|
دولة السبعين عامًا: بيروقراطية المصالح وصراع الطبقات في تونس من الاستقلال إلى 25 جويلية وما بعده
عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)
الحوار المتمدن-العدد: 8359 - 2025 / 5 / 31 - 23:53
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لا يمكن قراءة المشهد التونسي الراهن إلّا من زاوية تاريخية تُعيد الاعتبار للبُنى العميقة التي شكّلت الدولة الوطنية الحديثة منذ الاستقلال، وللبنى السياسية الحزبية التي غلّفت مسار تطوّر السياسة في بلاظنا.
اندلعت ثورة اجتماعية عفويّة آواخر 2010، بلا قيادة ثورية ولا مشروع طبقي واضح، حرّكتها شرائح مسحوقة ضد منظومة قهر اجتماعي اقتصادي، ثم سرعان ما تمّت مصادرتها من طرف القوى الطبقية نفسها التي حكمت تونس منذ أكثر من سبعين عامًا.
وفي خضمّ هذا السياق، يجد الرئيس قيس سعيّد نفسه اليوم، بعد 25 جويلية 2021، في قلب صراع معقّد، لا مع معارضة سياسية متهالكة، بل مع مراكز نفوذ اقتصادية ومالية وبيروقراطية متجذّرة تمسك بجهاز الدولة، تشلّ أي محاولة إصلاح جدّي، وتمنع تحرّك أي مشروع وطني خارج عن منظومتها.
إنّ ما يعطّل الرئيس ليس خصومه الأيديولوجيون ولا الإعلام ولا الحركات المطلبية، بل بيروقراطية الدولة نفسها، كجهاز متغوّل، تحوّل في العشرية التي تلت الثورة من مجرد أداة لضبط التناقضات وتوزيع المنافع والنفوذ بين شرائح الطبقة الحاكمة إلى طبقة مهيمنة بذاتها، تدير التحالفات مع شبكات المصالح القديمة والجديدة لصالحها، وتخضع الجميع لإرادتها باستعمال الأجهزة، لا من موقع الأداة، بل من موقع الفاعل الأساسي والمنتقم من بقية شرائح الطبقة المهيمنة بسبب تحالفها الانتهازي مع حركة النهضة على حسابها.
هنا علينا أن نفكّك هذه المسألة حتى لا يبقى التحليل مُحاط بالغموض. في عصر الهيمنة الامبريالية على الدول الفقيرة وأسواقها واقتصادياتها المحلية، يتمّ منع تطور الرأسمالية الوطنية، وهكذا تفقد البرجوازية المحلية أساسها المادي، وتتحول إلى برجوازية كومبرادورية. ويتحوّل دورها الاقتصادي والسياسي والثقافي، لتصبح "الوساطة" دورها الاقتصادي الرئيسي، وإعادة هيكلة الاقتصاد المحلي بما يخدم مصالح القوى الإمبريالية الأجنبية دورها السياسي الرئيسي. بحيث تهيمن أقلية قليلة على معظم القطاعات المنتجة بالشراكة الإستراتيجية مع المونوبول. ويسيطر جزؤها الأدنى على قطاعات التجارة والمال والخدمات، دون أن تكون منتجة فعليًّا للثروة. وهذا ما يجعل منها بنية طبقية تتكوّن من تحالف محدّد:
1. البرجوازية الكبرادورية العليا: وهي الأقلية التي تمتلك معظم المؤسسات الإنتاجية الحقيقية وهي منظّمة، تخضع رسميًا للقوانين، تدفع ضرائب، توظف آلاف الأشخاص، ولها استثمارات دولية. وتستفيد من اقتصاد مغلق لفائدتها. وتتحكم في دواليب القرار الاقتصادي بحكم تداخل مصالحها مع مصالح رأس المال الأجنبي. وتُمارس الريع داخليًا من خلال احتكار قطاعات استراتيجية. وهي طبقة ليبيرالية معادية للدمقرطة الاجتماعية. ولها علاقة جذرية بالإدارة. وبالخارج. ولذلك فإن ضرب احتكارها للاقتصاد المغلق يتطلب نظاما ديمقرطيا يحظى بتأييد شعبي جارف وله مشروع وطني، يقوده رجال دولة حقيقيين، وهذا أحد أحلام تونس الكبرى الذي لم يتحقق بعد.
