عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)
الحوار المتمدن-العدد: 8357 - 2025 / 5 / 29 - 20:49
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
الباب الاول: الكتلة التاريخية بالمفهوم القرامشي
تُعدّ مقولة "الكتلة التاريخية" من أهم المفاهيم التي صاغها أنطونيو غرامشي ضمن منظومته الفكرية، بوصفها أداة تحليل لفهم ديناميات الهيمنة والتحولات السياسية والاجتماعية والثقافية في سياق صراع طبقي تاريخي. ومع أن المفهوم وُلد ضمن إطار النظرية الماركسية، إلا أنّ غرامشي أعاد بناءه بعمق نظري تجاوز الحتمية الاقتصادية الصرفة، منبهًا إلى دور الوعي والثقافة في تثبيت أو تفكيك السيطرة الطبقية.
غير أنّ هذا المفهوم، حين نُقل إلى الفكر العربي، تعرّض لاختزال حادّ أفرغه من شحنته الصراعية. وفي مقدمة من أسهموا في هذا التلقي المشوَّه محمد عابد الجابري، الذي حوّل "الكتلة التاريخية" إلى توافق إيديولوجي فضفاض لا يستبطن شروط الهيمنة ولا جدلية الصراع. وقد ازدادت المفارقة حدّة مع التجربة التونسية، التي أعادت إنتاج المفهوم في صيغته الأكثر انحرافًا، حيث جرى توظيفه كغطاء لتحالفات سلطوية متناقضة تخدم ترتيبات مصلحية.
نستعيد الدلالة الغرامشية ومسار إخفاق تلقيه عربيا، مع تخصيص التجربة التونسية كحالة دالّة على هذا التشويه.
أولا، مفهوم "الكتلة التاريخية" في فكر أنطونيو غرامشي
في قلب الفكر الماركسي، يقوم تفسير التحولات الاجتماعية على العلاقة الجدلية بين البنية التحتية (الاقتصادية والاجتماعية) والبنية الفوقية (السياسية والثقافية والدينية). وقد نظر ماركس إلى البنية التحتية بوصفها المحدّد في نهاية المطاف لشكل البنى الفوقية.
لذلك انتبه غرامشي، وهو يواجه صعود الفاشية بإيطاليا، إلى أن الطبقة البرجوازية تحافظ على سلطتها ليس عبر القمع وحده، بل أساسًا من خلال إنتاج وعي جمعي يتماهى مع مصالحها ويقبل سلطتها كأمر طبيعي. وبهذا أعاد التفكير في آليات السيطرة الطبقية، ووسّع المادية التاريخية بحيث جعل الثقافة والوعي عنصرين فاعلين في دينامية الصراع الطبقي، وليس مجرد انعكاس آلي للوضع الاقتصادي.
ثانيا، الهيمنة الثقافية والمجتمع المدني
قدّم غرامشي مفهوم "الهيمنة" بوصفه مفتاح فهم استقرار الأنظمة الطبقية. فالطبقة المهيمنة لا تفرض سلطتها عبر أدوات الدولة الصلبة فقط (الجيش، الشرطة، القضاء)، بل من خلال إنتاج نسق رمزي ثقافي يجعل من وجودها في السلطة يبدو طبيعيًا ومقبولًا.
تُمارس هذه الهيمنة داخل المجتمع المدني تحديدًا، حيث تقوم المدارس، والصحافة، والمؤسسات الدينية، والنقابات، والجامعات، بتكريس القيم والمعايير التي تخدم مصالح الطبقة السائدة. من هنا تصبح معركة الوعي في المجتمع المدني معركةً مركزية، يتوقف عليها نجاح أي مشروع تحرري.
ثالثا، المثقف العضوي ودوره في معركة الوعي
في مقابل "المثقف التقليدي"، الذي يخدم النظم القائمة وينتج خطابًا يبرر سلطتها، ابتكر غرامشي مفهوم "المثقف العضوي"، الذي ينبثق من الطبقات الشعبية ويتبنى قضاياها ويعبر عن مصالحها. لا كواعظ من خارج واقعها، بل كفاعل متجذّر في نسيجها الاجتماعي.
يتولّى المثقف العضوي مهمة تفكيك الوعي الزائف الذي تبثه الطبقات الحاكمة، والمساهمة في صياغة منظومة فكرية بديلة تسند مشروعًا تحرريًا جذريًا.
رابعا، مكونات الكتلة التاريخية
تُعدّ "الكتلة التاريخية" عند غرامشي تحالفًا عضويًا بين فئات اجتماعية توحّدها مصالح موضوعية في مواجهة نظام الهيمنة. تشمل هذه الكتلة: الطبقة العاملة، الفلاحين الفقراء، الشرائح المهمّشة، الحرفيين، الطلبة، المثقفين العضويين واليسار الثوري عموما، والقوى الإصلاحية غير الرجعية المستعدة للقطيعة مع الرأسمالية التسلطية.
