|
المواجهة التاريخية بين مشروعين
عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)
الحوار المتمدن-العدد: 8386 - 2025 / 6 / 27 - 15:43
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ثلاثة أسئلة مطروحة منذ الهجوم الأميركي على فوردو الإيرانية فجر اليوم الأحد:
أين روسيا والصين من هذه الحرب؟ أين الباكستان التي عبرت قبل أيام على انحيازها لإيران؟ وهل ستردّ إيران باستهداف إحدى القواعد العسكرية الأميركية في المنطقة كما وعدت؟
في الحقيقة الصين وروسيا وأروبا وأمريكا وإيران وإسرائيل، الجميع يعرفون أن هذه حرب قصيرة المدى لها أهدافها المحددة، منها:
* ردع إيران عبر استعراض استخباراتي رهيب يحصد علماء وقيادات من الصف الأول في غرف نومهم. *شلّ قدرات النظام على نحو يُنهي دور إيران في المنطقة كدولة محورية تعرقل توسع المشروع الصهيوني، دون الذهاب أبعد من ذلك. * بقاء نتنياهو في الحكم. والإبقاء على النظام الإيراني ولكن ضعيفا.
هذه الأمور تدركها روسيا والصين، لذلك تختاران "ضبط النفس" طالما لم تُمس مصالحهما الحيوية.
بالنسبة لروسيا غارقة في حربها مع أوكرانيا تستنزف قدراتها العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية. صحيح علاقتها بإيران بالغة الأهمية، ولكنها ليست "تحالفاً مصيريا"، بل شراكة تكتيكية قائمة على تبادل المنافع والدعم السياسي المتبادل. مع ذلك ستتدخل روسيا دبلوماسيًا واستخباراتيًا لدعم إيران، لأنها تدرك أن انهيار النظام الإيراني سيضعف محورها في الشرق الأوسط ويقوّي المعسكر الغربي.
أما الصين فترتكز أولا وأخيرا على مصالحها الاقتصادية (مشروع الحزام والطريق) وأولوياتها الإقليمية (تايوان، بحر الصين الجنوبي). وتاريخيًا تتفادى الانخراط في صراعات عسكرية لا تخدم مصالحها المباشرة. لكن الصين ليست محايدة بالكامل. وستستخدم أدواتها الاقتصادية والديبلوماسية لحماية استقرار إيران، لأن بلوغ الأوضاع إلى سقوط النظام والفوضى، هذا يهدد إمدادات الطاقة التي تعتمد عليها لتزويد سوقها العملاقة.
بخصوص الموقف الرّمادي للباكستان، فهو ما يفسّر سيرها على حبل الحفاظ على علاقاتها مع أمريكا والسعودية من جهة، وبين عدم خسارة جارتها إيران بالنظر لتوتر علاقتها الدائمة بالهند، وامتصاص غضب الشارع الباكستاني المتعاطف مع الفلسطينيين من جهة أخرى. لذلك فخطابها الرسمي غالبًا ما يكون موجّهًا للاستهلاك الداخلي، ولا ينبغي فهمه وفق منطوق التصريحات الحماسية، فعند لحظة الحسم، باكستان لن تدخل في مواجهة مع أمريكا أو حلفائها.
وأخيرا، هل ستردّ إيران باستهداف المصالح الأمريكية. إيران لا تمزح، وليست دولة طائشة. بل تدرك حدود قوّتها، ورغم خطابها الصّدامي، ليست في وضع يسمح لها بمواجهة شاملة مع الولايات المتحدة. وتعرف أن الرد المباشر على القوات الأمريكية قد يؤدي إلى حرب شاملة لا يمكنها التحكم في مداها. لكن في المقابل ستردّ على الضربة الأميركية باستهداف أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في العالم، ألا وهي إسرائيل الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة، والجزء العضوي في شبكة المصالح الأمريكية في الشرق.
حول سؤال الاختراق الأمني الرّهيب الذي تعرّضت له إيران
الدولة الإيرانية بعد الثورة كانت في عزلة قاتلة. لم يكن لها حلفاء. لكن الثورة كان لها أصدقاء. في البداية لم يكن هنالك تصديرا منظما للثورة، بل الثورة، من تلقاء نفسها، هي التي غادرت الحدود كأي ثورة في التاريخ.
