في إضعاف الحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية ذات الخلفية الاجتماعية
في مواجهة تصاعد السخط الشعبي في عقد الثمانينيات، اتبعت القوى النيوليبرالية استراتيجية مزدوجة: من الأعلى، تفكيك دولة الرّفاه عبر التقشف والخوصصة، ومن الأسفل، تمويل منظمات "مناهضة للدولة" لاحتواء الحركات الاجتماعية وإحداث شروخ وقروح داخلها بغاية تفتيتها وإضعافها.
فعلى الرغم من بداياتها الحقوقية والإنسانية التقدمية، نجح رأس المال في اختراقها حتى أصبحت هذه المنظمات أدوات بيد الحكومات النيوليبرالية والمؤسسات الدولية، تمرر سياسات اقتصادية واجتماعية جائرة تحت شعار "مناهضة الدولة"، وتُحمّل المجتمعات عبء الخدمات الاجتماعية بدلاً من الدولة.
عبر الأموال تمّ توظيف هذه المنظمات، بطرق مباشرة واعية، أو غير مباشرة وغير واهية، على استقطاب القادة والنشطاء المحليين ضمن مشاريع ضيقة، مما يُضعف النضال الاجتماعي المنظم ويُفرغ الحركات العمالية الثورية من طاقاتها.
في إعادة إنتاج الهيمنة الإمبريالية، تُمَوَّلُ المنظمات غير الحكومية من الخارج لِربط المجتمعات بالمؤسسات النيوليبرالية مباشرة بدلًا من الدول، بغاية إفقادها التحكّم في جزء مهم من المصلحة العامة، التي تمثل إحدى مبرّرات قيامها. بحيث تعتمد هذه المنظمات على تمويل أجنبي لا يخضع لمحاسبة المجتمعات المحلية، مما يضرب وحدانية قرار الدولة ومسؤوليتها على المجال العمومي، ويُفرغ مفهوم السيادة من محتواه الاجتماعي والسياسي.
ولأن الأموال الكثيرة جذّابة، فإن هجرة القادة المحلّيين المتميّزين من المعركة الطبقية إلى المعركة الحقوقية، يُسبّب نزيفا وتقهقرا في الإمكانيات البشرية للعمل السياسي اليساري باعتباره عملا تطوّعيا نضاليا. وهذا ما يفسّر انكماش الأحزاب السياسية أمام تعاظم المجتمع المدني المُموّل. وربّما هذا ما يُفسّر تصريح الدكتور خليل الزاوية الأخير، حين تكلّم بتلقائية وحسن نيّة، كون الأحزاب قرّرت وضع المجتمع المدني في واجهة المعركة. والحقيقة أن المسألة تتجاوز "قرار الأحزاب" إلى حقيقة ضُعف الأحزاب، مقابل الطّاقة الشبابية داخل الجمعيات والمنظمات.
وتتنافس المنظمات والجمعيات على التمويل، وتحوّل الانتباه عن الأسباب البنيوية للفقر نحو مبادرات فردية، مما يؤدي إلى تفكيك التضامن المجتمعي، وإضعاف الحركات الاحتجاجية التي تستهدف الهيمنة الأجنبية وعلاقات الاستغلال والعمل الهش والبطالة والتهميش. وتكرّس تبعية ثقافية مدروسة للنموذج النيوليبيرالي، حتى دون وعي ولا انخراط مبرمج من نشطاء الجمعيات المدفوعين للشارع خوفا على الحريات.
رغم الممولين الواقفين وراء الجمعيات، تظهر بعض المنظمات التقدمية التي ترفض التمويل الأجنبي، وتربط قضايا الحقوق والحريات بالقضايا الوطنية الكبرى، داعية إلى استعادة سيادة الشعب على المقدرات الاقتصادية والقرار السياسي.
التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني، وأبعاده الاستراتيجية
الدول الكبرى ليست جمعيات خيرية. ولا تعطي الاموال للّه في سبيل الله. وليس من الصّعب الاقتناع أنها دول متوحشة، إذ يكفي تأمّل تشجيعها وتبريرها وإشرافها على مذبحة الأطفال في غزة. وبالتالي لا يمكن فهم التمويل الأجنبي للمنظمات الحقوقية والسياسية خارج سياق المصالح الدولية. فالتمويل يشكل جزءاً من لعبة التنافس على النفوذ.