يتجاوز هذا التحالف الصيغة الإيديولوجية الشكلية نحو تقاطع مصالح حقيقي، ويتحقّق عبر معركة هيمنة ثقافية تقدمية تصوغ وعيًا جمعيًا جديدًا، ينتهي إلى انتفاضة هذه الأغلبية الشعبية الساحقة للإطاحة بالنظام الرأسمالي ممثّلا بالأقلية الفاشية التي تسيطر على الدولة.
"""""""""""""
الباب الثاني: تلقي المفهوم في الفكر العربي:
أولا، استنبات محمد عابد الجابري لمفهوم الكتلة التاريخية
في ثمانينيات القرن العشرين، وفي سياق أزمة المشروع القومي العربي، حاول المفكر الكبير محمد عابد الجابري استلهام مفهوم "الكتلة التاريخية" ضمن مشروعه لتحديث الفكر العربي. إلا أنه جرّد المفهوم من بُعده الطبقي والصراعي، وحوّله إلى توافق سياسي بين تيارات سياسية متضادّة وعلى طرفي نقيض "يسارية قومية، وإسلامية"، وافترض أنّ قاسمًا حضاريًا مشتركًا يمكن أن يوحّدها.
ففي حين لم تكن الكتلة التاريخية عند غرامشي مجرد تحالف قوى حزبية فوقية متناقضة، بل كانت حركة مجتمعية جماهيرية تحررية تقودها طبقات مضطهدة ونخب مثقفة عضوية. كان استدعاء المفهوم في سياق عربي تفصيلا شكليا مغشوشا، استُخدم لتبرير تحالفات سلطوية بين طرفين لا مشروع وطني تحرري يجمعها، بل مجرد توافق على اقتسام السلطة والموارد. بمعنى أن هذه المقاربة أغفلت مواقع هذه القوى ضمن البنية الاجتماعية، وتجاهلت التناقضات العميقة بين المشروعين. وهو ما انعكس كارثيًا في واقع ما بعد 2011، حيث تحالفت تيارات إسلامية مع شبكات الإرهاب والتهريب، بل وأقدمت، في تونس، على اغتيال قائدين من نفس الكتلة التاريخية التي تخيّلها الجابري، وهكذا انهارت نظريته في أوّل امتحان.
يمكن القول إن المفارقة بين الدلالة الغرامشية الأصلية ومآل المفهوم عربيًا، تكشف خطورة استيراد المفاهيم خارج تربتها وسياقها. فالكتلة التاريخية بالمعنى الغرامشي أداة لتحشيد الجماهير من أجل تغيير جذري لقواعد النظام الرأسمالي، وبالتالي فهي بِنية اجتماعية متماسكة اجتماعبا ومتقاربة طبقيا، تقود الصراع الاجتماعي والثقافي على أساس مشترك متين، وتصوغ وعيًا نقديًا مضادًا لمنظومة الهيمنة النقيضة.
أما عند الجابري فهي توافق المتناقضات بناء على فرضية مثالية، تقضي بالتقاء تلك المتناقضات على مهام وأهداف موحدة.
ثانيا، الكتلة التاريخية ككمين إخواني في التجربة التونسية
بعد الثورة التونسية، وبعد فشل حركة النهضة في تجربة الحكم، وفقدانها لأغلبية أتباعها، وتحوّل قيادتها إلى عصابة إجرامية منبوذة شعبية، التجأ بعض رموزها إلى التحيّل الفكري باستدعائهم مفهوم "الكتلة التاريخية" في سياق البحث عن بديل سياسي يُخفّف آثار العزلة الشعبية. فروّجوا لحلف متناقض طبقيًا وفكريًا وسياسيا تحت عنون "جبهة الخلاص"، على أن تتوحّد هذه المكوّنات المتناقضة تحت سقف ثقافة المحاصصة الغنائمية، وتوزيع المنافع والنفوذ بين تضامنات مافيوزية مُجمعة على الفساد: قيادة حركة النهضة المندمجة في البرجوازية الطفيلية / المحرّك الأساسي لهذه الجبهة، وحولها تجمع لوبيات المال الفاسد، شبكات التهريب، رموز الاقتصاد الموازي، وأثرياء الثروة السريعة المرتبطين بمصالح خارجية. معها وزغ يساري وظيفي يُجيد السّمسرة، ومُدرّب منذ عقود على الاندماج بسهولة في معسكر الرجعية باستخدام أكثر الشعارات ثورية، ويتمتع بقدرات خيالية على تسلق الجدران الملساء والدخول في الشقوق الضيقة بفضل بنيتِهِ الفريدة التي سمحت له بالعيش في الجدران المتشققة أو بين الحجارة. هذا اليسار تقوده شخصيات متآكلة فقدت الأمل في مشروعها الاجتماعي التحرّري، وتحولت إلى أدوات وظيفية في معارك تصفية حسابات أو تجميل واجهات "ديمقراطية". بجواره ائتلاف الكرامة (النسخة الجديدة لأنصار الشريعة)، وهو تيار تكفيري عنفي يتبنّى خطابات الحرية وحقوق الإنسان كواجهة، بينما يواصل الاشتغال على أجندة ظلامية معادية للدولة الوطنية. إضافة إلى