طيلة الحرب مع العراق كانت إيران في عزلة. وحين خرجت من الحرب كانت محطمة في الشكل وفي المضمون. سياسيًا كانت معزولة دوليِا. واقتصاديًا مدمَّرة بالكامل: بنيتها التحتية متهالكة. منشآت النفط والغاز دمّرها الطيران العراقي ولم يترك حجرا على حجر. على الصعيد المجتمعي، خرجت البلاد بتركيبة اجتماعية مشوّهة. فالحرب أعادت صياغة المجتمع من حيث لا تدري إيران ولا تنوي. حيث نشأت شرائح اجتماعية جديدة لم تكن موجودة قبل الحرب، مثل: معاقي الحرب وضحاياها، العائدين من الجبهات، عائلات المفقودين، عائلات الشهداء، الأسرى عائلات الأسرى.
بمعنى أن الحرب أعادت تشكيل البنية الاجتماعية بالقوة، وضربت المقدّرات البشرية في الصميم، ولسنوات طويلة، وقد دفعت إيران فاتورة ثقيلة جدًّا بموجب ذلك التشوّه.
بالمعنى العسكري، وخاصة في المرحلة الأخيرة، لم تكن إيران تخوض حربًا عادية، بل كانت ملحمة حقيقية. كانت شعب يقاوم بجسده. قُتل في الحرب نحو مليون ونصف إنسان لاستعادة الأراضي التي كان الجيش العراقي قد احتلّها.
باختصار، دامت الحرب ثمانية سنوات في ظل تفوق عراقي مطلق. وانتهت بعد أن استفزّت حضارةً وثقافةً وتاريخًا عريقًا لأمة من أقدم أمم الشرق. الحرب لم تمس الجنود والأرض والاقتصاد فقط، بل طعنت الهوية الوطنية، والمذهب، والذاكرة الجريحة. ومن الحرب إلى حصار سيستمرّ لستة وأربعين عاما دون رحمة ولا شفقة.
مسألة أخرى: الجغرافيا السياسية لإيران معقدة وشديدة الخطورة. فبالرغم من تمتعها بموقع جغرافي حيوي يجعلها طرفًا محوريًا في معادلات الشرق برمته. فقد انهار الاتحاد السوفييتي مباشرة بعد خروج إيران من تلك الحرب المدمرة، وفجأة، ودفعة واحدة، ولدت على حدودها أربعة دول جديد مضطربة (أذربيجان، تركمانستان، أرمينيا، روسيا، وواجهة بحرية على القزوين)، وأصبحت محاطة بإثني عشرة دولة. معظمها يشتعل: عدم استقرار في الجمهوريات السوفياتية المنفصلة حديثا. حرب في أفغانستان، سلسلة انقلابات في الباكستان. وسرعان ما انفجرت أزمة احتلال العراق للكويت في أوت 1990، فتشظّت الحالة العربية، وعادت القوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة لتحتل المنطقة بقواعدها العسكرية.
أكثر من هذا، التّركيبة السكانية الإيرانية متنوعة أقواميا بقدر التنوّع الثقافي لجوارها الجغرافي. بحيث يرتبط كل مكوّن داخلي بألف رابط ثقافي بدولة مجاورة. وهذا جعلها، بحكم الجغرافيا والديمغرافيا، دولة لا تنام، إذا غفلت سقطت. إذ يتطلب موقعها تأهُّبا دائمًا وخوفًا مستمرّا، وكلّما كان نفوذها خارج حدودها أبعد، كان القلب مرتاحا. وكلما انكفأت، خصوصا في ظل الحصار، ازداد التهديد الوجودي وفقدت الدولة مقومات الحفاظ على مكانتها الإقليمية.
من هنا، من هذه الهوية الوطنية المعقدة بسبب تعدد الأعراق والمذاهب داخل البلاد، حيث يعيش الفرس والاذريين والعرب والأكراد والبلوش وغيرهم تحت مظلة الدولة. تسعى إيران إلى حماية وحدتها الداخلية وأمنها القومي عبر مدّ نفوذها خارج حدودها. لأن ضعف التأثير في الإقليم يؤدي إلى تزايد الأصوات المطالبة بالانفصال أو الاستقلال الذاتي، ما يجعل هذا النفوذ الخارجي جزءًا أساسيًا من الأمن القومي الإيراني.
من هذه الضرورة، ولأن الدولة بلا حلفاء، ولد محور المقاومة وولدت معه نظرية "الدفاع عن الدفاع".
