عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)
الحوار المتمدن-العدد: 8375 - 2025 / 6 / 16 - 16:39
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
العدوان على إيران جزء من مشروع أوسع لإعادة تشكيل المنطقة وفقًا لمصالح الولايات المتحدة وإسرائيل تحت عنوان "الشرق الأوسط الجديد". الذي يعني إعادة رسم الخرائط والتحالفات في المنطقة، بطريقة تناسب مفهوم إسرائيل الكبرى القائم على أساطير توراتية صهيونية، والذي يلقى دعما سياسيًا وإستراتجيا من الولايات المتحدة.. وترجمة هذا المفهوم هو:
* تفوق إسرائيل كقوة مهيمنة. مقابل إضعاف الدول المحورية مثل إيران، مصر، العراق، سوريا، المملكة العربية السعودية، عبر الحروب، التفكيك، العقوبات أو نشر الفوضى.
*تحييد الشعوب وتجريدها من أي مشروع تحرري أو مقاوم. فالشعوب العربية والإسلامية ليست خارج المعركة، بل هي قلبها، لأنها هي من ترفض الاحتلال والتقسيم والهيمنة. ولذلك فإن تخريب وعي الشعوب هو أحد الرهانات والأهداف الكبرى.
بدأت القصة بقيام "دولة إسرائيل" عام 1948، كانت المنطقة العربية تعيش حالة من الضعف والتجزئة الناجمة عن اتفاقيةسايكس-بيكو، وتركيب أنظمة وظيفية مرتبطة بالاستعمار. ورغم اشتراك "الجيوش العربية" في حرب فلسطين الأولى، إلا أنها انتهت بهزيمة مدوية عكست نقص القوة وحالة التفكك والتآمر.
بعد أربعة سنوات جاء جمال عبد الناصر لحكم مصر، ليعلن بداية مرحلة جديدة من التحرر الوطني والمواجهة المباشرة مع المشروع الصهيوني وداعميه. وبذلك عطّل المشروع الصهيوني التوسعي من خلال:
* بناء قوة عسكرية وطنية
أعاد عبد الناصر بناء الجيش المصري بعقيدة قتالية وطنية وعربية، مستعد للصدام مع إسرائيل.
* توطين القضية الفلسطينية كقضية مركزية، حيث أعادها إلى قلب الوجدان العربي، لا كـ"ملف لاجئين" بل كقضية تحرر قومي، وربطها بالصراع مع الإمبريالية العالمية، واعتبر "إسرائيل" رأس حربة المشروع الاستعماري الغربي في المنطقة.
* تأسيس مشروع عربي وحدوي تحرّري مُضادا لفلسفة "إسرائيل الكبرى" التي يقوم على تجزئة الوطن العربي وزرع الطائفية والانقسام والتبعية.
* دعم الثورات التحريرية في الجزائر واليمن.
* إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 بدعم مصري مباشر
* تأميم قناة السويس ومواجهة العدوان الثلاثي (1956)
حين أمم عبد الناصر قناة السويس، اصطدم مباشرة بمصالح بريطانيا وفرنسا وإسرائيل. ومن هنا لم يكن العدوان الثلاثي بسبب القناة فقط، بل بسبب الشروع في كسر الهيمنة الغربية.
كل ذلك شكّل شبكة سياسية وشعبية عطّلت المشروع الصهيوني التوسعي. حيث أظهر صمود مصر في وجه العدوان أن إسرائيل ليست قوة مطلقة، وأن الاستعمار يمكن كسره بالإرادة الشعبية.
* حرب الاستنزاف بعد نكسة 1967
رغم الهزيمة في 1967، إلا أن عبد الناصر رفض الاستسلام، وأطلق حرب الاستنزاف (1968–1970) على جبهة قناة السويس، التي مهّدت لنصر أكتوبر لاحقًا.
كان المشروع الناصري -رغم كل ما لنا عليه من مآخذ- عقبة أمام المشروع الصهيوني، لأنه كان مضادًا تمامًا لمشروع "إسرائيل الكبرى":
الوحدة العربية ضد التفتيت طائفي
السيادة الوطنية ضد التبعية
مقاومة الاستعمار ضد التحالف مع الاستعمار
بناء اقتصاد مستقل ضد اقتصاد تابع للغرب
دعم تحرر فلسطين ضد تصفية القضية
في المقابل حارب الصهاينة والاستعمار والغربي عبد الناصر في السويس (1956). وبدعم التمردات والانقلابات في دول الجوار. بالدعاية لتشويه عبد الناصر في الغرب. بعدوان 1967، وكان الهدف من ذلك تحطيم مصر عبد الناصر، لا فقط احتلال الأرض، بل إنهاء دور مصر في إعادة تشكيل الوعي العربي المقاوم. وفرض بيئة معادية للكيان الصهيوني. وخلق مشروع تحرري جمع بين السياسة والهوية والسيادة.
