عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)
الحوار المتمدن-العدد: 8364 - 2025 / 6 / 5 - 16:00
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
مرة أخرى، تثبت الولايات المتحدة أنها ليست "وسيطًا" في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بل الطرف الأكثر تورطًا فيه. فالفيتو الأمريكي أمس في مجلس الأمن، الذي حال دون وقف المجازر المتواصلة ضد الفلسطينيين في غزة، لم يكن مجرد إجراء سياسي متكرر، بل تجسيدا مباشرا لفلسفة استعمارية متجذّرة في صلب تكوين الدولة الأمريكية وعقيدتها السياسية والثقافية.
لا شكّ أنّ تمسّك الأمريكي بتأييد جرائم الإبادة والاحتلال والفصل العنصري، هو في الأصل تمسّك ب"إسرائيل" بوصفها آخر قلاع الاستعمار، وإحدى أهم أدوات النفوذ والتحكم الغربي في مصير المنطقة العربية وما حولها. وحتى التغيّر التكتيكي في الموقف الأروبي فهو مرتبط بالخلاف العميق مع إدارة ترمب لا غير.
عموما، مع صعود الصين وعودة روسيا للساحة الدولية كقوة نافذة، بات هنالك شعور عميق لدى صّنّاع القرار في أروبا والولايات المتحدة، بأنّ النفوذ الغربي آخذ في الانحصار والتلاشي. وهذا ما يُفسّر الهستيريا التي رافقت الدعم الجذري والمطلق لحكومة نتنياهو، واللامعقول السياسي والإعلامي والامني وتزييف الحقائق والإصرار على جعل الضحية معتديا.
الغرب يعتقد أن المقياس والمحدد في بدء الصراع ومُنتهاه هو القوّة المادية وما تحمله فوهات المدافع. ولكن تجارب التاريخ تقول أمورا أخرى.
يقول التاريخ بأن القوى العظمى لا تسقط دُفعة واحدة. بل تسقط سقطتين. هنالك السقوط المضموني، ثم يأتي السقوط الفعلي. فمثلا كانت حرب الثلاثين، ثم سقطت الامبراطورية الرومانية رسميا بموجب معاهدة ويستفاليا (1648). وكانت إبادة الارمن في 1915 هي السقوط المضموني المعنوي والأخلاقي للامبراطورية العثمانية، ثم جاء سقوطها الرسمي سنة 1924. والاستعمار الاستيطاني الفرنسي في الجزائر وسقوط نظرية "الجزائر الفرنسية" لم تسقط بتوقيع اتفاقيات ايفيان وإعلان وقف إطلاق النار يوم 18 مارس 1962، بل سقط الاستعمار في مجزرة قالمة وسطيف أيام 8، 9، 10 ماي 1945، التي قُتٍل خلالها خمسة وأربعون ألف إنسان خلال ثلاثة أيام... والأمثلة كثيرة جدا.
ما أردت قوله هو أن هيمنة الغرب على العالم سقطت مضمونيًّا في غزّة. سقطت، ومعها سيُسقِط هذا الغرب جميع المساحيق التي تُخفي الغطرسة الاستعمارية ونظرة الاستعلاء وما تراكم حولها من ثقافة عنصرية فاسدة. ولقد تبيّن للناس بأعلى درجات الوضوح بأن الرأسمالية المتوحشة تستثمر وتتاجر في كل شيء، بما في ذلك قضية الحريات وقضية حقوق الإنسان، حتى أنها جعلت من كل المطالب التقدمية للإنسان المعاصر سوق وأدوات للسيطرة والتحكم والإخضاع.. بحيث تحولت الدول الغربية، وستّمعِن في التحوّل إلى أنظمة فاشية قروسطية، وستُحاكي في ممارساتها، وهي تقاوم سقوطها، محاكم التفتيش وملاحقة الناس بسبب معتقداتهم ولون بُشرتهم.
كلّ هذه الأمور المرتبطة بعوامل السيطرة الاستراتيجية، لا تكفي لتفسير الدعم الأمريكي للكيان الصهيوني. بل هنالك عوامل أخرى تتجاوز الجوانب الجيوسياسية الظاهرة، وتُطِلّ على البنية العقائدية والثقافية التي تربط المشروع الصهيوني بجذور الاستعمار الأوروبي والأمريكي. فالدعم الأمريكي لإسرائيل ليس مسألة مصالح ظرفية، بل تعبير عن تحالف وجودي جذري، يعكس فلسفة استيطانية واحدة، ترى في إبادة السكان الأصليين طريقًا "مقدسًا" لبناء مشروعها.
في مركزية القوة داخل الثقافة الأمريكية
رغم تنوّع الأفراد وتباين المواقف وفق تباين مواقع الناس الاجتماعية واختلاف معتقداتهم داخل أي مجتمع، يبقى هناك سُلَّمٌ قيميّ يتشكَّل تدريجيًا بفعل الوعي الجماعي بالتاريخ والجغرافيا، والتربية، والمدرسة... هذا السُلَّم لا يُحدِّد فقط نظرة المجتمع إلى نفسه، بل يوجِّه أيضًا السياسات الكبرى للدولة، داخليًا وخارجيًا.