2. الوسطاء التجاريون: يمثّلون وكلاء الشركات والمؤسسات الأجنبية. يحتكرون تجارة الجملة والتوزيع. ويتحكّمون في توريد المواد الأساسية والكمالية.
3. البرجوازية المصرفية: تتحكم بالمؤسسات المالية المرتبطة بالخارج: بنوك وشركات تأمين ومكاتب دراسات. تنفّذ السياسات النقدية والمالية وفق شروط المؤسسات المالية الدولية (صندوق النقد، البنك العالمي). وتموّل المشاريع بشروط تستنزف الثروة الوطنية.
4. البورجوازية الطفيلية: تحصل على الامتيازات عبر التوريد والصفقات العمومية. تقوم جميع أنشطتها على التحيل والربح السريع والتهريب وفلسفة البزنس والرشوة والمروق عن القانون. لا تستثمر في الإنتاج بل في المضاربة والخدمات.
5. البيروقراطية النقابية الفاسدة: ولئن كانت فئة متغيّرة الأدوار ولا تدير صفقات استيراد أو استثمار مع الخارج لحساب المؤسسات المعولمة. لكنها فئة طُفيلية هي الأخرى، تنمو في صلب أجهزة الوساطة الاجتماعية لتتحول (أحيانا) من تمثيل الشغيلة إلى تمثيل البرجوازية الرثّة داخل الطبقة العاملة، متسلّحة بمقايضة الحقوق والمطالب الاجتماعية بمكاسب خاصة. وفي أغلب الأحيان تنخرط في تحالفات معقدة لحماية الامتيازات الريعية والإدارية داخل المنظومة، وهي تستظل بالبرجوازية الطفيلية لأنها تستفيد من عوائد الصفقات، الرشاوى، المنح، والامتيازات دون أن تسهم في أي تنمية وطنية حقيقية.
6. نخب إعلامية وثقافية: تسوّق النموذج الاقتصادي النيوليبرالي. تبرّر تبعية القرار الوطني لصندوق النقد والمؤسسات الأجنبية. وتهاجم كل مقاربة تدعو إلى السيادة الاقتصادية. ومكاتب دراسات وخبراء اقتصاديين "مموّلين": يقدّمون دراسات ومخططات "إصلاح" وفق أجندات المؤسسات الدولية. يتولّون تبرير السياسات التقشفية وخصخصة المؤسسات العمومية. ويستخدمون خبراتهم في دحض كلّ أطروحة لا تتماهى مع اقتصاد السوق، يعاونهم في ذلك أكاديميون كَسَبَة في مختلف الاختصاصات على تزيين فواحش الرأسمالية المتوحشة لجعلها فضائل ربّانية.
7. بيروقراطية الدولة: كبار الموظفين الإداريين، يتولّون تطبيق القوانين بما يخدم مصالح الرأسمال الأجنبي. يُفصّلون النصوص القانونية والتشريعية لتأمين الاستثمارات الأجنبية ويرتبطون بروابط وثيقة بالبرجوازية الكبرادورية العليا، وعادة ما تكون هذه الأخيرة صاحبة الحل والربط في تعيين كبار الموظفين.
عود على بدء: تهيمن اليوم بيروقراطية الدولة على القرار مستندة على وتتحكم بمصير الكلّ، بما في ذلك بقية شرائح الطبقة المتنفذة من خلال الابتزاز والضبط والانتقام من كل الشرائح التي تواطأت مع الجهاز السري على حساب الدولة.