الحصار الذي دام ستة وأربعين عاما متواصلة، أجبر الدولة على الارتباط بقوى "غير دولتية"، منظمات سياسية لها أذرع عسكرية وأمنية تتقدم فيها الايديولوجيا على الاحتراف وحسن التدريب، ما يجعلها عرضة للاختراق وسهولة التوظيف. بحيث تصبح عمليات ضبط الأمن مسألة في غاية الصعوبة. ومن هذه الثغرة تعرّضت المؤسسات الأمنية الإيرانية إلى اختراق فظيع انتهى بكارثة حصد الرؤوس ليلة 13 جوان 2025. هل تردّ إيراني على العدوان الأميركي ؟
في مواجهة العدوان الأميركي / الصهيوني على منشآتها النووية، تجد إيران نفسها أمام مروحة خيارات واسعة، تتراوح بين التصعيد العسكري المباشر، والتحرّك الدبلوماسي، والتصعيد عبر الحلفاء. غير أن هذه الخيارات لا تأتي دون تكالفيف، وبعضها ينطوي على مجازفات وجودية بالغة الخطورة.
أحد الخيارات المطروحة هو توجيه ضربات مباشرة للقواعد والأصول الأميركية في المنطقة. إلا أن هذا الخيار، رغم ما فيه من مشروعية، يعدّ انتحاريًا بامتياز. فاستهداف الوجود الأميركي سيعطي إدارة ترامب الذريعة لشنّ حرب مفتوحة، وهو بالضبط ما سعى إليه بنيامين نتنياهو منذ سنوات طويلة، من توريط الولايات المتحدة لِتقاتل نيابة عن تل أبيب. والأسوأ من ذلك، أن هذا الخيار سفسد على إيران مسار التّقارب والتفاهم مع دول الخليج، إذ أن استهداف القواعد الأميركية المنتشرة في تلك الدول سيقلب المزاج الإقليمي رأسًا على عقب ويعيد إيران إلى العزلة.
هنالك من يتكلم عن تفعيل ورقة مضيق هرمز، ولِم لا مضيق باب المندب أيضا، وهذا يُعد من الخيارات القصوى. رغم ما يتضمنه من ردع اقتصادي ضخم حقيقي، إلا أن استعماله سيكون بمثابة خيار "هدم المعبد على الجميع"، لأنه يضرّ بالمصالح الحيوية لحلفاء إيران، وعلى رأسهم الصين، ويضع المنطقة على حافة الانهيار الاقتصادي والعسكري.
الأمر نفسه ينطبق على القول بضرورة تفعيل القوة البحرية الإيرانية في الخليج وخارجه. صحيح خيار مفيد في الردع، لكنّ كلفته شديدة التعقيد دولياً.
هناك أيضاً خيار التعويل على الحلفاء في ما تبقى من "محور المقاومة". وهذا في ظني وتقديري خيار غير واقعي بالمعطى العسكري ولا يتناسب مع حجم الضربة الأميركية. علاوة على أنه يجب أن نعترف بأن الكلام عن محور المقاومة، بعد حسن نصر الله، وما تعرض له حزب الله، قد يصُحّ بالمعنى السياسي، وليس بالمعنى العسكري.
من جهة أخرى لا يمكن ابتلاع الضربة وعدم الرد، لأن الصمت في لحظة اختبار الصّمود، انتحار أخطر من المغامرة، لكونه يُسقط شرعية النظام أمام شعبه وأمام العالم حلفاء وأعداء.
يبقى الخيار الأكثر نجاعة وواقعية هو الثّبات على الاستمرار في ضرب إسرائيل، بوتيرة مؤلمة، وعلى مدى زمني ممتد ما أمكن، دون التورّط في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة. هذا الخيار يؤدّي جملة من الأغراض.
أولا، من وجهة النظر الواقعية والرّمزية الكيان الصهيوني مكوّن عضوي من مكونات الولايات المتحدة وامتداد لها. وضربه لا يختلف عن ضربها.
ثانيا، يعيد توازن الردع إلى مكانه الأصلي.
ثالثا، يُبقي واشنطن في موقع المتفرّج، طالما لم تُستهدف قواتها بشكل مباشر.
رابغا، يثقل كلفة العدوان على إسرائيل التي شنّت الحرب.
خامسا،يمنح إيران مساحة أمان ديبلوماسية مع جيرانها، ويحافظ على خيوط تواصلها مع القوى الكبرى.
