عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)
الحوار المتمدن-العدد: 8421 - 2025 / 8 / 1 - 20:17
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
أوروبا في زمن التصدّع الغربي
مع تصاعد حدّة الانقسامات داخل المعسكر الغربي منذ بداية الحرب الأوكرانية، مرورًا بالأزمة الطاقية، وصولًا إلى المجازر في غزة، وجدت أوروبا نفسها أمام واقع جيوسياسي جديد يُعيد ترتيب موازين القوة العالمية على نحو لم يعُد يسمح لها بلعب دور "الفاعل المستقل"، كما كان يُطمَح في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
تفاقمت هذه الهشاشة الأوروبية مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في مطلع عام 2025، وما صاحبها من تصعيد مباشر في الضغط على دول الاتحاد الأوروبي، اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا. وفي خضم هذه الأزمة الوجودية التي تعيشها أوروبا، برز فجأة خطاب جديد يتمحور حول "الاعتراف بالدولة الفلسطينية"، عبّرت عنه تصريحات فرنسية وبريطانية وكندية، زُعِم أنها تستجيب لتطورات ميدانية وإنسانية في غزة.
لكن القراءة المتأنّية لهذه التصريحات، في ضوء السياسات البنيوية، تظهر أن هذا "التحول" لا يعكس صحوة ضمير ولا استجابة للرأي العام، بل هو تموضع تكتيكي، يعكس سعي أوروبا المنهَكة لإعادة تثبيت موقعها داخل معادلة الغرب المتصدّعة، في مواجهة سياسات التهميش والإقصاء التي فرضها التيار الترامبي.
فالاعتراف المحتمل بدولة فلسطينية ليس سوى ورقة ضغط رمزية في صراع الإرادات داخل المحور الغربي، تُوظّف لخدمة توازنات القوى، لا لإنصاف قضية عادلة.
أولًا: صفقة ترامب – فون دير لاين: نهاية المشروع الاستقلالي الأوروبي
1. الإخضاع الاقتصادي بوصفه آلية استراتيجية
وقّعت إدارة ترامب في جويلية 2025 اتفاقية تجارية جديدة مع الاتحاد الأوروبي، عُرفت إعلاميًا بـ"صفقة ترامب – فون دير لاين"، فرضت رسومًا جمركية بنسبة 15% على الصادرات الأوروبية إلى السوق الأميركية، في مقابل امتيازات واسعة للمنتجات الأميركية داخل أوروبا، لا سيما في قطاعات الطاقة والتكنولوجيا والدفاع.
هذه الاتفاقية لم تكن نتيجة تفاوض متوازن، بل فُرضت قسرًا من واشنطن، في ظل تهديدات علنية من البيت الأبيض، عزّزها انقسام داخلي في أوروبا وعجز مؤسساتها عن فرض موقف موحّد. ومن ثمّ، جاءت الصفقة تجسيدًا لعلاقة استعمار اقتصادي مقنّع، تُعيد إنتاج التبعية عبر أدوات مالية وتجارية حديثة.
2. انهيار المشروع الدفاعي الأوروبي
أحد البنود تضمّن التزامًا أوروبيًا بشراء أسلحة ومعدات عسكرية أميركية تتجاوز قيمتها 400 مليار دولار على مدى خمس سنوات، ما جعل من الصعب تمويل مشروع الدفاع الأوروبي المشترك، الذي أُعلِن عنه سابقًا بميزانية متواضعة لا تتجاوز 500 مليار يورو.
بذلك، سقطت آخر أوهام "السيادة العسكرية الأوروبية"، وأُعيدت دول الاتحاد إلى وضعية التبعية الأمنية التي أرساها حلف الناتو منذ تأسيسه، ولكن بحدّة أكبر، وبغياب أي طموح بالتحرّر.
3. طيّ صفحة ديغول وميتران
الاتفاقية جاءت لتعلن، فعليًا، نهاية مرحلة "فرنسا المستقلة" التي مثّلها كل من شارل ديغول وفرانسوا ميتران، حين سعى كل منهما إلى تأسيس سياسة خارجية فرنسية (وأوروبية) مستقلة.