تتخذ عمليات التمويل أشكالًا متعدّدة، من منح مباشرة، ودعم برامج تدريبية، وتمويل أبحاث، إلى تبرعات للمراكز الدينية وإعانات مالية موجّهة. وتُدار هذه الأموال عبر مؤسسات حكومية، وشبه حكومية، وجمعيات أهلية تحمل أجندات متنوعة.
والمفارقة التي لا تكشف النّوايا والأهداف الغربية، هي أن هذه الأموال لا تُوجَّه لإصلاح الخلل البنيوي العميق في اقتصاديات دول الجنوب، ولا لإنقاذها من دوامة الديون وهشاشة البنى الاقتصادية، بل تُنفق بسخاء على جمعيات محلية وأهلية، تحت يافطة التنمية وحقوق الإنسان. والحقيقة أن هذا التمويل ليس تعبيرًا عن عطفٍ على شعوب الجنوب، بقدر ما هو أداة من أدوات التّحطيت المعنوي، والسيطرة الناعمة وتفكيك مقدّراتها الثورية، وتعطيل قدرة هذه المجتمعات المستهدفة على بناء مشروع وطني استقلالي يستجيب لاحتياجات الناس في العيش الكريم.
.
لم يعُد خافيًا أن منظمات المجتمع المدني تمّ إفسادها بالتمويل، حتى أنها لم تعد فاعلة كأدوات للتحرر الاجتماعي بقدر ما أصبحت أدوات للهيمنة النيوليبرالية، تُدار من الخارج لتفكيك النضالات الشعبية، وتخدم مصالح الرأسمال العالمي واقتصاد السوق.
عشرات "المنظمات العالمية" المُموّلة هي في الحقيقة أذرع للسياسة الخارجية الأمريكية ومرتبطة بوكالة المخابرات المركزية. تشتغل ضد الدول المعارضة للولايات المتحدة، ولا تنطق بكلمة واحدة ضد الولايات المتحدة. فهي تنتقد بشكل مفرط خصوم المُموّل. وتتغاضى عن جرائم الأنظمة المؤيدة له. ومهما نزّهنا نشطاء المجتمع المدني في بلادنا لأننا نعرفهم، فلا يمكننا الاطمئنان لِنوايا الجهات المانحة. فهذه العلاقة تحمل أجندات خاصة وليست بريئة الغايات.
ونحن نلاحظ بالعين المجردة مساهمة هذه الجمعيات في تراجع دور الأحزاب السياسية، بسبب جاذبيتها الواضحة مقارنة بالأحزاب التي تُتهم بالتكلس.
هذا علاوة على الاعتقاد الواسع في أوساط إعلامية وأكاديمية أن هناك اختراقات واسعة لمنظمات المجتمع المدني، وأن التمويلات الأجنبية مشبوهة وتخدم أغراضا استخباراتية. حتى أن هنالك من تحدث عن دور الموساد في إحدى البلدان العربية. واصفا هذه البلاد بأنها "حديقة سرية للمخابرات الإسرائيلية في المنطقة". وهنالك من ذهب إلى القول بأن بعض التمويلات تُستخدم كغطاء لأهداف استراتيجية من قبل الدول الكبرى في شمال إفريقيا بما في ذلك الكيان الصهيوني.
تشمل مجالات التمويل والتّمويه، تدريب قادة شباب، دعم الإعلام المفتوح، تقوية النقابات، التعليم البديل، دعم القضاء المستقل، توحيد المعارضة السياسية، تدريب اللجان الانتخابية، التربية على المواطنة، حل النزاعات، حقوق الإنسان، تمكين الجمعيات، وغيرها.
وتكشف وثائق مسربة حديثا، كيف أدارت الولايات المتحدة، خلال العقود الأربعة الماضية، تمويلات ضخمة لتقوية مؤسسات ديمقراطية ووسائل إعلام ومنظمات غير حكومية في دول عديدة، بهدف تقويض أنظمتها المعادية، (يوغوسلافيا السابقة مثالا).