لهذا طله، أظن أن إيران دولة عاقلة ولها خبرة طويلة في مصارعة الآفاعي. ولو خيّروها بين التصعيد الأهوج والصمود المحسوب لاختارت جعل العدو ينزف، دون الهبوط إلى المهلكة.
هذه جولة وانتهت. الدّمار الهائل الذي خلّفته الصّواريخ فرط-صوتية الإيرانية في إسرائيل هو الذي دفع باتجاه وقف العمليات العسكرية، واستئناف المفاوضات. نقول هذا رغم أن الخراب الذي أصاب إيران أكبر بكثير.
نتنياهو قد يحاول إفشال وقف إطلاق النّار، لأنه يحتاج سردية نصر (غير مطعون فيها) للداخل الإسرائيلي، تُبقيه في الحكم.
طاولة المفاوضات ستتغيّر من حيث المضمون، فمن وجهة نظر الإيراني، بما أن الخطر النووي أُزيل بالضربة الأمريكية، أصبح مطلب رفع العقوبات هو رأس جدول المحادثات. ومن وجهة نظر الغطرسة الأمريكية إيران تأتي للمفاوضات مستسلمة لتمضي على شروط ترامب. هذا زيادة على ما سيقوم به نتنياهو من تخريب لأي تفاهم أمريكي إيراني في ظل النظام الحالي. فالصهاينة لا يريدون نظاما في طهران له رؤية للمنطقة. بل يريدون حاكمًا يفكر في السلطة فقط.
باختصار، الحرب ستتوقف. وقد يُصار إلى اتّفاق ما. ولكن المواجهة التاريخية بين مشروعين متناقضين للمنطقة، ستظل محتدمة، بإيران أو دونها، وفي أشكال ولبوس جديدة وبألف طريقة وطريقة.
السّؤال الأكبر الذي، سيحدّد معيار النّصر والهزيمة في الحرب الأخيرة، هو سؤال البداية: أين غزة التي فجرت الحرب؟ بمعنى، هل سيكون وقف الإبادة في غزة شرطًا مطروحا على طاولة المفاوضات أم لا.
حول سؤال: لماذا أبلغت إيران قطر وأمريكا بضرب "العديد"؟
أولا، هذا يسمى الردّ المحسوب: وفيه رسائل عديدة: "نحن سنرد، ولكن لا نريد التصعيد الشامل". "إثبات الجاهزية والقوة دون الوصول لحرب شاملة". "الرد قادم مهما كانت التكاليف، ولكن يمكن التحكم به إذا فُتحت قنوات العودة للاتفاق".
بهذا المعنى هنالك تنسيق تم مع القطريين قبل الضربة، ولا يمكن اعتبار العملية عملا عِدائيا، بقدر ما هو طمأنة للأمريكان وللوسيط القطري برسالة مفادها "نحن لا نريد تجاوز الخط الأحمر، ولكننا لن نُظهر ضعفًا".
ثانيًا: لماذا الرد أصلاً طالما تمّ الإبلاغ به؟
هنالك ضرورة الحفاظ على هيبة الردع. فالإيراني اعتبر سكوته عن استهداف مفاعل نووي، فيه فقدان لمصداقية توازن الردع. ولذلك رأى أن الرد ضروري لحفظ ماء الوجه داخليًا وخارجيًا.
وبصفة عامة الرد المحدود المبلّغ عنه قبل وقوعه لا يعني الحرب الشاملة. بل هو لغة سياسية بصوت مرتفع ضمن قواعد الاشتباك المتفق عليها ضمنيًا بين إيران والولايات المتحدة.
ثالثًا: ما أهمية "المسرحية" في العودة للمفاوضات؟
أهميتها في خلق لحظة تفاوضية مقبولة، تتيح للطرفين أن يعودا للطاولة من موقع قوة ظاهرية: فإيران ردّت على أمريكا، و"حمت السيادة". وأمريكا ابتلعت ردًّا محدودًا لا أضرار فيه، مقابل جرّ إيران إلى اتفاق يُنهي دورها كقوّة معرقلة لمشروع "الشرق الأوسط الجديد".
ثالثا، التصعيد المنسّق هو أداة لإعادة ضبط الإيقاع وكسر الجمود، وليس أداة لتفجير الصراع. وفي كثير من الملفات الدولية، الأزمات المفتعلة تُستخدم كرافعة سياسية لإحياء مسارات ميتة، وإعادة تعريف سقف التفاوض ضمنيًا إذ تقول إيران مثلا: "إذا وصلتم لحدود معينة من الضغط، سنضرب". وترد أمريكا: "ردكم مقبول طالما بقي تحت السقف الذي نتحكم به".
