أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عزالدين بوغانمي - تمييز السياقات هو الحدّ الفاصل بين القراءة الموضوعية وسردية المؤامرة














المزيد.....

تمييز السياقات هو الحدّ الفاصل بين القراءة الموضوعية وسردية المؤامرة


عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)


الحوار المتمدن-العدد: 8459 - 2025 / 9 / 8 - 10:09
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


في دروس التاريخ تعلمنا أن هنالك فارقًا كبيرًا بين القراءة الموضوعية للأحداث وبين سردية المؤامرة. فالترابط بين الأحداث التاريخية والسياسية قاعدة أساسية في فهم مسارات الشعوب والدول. غير أنّ هذا الترابط قد يُساء توظيفه؛ فإمّا أن يُبنى على وقائع مثبتة وقرائن صلبة فينتج تحليلًا متماسكًا، أو يُختزل في تجميع أحداث وأسماء معزولة تُربط بخطوط وهمية لتشكيل سردية مُفتعلة لا علاقة لها بالواقع.

مثلًا لو نتناول حالة ألمانيا بين الحربين لأعطتنا مثالًا واضحًا على الترابط التاريخي المثبت بالوثائق:
1/ الحرب العالمية الأولى (1914–1918) أفضت إلى انهيار إمبراطوريات كبرى.
2/ معاهدة فرساي 1919 فرضت على ألمانيا شروطًا قاسية ومهينة.
3/ هذه الشروط خلقت أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة.
4/ الأزمة مهّدت لصعود النازية، وصولًا إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية (1939–1945).

في هذا المثال، نلاحظ تسلسلًا زمنيًّا دقيقًا يفسّر انتقال ألمانيا من الهزيمة إلى الفاشية، دون حاجة إلى فرضيات خارج السياق.

في المقابل نجد السردية المؤامراتية في مثال جائحة كورونا. نتذكر كيف انتشرت روايات اعتبرت الجائحة (2020) جزءًا من "مخطط عالمي" يربط بين الوباء، وانتشار شبكات 5G، وشرائح إلكترونية مزعومة للتحكّم في البشر. غير أنّ هذا الربط لم يستند إلى وثائق أو قرائن سببية، بل إلى تشابهات سطحية وأحداث متباعدة صيغت في إطار نظرية مؤامرة.

وحتى النقاشات السياسية في تونس تتأرجح بين الواقع والخيال، حيث يظهر بوضوح الفرق بين من يسعى إلى التحليل الواقعي المبني على وقائع وقرائن، ومن يكتفي بخطاب فضفاض يكتنز شعارات كبرى دون أن يلامس حقيقة الوضع.

عطفا على مسألة الترابط بين الأحداث، يمكن رصد ترابط واقعي: الثورة أسقطت النظام السابق، فصعدت حركة النهضة، ثم اندلعت أزمة سياسية ومجتمعية بسبب الاغتيالات، دفعت إلى حوار وطني رعته منظمات المجتمع المدني، ما مهّد لانتخابات 2014 ودستور جديد. هذا التسلسل مثبت بالوثائق والشهادات.

لكن في جهة أخرى، نجد الآن نصوصًا تُنشر على صفحات التواصل الاجتماعي تقرأ الازمة الحالية، فيجمع أصحابها أسماء وأحداثًا وعواصم متباعدة دون أي علاقة سببية، ويعرضونها وكأنها أجزاء من مخطط عدواني لضرب الاستقرار في تونس. غير أنّ التمحيص يكشف أنّ هذه الوقائع صحيحة في ذاتها لكنها معزولة عن بعضها البعض، وعملية الرّبط بينها متعسّفة، بلا دليل ولا حجة على صلتها بالموضوع.

بمعنى أن التحليل يقتضي البحث عن الوقائع المثبتة وعلاقتها ببعضها، وربطها ضمن سياقها الزمني والسببي الواضح بالقرينة والدليل، بينما السردية المؤامراتية تقوم على إيحاءات وانطباعات وافتراض الترابط بين عناصر مشتتة. ومن هنا يتمّ تشويه الحقيقة وتشويه وعي الناس، وتصبح مهمة القارئ شاقّة تقتضي تمييز العلاقة الواقعية من العلاقة المتخيّلة. ولأن التمييز في هذه الحالات غير متاح لكل القُرّاء، نقول هذا من باب حماية الوعي العام من الانزلاق إلى أوهام تُعطّل الفهم النقدي للتاريخ والسياسة.

وهذا يقودنا إلى مسألة أخرى مرتبطة بالمنهج نفسه: ليس فقط في قراءة الأحداث، بل أيضًا في تقييم الأشخاص والدول.
فليس من الموضوعية أن نحكم على الأشخاص أو الدول بحكم واحد مطلق. فكل تجربة أو موقف يحتوي أكثر من وجه، ومن الخطأ محو كلّ شيء والاكتفاء بوجه واحد.

فعلى سبيل المثال، عندما نُعدّد إنجازات الرئيس بورقيبة في مقاومة الاستعمار وتعميم التعليم وتحرير المرأة، فهذا لا يلغي ممارساته السلطوية وتوريثه لفكرة الحزب الواحد والرئاسة مدى الحياة. النقد الموضوعي يقتضي الجمع بين الوجهين، وإلّا نسقط في تقديس أعمى أو شيطنة كاملة.

وبنفس المنطق، حين نتوقع من خلال المعطيات أن الولايات المتحدة لا تسعى اليوم إلى إسقاط النظام الحاكم في تونس، فهذا لا ينفي مسؤوليتها الفعلية عن دعم حرب الإبادة في فلسطين. فهي قد لا تعمل على تغيير النظام في تونس لكنها طرف مباشر في الجرائم هناك.