ديغول انسحب من القيادة العسكرية لحلف الناتو ورفض التبعية لواشنطن.
ميتران دعم العملة الأوروبية ورفض إخراج روسيا من مجلس الأمن بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، خشية تغوّل الولايات المتحدة وتشديد وصايتها على أروبا.
لكن اتفاقية 2025 جاءت لتُفرغ المشروع الأوروبي من مضمونه الاستقلالي وتعيده إلى بيت الطاعة الأميركي، ولكن هذه المرة دون وسطاء أو أقنعة.
ثانيًا: التهميش كمنهج أميركي ثابت في التعامل مع أوروبا
1. ترامب وسياسة الإذلال المتعمّد
منذ ولايته الأولى، أعلن ترامب بشكل مباشر أن أوروبا ليست شريكًا بل عبء، وأعاد ترتيب الأولويات الأميركية على النحو التالي:
الانسحاب من الاتفاقيات الدولية دون التشاور مع الحلفاء الأوروبيين (اتفاق باريس للمناخ، الاتفاق النووي مع إيران).
فرض رسوم جمركية انتقامية على صادرات أوروبية وكندية.
تقليص مساهمات واشنطن في حلف الناتو، واتهام الحلفاء بعدم تحمّل مسؤولياتهم.
تجاهل أوروبا في الملفات الدولية الكبرى (الصين، روسيا، أوكرانيا، الخليج، شرق المتوسط).
لكن ما فجّر شعور الإذلال في أوروبا، هو رمزية زيارات ترامب الرسمية الأولى: ففي خرق صارخ للتقاليد الدبلوماسية، زار ترامب الرياض بدل لندن أو أوتاوا، وهو ما اعتُبر مؤشّرًا على إعادة تعريف الحلفاء والشركاء، واستبدال أوروبا بتحالفات إقليمية جديدة مع إسرائيل والسعودية.
2. أوروبا الحليف المهمّش في الشرق الأوسط
طيلة السنوات الأخيرة، أُقصيت أوروبا من التفاهمات الأميركية الكبرى:
لم تُستشَر في "صفقات أبراهام".
استُبعدت من الاتفاق النووي الإيراني الجديد.
تمّ تجاوزها في المفاوضات بشأن التطبيع السعودي الإسرائيلي.
أُضعِف دورها في الملفين اللبناني والسوري.
جُمّدت المحادثات التجارية معها، وعلّقت التفاهمات الدفاعية في المتوسط.
في هذا السياق، ليس من المستغرب أن تُحاول باريس أو بروكسيل التلويح بورقة الاعتراف بالدولة الفلسطينية كوسيلة لكسر هذا التهميش واستعادة موقع تفاوضي في هندسة النظام الإقليمي الجديد.
ثالثًا: ورقة فلسطين كمناورة دبلوماسية لا كموقف مبدئي
1. قراءة في التوقيت: لماذا الآن؟
في 19 ماي 2025، أصدرت بريطانيا وفرنسا وكندا بيانًا مشتركًا يهدد باتخاذ "إجراءات ملموسة" ضد إسرائيل إذا لم توقف عدوانها على غزة. تزامن ذلك مع إعلان ماكرون احتمال اعتراف فرنسا بالدولة
الفلسطينية في مؤتمر دولي يُعقد في جوان 2025. عُقِد المؤتمر منذ أيام قليلة (آخر جويلية)، وتأجّل الإعلان إلى شهر سبتمبر [بشروط] !
هذا "التبدّل" لا يمكن فصله عن دينامية التهميش الذي تعانيه أوروبا. بل هو انعكاس لصراع مواقع داخل المعسكر الغربي، خصوصًا في ظل:
سعي ترامب إلى عقد صفقة تطبيع كبرى مع السعودية خارج الإطار الأوروبي.