بالنتيجة، الغاية هي العودة للمفاوضات من موقع متوازن، حيث لا منتصر ولا متنازل. والرد المحسوب لا يعني الضعف، بل هو أعلى درجات التحكم. فأن تُبلّغ عدوك بضربة وتنفّذها، وتفرض عليه السكوت أو ردًا باهتًا، فهذه [هيبة ردع]. وأن تُمسك زمام التصعيد وتُشعل جولة محدودة لتفرض شروط العودة إلى الطاولة، فهذه براعة تفاوضية.
يبقى المُتنمّرون والسّاخرون، هم أيضا معهم حقّ لأنهم ليسوا مطالبين بالتفريق بين ردود الفعل الانتقامية لأولاد الحومة على الحومة الأخرى، وبين حسابات السياسة بين الدول زمن النزاعات المسلّحة.
ولذلك الناس، على اختلاف فهمهم للأمور، جميعا من حقهم أن يفهموا الأحداث كما يشاؤون.
في 2011 كان عندنا ثروة وطنية لا تضاهيها ثروة. شباب متعلمون ولدوا زمن الثورة، مليئين بالطموح والمستقبل مشرق في عيونهم. وهم مصمّمون على البناء، مستعجلون، يُريدون فهم كلّ شيء دفعة واحدة. اتحدوا وشكلوا لجانا تلقائية تنظف الشوارع وتحمي البيوت. وقد غذّت فيهم الثورة حبّ التفوّق والولع بالذّات. فكانوا طموحا متدفقا بكل ما في الكلمة من معاني. وجاء الغربان. وحلّ أصحاب الرّايات السوداء، والانتهازيون واللصوص وقُطّاع الطّرُق ليكسروه. كسروا الطموح، وكسروا جيلا كاملا. أفسدوه بقبحهم وقلّة معروفهم. وإلى يوم الناس هذا مازالوا مستمرّين في تخريب ما تبقّى من أمل.
آش يقول أحدهم في قراءته لأهم معركة ضد الكيان الصهيوني منذ إنشائه: "انتهت المسرحية... وإيران صفّت كلّ المقاومين في صفقة مع أمريكا وإسرائيل..."ويضيف مُدّعيا أنه عصارة الذّكاء البشري ما معناه: "أن إيران كانت تدافع عن مصالحها"!
وهذه الجملة، التي تبدو من الوهلة الأولى غبيّة وحمقاء، تهدف في الحقيقة إلى تضليل الشباب حتى يسهل عليهم جرّهم للمستنقع. وهي العبارة التي دفعتني لكتابة هذه الكلمات.
طبعا إيران ليست جمعية خيرية. وقادتها بشر وليسوا ملاكمة. وهي دولة كبرى مساحتها عشرة مرات مساحة تونس، وفيها حوالي خُمُس احتياطي الغاز في العالم، وثالث منتج للنفط في منظمة أوبك، وفيها تسعين مليون ساكن. ولأنها دولة محورية وتحترم شعبها وجغرافيتها، وعندها رؤية للمنطقة، رفضت الهيمنة، وكان من الطبيعي أن تتقاطع رؤيتها مع مشروع المقاومة، فدعمت واحتضنت وموّلت ودرّبت وسلّحت العرب ليحرّروا أرضهم. فهل نهاجم إيران؟ أو نهاجم الاحتلال؟
السيد هذا هاجم إيران مُدّعيا أنها لا تخوض حربًا، بل تلعب دورا مسرحيا. قد تُفاجؤون لو قلت لكم أن صاحب هذا الخطاب ادّعى طوال حياته أنه "قومي وعروبي وتقدمي"، وهو وزير سابق بالمناسبة. ويبدو أن إصراره على استخدام عبارة "إيران الشيعية"، فيها غمزة لأهل المذهب المقابل. لست أتّهمه، غير أن التزحلق السريع من قمة الجبل إلى سفحه دفعة واحدة، يُثير الشكوك خصوصا إذا تعلق الأمر بخبراء تحليل المال الحرام.
غاية هذا الخطاب الخبيث، الذي لا ينبغي الاهتمام به، هي تخدير حاسَّة التضامن بين شعوب المنطقة، وتخريب وعي الناس وتهيئتهم للوقوف في صفّ الاستعماريين قتلة الأطفال.
