عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)
الحوار المتمدن-العدد: 8413 - 2025 / 7 / 24 - 15:23
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
حين يدور الحديث عن النظام السوري في عهد حافظ الأسد وعهد ابنه ينقسم التوانسة بين المدح والهجاء. والحال أن السياسة لم تكن يوما بيضاء ناصعة ولا سوداء مظلمة، بل كانت على مرّ العصور رمادية اللون.
في معادلة مقاومة الكيان الصهيوني، سوريا لم تكن مجرّد "دولة جوار" بل كانت دومًا عقدة مركزية في ما يمكن تسميته بـ"حزام النار" أو "دوائر الاشتباك الاستراتيجي". فبحكم حقائق الجغرافيا السياسية والديمغرافيا والتكوين العسكري للنخبة الحاكمة في سوريا بعد الانفصال، شكّلت سوريا في العقود الأخيرة شريانًا حيويًا في منظومة المقاومة التي تقودها إيران، خصوصًا كعمق استراتيجي لحزب الله في لبنان، وممرًّا للذخيرة والسلاح والخبرة إلى قطاع غزة.
ولهذا السبب، فإن استهدافها كان أولوية دائمة للمشروع الأمريكي الصهيوني، خاصّة بعد 2003، حيث أصبح إسقاط دمشق جزءًا من مشروع "إعادة تشكيل الشرق الأوسط الكبير".
لكن بالمقابل، من الخطأ تسطيح دور سوريا باعتباره شيئًا واحدًا وثوريًا بالكامل، لأن النظام السوري لعب أيضًا أدوارًا وظيفية في مراحل مختلفة:
قوات الردع العربية دخلت إلى لبنان بقرار من الجامعة العربية، صحيح، ولكن بضوء أخضر أمريكي / إسرائيلي. وكانت وظيفتها المُعلنة وقف الحرب الأهلية وضبط الفصائل الفلسطينية. هذه القوات لعبت دورًا مباشرًا في تحجيم المقاومة، خصوصًا بعد مجزرة تل الزعتر التي ارتكبتها الميليشيات الانعزالية بغطاء سوري، في إطار إضعاف العمل الفلسطيني المستقل، فكما هو معروف، كثير من الفصائل التي لم تخضع للخط السوري تمّ التضييق عليها، أو حتى تصفيتها.
من جهة الجولان المحتل، ظلت الجبهة هادئة لعقود طويلة، وهو ما فُهم على أنه نوع من "الضمان المتبادل" رغم العداء العلني.
علينا أن نتكلم عن التاريخ بأقصى درجات الموضوعية والتماسك الأخلاقي، حتى لا نبرّر للأنظمة خطاياها، ولا نُجمّل الوقائع.
سوريا الأسدين كنظام قامت بدور مزدوج: من جهة، كانت جسرًا للمقاومة وداعمًا نوعيًا لها، لا سيما بعد تحالفها مع إيران. ومن جهة أخرى، حاصرت المقاومة في أوقات سابقة، حين رأت فيها خطرًا على التوازنات الإقليمية، بما في ذلك أمن إسرائيل.
ولذلك نعم، كان لسوريا موقع ودور ذهبي في دوائر النار حول إسرائيل، لكن هذا الموقع لم يُستثمر دائمًا بما يخدم المقاومة، بل أحيانًا وُظّف لترويضها أو احتوائها.
وهنا تظهر أهمية أن نفرّق بين الدولة السورية كشعب وأرض وتاريخ، وبين النظام السوري كسلطة سياسية ومصالح. وحينئذ نعطي ما لله لله، وما لقيصر لقيصر.
لا تُدار القضايا الإقليمية في عالمنا العربي من خلال الشرعية الشعبية أو المبادئ، بل عبر ميزان المصالح والتحالفات المتغيرة، حيث يتحوّل "المؤقت" إلى "دائم"، وكل "دائم" هو مستقرّ قابل للانفجار، ما لم يُكسر بتغير في موازين القوة أو في الإرادة السياسية.
من قمة الرياض أكتوبر 1976 إلى الطائف: كيف مهّدت التفاهمات الإقليمية والدولية لهيمنة سورية على لبنان؟
لم يكن التدخل السوري في لبنان عام 1976 حدثًا معزولًا أو طارئًا، بل جاء تتويجًا لسلسلة من التفاهمات والمخاوف الإقليمية والدولية التي رأت في سوريا قوة "منضبطة" يمكنها فرض الاستقرار في لبنان الذي تتقاذفه الحرب الأهلية. آنذاك.
هذا التدخل، الذي بدأ تحت عباءة "قوات الردع العربية"، تحول تدريجيًا إلى نوع من الوصاية على لبنان استمرت ثلاثين عاما بغطاء عربي
وقبول أمريكي وإسرائيلي ضمني.