تهميش بروكسيل في ترتيبات ما بعد الحرب.
خشية الأوروبيين من موجات لجوء فلسطيني بسبب تهجير محتمل لسكان غزة.
تصاعد الاحتجاجات الداخلية في الشارع الأوروبي (اليسار، الجاليات، الكنائس، الرأي العام الشبابي...).
2. التناقض بين الخطاب والممارسة
رغم هذا الخطاب، لم تتوقف صادرات السلاح الأوروبية إلى إسرائيل، بل تضاعفت منذ أكتوبر 2023. ولم يصدر عن أي دولة أوروبية قرار فعلي بفرض عقوبات أو تعليق التعاون العسكري.
فرنسا نفسها، التي لوّحت بالاعتراف، استمرت في تسليح الجيش الصهيوني في ذروة إبادة أهالي غزة، وغضّت الطرف عن جرائم حرب موثقة. لذا فإن الاعتراف المُحتمل، حسب فهمي، لا يُعبّر عن إرادة سياسية حقيقية، بل يُستخدم كورقة ضغط ظرفية.
3. رسالة إلى السعودية لا إلى غزة
التلويح بالاعتراف لا يستهدف تل أبيب أو واشنطن، بل يُوجَّه أساسًا إلى الرياض، التي تخوض مفاوضات تطبيعية حسّاسة. أوروبا تحاول بذلك إحراج السعودية أمام الرأي العام العربي، ودفعها إلى التراجع عن أي صفقة تطبيع لا تُمرَّر عبر القنوات الأوروبية.
رابعًا: من المهم فهم الخطاب الوظيفي للغرب
1. ازدواجية الموقف الأوروبي تجاه فلسطين
أوروبا، تاريخيًا، تبنّت خطابًا "متعاطفًا" مع الفلسطينيين، لكنه بقي محصورًا في الشعارات الدبلوماسية والبيانات الرمزية. لم يتحوّل يومًا إلى ضغط فعلي، بل غالبًا ما وُظِّف لأغراض سياسية داخلية أو دولية:
كأداة لموازنة السياسات الأميركية المتطرّفة.
أو كقناة للتفاوض غير المباشر مع العالم العربي.
أو كوسيلة لتحسين صورتها أمام الرأي العام.
2. خطر الاستعمال الأوروبي للقضية الفلسطينية
الرهان على أوروبا لتحريك الملف الفلسطيني هو رهان خاسر، لأنّ:
القرار الأوروبي مرتهن للبيت الأبيض.
مصالح أوروبا مرتبطة عضويًا بإسرائيل (طاقة، تكنولوجيا، دفاع).
خطاب "الاعتراف" لا يغيّر شيئًا ميدانيًا على الأرض.
كل ما تريده أوروبا هو ضمان حصة من ترتيبات ما بعد الحرب، لا تحرير فلسطين.
استعادة المبادرة من يد الغرب
إن المواقف الأوروبية الأخيرة، سواء في صيغتها الرمزية أو عبر التهديد بالاعتراف بدولة فلسطينية، لا تعبّر عن تحوّل نوعي، بل عن محاولات متأخرة لإثبات الذات في مشهد دولي يتغيّر بسرعة.
التهميش الاستراتيجي الذي تتعرض له أوروبا دفعها إلى المراوغة، واستخدام ورقة فلسطين كأداة تفاوض، لا كموقف أخلاقي أو مبدئي. ولذلك، لا ينبغي التعويل على هذه المناورات التي لن تُغيّر في جوهر العلاقة بين الغرب وإسرائيل.
الرهان الحقيقي لا يمكن أن يكون على قوى متموضعة داخل منظومة استعمارية، بل على الشعوب الحيّة، وعلى ديناميات المقاومة، وعلى قدرة الضحايا على فرض شروطهم، وبناء سرديتهم، وانتزاع مكانهم في العالم الجديد الذي يتشكّل.
#عزالدين_بوغانمي (هاشتاغ)
Boughanmi_Ezdine#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