عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)
الحوار المتمدن-العدد: 8432 - 2025 / 8 / 12 - 18:11
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ضعفت الدولة على إثر زلزال 2011، ووصول حركة النهضة المتطرفة للحكم، إذ كان هدفها الأول تفكيك أجهزة الدولة تحت شعار "ضرب الدولة العميقة". ولست أنوي التّذكير بجرائمها التي لم تعد مجرد اتهامات، بل أصبحت في دوائر القضاء كملفات وأحكام معلومة تمّ تنفيذها وأخرى قيد نظر المحاكم. وإنّما أردت التذكير بأنه عندما تضعف الدول ولا يعود للقانون أي معنى ويغيب الرّدع، يأخذ المجتمع في الانقسام، ويُعوّض القانون بإعادة إحياء دوائر الانتماء القديمة، فتبرز ما يشبه العصبيات التي يعتمد فيها القائد أو الأمير على عصابةٍ تابعة له، وأحياناً على مرتزقةٍ تدين له بالولاء، ليقضي على منافسيه ويخضعهم لسلطته.
من المعلوم أنّ ما مكّن الدولة الحديثة من التميّز عن القبيلة والإمارة، هو تمثّلها الواعي لمبادئ الدولة، والتزامها بقواعد عملها من خلال مؤسّساتها الإدارية والقانونية. وبذلك نجحت في الخروج من جلد العصبية إلى مبادئ الإدارة السياسية المختلفة جذريًّا عن منطق العصبية القائم على السيطرة على الموارد بإخضاع الناس عبر البطش والتسلّط.
تمظهر ضعف الدولة وعودة القبيلة في جميع الاحزاب لسياسية التونسية بعد 2011، وربّما تمظهر في اتّحاد الشغل على نحو أكثر فداحة. فمنطق العصبية قضى بأن تتصرّف بعض النقابات في اتحاد الشغل كجماعة عرقية لها حقوق جماعية خاصة بها. وتحت شعار "انتزاع مطالب القطاع بالنّضال" بدت وكأنها منفصلة عن بقية الشعب تشتغل بمنطق القوّة وكسر نطاق قوانين الدولة. وهي نفس الذّهنية التي تحكم الالتحام الداخلي والغطرسة الذي نرى عليها المكتب التنفيذي اليوم، وعدم قبوله بأي مختلف، وطرد المشتبه برفضه الولاء وتخوينه والتشهير به، والسّعي بكل الطرق إلى ترحيل "أزمة قيادة داخلية" تفاقمت لعدة سنوات، إلى "أزمة نضال اجتماعي ضد السلطة"
لذلك كي ينجح "المكتب التّنفيذي" في توحيد النقابيين المعارضين وضمّ المترّدين وايجاد حلول معقولة تقطع الطريق على جميع المتربصين بالمنظمة والمستثمرين في تمزّقها، ينبغي عليه أن يخرُج هو بداية من منطق التعصب لذاته وأفراده، وأن يُطوّر في وعيه وسلوكه، بدل إدارة التعسّف والإقصاء وتزوير المؤتمرات واستسهال تجريد النقابيين، بحيث يتخلّى على منطق التّضامن الأعمى لصالح النزاهة والقانون والديمقراطية الداخلية.
العمل النقابي أيضا سياسة، والسياسة منذ حكم معاوية بن أبي سفيان هي أن "لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، إذا مدّوها أرخيْتها وإذا أرخوها مددتُها".
ولا يعني هذا أن الاتحاد يمكن أن يسير بالمحاباة دون صرامة القانون، لكنّي أُشير إلى أهمية الاقتصاد في التعسّف لبناء حقل نقابي نظيف تتقدم فيه وسائل الحوار والتفاهم وعقد التحالفات والتسويات وإشراك جميع الأطراف في اتّخاذ القرار على أساس مبادئ النضال والدفاع عن العمال وحراسة السيادة الوطنية.
هذه الشراكة وحدها تكسر الاحتكار، وهي التي تقوّي خيار منطق القانون والشفافية على حساب التمسّك بمنطق إدارة القبيلة.