سقوط هذا المشروع بعد 1970 كان إيذانًا ببدء مرحلة التراجع العربي، وتمكين إسرائيل من التمدد بدون رادع حقيقي، حتى ظهر المشروع الإيراني المقاوم لاحقًا كبديل موازٍ.
من تحييد مصر إلى استهداف إيران: مشروع إعادة صياغة المنطقة واقتلاع فكرة المقاومة
منذ غياب عبد الناصر، والمنطقة العربية تعيش مسلسلًا ممنهجًا من التفكيك والتحطيم، يدار تحت عناوين مختلفة، لكن هدفه النهائي واحد: إعادة تشكيل الشرق الأوسط بما يخدم المشروع الصهيوني التوسعي، ويدفن كل بذور المقاومة والتحرر، سواء كانت فكرية، عسكرية، أو سياسية.
المرحلة الأولى:
البداية كانت مع إخراج مصر من معادلة الصراع العربي الصهيوني، بعد حرب أكتوبر 1973، عبر اتفاقيات كامب ديفيد، تم تحييد مصر سياسيًا وعسكريًا، وتحويلها إلى دولة منضوية في النظام الإقليمي الذي ترعاه واشنطن.
كان هذا التحول الاستراتيجي ضربة قاسمة، إذ فقد العرب الدولة الأثقل عربيًا من حيث الكتلة السكانية والتاريخية والجغرافية.
المرحلة الثانية: ضرب المقاومة الفلسطينية
بخروج مصر، انفتح المجال لضرب المقاومة الفلسطينية، بدءًا من اجتياح لبنان عام 1982، وطرد منظمة التحرير من بيروت، وصولًا إلى تدجينها سياسيًا عبر مسار أوسلو، الذي أنتج سلطة فلسطينية مرتبطة أمنيًا واقتصاديًا بالاحتلال. فصار الشعب الفلسطيني يُدار في أراضيه المحتلة من خلال تنسيق أمني يصب في مصلحة العدو.
المرحلة الثالثة: تفكيك جبهة الصمود والتصدي
بعد تحييد مصر وترويض منظمة التحرير، جاء دور تحطيم الدول التي كانت تُشكل العمق الاستراتيجي للفكرة التحررية في العالم العربي:
* العراق: فُرض عليه حصار قاسٍ دام أكثر من عشر سنوات، تلاه الغزو والاحتلال عام 2003، وتحويله إلى ساحة فوضى مذهبية وطائفية.
* سوريا: حرب مدمّرة بدأت عام 2011، هدفت إلى إسقاط الدولة المركزية وتقسيم البلاد.
* ليبيا: تدخل عسكري غربي أسقط النظام، وترك البلاد فريسة للفوضى والاقتتال الأهلي.
* اليمن: حرب دامية قادها تحالف إقليمي لإعادة إنتاج نظام تابع، وتدمير القوى الصاعدة داخليًا.
* الجزائر: محاولة مبكرة في التسعينات لتحطيم الدولة عبر إشعال صراع داخلي دموي، فشلت لكن خلفت ندوبًا وقروحا كبيرة.
بهذه المرحلة، تم تدمير أو إضعاف كل الدول التي كانت تملك ولو قدرة جزئية على مقاومة المشروع الأمريكي-الصهيوني.
المرحلة الرابعة: ضرب الوعي واقتلاع فكرة المقاومة
بعد النجاح الكبير في ضرب البنى السياسية والعسكرية، دخلنا الآن في المرحلة الأخطر: كيّ الوعي الجماهيري، واقتلاع فكرة المقاومة ذاتها من الجذور.
في لبنان، تعرضت المقاومة لحملة تشويه وتجريم إقليمية ودولية غير مسبوقة، تستهدف تحطيمه سياسيًا وشيطنة سلاحه داخليًا. ثم تم القضاء على الجزء الأكبر من مقدراته العسكرية واغتيال قادته التاريخيين على رأسهم حسن نصر الله
في غزة، شهدنا حرب إبادة ضد المدنيين والمقاومين، ترافقها حرب إعلامية ونفسية هدفها جعل فكرة المقاومة مرادفة للموت والخراب.
في إيران، بالعدوان العسكري الجاري على إيران انتقلت المواجهة من الحرب الاقتصادية والحرب النفسية والتخريب الداخلي وإنهاك الدولة إلى حرب ساحقة تهدف ليس فقط إلى استهداف البرنامج النووي، بل إلى تغيير نموذج الحطم، وتحطيم كل إمكانيات نهوض إيران مرة أخرى.