الصراع بعد 2011: بين الإسلاميين وبيروقراطية الدولة
منذ انهيار نظام بن علي، بدا واضحًا أنّ الإسلام السياسي لم يكن قوّة مضادة للنظام القديم، بل شريكًا ظرفيًّا في إدارة توازناته. فحركة النهضة، تمّ تصعيدها بدعم البورجوازية المصرفية بتوجيه من المراكز الدولية، ودخلت المشهد ضمن قواعد اللعبة التي وضعها تحالف طبقي قديم يسيطر على الجهاز الإداري والاقتصادي للدولة.
وبدل تفكيك هذا التحالف، تحوّلت الحكومات المتعاقبة إلى أدوات بيده، سواء عبر توظيف الفساد كآليّة حكم، أو عبر المحافظة على امتيازات البرجوازية الطفيلية والمالية على حساب الإدارة. فتعمّقت الأزمة الاجتماعية، وتراجعت شروط عيش الطبقات الشعبية، بينما ازدادت أرباح الكومبرادور والوسطاء الماليين، في ظلّ خضوع تامّ لإملاءات المؤسسات المالية الدولية.
25 جويلية: تصفية حساب أم ثورة مؤجّلة؟
لم يكن قيس سعيّد، منذ انتخابه، نتاج تحالف طبقي منظّم، ولا يمثّل طموح أي قوة طبقية من داخل معسكر الحكم، ولا قوى اجتماعية ثورية منظمة. لقد جاء إلى الحكم مستندًا إلى وعي احتجاجي مشتّت، حالم باستعادة السيادة الوطنية والعدالة الاجتماعية، دون قيادة حزبية أو مشروع اقتصادي بديل.
ورغم تصفية المعارضة الشكلية بعد 25 جويلية، لم يكن الرئيس في منأى عن الحصار. فقد واجه جهازًا بيروقراطيًا مسيطرًا على كل مفاصل الدولة متحالفا مع البنوك الخاصة، يعمل على تطويعه وعرقلة أي إصلاح يهدّد امتيازاته.
لم يكن من الصدفة أن يعجز الرئيس عن تحريك الإدارة، أو فرض ضريبة استثنائية على الثروات الكبرى، أو تفكيك منظومة احتكار القطاعات المنتجة، أو تطهير الدوائر العليا من الفساد الإداري. فهذه القوى شبّكت مصالحها مع مصالح مراكز نفوذ كبرى في الدول الغربية منذ عقود. وتعرف أنّ أيّ إصلاح جدّي سيُفقدها موقعها كمُحتكِر للثروة والقرار.
هذا التحالف المتين بين الداخل والخارج هو الذي وأد حلم التحرّر الوطني مع بورقيبة، وكرّسه بن علي صاغرا، ثم أعاد إنتاج نفسه مع الإسلاميين، وها هو اليوم يُفرمل الرئيس قيس سعيّد، ويعطّل كل مسار سياسي قد يفضي إلى تفكيك امتيازاته.
ليس قيس سعيّد ثوريًا ولا ماركسيًا ولا حتى ديموقراطيًا، لكنه وجد نفسه في قلب صراع طبقي حقيقي بين مشروع تغيير (ولو كان ضبابي الملامح) ومنظومة نفوذ عصيّة على التفكيك.
المفارقة أن المعارضة، بجميع أطيافها، ليست سوى جزء من النظام الريعي الذي يُعطل كل مبادرات الإصلاح. وهي تسعى لحمايته، سواء عبر الإسلام السياسي، أو النيوليبرالية، أو حتى بعض فلول اليسار المتحالفة مع المنظومة.
ولذلك، فإن أيّ حديث عن خلاص وطني يمرّ حتمًا عبر تفكيك هذا التحالف الطبقي، وبناء جبهة وطنية شعبية تعيد تنظيم الشارع والقوى الاجتماعية المفقّرة كقوّة ضغط مستقلة، قادرة على فرض إصلاحات جذرية، وانتزاع الدولة من يد هذا التحالف المغلق.