ليست القوة مجرد عنصر من عناصر الثقافة الأمريكية، بل تمثّل القيمة العليا التي تنظّم سائر القيم الأخرى. وهذه النزعة لا تقتصر على الولايات المتحدة وحدها، بل تنسحب على جميع أنماط الاستعمار الاستيطاني، مثل جنوب إفريقيا وإسرائيل. في جميع هذه الحالات، تأسّس الوعي الجماعي على فترات من الانتصار القهري، حيث كانت القوة، لا العدالة أو السلم، هي أداة بناء الدولة والمجتمع.
لو نقرّب الصّورة بملاحظة الرياضة كمؤشّر، من المهلوم أن كرة القدم هي اللعبة الأكثر شعبية عالميًا، ومع ذلك لم يسبق أن بلغ المنتخب الأمريكي نهائي كأس العالم. في المقابل، يسيطر الأمريكيون في رياضاتٍ تقوم على العنف الجسدي، مثل الملاكمة، المصارعة، ورفع الأثقال. هذا الانحياز ليس صدفة رياضية، بل مرآة لمنظومة ثقافية ترى في التفوق البدني والسيطرة معيارًا أساسيًا للنجاح الاجتماعي والوطني.
مثال آخر: محمد علي كلاي، بطل الملاكمة، جسَّد مثال الرجل الأسود القوي القادر على الانتصار في حلبة الصراع. رفعته أمريكا على الأعناق وصفقته له لأنه كرّس قيمة القوة. في المقابل، مارتن لوثر كينغ أسود هو أيضا، لكنه دعا للمقاومة السلمية، وحلم بالعدالة الاجتماعية، وخطاباته تنضح شعرا، حتى خاطب الأمريكان: "افتحوا نوافذكم ليدخل حُلمي"، فاغتالوه. والمفارقة هنا أن أمريكا احتفت بالأول وقتلت الثاني، مما يعكس أولوية مبدإ القوة على كل مبدأ آخر.
ولو أخذنا مثال آخر لسردية القوة في الأدب الأمريكي لوجدنا الأدب أيضا يقدّم مرآة لهذا التصوّر. فالرواية الأمريكية نراها في أفلامهم المبنية على قيم الانتصار والإرادة الفردية الأسطورية. لذلك تنتهي رواية "الشيخ والبحر" لهمنغواي بالجملة التالية: "الإنسان قد يُدمَّر لكنه لا يُهزَم أبدا"! حيث تلخّص هذه القفلة فكرة أن الهزيمة الجسدية لا تنفي الانتصار المعنوي والإرادي كفكرة متجذرة في العقل الأمريكي.
تاريخية القوة الممتدة من إبادة الهنود الحمر إلى دعم إبادة الفلسطينيين
التاريخ الأمريكي تأسس على القوة العارية. منذ العام 1492 مع اكتشاف "العالم الجديد"، تأسست أمريكا على سحق السكان الأصليين وإقصائهم. مما أسّس عقلية راسخة تؤمن بأن الوجود والنجاح مرهونان بالقدرة على الإخضاع والسيطرة.
هذا الإرث يفسّر اليوم الدعم المطلق الذي تقدمه الولايات المتحدة لإسرائيل، إذ لا تقيم وزناً لعدد الضحايا الفلسطينيين، بقدر ما تهتم باستمرار التفوق العسكري والسيطرة الإقليمية. فإسرائيل، في الذهنية الأمريكية، ليست مجرد حليف، بل نوع من التبرير والمحاكاة الحديثة لجريمة المستوطن الأبيض الذي أباد الهنود الحمر.
وتتداخل القوة مع البعد الانجيلي، فحين أسّس المستوطنون البيض، خصوصًا البروتستانت مستعمراتهم في أمريكا الشمالية، أبادوا السكان الأصليين وطردوهم، معتبرين أنفسهم "شعبًا مختارًا" يبني "أرض الميعاد". وهي القصة ذاتها تكررت في فلسطين مع الحركة الصهيونية منذ مطلع القرن العشرين: استعمار استيطاني إحلالي يُقصي السكان الأصليين (الفلسطينيين) بالقوة.
في الحالتين، تولّت القوى الغربية (بريطانيا، ثم أمريكا) توفير الغطاء السياسي والعسكري والمالي للمشروعين. والأمر الذي لا يجب إغفاله، هو أن النخب الحاكمة في الولايات المتحدة ومعظم الدول الغربية اليوم، لا تزال تحمل في وعيها الجمعي سردية إنجيلية/صهيونية ترى في إقامة إسرائيل تحقيقًا لنبوءة توراتية تمهّد لعودة المسيح.