لكي نفهم الحرب الحالية نحتاج وضعها ضمن سياق أرحب، يشمل تطورات الوصاية الأجنبية على المنطقة، وآثار طوفان الأقصى على البيئة السياسية والعسكرية العامة. وفي هذا هنالك اتّجاهان: اتّجاه يرفض الهيمنة الأجنبية ويقف ضد توسع المشروع الصهيوني وتصفية القضية الفلسطينية، تقودة إيران. واتّجاه ثاني تقوده معظم الأنظمة العربية الفاسدة، وقادتها الذين فاتوا التطبيع، وباتوا يشتغلون أدلاَّء لدى جيوش نتنياهو، يكشفون لها الطريق الأسهل للسيطرة على مقدّرات بلدانهم، والتفرّد بزعامة المنطقة.
الحرب على إيران تأتي تتويجًا لهذا الطموح الصهيوني لملء الفراغ الاستراتيجي في هذه المنطقة التي ارتضى لها زعماؤها أن تظل بطنا رخوا سهل الاختراق.
ولهذا فهذه حرب وطنية وليست مسرحية. وهي ترتبط بطوفان الأقصى برباط وثيق. غير أن "لكل حرب ثمارَها غير المقصودة"، والتي قد تفُوق أهميتها ثمارَها المقصودة. ومن ثمار طوفان الأقصى غير المقصودة مسألتان: إسقاط سوريا. والحرب على إيران، بهدف إسقاط نظامها أيضا. ولكن الصهاينة ومن ورائهم الولايات المتحدة الأمريكية وأروبا، فشلوا فشلا ذريعا في إسقاط النظام. وسيفشلون لأن الإيرانيين أمة ذات ثقافة انتقامية عميقة، واعتزازها بالذات عالي جدًّا، وهم أكثر الخلق مقدرة على الصّبر في الحروب الدفاعية والاستنزافية.
لماذا بعض العرب غير مرتاحين لنهاية الحرب بنتائج نِدِّية فرضت وقف إطلاق النار !؟ لماذا مُصرّين على ترديد رواية "الكابنيت" الإسرائيلي؟ لماذا يريدون أن يعود الجيش الإيراني حافيا مشيا على الأقدام، كما حدث للجيوش العربية في حروبها الفاشلة؟ لماذا يرفضون حقيقة أن إيران مختلفة؟
يا أخي بسيطة، إيران تستطيع قصف تل أبيب. الأحياء والمنشآت التي استهدفها الفرط-صوتي سوّيت بالأرض، عادي جدًّا. الإيرانيون لا يهابون الإسرائيليين. رغم سلاحهم النّووي يعتبرونهم أهون من بيت العنكبوت 🕷 لأنهم مجتمع مُلَفّق. لكن الجيوش العربية لا تستطيع إطلاق رصاصة واحدة. أوّل أمس جندي مصري قُتِل على يد عسكري صهيوني. كفّنوه وأعطوه لأُمّه، وانتهى الموضوع... لهذا هم مُنزعجون جدًّا. شنو السرّ؟ لا توجد أسرار. قضية أمّة حقيقيّة تنظر لنفسها باحترام. أُمّة عندها قيادة تُوحّدها، وعندها ربط عميق بين الوجود والكرامة. لا يوجد شيء آخر يُفسّر الفارق.
البعثيين التوانسة أصحابي ونحبّهم بصراحة. لكن أحيانًا يلزّولنا، خاصّة حين يستعيدون معجم شتائم الثّمانينات، من نمط "الروافض والماجوس ومعشر الأبالسة..."
حزانى وموش عاجبهم احتفال النصر في طهران بسبب حكاية قديمة من مصلحتهم ينسوها. نحن أمة مغبونة بطبيعة نفرح لمّا تُقصف تل أبيب بلا رحمة وتصرخ طلبا لوقف إطلاق النار. ماذا تريدون؟ نحتفل بذكرى أم المعارك التي انتصر فيها صدام حسين على إسرائيل وأمريكا ؟ نحتفل بطريق الموت الذي احترق به الجيش العراقي وهو يهرب من الكويت؟
أنا رأيي نضع اليد في اليد وننسى الحرب العراقية الإيرانية التي بدأها صدام حسين بدعم غربي خليجي جهارا نهارا وعلى رؤوس الإشهاد.. وكانت معركة غير متكافئة بالمرّة.. سنوات كانت المدن الإيرانية تحترق تحت قبضة الطيران العراقي. وقتها الايرانيون عُراة حُفاة، لا طيران ولا صواريخ ولا مدفعية. لم يكن أمامهم سوى دفع ملايين الشبان ضد جيش مدرّب جيّد التسليح. مليون ونصف إيراني قُتلوا لإحداث نوع من التوازن بين الدم والحديد..