فالصراع في تونس ليس بين رئيس ومعارضة، بل بين تحالف طبقي متجذّر منذ قرون، يستخدم الرئيس باليد اليمنى، ويوظف المعارضة باليد اليسرى ضد جماهير الشعب المسحوقة التي تبحث منذ سنين عن صوتٍ حقيقي يعبر عنها. وما لم يُحسم هذا الصراع لصالح الطبقات الشعبية، ستظلّ تونس تدور في حلقة مغلقة من الأزمات والانفجارات الاجتماعية المؤجّلة.
جذور الفساد الإداري في تونس: من "الڤايد" إلى شبكات الريع الحديثة
يشكّل الفساد الإداري أحد أهم العوامل التي أنتجت طبقة بيروقراطية متنفّذة كرّست اقتصاد الريع وهيمنت على القرار السياسي والموارد العمومية. والحال أن جذور هذا الفساد ليست وليدة اللحظة، بل تعود إلى قرون سابقة، حين ارتبط المنصب الإداري بمراكمة الثروة، وأصبح القرب من السلطة السياسية، لا الكفاءة ولا الاستحقاق، هو الممرّ الرئيسي إلى الثروة والنفوذ.
منذ العهد الحسيني نجد ملامح هذا التشابك بين الوظيفة والثروة، خاصّة مع قرار أحمد باي منتصف القرن التاسع عشر بإلغاء المرتّب الرسمي الذي يُمنح للـ"ڤايد" مقابل تمكينه من "اللّزمة"، أي احتكار تجارة بعض المواد الحيوية ومداخيل الضرائب في مجال نفوذه. هذا القرار رغم ما حمله من رغبة في تخفيف العبء عن خزينة الدولة المفلسة، أفضى عمليًّا إلى تحويل الوظيفة العمومية إلى مزاد للشراء والبيع، حيث أصبح المنصب يُمنح لمن يدفع أكثر للسلطة. وفي المقابل يمارس الڤايد بدوره أقصى أشكال نهب الأهالي وابتزازهم لاسترجاع ما أنفقه وتحقيق أرباح مضاعفة.
هكذا تبلورت بيروقراطية ريعية، جمع فيها "الڤايد" بين وظيفة حفظ الأمن ومراقبة الأهالي، ووظيفة "اللزّام" الذي يحتكر توريد وبيع المواد الأساسية مثل التبغ والقهوة والملح والبارود والجلد والحبوب. ولم تكن هذه الامتيازات عابرة، بل أسّست لعائلات محليّة نافذة ورثت السلطة والثروة لعقود، مثل بن عيّاد في جربة، والجلولي في صفاقس، وبن ساسي في الجريد، وفرحات في الكاف… وأصبح المنصب أداة للسيطرة الطبقية والاجتماعية، وعنوانًا للثراء غير المشروع.
ومع دخول الاستعمار الفرنسي سنة 1881، لم تُلغ هذه المنظومة بل أعيد إنتاجها بوجوه وأدوات جديدة، حيث تحالف المخزن مع سلطة "المقيم العام"، وواصل الوسطاء المحليون والأجانب الاستفادة من الامتيازات والصفقات والقروض المشبوهة. وتجدر الإشارة هنا إلى الدور الذي لعبه وسطاء من خارج النخب التونسية، مثل رشيد الدحداح ونسيم شمامة، الذين كوّنوا ثروات ضخمة من استغلال الأزمات المالية والقروض المفروضة على الإيالة التونسية.
هذه البنية التاريخية للفساد الإداري ظلت فاعلة بعد الاستقلال، إذ نجحت دولة الاستقلال في إضعافها وإبعاد رموزها عن دائرة النفوذ خلال السنوات الأولى. ولكنها عجزت عن تفكيكها رغم محاولات التعاضد والتأميم. بل أعادت إنتاجها في شكل تحالفات بيروقراطية-مافيوزية جديدة، أفشلت أحمد بن صالح. ثم فتحت صفحة "الانفتاح الاقتصادي" منذ بداية السبعينات. وتحوّلت بذلك بيروقراطية الدولة إلى واجهة مصالح احتكارية عائلية وشبكات نفوذ مالية، تستعمل المؤسسات والسلطة لخدمة الامتيازات الريعية، وعرقلة أي محاولة إصلاح جدّي.