الحقيقة بعد ما جدّ في ساحة محمد علي يوم 7 أوت، وظهور رئيس الدولة كمدافع عن خيار الهجوم على الاتحاد والمطالبة بتجميده، أصبحت أزمة الاتحاد أكثر تعقيدًا، ذلك أن مجرد التفكير في هدم الاتحاد يُعدُّ جريمة لا تُغتفر، لأن المطلوب اليوم هو إنهاء حالة الانقسام، فتح الملفات لمحاصرة الفساد، وليس تدمير المنظمة تحت أي عنوان. ولأنّ الأمور تتّجه للتّصعيد الذي لا نعلم إلى أين يمكن أن يقود البلاد، كان من الواجب أن نناقش بهدوء أسباب هذه الأزمة حتى ينجح النقابيون في تفكيك عواملها بشجاعة بدل الانسحاب أو الانخراط في الهروب إلى الأمام أو المشاركة في ضرب المنظمة عن وعي أو دونه.
تشخيص أسباب الأزمة وعوامل الانقسام
أسباب الأزمة داخل الاتحاد العام التونسي للشغل متعددة بتعدّد عوامل الضعف الذي أصاب الدولة جرّاء حكم النهضة. فلأنها حركة فاسدة لا يمكنها التعايش إلا مع الفساد، ولو غاب الفساد في المؤسسات أو في الاتحاد لخلقته حتى تستمرّ في السيطرة على الدولة والمجتمع.
يدّعي بعض النقابيين أن أهمّ أسباب الأزمة الحالية هي الصفقة التي سمحت للمكتب التنفيذي بتغيير الفصل العشرين وفرض مؤتمر سوسة رغم الحجر الصحّي ورغم المعارضة الواسعة لما يفوق ثلث نواب العمال، مقابل تمثيل حركة النهضة في المكتب التنفيذي، وأمور أخرى. ويؤكد هؤلاء أنّ التنسيق تمّ مع حركة النهضة، ورئيس الحكومة آنذاك السيد هشام المشيشي، والسيدة والية سوسة الموالية للنهضة، والكاتب العام للاتحاد الجهوي النهضاوي، والذي فرضه المكتب التّنفيذي كاتبا عاما رغم أنه أقلّي داخل المكتب الجهوي، ومع صاحب النزل الذي تمّ فيه المؤتمر والمعروف بولائه للإخوان المسلمين وللقرضاوي رأسًا، وهو بالمناسبة الوحيد من أصحاب النزل الذي يرفض وجود نقابات في نُزُلِه الكثيرة! وكيف تولّى عضو من المكتب التنفيذي الوطني تهيئة الجهة بتزوير بعض المؤتمرات وإقصاء المناضلين الوطنيين المشهود لهم بالاستقامة والنضالية، حتى يتم التفاوض وإدارة الاتّفاق مع حركة النهضة دون إزعاج.
تمّت الصفقة، وأُنجز المؤتمر، وفورا تصاعد الضغط وتصاعدت الاحتجاجات، وهذا أدّى إلى انفجار الصراع داخل المنظمة، ولم يكن بوسع المكتب التّنفيذي -الذي أصبحت حركة النهضة ممثلة فيه لاول مرة منذ التأسيس- إلا تجسيد الهيمنة البيروقراطية المطلقة، علما وأن الحديث عن بعض رموزها الذين انخرطوا منذ 2011 في ممارسة أبشع مظاهر الفساد الإداري عبر التورط في تسميات مشبوهة، لم يعد حديثا مخفيًّا، بل تداوله التوانسة لسنوات طوال بما في ذلك حلفاء المكتب التنفيذي اليوم. ويُشاع كما هو معلوم أن هذه التسميات مرتبطة بفساد مالي أيضا، وبان هنالك تحالف عضوي مع شبكات الفساد داخل أجهزة الدولة والمؤسسات العمومية. ولعلّ هذا ما أجبر القيادة على تحوير النظام الداخلي، لبقائها في موقع القرار كضمانة لمنع فتح ملف التسميات وما حولها من فساد.