بحيث هذا ماضي ثقيل بالأحقاد الغامضة، علينا أن نتعاون على التخلّص منه بالإقدام على إجراء حوار صريح مع ذواتنا.. ودعونا نفرح لأن فرحتنا تعادل وجعنا على فلسطين، ولا تعني إعجابنا بشيعة علي.
ترامب يناقش تقديم 30 مليار دولار لإيران كتعويض عن مشروعها النووي العسكري، مقابل بناء مفاعلات سلمية بدلا منها، ورفع العقوبات، وتوقيع اتفاق نووي جديد.
السؤال: من أين ينبع هذا الوزن والاعتبار الخاص للأمة الإيرانية ؟
أولا، الإرادة المستقلة في القرار السياسي: تصادمت مع أمريكا 40 سنة ولم تنهر. ولم تخضع تحت ضغط العقوبات الخانقة. وحافظت على تحالفاتها رغم المغريات والتهديد والوعيد. وهذا بحد ذاته، في ميزان السياسة الدولية، يفرض كثيرا من الاحترام.
ثانيا، الردع العسكري والقدرات الصاروخية: امتلاك إيران ترسانة صاروخية متطورة (وخاصة الفرط-صوتية مؤخرًا) جعلها قوة تُحسب في المعادلة الإقليمية، سواء أعجبت البعض أو أزعجتهم.
ثالثا، العمق الاستراتيجي الإقليمي والدولي: نجحت إيران في بناء حزام نفوذ مهم في المنطقة، كما رمت بنفسها في جميع مشاريع التعاون الآسيوي، محاولة خلق تحالفات استراتيجية وجودية بدول كبرى مثل الصين وروسيا... وهذه الأمور رغم محدوديتها في الحالة الإيرانية تبقى عناصر قوة ناعمة تتحول إلى قوة خشنة عند الحاجة لإيلام العدو، أو للضغط والتفاوض.
رابعا، البراغماتية والصبر الإستراتيجي: التمسك بسقوف الثوابت، و"تبسيم " أبواب التفاوض واستخدام لغة مرنة عقلانية براغماتية. فمثلا تفاوض الإيرانيون ببراعة محمد جواد ظريف مع أمريكا والغرب، وتوصلوا لاتفاق 2015. ولما انقلب الامريكان على عهودهم، استفادوا من ذلك، وحسّنوا قدراتهم الصاروخية، إذ تبين لهم أن الحرب عليهم قادمة لا محالة. والآن سيعودون إلى مائدة التفاوض، من دون أن يُقدّموا أية تنازلات جوهرية تمسّ من هيبة بلادهم.
خامسا، الشعور الجماعي بالكرامة والهوية: "نهج البلاغة"، كتاب إمامهم وسرّ شجاعتهم وحكمتهم، سرّ ثباتهم والصّبر على البلوى. حتى الصّبر على الأخ اللّئيم مثلنا موجود في نهج بن أبي طالب. إيران، على خلاف كثير من الدول الوظيفية المُلفّقة، تخاطب شعبها والعالم بلغة الكرامة لا الاستجداء. يعني هناك تعبئة نفسية وروحية حول فكرة "الدفاع عن الأمة"، حتى لو اختلف الناس في تفاصيلها. وهذا يعزز تماسك المجتمع ضد الضغوط الخارجية، في حين تشعر شعوب أخرى باليأس تجاه دولها والانفصال الروحي والوجداني عن قرارات أنظمتها.
سادسا، المشروع الوطني الواضح: بغض النظر على أننا لا نعتبر النموذج المجتمعي الإيراني مثالا يُحتذى به (هذا موضوع يخص الشعب الإيراني وحده)، بقطع النظر عن الموقف من هذا النظام، فهو حاضر وممتد وله رواية وهوية يُبنى عليها ولاء السكان للدولة. ولذلك الخطاب الإيراني فيه خصوصية المفردات. فهي لا تقدم نفسها كدولة فقط، بل كأمّة لها رؤية ومظلومية ومشروع. وعندها تتكلم تُسمِع الآخرين، وكلما تحرّكت تحرّك كل من حولها. ولا تقبل الاستسلام أو التراجع، لشدّة إيمانها بالحق. ولأن الشيء بالشيء يُذكر، في إيران لا يُقال "تراجع"، بل "انعطاف" !