في هذا السياق، يمكن قراءة الصراع الحالي بين رئاسة الجمهورية والجهاز البيروقراطي لا كصراع مؤسسات بقدر ما هو صدام بين إرادة كلامية جوفاء في كسر البنية الريعية، وبين شبكات مافيوية متغلغلة في مفاصل الدولة. إذ تعود جذور هذا الصراع إلى قرنين على الأقل، حين قرّر أحمد باي تعويض الأجر بالامتيازات، ليبدأ تاريخ طويل من الفساد المقنّن والسلطة المطلقة للإداريبن المتنفّذين.
بالنتيجة، لا أعتقد في أيّ معنى للحديث عن إصلاح اقتصادي أو ديمقراطي دون تفكيك هذه البنية التاريخية للفساد الإداري، التي توارثتها أجيال من النخب المستفيدة من اقتصاد الريع ومنظومته البيروقراطية.
الاقتصاد الريعي: الإطار الحاضن للبيروقراطية والاحتكار
إنّ فهم البيروقراطية التونسية لا ينفصل عن فهم طبيعة الاقتصاد الذي نشأت فيه، إذ لم تعرف البلاد منذ قرون اقتصادًا إنتاجيًا تنافسيًا مستقلًا، بل ظلّت خاضعة لمنظومة ريعية قائمة على الجباية، الرّيع العقاري، واحتكار الموارد الطبيعية. وقد تعمّقت هذه السمة مع دخول الاستعمار الفرنسي الذي حوّل تونس إلى مزرعة اقتصادية ملحقة بالأسواق الأوروبية.
تمثّل الاقتصاد الريعي في ثلاث آليات رئيسية: *احتكار الأراضي الخصبة. *استغلال الثروات الطبيعية لفائدة الأقلية. *إخضاع التجارة الخارجية للمصالح الاستعمارية.
هذه المنظومة حوّلت الإدارة من أداة تنظيم اجتماعي إلى جهاز لضمان تدفّق الريوع نحو المركز، سواء كان ذلك في عهد البايات أو تحت سلطة "المقيم العام"، أو حتى بعد الاستقلال حين احتفظت النخب الجديدة بنفس الأدوار.
ومع انتهاج سياسة "الانفتاح" منذ السبعينات، أصبح الاقتصاد التونسي أكثر ارتهانًا لمنظومة ريع جديدة مرتبطة برؤوس أموال متحالفة مع رأس المال الأجنبي والمؤسسات المالية الدولية. هذا التحوّل عمّق التفاوتات الاجتماعية وأجهض كل محاولات بناء اقتصاد وطني منتج.
مظاهر الريع المعاصر يأخذ الريع اليوم أشكالًا متعدّدة: *احتكار قطاعات كاملة من طرف عائلات نافذة. *استغلال عقود الامتيازات والعطاءات العمومية لصالح شبكات محسوبة على السلطة. *تضخّم سوق التوريد والوكالات الحصرية على حساب الصناعات الوطنية. *توظيف الجهاز الإداري في إقصاء المنافسين وتمرير الصفقات.
هذه الآليات مكّنت حفنة من العائلات من السيطرة على مفاصل الاقتصاد. وقد تحوّلت البيروقراطية إلى أداة طيّعة بيد هذه اللوبيات، تُشرّع لها القوانين، وتمنحها الامتيازات، وتعرقل منافسيها، وتحميها من المحاسبة.