قمة الرياض الطارئة (أكتوبر 1976): ولادة "قوات الردع" بغطاء عربي وقيادة سورية
مع تصاعد الحرب الأهلية اللبنانية وسقوط بيروت الغربية في قبضة تحالف القوى الوطنية اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية، شعرت الأنظمة العربية المشرقية بالقلق الشديد من تحول لبنان إلى قاعدة للنفوذ السوفياتي، أو إلى منطلق للثورة في اتجاه منابع النفط.
في قمة الرياض الطارئة، تم الاتفاق على إرسال "قوات الردع العربية"، لكنها عمليًا كانت قوات سورية بغطاء عربي، إذ شكّل الجيش السوري أكثر من 90% من هذه القوات.
توافقت القوى الإقليمية والدولية على ضبط الأوضاع ولكن كان لكل طرف حساباته الخاصة.
مصر السادات كانت منشغلة بالتحضير لتسوية مع إسرائيل، ورأت أن تدخّلًا سوريًا بموافقة أمريكية يحقق "توازنًا مطلوبًا" يؤدي للتهدئة بما يخدم مستقبل علاقة النظام المصري مع الأمريكان واليهود في تل أبيب.
الولايات المتحدة أعطت ضوءًا أخضر ضمنيًا لسوريا، خشية افتكاك اليسار للسلطة وانتقال لبنان إلى المعسكر السوفييتي. وقد تمّ التفاهم مع دمشق في إطار تفاهمات كيسنجر–الأسد.
إسرائيل لم تعترض طالما أن الوجود السوري سيحُدّ من قوة الفلسطينيين، ويمنع تشكل جبهة جديدة في الجنوب.
أما العراق، فرفض بشدة، واعتبر أن التدخل السوري هو محاولة للهيمنة على القرار العربي. وكانت العلاقة متوتّرة بين سوريا والعراق بعد صعود نجم صدام حسين الذي سيطر على الحزب والأجهزة الأمنية وأصبح هو الموجه لسياسة العراق الإقليمية في عهد الرئيس أحمد حسن البكر.
أما المملكة العربية السعودية فقبلت وشجعت أطروحة "قوات الردع"، واحتضنت القمة رغم أن علاقاتها بالنظام السوري لم تكن على ما يُرام، لأن اليسار اللبناني خطرًا مضاعفًا، خصوصًا بعد سقوط اليمن الجنوبي بيد اليسار الماركسي. فكما هو معلوم، بعد انسحاب بريطانيا من عدن، استولى الحزب الاشتراكي اليمني (المدعوم من الاتحاد السوفياتي) على السلطة في الجنوب. وأُعلن قيام "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية"، يقودها نظام ماركسي- لينيني، حوّل اليمن الجنوبي إلى قوة معادية لأنظمة الخليجي وعلى رأسها السعودية. ودعّمت حركات يسارية في عُمان والخليج، وكانت تُعتبر رأس جسر السّوفيات في الجزيرة العربية.
بالتوازي كان اليسار اللبناني مركزًا فكريا وسياسيا للمد الثوري. ففي بيروت، ازدهرت قوى مثل الحزب الشيوعي اللبناني، منظمة العمل الشيوعي، وحركة القوميين العرب، والحزب الاشتراكي بقيادة الزعيم كمال جنبلاط. ثم تحالفت هذه القوى مع منظمة التحرير الفلسطينية، ورفعت شعارات راديكالية مناهضة للأنظمة الملكية، في وقت كانت الساحة اللبنانية على صلة ايديولوجية وتنظيمية وثيقة بالجنوب اليمني، وتستند إلى دعم مباشر أو غير مباشر من موسكو. وهذا ما يفسر القلق السعودي المزدوج تُجاه لبنان واليمن كجبهتين متكاملتين لتمدد المشروع اليساري المعادي لها. بحيث قامت في الجنوب جمهورية ماركسية مسلّحة ومعادية، وفي الشمال تحالف لبناني يساري–فلسطيني.
لهذا دعمت السعودية دخول الجيش السوري إلى لبنان لأنه بدا البديل الوحيد الممكن لوقف هذا الزحف اليساري، الذي بات يهدّد التوازنات الداخلية في الخليج والجزيرة.
أما عن سوريا ذاتها فلم يكن تدخلها يعكس طموحًا توسعيًا فحسب، بل ضرورة استراتيجية لنظام يعيش تحت ضغط جيوسياسي خانق. في الشمال، له توترات مع تركيا حول المياه ولواء إسكندرون، إضافة إلى دعم دمشق لحزب العمال الكردستاني.