باختصار، العالم يحترم الدول بناء على قدرتها على الفعل، وصبرها على التضحيات، واستقلال قرارها، وقدرتها على فرض معادلات جديدة. إيران ليست دولة مثالية، لكن لديها "حقيقة" سياسية وعسكرية وثقافية تُجبر حتى أعداءها على الاعتراف بها. وهذا هو الفارق الجوهري بينها وبين كثير من الدول التي تتكلم ولا تفعل، تخطب ولا تُنتج. بل وتظل في خصومه دائمة مع مجتمعها وبالنتيجة مع نفسها، حتى تسقط ويجرفها النسيان.
#عزالدين_بوغانمي (هاشتاغ)
Boughanmi_Ezdine#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الرد الإيراني على العدوان الأميركي
-
إيران، من دولة محاصرة إلى نظام مخترق
-
المواجهة الغربية الإيرانية: رهانات تغيير نموذج الحكم، وعوامل
...
-
اسرائيل تعتدي على إيران بالوكالة
-
مسار الصراع بين مشروعين
-
من تحييد مصر إلى العدوان على إيران: معركة اقتلاع روح المقاوم
...
-
المغزى السياسي والاستراتيجي من المواجهة العسكرية بين إيران و
...
-
الكيان الصهيوني يتفكّك: فما هي الأسباب البنيوية والعوامل الم
...
-
تشوّه البنية الكولونيالية وتحوّلاتها الاقتصادية والسياسية
-
أمريكا هي الطاعون
-
المسؤولية الشعبية في الصراع الفلسطيني الصهيوني وضرورات قلب ا
...
-
قيس سعيّد وسياسة اللّيل
-
دولة السبعين عامًا: بيروقراطية المصالح وصراع الطبقات في تونس
...
-
مفهوم -الكتلة التاريخية- بين أنطونيو غرامشي والتلقي العربي:
...
-
في جوهر سؤال محمد لخضر الزغلامي: نحو نظرية عملية لتنظيم الطب
...
-
أوروبا المتأرجحة بين العجز والمراوغة، ما الذي غيّر موقفها من
...
-
النهضة أسقطتها جرائمها
-
حركة النهضة في أيامها الأخيرة
-
التحليل السياسي والفكري يجب أن يتمّ بعيدًا عن العواطف والموا
...
-
صوت يأتي من بعيد
المزيد.....
-
أول تفسير من الجيش الأمريكي لاستثناء موقع إيراني نووي من الق
...
-
الرئيس الأمريكي يوقع على اتفاق سلام لإنهاء أحد أقدم الصراعات
...
-
بيزنس إنسايدر: قطر أسقطت الصواريخ الإيرانية ببطاريات باتريوت
...
-
الرئيس الجيبوتي يعتزم تفعيل دور -إيغاد- لحل الأزمة السودانية
...
-
جنرال أميركي يكشف سبب عدم قصف موقع إيراني نووي بقنابل خارقة
...
-
-الشيوخ- الأمريكي يحبط -محاولة ديمقراطية- لتقييد قدرة ترامب
...
-
عراقجي: على ترامب التوقف عن استخدام لهجة غير لائقة تجاه المر
...
-
مجلس الشيوخ يرفض تقييد صلاحيات ترامب في الحرب مع إيران
-
مقتل مواطنين عراقيين في تركيا.. وتحرك عاجل للسلطات
-
أول رد من إيران على تصريحات ترامب عن -إنقاذ خامنئي من موت مش
...
المزيد.....
-
كذبة الناسخ والمنسوخ _حبر الامة وبداية التحريف
/ اكرم طربوش
-
كذبة الناسخ والمنسوخ
/ اكرم طربوش
-
الازدواجية والإغتراب الذاتي أزمة الهوية السياسية عند المهاجر
...
/ عبدو اللهبي
-
في فوضى العالم، ما اليقينيات، وما الشكوك
/ عبد الرحمان النوضة
-
الشباب في سوريا.. حين تنعدم الحلول
/ رسلان جادالله عامر
-
أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب
...
/ بشير الحامدي
-
الحرب الأهليةحرب على الدولة
/ محمد علي مقلد
-
خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية
/ احمد صالح سلوم
-
دونالد ترامب - النص الكامل
/ جيلاني الهمامي
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
/ عبد الرحمان النوضة
المزيد.....
|