ولمّا نقول إنّ تونس ليست ذات أهمية استراتيجية قصوى في السياسة الخارجية الأمريكية مقارنة بمصر أو إيران أو السعودية، فهذا القول لا يعني أن بلادنا ليست لها أهمية، ولا يعني أن نظرية الهيمنة الغربية خاطئة. إنّما يعني ببساطة أن القوى الكبرى في هذا الزمن العالمي العسير ليست مهتمة بنا بقدر اهتمامها بالدول التي تشكل عُقدًا استراتيجية في النظام الدولي المتواري، وفي النظام الدولي الوليد الذي لم يكتمل بعدُ. وما على التوانسة إلا أن يهتمّوا هم ببلادهم ومشاكلها.

بعض الأصدقاء لا تهمهم المعطيات الموضوعية، ويعترضون بالقول: "هذه طبيعة الإمبريالية!". وقد يتهمونك بالولاء والتواطؤ ... الخ
وفي هذا يجب التوضيح أن الإمبريالية ليست وحشًا منفلتًا لا عقل له، بل منظومة مصالح تقودها دول ونخب بشرية، تفكر وتخطط وتختار حروبها وفقًا لأولوياتها. فلقد غزت العراق لأنه بلد نفطي ضخم وله جيش قوي وبرنامج نووي سابق وطموحات تهدد مصالح دول المركز الاستعماري والتوازن الإقليمي الذي يحمي مصالح تلك الدول. وحاربت سوريا لأنها عقدة جغرافية في الصراع مع إسرائيل ومرتبطة بمحور مناهض للهيمنة الغربية. لكنها لم تُسقط أنظمة أخرى أضعف أو أقل أهمية، لأنها ببساطة لا تشكل خطرًا أو تحديًا مباشرًا لمصالحها. الإمبريالية وحشية في أدواتها، نعم، لكنها ليست بلا عقل.

مختصر الحديث: المطلوب هو فصل السياقات بدل خلطها. فالاعتراف بإنجاز لا يعني التغاضي عن خطأ، ونفي مؤامرة في موضع ما لا يعني نفي التورط في موضع آخر. بهذه الطريقة يصبح النقاش عقلانيًا بعيدًا عن التشنج والتعميم الذي يفضي عادة إلى تعطيل التفكير.



#عزالدين_بوغانمي (هاشتاغ)       Boughanmi_Ezdine#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -المؤامرة الغربية لإسقاط نظام قيس سعيّد- بين الوقائع والدّعا ...
- بخصوص مشروع قانون -استعادة الديمقراطية في تونس-.
- مرّة أخرى دفاعا عن التاريخ الاتحاد العام التونسي للشغل وحزب ...
- الاتحاد العام التونسي للشغل والحزب الحاكم: فروق جوهرية لا يج ...
- الأزمة النقابية في تونس: بين فساد البيروقراطية وتواطؤ الفاعل ...
- مقاومة الاستعمار خيار شعبي، وكل الحكومات معادية لبنادق الثوّ ...
- من التبعية إلى التمويه: أوروبا بين الإخضاع الأميركي والاستثم ...
- النظام السوري وازدواجية الأداء في لبنان وفلسطين
- سوريا الأسد: في توازن السلاح والسياسة، دعم المقاومة كتحجيمها
- العدوان الصهيوني ومشروع إسرائيل الكبرى
- الصهاينة يريدون سوريا مقسمة
- الفتنة الطائفية في سوريا صنيعة الخارج
- صعوبة التّمييز يخلق فوضى النقاش حول المُستهدف من التغيير: ال ...
- صفقة ترامب/نتنياهو: هدنة في غزة مقابل -شرق أوسط-إسرائيلي
- غزة على أعتاب تهدئة... وفلسطين في مهبّ صفقة كبرى
- مجتمع ملفّق وعنصري
- المطالبة بفرض العقوبات على النظام ووقف المساعدات
- المواجهة التاريخية بين مشروعين
- الرد الإيراني على العدوان الأميركي
- إيران، من دولة محاصرة إلى نظام مخترق


المزيد.....




- محللون: ترامب ونتنياهو يعرفان أن حماس سترفض خطتهما الجديدة
- عاجل | إدارة أسطول كسر حصار غزة: تعرض سفينة رئيسية بالأسطول ...
- حماس: تفاخر نتنياهو بتدمير الأبراج سادية وإجرام
- مقتل 4 جنود إسرائيليين في -كمين- بغزة.. والجيش يكشف الملابسا ...
- رئيس وزراء إسبانيا يصف ما تفعله إسرائيل في غزة -بالإبادة الج ...
- ترامب يحتفل بإلغاء حفل تكريم توم هانكس ويصفه بالمدمر
- شاهد.. أسباب تخلي الجزائر وتونس والمغرب عن الأداء و الاكتفاء ...
- مع ترقب الهجوم الأعنف.. الخوف وضيق الحال يعصفان بسكان غزة
- ترامب يعيد الأميركيين إلى -الأيام السيئة القديمة-.. فما الذي ...
- الحرب على غزة مباشر.. أكثر من 300 شهيد بسبب التجويع وهجمات ل ...


المزيد.....

- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب
- من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل ... / حامد فضل الله
- حيث ال تطير العقبان / عبدالاله السباهي
- حكايات / ترجمه عبدالاله السباهي
- أوالد المهرجان / عبدالاله السباهي
- اللطالطة / عبدالاله السباهي
- ليلة في عش النسر / عبدالاله السباهي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عزالدين بوغانمي - تمييز السياقات هو الحدّ الفاصل بين القراءة الموضوعية وسردية المؤامرة