ومن الجنوب الخطر الإسرائيلي الدائم بعد خسارة الجولان عام 1967.
ومن الشرق: بعث العراق الذي اعتبر نفسه قائد المشروع القومي الأوّل، بقيادة صدام حسين.
في هذا السياق، كانت لبنان الورقة الوحيدة المتاحة لدمشق لبناء نفوذ إقليمي، وتحقيق توازن مع محاور العداء الثلاثة، فحوّلت الساحة اللبنانية إلى عمق دفاعي، ومجال مناورة سياسية وأمنية.
3. بين 1976 و1989: عسكرة النفوذ واستثماره سياسيًا
في ظل الانقسام الداخلي اللبناني، وبدعم غير مباشر من قوى كبرى، رسّخت سوريا وجودها، فدعمت ميليشيات متعدّدة، ولعبت على التناقضات الطائفية. وبذلك حافظت على حضور عسكري في البقاع والشمال، ثم في بيروت بعد 1982.
في فترة ما قبل 1982 قدّمت نفسها كـ"ضامن استقرار"، بينما كانت تتحكم في القرار اللبناني إلى حد بعيد. ولالاجتياح الإسرائيلي في 1982 لم يُنهِ هذا النفوذ، بل أعاد تموضعه، وأخرج الفلسطينيين ليُفسَح المجال أكثر لسوريا التي أحكمت قبضتها على البقاع والشمال، ثم لاحقًا على بيروت، واستفادت من الانقسام المسيحي–المسلم، ومن تفكك المؤسسات.
3. اتفاق الطائف (1989): تقنين الوصاية
جاء اتفاق الطائف في لحظة إقليمية دقيقة جدًّا:
انهيار الاتحاد السوفياتي.
نهاية الحرب العراقية–الإيرانية.
استنزاف القوى اللبنانية بعد 15 سنة من الحرب.
فأعاد تنظيم الوجود السوري رسميًا، عبر بند ينص على "إعادة انتشار" القوات السورية، لا انسحابها، ما كرّس عمليًا حضورها الأمني والسياسي.
4. حرب الخليج (1990): لحظة التمكين السوري الكاملة
شكّل غزو العراق للكويت نقطة تحوّل كبرى في التوازنات الإقليمية. حافظ الأسد، بدهائه المعروف، استثمر الفرصة استثمارًا استراتيجيًا، فانضم إلى التحالف الدولي ضد العراق، وأرسل وحدات رمزية من جيشه إلى حفر الباطن تحت قيادة الجنرال نورمان شوارتسكوف قائد عمليات "درع الصحراء"! فنال رضا أمريكيًا مباشرًا، ودعمًا خليجيا غير مسبوق، وضَمَنَ بذلك صمت واشنطن الكامل على تمدد نفوذه في لبنان.
استغل الرئيس حافظ الأسد هذا المناخ الجديد، واجتاح في أكتوبر 1990 المناطق التي كانت خاضعة للجنرال ميشال عون (قائد الجيش المدعوم من العراق، والذي كان يرفض الطائف)، وأنهى فعليًا كل مقاومة للوجود السوري في لبنان، لتبدأ مرحلة جديدة من الوصاية السياسية والأمنية الكاملة.
بين قمة الرياض وغزو الكويت، رسم حافظ الأسد مسارًا معقدًا من التفاهمات والمراوغات، جمع فيه بين الغطاء العربي، والضوء الأخضر الأمريكي، والتقاطع المؤقت مع المصلحة الإسرائيلية. لم يكن مجرد تدخل عسكري، بل عملية متكاملة لبناء نفوذ طويل الأمد في لبنان، تحوّل فيها الأسد من "ضامن للتهدئة" إلى صاحب الكلمة العليا في بيروت ، إلى غاية 2005 بخروج الجيش السوري بعد اغتيال رفيق الحريري.
ما بين حفر الباطن، وطرد الجنىال ميشال عون لفرنسا، استطاع حافظ الأسد تحويل لحظة عربية مأزومة إلى فرصة وصاية طويلة المدى على لبنان. حيث استغل التناقضات بين القوى العربية، والتفاهمات مع واشنطن، والتقاطعات المؤقتة مع مصلحة إسرائيل، ليجعل من الورقة اللبنانية رهانًا إقليميًا ضمن معادلة باردة:
"لبنان المستقر، هو لبنان الخاضع لسوريا". ولا شكّ أن لهذه المعادلة تكاليف سيتولى دفعها بشار الأسد الإبن الذي ورث السلطة والعنف على أبيه، ولكنه لم يرث عقله ودهاءه. فكان أن انتهى الجمل بما حمل في "وادي القرى"
.
#عزالدين_بوغانمي (هاشتاغ)
Boughanmi_Ezdine#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