لماذا يتفق الغرب على تحطيم إيران وإسقاط النظام؟
لأن إيران هي الداعم الأول والأوحد للمقاومة العربية الرافضة للمشروع الصهيوني والهيمنة الغربية. فأحد أهداف الحرب الرئيسية هو اجتثاث الروح التي تقول "لا". والمستهدف اليوم ليس النظام الإيراني فحسب، بل الوجدان الشعبي العربي والإسلامي الداعم للمقاومة، كي يُستكمل مشروع "الشرق الأوسط الجديد" على أنقاض الوعي.
ولأنها قوة إقليمية مقاومة للهيمنة الأمريكية والإسرائيلية. وتمتلك قدرات عسكرية وصاروخية ونفوذ سياسي في عدة دول عربية.
ماذابعد إيران؟
بالمعطى الاستراتيجي، ومن وجهة نظر الغرب لا فرق بين المشروع الناصري والسياسة الإيرانية اليوم. فكلاهما سعى لتعطيل المشروع التوسعي الصهيوني الذي هو ذاته المشروع الامبريالي. وكلاهما مسؤول عن تنامي الوعي المقاوم. وكلاهما تحمّل الضربات دون الاستسلام: رغم الحصار، الحروب، والعزلة، لم يتراجع أي منهما عن الموقف الجذري تجاه الكيان الصهيوني. وكلاهما نقل الصراع من مجرد ملف لاجئين بيد الحكومات إلى مشروع كفاحي جماهيري عربي وإسلامي وأممي.
وما الفرق إلا في التوقيت والنتائج. فعبد الناصر عطّل المشروع الصهيوني لكنه لم يسقطه، بل تعرضت مصر للتجريف بعد رحيله. أما إيران ما زالت صامدة.
الدرس الأهم، هو أن المشروع الصهيوني لا يخشى الأنظمة التابعة، بل يُصاب بالكَلَب إزاء أي دولة تمتلك مشروعًا مستقلًا ومضادًا لمشروعها. ولذلك، الحرب اليوم على إيران ليست حربًا على النظام فقط، بل على فكرة المقاومة التي ظهرت منذ قيام الكيان الصهيوني، وتطورت بأشكال متغيّرة ورايات مختلفة، لكن السياق هو نفسه ومحور الصراع الوطني هو الثابت الذي لا يتغير. وإذا سقطت إيران أو تم تحييدها، ستتفرغ القوى الكبرى لتحطيم بقية الدول التي يمكن أن تشكل عائقًا. وكل دولة عربية تمتلك حدًا أدنى من القوة التي تسمح بالسيادة ونشوء توجه استقلالي، ستكون مهددة.
المواجهة ستستمر بين مشروعين: مشروع هيمنة واستعمار، ومشروع تحرر وسيادة. وكما سقطت مخططات كثيرة أمام إرادة الشعوب، فإن الرهان اليوم هو على من يصمد في معركة الوعي قبل معركة السلاح.
وبهذا المعنى إيران ليست مجرد دولة، إنها العقدة الصلبة التي ما زالت تربك الحسابات الأمريكية-الصهيونية. ووجودها بهذا الحجم من النفوذ والقوة، يمنع هيمنة "إسرائيل الكبرى" من الاكتمال. لذلك، ضرب إيران ليس خيارًا تكتيكيًا، بل قرار استراتيجي جوهري في مشروع السيطرة الشاملة على المنطقة.
إذا انكسرت إيران، فإن الطريق سيكون مفتوحًا أمام الكيان الصهيوني لتحطيم مصر مجددًا، ولكن هذه المرة من الداخل، عبر: إخضاع الجيش وإعادة هيكلة عقيدته.
تذويب الهوية السياسية والسيادية في "شرق أوسط جديد" بلا قيادة.
وسيتكرر السيناريو مع كل دولة لا تنخرط في مشروع إخضاع الشعوب ونزع شوكتها حتى تقتنع أن "لا جدوى من الرفض"، وأن القوة المطلقة للعدو تجعل أي مواجهة جنونًا.
لكن هذه هي لحظة الفرز والامتحان، فإما أن نصمت ونرى أوطاننا تُستباح من الداخل والخارج. أو أن نصمُد ونُعيد إنتاج معادلة الوعي لأن المقاومة حق طبيعي، والصمود خيار وجودي.
في ظني أن ما يجري ليس نهاية القصة، بل فصلها الأخطر. وإذا سقطت إيران، فلن يبقى للمنطقة سياجٌ يحميها من عاصفة التفتيت الكامل. لكن إن صمدت إيران، وإذا عادت مصر لتلعب دورها الطبيعي، وإذا وُلد وعي عربي جديد، فإن المشروع الصهيوني سيتوقف، ويرتد على نفسه. ثم يتفكك
#عزالدين_بوغانمي (هاشتاغ)
Boughanmi_Ezdine#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