أشباه ليبيراليين، مجموعات من مثقفي اقتصاد السوق، تراهن على تفكيك دور الدولة الاجتماعي، تحت يافطات "الإصلاح الاقتصادي" و"تحرير المبادرة". إلى جانبهم أشباه جمهوريين، من تيارات وسطية بلا قاعدة اجتماعية حقيقية، تتحالف مع الجميع حسب الطلب والمصلحة الظرفية، دون مشروع وطني واضح. وانجذب إلى هذه الجماعات نقابيون انتهازيون، من قيادات بيروقراطية متحكّمة في العمل النقابي، وتستخدم القواعد العمالية كورقة ضغط للمساومة على امتيازاتها. ومعها بقايا اشتراكيين موسميين، شخصيات ترتدي الاشتراكية لكنها فقدت الثقة في الشعب وصارت ملحقة ببرامج الليبيرالية الجديدة، متخلية عن ثقافة النضال الاجتماعي. وفي المحيط علمانيون سطحيون يختزلون العلمانية في صراع مع الإسلام، دون أي رؤية اجتماعية أو اقتصادية، ويقبلون بالتحالف مع أي قوة رجعية إذا اقتضت الضرورة. ووجوه سلفية متطرّفة متخفّية، تشتغل ضمن أجندات إقليمية ودولية، تتحالف مرحليًا مع بعض المكونات السياسية في انتظار تغيّر الأوضاع. ومتحوّرون سياسيًا، بلا مرجعية ثابتة، يتنقلون من حزب إلى آخر ومن خطاب إلى آخر حسب مصالحهم، يتحالفون مع أعداء الأمس بمجرد تغيّر موازين القوى. والاستثمار الليلي المشترك لكل هذا الجمع في العلاقة بالخارج من جهة، وفي السعي بكل الأساليب لتوجيه الحركات الشبابية المتدفّقة بالحيوية والصدق، والمتمرّدة على سلطة عشوائية تقود البلاد بلا بوصلة.
ولا يخفى على أحد القدرات الهائلة لهذه الجماعات على اختراق الجمعيات المموّلة ومنظمات العمل المدني والحقوقي، واستثمار جهدها في عملية توظيف القضايا الاجتماعية والسياسية لخدمة مشاريع الهيمنة.
هذا علاوة على شبكات فساد مالي وإعلامي، تشتري الذمم وتوجّه الرأي العام. ونشطاء الحرية الفردية مُوظَّفون، هم أيضا، في خدمة سياقات الهيمنة الثقافية، بعيدًا عن أي معركة حقيقية من أجل الحريات.
رغم اختلاف المرجعيات الفكرية والإيديولوجية، تتقاطع هذه الأطراف ضمن جبهة انتهازية، تجمعها مصلحة واحدة هي استعادة المنظومة السابقة تحت توجيه حركة النهضة لاستعادة الحكم بأيّ ثمن وخارج إرادة الشعب.
يعني "الكتلة التاريخية" التي دعا لها نورالدين البحيري، وردّدها غيره لتبرير التحالف مع حركة النهضة هي جبهة رجعية مُتعفّنة بكل ما في الكلمة من معنى، تدعمها أطراف متورطة في شبكات الفساد والإرهاب، وبعض الواجهات الحزبية اليائسة المعزولة عن قاعدة اجتماعية فعلية.
هكذا تحوّل هذا المفهوم الثقافي العظيم، إلى شعار خراب سياسي يوظّف في ترتيبات عودة نظام الفساد، بدل أن يكون أداة لتحشيد الأغلبية الاجتماعية حول مشروع تحرري ديمقراطي.
في الخلاصة، استيراد المفاهيم، وسلخها من سياقاتها الأصلية لاستعمالها في خداع المجتمع يفضي إلى نتائج كارثية. فمقولة "الكتلة التاريخية" عند غرامشي ليست تحالف عصابات ظرفي، ولا توافقًا إيديولوجيًا شكليًا، بل هو بنية مواجهة اجتماعية تُفرزها شروط الصراع ضد الهيمنة الرأسمالية المتوحشة، وتتطلّب قيادة مثقفين عضويين مرتبطين بهموم الشعب وليس مجرمين مورطين في الاغتيالات والتهريب وتحطيم الدولة.
أما محاولة توطين المفهوم عربيًا، وخاصة عند الجابري، دون التشكيك في أهداف الفقيد النبيلة، فقد أُفرغ من محتواه الصراعي وتحوّل إلى مقولة تصالحية بلا فعالية، وهو ما أثبتته وقائع التجربة المُرّة بعد رحيل الجابري.
إن استعادة الدلالة الغرامشية الأصيلة للمفهوم تقتضي اليوم بناء تحالف اجتماعي واعٍ، قاعدته الأغلبية الشعبية، وقيادته النخب الثقافية الحرة، عبر مجتمع مدني متحرّر من هيمنة الطبقات السائدة، وبقيادة مثقفين عضويين، بهدف تفكيك منظومة السيطرة، وإقامة مشروع وطني ديمقراطي يقوم على قطيعة جذرية مع ثقافة العنف، والفساد، والتطرف.
#عزالدين_بوغانمي (هاشتاغ)
Boughanmi_Ezdine#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