هذا الاعتقاد لا يعيش في هامش السياسة الأمريكية، بل في قلب مؤسسات القرار. إذ يشكّل المسيحيون الصهاينة (الإنجيليون)، وهم الأغلبية الساحقة من الطبقة الحاكمة، الحاضنة العقائدية الأشد حماسة لدعم إسرائيل، متجاوزين في تطرفهم حتى اليهود الصهاينة أنفسهم. ومن الخطأ أن نفهم الفيتو الأمريكي ضد وقف الحرب على الفلسطينيين، مجرد تعبير عن تحالف مصالح آنية. إنما هو نتاج لكل هذه العوامل الاستراتيجية والتاريخية والثقافية المتداخلة، والتي تقد رسالة سياسية واضحة مفادها: لا وجود لفلسطين، ولا حق لهم في "أرض المعاد".
إنه ضوء أخضر لاستمرار جريمة الإبادة الجماعية، وكسر ممنهج لأي مسعى دولي أو قانوني قد يقيّد المشروع الصهيوني أو يفرض عليه مساءلة. وليس عبثًا أن كل الإدارات الأمريكية، جمهورية كانت أو ديمقراطية، ظلت وفية لهذا الدور. فالأمر لا يتعلّق بشخص الرئيس أو حزبه، بل بعقيدة دولة، تأسست على الإبادة، وتُحافظ على إرثها من خلال حماية مشاريع إبادة أخرى في مناطق نفوذها.
منذ زرع الكيان الصهيوني، ظلّ قاعدة عسكرية متقدمة للغرب في قلب المنطقة العربية. بمعنى أن هنالك ترابط بين وجوده ووظيفته الاستعمارية المتمثلة أساسًا في:
تفتيت المنطقة.
ضرب حركة التحرّر العربية
منع قيام أي مشروع قومي تنموي مستقل.
ضمان انسياب النفط والثروات تحت إشراف واشنطن.
وبما أن هذا الكيان هشّ بطبيعته، يفتقد لجذور التاريخ والجغرافيا، فإن الأرض نفسها لم تتحمّله بوصفه جسم غريب مفروض بقوة السلاح على ثقافتها وهويّتها، فهو لا يستطيع البقاء دون حماية غربية مباشرة. وبالتالي فالامبريالية هي التي تدير حروبه، تمدّه بالمال والسلاح، وتستخدم الفيتو لحمايته من أي إدانة دولية.
حين نتحدّث عن الإمبريالية، فنحن نتحدث عن بِنية اقتصادية سياسية ثقافية متعدّدة الأدواة، تمثّل الرجعية العربية وأنظمتها الوظيفيه جزءً أساسيا من هذه البنية العدوانية المعادية للتحرر الوطني.
حين كان التيار الوطني الديمقراطي على امتداد الساحة العربية يتكلم بهذه الخلفية، كان مثقفو البلاط يتهمونه بالتطرّف والغُلوّ، غير أن الحرب على غزة حوّلت تلك الخلفية إلى وقائع يومية يراها الناس يوميًا. يرون تعاونًا حثيثا لهذه الأنظمة الفاسدة مع نتنياهو والبيت الأبيض لتصفية المقاومة واقتلاعها من جذورها وكيّ الوعي الفلسطيني حتى لا تولد فكرة المقاومة مرة أخرى. فتتحوّل إلى نموذج ثقافي يعصف بهذه الكيانات الوظيفيه المرتبطة بالاستعمار.
هذه الأنظمة التي تساوم على بقائها ببيع القضية الفلسطينية، تتحمّل المسؤولية نفسها عن المجازر، لأنها اختارت الاصطفاف خلف المشروع الأمريكي–الصهيوني.
ختاما، العدو الحقيقي هو الاستعمار، ورأسه الاول الولايات المتحدة. فهي من ترسم السياسات، تموّل الحروب، تدير قواعدها العسكرية في أرض العرب، وتستنزف مقدرات شعوب المنطقة على نحو يحبسها في مربع التخلف إلى الأبد. أما أذناب الأفعى إلى جانب الكيان، فهذه الأنظمة التي يجب أن تسقط.
لهذا، لا تكفي بيانات الشجب ولا دعوات التهدئة. المسؤولية الحقيقية تقع على عاتق الشعوب العربية التي يجب أن تستعيد قرارها السيادي بفرض بقطع العلاقات مع أمريكا. بوقف تصدير النفط إليها. بطرد قواعدها العسكرية. وبإسقاط كل اتفاقية خيانة مع الكيان الصهيوني.
المعركة مع المشروع الصهيوني هي معركة تحرّر عربي شامل من الهيمنة الأمريكية، تبدأ بتحرير الدول العربية من أنظمة وظيفية تحرس مصالح الاستعمار. حينئذ ستتحرّر فلسطين.
#عزالدين_بوغانمي (هاشتاغ)
Boughanmi_Ezdine#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