منذ تأسيس الدولة الوطنية، اعتمدت تونس نظامًا مركزيًا صارمًا، جعل كل القرار الإداري والمالي والسياسي متركّزًا في العاصمة. وقد ضاعف هذا التمركز من سلطة الجهاز البيروقراطي، الذي بات يتحكّم في مصير الجهات وحتى المعتمديات.. ومع مرور الزمن، تحوّل هذا الجهاز إلى بنية معقّدة من الولاءات والمحسوبيات والرشاوى.
لم يكن التعيين في المناصب مبنيًّا على الكفاءة أو النزاهة أبدا، بل على الانتماء للشبكات النافذة. وغدت الإدارة ملاذًا لمنظومة الريع، التي تستخدمها لإحكام سيطرتها على الموارد وعرقلة كل مبادرة للتغيير. ولم تكتفِ هذه المنظومة البيروقراطية-الريعية باحتكار الاقتصاد والإدارة، بل استحوذت أيضًا على ثلاثة مؤسسات محورية: الأمن والإعلام والقضاء.
سيطرت اللوبيات العائلية على أبرز وسائل الإعلام الخاصة، فتحوّلت المنصات الإعلامية إلى أدوات دعائية تُروّج لمصالحها وتشيطن خصومها السياسيين والاقتصاديين. كما سعت هذه القوى إلى اختراق السلطة القضائية، من خلال إضعاف استقلاليتها، وتوظيف القضاة في تصفية حسابات المنافسة أو في حماية مصالحها. وإلى حد كبير تمت السيطرة على المؤسسة الأمنية بعد 2011
بهذا الشكل، أصبحت البيروقراطية جزءًا من منظومة متكاملة، تضم الاقتصاد، الإعلام، القضاء، والأمن، تتحكّم في كل مفاصل الدولة، وتُفرغ الديمقراطية من محتواها، وتحوّل السياسة إلى مجال للمزايدات الفارغة.
مأزق الإصلاح: معركة مؤجّلة
في ظل هذه المنظومة، تبدو كل محاولات الإصلاح مجرّد شعارات جوفاء. فكيف يمكن تحرير الاقتصاد من قبضة الريع، أو بناء إدارة وطنية نزيهة وفعّالة، أو إرساء ديمقراطية حقيقية، في ظل جهاز بيروقراطي متماهٍ مع مصالح اللوبيات؟
إنّ الحرب على الفساد والاحتكار لا تعني فقط تتبّع بعض رجال الأعمال أو غلق قنوات فساد، بل تعني بالأساس تفكيك بنية طبقية-بيروقراطية متجذّرة، هضمت خلال أكثر من قرن ونصف كل مساعي الإصلاح.
في هذا السياق، يتحرّك الرئيس قيس سعيّد في صراع غير معلن مع هذه المنظومة. ورغم تحفّظات عديدة على سياساته وخياراته، إلا أنّ معركة تحجيم نفوذ شبكات الفساد والاحتكار تمثّل لحظة تاريخية حاسمة، من شأنها أن تعيد رسم المشهد الاقتصادي والسياسي في حال نجاحها. ولكن علينا أن نقرّ بأنه لن ينجح في تغيير قواعد النظام الاقتصادي بإدارة هي جزء أساسي من هذا النظام.
حذارِ من الاصطفاف الخاطئ
لعلّ أسوأ ما يمكن أن يحدث في ظل هذا الوضع، هو أن تنخرط بعض القوى السياسية والمدنية في معركة إسقاط قيس سعيّد، ليس من أجل مشروع بديل ديمقراطي أو اقتصادي، بل لإعادة تموقع المنظومة القديمة نفسها. سيما وأن الكثير من الأطراف التي ترفع شعارات الحرية والديمقراطية، تخفي في الحقيقة أجندات ترتبط بمصالح نفس اللوبيات، وتسعى لاستعادة نفوذها عبر بوابة "النضال المدني".
لذلك يفرض الموقف الوطني الحصيف اليوم عدم الوقوع في ثنائية زائفة: بين رئيس أعزل وضعيف من جهة، وبين منظومة راسخة تستخدم الجميع لإعادة ترتيب النظام وتركيزه، بل المطلوب دعم كل خطوة جادّة في اتجاه تفكيك منظومة الريع والاحتكار، ورفض كل محاولات التموقع الانتهازي باسم الديمقراطية.