هكذا تمّ إبطال التداول الديمقراطي. وجاء المؤتمر غير الانتخابي، الذي يصفه النقابيون ب"غير الشرعي" ليؤكد أن ما يحكم المنظمة ليس التطوّع لخدمة العمال والإرادة الحرة للمناضلين، بل إرادة مجموعة ضيقة ترى في الاتحاد سلطة ومركز قوة، توظفه لحماية نفسها من الملاحقة. ولأنّ الجريمة تنتج جرائم أخرى، فقد فُتح الباب أمام المحسوبية، وتوزيع المنافع على الموالين، والتلاعب بالمؤتمرات... وبحكم التورط في صفقة الكوفيد مع حركة النهضة، تم استعمال الاتحاد، بطرق ملتوية، لإعادتها للحكم. ولقد كان واضحا منذ بيان 26 جويلية 2021 المراوغ المساند / المتحفّظ، والذي نبّه السلطة إلى عدم المساس ب"المؤسسات الدستورية".. واستمر المكتب التّنفيذي يبحث عن موقع ومكانة تضمن له القمح والإبل معًا، أي إرضاء قيس سعيد وراشد الغنوشي في نفس الوقت من خلال مبادرته للحوار الوطني، التي تقتضي عودة حركة النهضة للمشهد السياسي باعتبارها "شريك"، وهو الأمر الذي رفضه رئيس الجمهورية شكلا ومضمونا.
كانت حركة النهضة تبعث برسائل تهديد مُبطّنة للمكتب التنفيذي، وتطالب بالتصعيد وتحذّر من مغبّة الانخراط مع السلطة ضدّها، حتى أنها سمّت أحدهم في إحدى بيانات مجلس الشورى (على أن المتطرف فلان يسعى لتوتير علاقة النهضة بالرئاسة).. وفي الاثناء أعلن رئيس الجمهورية حلّ المجلس الأعلى للقضاء التابع لحركة النهضة، والذي كان الدّرع الحقيقي لحماية الإرهابيين والفاسدين.
كانت أزمة المكتب التّنفيذي تتفاقم. ففي حين كان فريق الأمين العام يُحاول ترميم العلاقة برئاسة الجمهورية، كان بعض أعضاء المكتب التّنفيذي، المورطين مباشرة في صفقة مؤتمر سوسة، يدفعون للتّصعيد للإطاحة بقيس سعيّد مهما كان الثمن. واستمرّوا في التجييش، فأقاموا احتياجات جهوية، أكبرها في مدينة صفاقس بكل ما لصفاقس من رمزية، حيث جاءت ممثلة النقابات الأروبية لنصرة الاتحاد في وقوفه ضد سجن المناضلين والتضييق على الحق النقابي. ثم نفّذوا إضراب القطاع العام رغم التوصل لاتفاق. ثمّ رفضوا المشاركة في الحوار الذي دعا له رئيس الجمهورية، وقاطعوه ما أدّى إلى كتابة دستور مبتور سياسيًا بسبب غياب الحد الأدنى من الغطاء الإجماعي.
وهنا بقطع النظر علن الموقف من دستور 2022 فالثابت أن مقاطعة المكتب التنفيذي كان خدمة لحركة النهضة وعربونًا لِكتم الأسرار.
دون الدخول في التفاصيل التي لم يحن وقتها بعد، كانت حركة النهضة قلقة جدا من هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، ومن الدور الخطير الذي لعبه منجي الرحوي في الإطاحة بها، واستمراره في التشهير بها والتحريض على حلّ البرلمان بعد تجميده. وكان لبعض أعضاء المكتب التّنفيذي دور في إحداث أزمة داخل هيئة الدفاع أفضت لإبعاد أحد أعضائها البارزين، بدعوى "علاقته برئيس الجمهورية عن طريق أحد وزرائه". كما تمّ طرد منجي من حزبه.
هكذا، أصبح الانقسام بين أجنحة
المكتب التنفيذي نفسه، وداخل الهياكل انعكاسًا لصراع سياسي بين حركة النهضة وحلفائها من جهة، والدولة من جهة أخرى. وما حول هذا الصراع من تزويد النهضة بالنفوذ و"الشرعية" بعد أن فقدتها بمقتضى قرار شعبي عارم، مقابل نزع الشرعية السياسية على رئاسة الجمهورية. ولا شكّ أن هذا التحالف الهجين، الذي حذّرنا منه في حينه، هو الذي أصاب الاتحاد في مقتل، وأحدث فيه تصدّعا داخليّا غير مسبوق، نجم عنه نزيف في السّمعة والثقة والمكانة والدّور.