وفي اجتماع لجنة الأمم المتحدة للحقوق والحريات، تساءل ممثلو بعض الدول:
لماذا تغفل تقارير هذه المنظمات الدولية عن انتهاكات حقوق الإنسان من قبل إسرائيل وأمريكا رغم توثيق الانتهاكات بالصورة والصوت؟
أما المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي، فقد اعتبر "الجمعيات الممولة من جهات أمريكية تنتقد بشكل مفرط الدول المعارضة لأمريكا وتتغاضى عن الأنظمة التي تدعم المصالح الأمريكية، لأنها في الحقيقة ذراع للاستخبارات الأمريكية. وهي تخضع بالكلية لأجندات خاصة، تمس بسيادة الدول، ومعظمها مكلف بالتشهير بالقوى التي لا تلتزم بالخط الممول".
وربما هذا ما يُفسّر الحقد والعنف والهجوم الهستيري على أيّ حزب أو شخصية ترفض الانخراط في لعبة "النضال المأجور" .
لعلّ أخطر ما يمكن التذكير به في الحوصلة بخصوص التمويل الأجنبي، هو أنه:
يساهم في تجفيف المنابع البشرية للأحزاب السياسية، حيث ينتقل القادة والنشطاء المتميّزين إلى منظمات المجتمع المدني لأنها توفر لهم دعمًا ماديًا أفضل وظروف نشاط أسهل.
أغلب الجمعيات التي تتلقى التمويل الأجنبي تنفذ أجندات الممولين دون وعي، وتصبح أدوات لتحقيق أهداف دول أجنبية بتكاليف أقل.
التمويل الخارجي يهدد القيم المجتمعية مثل التطوع والروح الجماعية، التي كانت أساس المقاومة ضد الاستعمار والنضال السياسي من أجل التحرر والديمقراطية.
بعض منظمات المجتمع المدني لم تعد تركز على قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، بل تتّخذها مجرد واجهة للارتزاق والبحث عن تمويل وتنفيذ مشاريع مدعومة من الخارج، مما يحولها إلى مجرد أُطر لصرف الأموال.
أخيرا قائمة في أشهر الجهات المموّلة للجمعيات والمنظمات في الدول العربية
الولايات المتحدة الأمريكية:
USAID (وكالة التنمية الدولية الأمريكية) - تمويل مباشر من الحكومة الأمريكية
(المعهد الديمقراطي الوطني)يتبع الحزب الديمقراطي الأمريكي
الأميديست - تابعة للحكومة الأمريكية، متخصصة في التعليم ونشر الثقافة الأمريكية
فورد فاونديشن وجلوبال فند - مؤسسات أمريكية
كندا: سيدا (وكالة التعاون الكندية)
الدنمارك: دانيدا
فنلندا: فنيدا
النرويج: تورادا
السويد: سيدا (اسم مشابه لكن جهة سويدية)
هولندا: توفيت
إسرائيل: إسرائيل الجديدة مقرها نيويورك
ألمانيا: مؤسسات مثل كونراد أديناور، فريدريش إيبرت، فريدريش ناومن، وفريد يور (مرتبطة بالحزب الديمقراطي المسيحي الألماني)
المجالات التي يتم تمويل الجمعيات فيها
حقوق الإنسان
المرأة وحقوق الطفل
الحريات الديمقراطية
البيئة والسكان
الأسر والصحة الإنجابية
رفع سن الزواج وقوانين الأحوال الشخصية
النقابات المهنية والعمالية
التعليم وثقافة السلام
الانتخابات والكوتة النسائية
التمويل الأجنبي يأتي بموجب قرار من الكونجرس الأمريكي يدعم الجمعيات مباشرة دون المرور بالحكومة أو وزارة الخارجية.
الجهات الأمريكية البارزة في التمويل
منظمة "فورد"
مكتب "دياكونيا"
منظمة "سيجرد رواتنج"
الوكالة الألمانية للتعاون الفني
الوكالة الكندية للتنمية الدولية
منظمة "بلان الدولية"
الاتحاد الأوروبي
سفارات أستراليا، أمريكا، لاتفيا، بريطانيا، فرنسا، فنلندا
وغيرها كثير
#عزالدين_بوغانمي (هاشتاغ)
Boughanmi_Ezdine#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