حكم الليل وصراع الأعزل مع الدولة العميقة
مفارقة السلطة والسلطة الحقيقية: لا توجد في السياسة مفارقة أشد تعبيرًا عن الأزمة التونسية الراهنة من هذا المشهد: رئيس منتخب يملك السلطة الشرعية، لكنه معزول داخل قصر قرطاج، في مواجهة دولةٍ عملاقةٍ تتحكم فيها بيروقراطية متمرّسة، تتقن الدفاع عن مصالحها، ولا تتردد في إفراغ المبادرات السياسية من مضمونها. فالسلطة ليست في النصوص الدستورية ولا في مواقع القرار الرسمي فحسب، بل في امتلاك أدوات تنفيذ القرار وقدرة تعطيله أو توجيهه. وهنا تكمن المعضلة الحقيقية: رئيس أعزل سياسيًا وتنظيميًا، في مواجهة ائتلاف طبقي مالي-بيروقراطي بثقافة فساد متجذرة منذ قرون، يستميت للحفاظ على توازناته القديمة.
رمزية "حكم الليل"
يتخذ سلوك الرئيس المتكرر في إصدار المراسيم والخطب والاجتماعات ليلًا، خارج الزمن الإداري الرسمي، دلالة سياسية عميقة. فهو ليس مجرد اضطراب في جدول العمل، بل عدة رسائل رمزية موجهة إلى الجماهير:
أن زمن الرئيس ليس زمن الإدارة، وأنه يتجاوز إيقاع الدولة العميقة، ويتحرك خارج ضوابطها، كمن يسترد زمناً سياديًا شخصيًا في مواجهة زمن جماعي تديره مؤسسات متكلسة.
أن الرئيس يقظ حين ينام الجميع، يعمل حين تتعطّل الإدارة، ويُدير معركته في وقتٍ يُفترض فيه أن تهدأ السلطة وتستكين.
إنها محاولة واضحة لخلق زمن سياسي موازٍ خارج الزمن الإداري التقليدي، تُراد منه المحافظة على التوتر الرمزي وإرباك الجهاز البيروقراطي الذي يتحرك بثقل روتيني وانضباط زمني محدد.
البعد السيكولوجي والاجتماعي
من منظور علم النفس الجماهيري، يكتسي الليل دلالة مضاعفة: فهو زمن الأفعال الاستثنائية وقرارات الطوارئ في الوعي الجمعي.
وهو أيضًا لحظة اللاعقلانية، حيث تصبح السيطرة على الرمزية أهم من التحكم في الواقع.
في المجتمعات التي تُعاني من أزمة سلطة وشرعية مثل الحالة التونسية، يتحول الليل إلى ملاذ رمزي للسلطة المعزولة، حيث تحاول استعادة المبادرة عبر صناعة مفاجآت قرارات أو خطابات، تُبقي الجماهير في حالة انتباه، وتُربك خصومها عبر كسر الإيقاع الزمني للنظام.
لكن هذا السلوك يحمل أيضًا اعترافًا غير مباشر بفقدان السيطرة على جهاز الدولة في زمن العمل الإداري، حيث تتحكم البيروقراطية ومراكز النفوذ في مسارات التنفيذ. فالرئيس حين يحكم ليلًا، إنما يُمارس سياسة خارج توقيت الإدارة التي لا يثق بها، بل يعلن انفصاله الرمزي عن ماكينة بيروقراطية الدولة والقوى الطبقية التي تتّكأُ عليها.