المسؤوليات المشتركة
1جماعة المكتب التنفيذي
تتحمل المسؤولية الأكبر، إذ حوّلت الاتحاد من أداة نضال اجتماعي إلى منصة تسلّط داخلي وانحراف بالمنظمة لخدمة منظومة 24 جويلية الفاسدة، وأبعدتها عن مصالح الأغلبية العمالية. ومن اجل ذلك استعملت كل الوسائل غير المشروعة: التحويرات القانونية، المؤتمرات الصورية، شبكات الولاء، والابتزاز السياسي، لضمان بقائها.
2. المعارضة النقابية
رغم انتقادها للقيادة، فشلت في تقديم بديل موحد وجاد. كثير من مكوناتها انخرط في نفس الممارسات، وتركزت الطموحات على الوصول للمكتب التنفيذي بدل إصلاح المنظمة وتصحيح مسارها.
3. حركة النهضة
لعبت دورًا في تعميق الانقسام، مستفيدة من الفوضى لإضعاف الاتحاد أو إخضاعه. ومنذ 2011، سعت لزرع نفوذها في الهياكل النقابية، وتوظيف بعض الأزمات لمناكفة خصومها السياسيين، وفي مقدمتهم الرئاسة. وليس مستبعدا أن تكون هي وراء تحرّك 7 أوت سيء الصيت، ذلك أن التوتر الذي جدّ يوم 25 جويلية جراء اعتراض الاتحاد على استخدام ساحة محمد علي يتعارض مع غايتها في استمرار القطيعة بين الاتحاد والرّئاسة ريثما تبلغ حالة الصّدام.
4. السلطة السياسية
اختارت التفرج على انهيار الاتحاد، بل استثمرت في الأزمة لتهميشه وإفقاده المصداقية برفض التفاوض. وفي أحيان كثيرة، استعملت ملفات الفساد داخل المنظمة كسلاح سياسي، بدل الدفع نحو إصلاح شفاف يحمي المنظمة ويصون حقوق العمال.
نحو حل عقلاني للأزمة
الأزمة النقابية ليست قدرًا محتومًا، لكنها تتطلب مواجهة شجاعة تتجاوز الشعارات. الحل يبدأ من:
1. عقد مؤتمر وطني استثنائي انتخابي، بإشراف لجنة مستقلة من قضاة ومنظمات مجتمع مدني، لإعادة الشرعية للهياكل.
2. إلغاء كل التحويرات غير القانونية على النظام الداخلي، وفي مقدمتها تحوير الفصل العشرين.
3. فرض آليات رقابة مالية وإدارية شفافة، بإشراف هيئة رقابة مستقلة، لكسر شبكات الفساد والزبونية.
4. فصل العمل النقابي عن الولاءات الحزبية، وتجريم توظيف المنظمة لأغراض سياسية أو انتخابية.
5. إعادة ربط القيادة بالقواعد العمالية عبر انتخاب مباشر من القاعدة إلى القمة وتجريم تزوير المؤتمرات، ومنع استخدام لجنة النظام في إقصاء المكتب التّنفيذي لخصومه.
إن استمرار الوضع الحالي لن يؤدي إلا إلى مزيد من إضعاف الاتحاد، وإهدار دوره التاريخي كقوة اجتماعية دافعت عن حقوق العمال لعقود. المسؤولية مشتركة، لكن إصلاح الاتحاد يبدأ أولًا بكسر البنية البيروقراطية التي جعلت من المنظمة رهينة لمصالح قلة، وإعادة القرار إلى أيدي النقابيين، وإنقاذ الاتحاد ليس مصلحة نقابية فحسب، بل هو شرط لاستعادة التوازن الاجتماعي والسياسي في تونس.
#عزالدين_بوغانمي (هاشتاغ)
Boughanmi_Ezdine#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