ختاما: تبدو المعركة السياسية في تونس معركة حكم وصراع برامج وأشخاص، ولكنها في عمقها معركة طبقية مقنّعة بين مشروع [محتمل] لتغيير قواعد اللعبة يمثّله رئيس معزول بلا حزام سياسي حقيقي، ولا تنظيم شعبي منظم ولا رؤية، وبين ائتلاف طبقي متجذر يسيطر على الإدارة والمالية والإعلام، يُتقن آليات التعطيل والمراوغة، ويحسن امتصاص كل موجة احتجاج أو إصلاح، ليُعيد إنتاج النظام نفسه.
#عزالدين_بوغانمي (هاشتاغ)
Boughanmi_Ezdine#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مفهوم -الكتلة التاريخية- بين أنطونيو غرامشي والتلقي العربي:
...
-
في جوهر سؤال محمد لخضر الزغلامي: نحو نظرية عملية لتنظيم الطب
...
-
أوروبا المتأرجحة بين العجز والمراوغة، ما الذي غيّر موقفها من
...
-
النهضة أسقطتها جرائمها
-
حركة النهضة في أيامها الأخيرة
-
التحليل السياسي والفكري يجب أن يتمّ بعيدًا عن العواطف والموا
...
-
صوت يأتي من بعيد
-
الإمبريالية وتمويل المجتمع المدني في دول الجنوب العالمي
-
بين الثورة والإصلاح
-
حول القاضي والمُتّهم
-
تهرم سكاني في تونس وانفجار ديمغرافي إفريقي: قراءة استراتيجية
...
-
جذور المركزية الأروبية ومآلاتها البربرية
-
العوامل التي تمنع إقدام الغرب على تنظيم سيناريو الإطاحة بقيس
...
-
لماذا تعود الشعوب والأمم لقراءة تراثها وتفتيشه وبحثه وتمحيصه
...
-
حوار مع صديق لا يستقرّ على رأي
-
في منزلق سؤال الوزير السابق، السيد عبد اللطيف المكي عن -احتر
...
-
دواعي تسريب المكالمة الهاتفية بين عبد الناصر ومعمر القذافي ف
...
-
شعبي الذي خذله اللّصوص
-
النفاق السياسي والانتهازية كأسباب لأزمة الثقة السياسية في تو
...
-
بين الاستبداد والفاشية: خديعة المصطلح
المزيد.....
-
شاهد..شاب يُذهل الناس في الشارع بتحدثه عشرات اللغات
-
مصر: فيديو لأشخاص يعاكسون فتيات ويعتدون على آخرين بسلاح أبيض
...
-
أوكرانيا: الجيش الروسي أطلق علينا 3 صواريخ باليستية و80 طائر
...
-
بعد هجوم العنكبوت أو -بيرل هاربر روسيا-.. ترقب حذر ومفاوضات
...
-
العلاقات المصرية الإيرانية: من مصاهرة بين عائلتين حاكمتين إل
...
-
دواء -فعال- ضد فيروس الإيدز.. هل حسمت المعركة؟
-
بوتين يهنئ رئيس كازاخستان بمناسبة مرور 70 عاما على انشاء محط
...
-
-حياتي في خطر-.. مصرية في السعودية تستغيث بالسيسي
-
إيران: سنرد على المقترحات الأمريكية وفق مصالحنا الوطنية والت
...
-
علماء: أشعة الشمس تزيد سميّة عوادم السيارات
المزيد.....
-
الازدواجية والإغتراب الذاتي أزمة الهوية السياسية عند المهاجر
...
/ عبدو اللهبي
-
في فوضى العالم، ما اليقينيات، وما الشكوك
/ عبد الرحمان النوضة
-
الشباب في سوريا.. حين تنعدم الحلول
/ رسلان جادالله عامر
-
أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب
...
/ بشير الحامدي
-
الحرب الأهليةحرب على الدولة
/ محمد علي مقلد
-
خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية
/ احمد صالح سلوم
-
دونالد ترامب - النص الكامل
/ جيلاني الهمامي
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
/ عبد الرحمان النوضة
-
فهم حضارة العالم المعاصر
/ د. لبيب سلطان
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3
/ عبد الرحمان النوضة
المزيد.....
|