أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هويدا صالح - المتحف المصري الكبير بين الأصالة الكونية والهوية المعولمة















المزيد.....

المتحف المصري الكبير بين الأصالة الكونية والهوية المعولمة


هويدا صالح
روائية ومترجمة وأكاديمية مصرية

(Howaida Saleh)


الحوار المتمدن-العدد: 8514 - 2025 / 11 / 2 - 05:51
المحور: الادب والفن
    


د.هويدا صالح
لحظة تتجاوز الحدث
منذ اللحظة الأولى للبث المباشر، بدا أن ما نشهده ليس مجرد افتتاح متحف، بل "إعلان رمزي لعودة مصر إلى مركزها الثقافي في الوعي الإنساني". الكاميرات، والأضواء، واللغات المتعددة، والموسيقى الأوبرالية التي انطلقت في خلفية المشهد، جعلت من الحفل طقس عبور جديداً تنتقل فيه مصر من استعادة آثارها إلى "استعادة سرديتها" لا كصاحبة ماضٍ عريق فحسب، بل كفاعل حضاري حيّ في العالم المعاصر.
في المسافة بين تمثال رمسيس الثاني المهيب والواجهة الزجاجية المضيئة، التقت طبقات الزمن: الماضي الملكي بالحاضر الرقمي بالمستقبل الذي تُعيد مصر رسم ملامحه.
المتحف كمفهوم حضاري:
يقع المتحف المصري الكبير على تخوم الجيزة، في مواجهة الأهرامات، كأنه يحاور الزمن في موضع ولادته الأولى.
الهندسة الحديثة التي تمزج الزجاج بالجرانيت، والضوء بالحجر، تُجسّد رغبة مصر في إعادة تعريف العلاقة بين "التراث والحداثة" فالمتحف لا يقدّم مصر القديمة كأثر جامد، بل ككيان فاعل يواصل حضوره بلغة جديدة.
هنا تتحوّل العمارة إلى خطاب ثقافي، يستدعي فكرة "الاستمرارية الحضارية" التي ميّزت المخيال المصري منذ فجر التاريخ: الماضي لا يزول، بل يتحوّل.
الدبلوماسية الثقافية والتمثيل الرمزي:
لم يكن حضور أكثر من سبعين وفداً رسمياً من ملوك ورؤساء وحكومات تفصيلاً بروتوكولياً، بل إشارة إلى أن الحدث هو رسالة دبلوماسية رمزية. ومصر، عبر هذا المتحف، لم تُقدّم إرثها للعالم فحسب، بل أعادت تقديم ذاتها كقوة ناعمة، تمتلك القدرة على صياغة الجمال والهيبة في آن واحد.
الافتتاح بدا كما لو أنه رسالة موجهة إلى الإنسانية جمعاء:
"ها هو تراثنا يُفتح أمامكم، لنعيد معاً كتابة قصة الإنسان من على ضفاف النيل." وكما رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي:" تحيا مصر، وتحيا الإنسانية"، فالرسالة الواضحة للحدث العالمي الأبرز في 2025 أنه رسالة للإنسانية.
من الموكب إلى المتحف — تحوّل في الخطاب الجمالي:
لا يمكن فهم الافتتاح الكبير دون استدعاء ذاكرة "موكب المومياوات الملكية عام 2021"، الذي شكّل لحظة رمزية لتجديد علاقة المصريين بملوكهم القدماء.
في ذلك الموكب، هيمنت "الروح الطقسية": موسيقى مصرية بنَفَس فرعوني صِرف، إيقاعاتها تعيد صدى المزامير القديمة، وكأن الملوك يعبرون الزمن في موكب جنائزي مقدّس.
كان التركيز في موكب المومياوات على "القداسة"، و"الهوية الوطنية" و"البعد الميتافيزيقي" الذي يربط المصريين بأسلافهم القدماء.
أمّا في افتتاح المتحف عام 2025، فقد تغيّر النسق الجمالي نحو "الكوني والاحتفالي":
الموسيقى أوبرالية، الأوركسترات متعددة الجنسيات، الإضاءة رقمية، والرسالة لم تعد طقسية بل إنسانية شمولية.
تحوّل الخطاب من "الطقس الميثولوجي إلى العرض الحضاري العالمي"؛ من التعبير عن الذات داخل حدودها إلى تقديمها كهوية قابلة للحوار مع الآخر.
كأن مصر في أربع سنوات انتقلت من قول: "هذا ماضينا المقدّس" إلى قول: "هذا ماضينا المشترك معكم".
بهذا، أصبح المتحف امتداداً تطوّرياً لموكب المومياوات، لا نقيضاً له؛ فالاثنان يشكّلان معاً سرديتين متكاملتين: الأولى أعادت الروح للأسلاف، والثانية أعادت الجسد للحضارة.
الموسيقى الأوبرالية بين الترجمة والتجريد:
اختيار الموسيقى الأوبرالية بدلاً من الأنغام المصرية كان إعلاناً جمالياً واعياً. الأوبرا، بما تحمله من درامية وسمو صوتي، أرادت أن تجعل "المصري القديم يتحدث بلغة عالمية"، لغة تتجاوز الحدود الثقافية.
من زاوية تحليلية، يمكن تفسير هذا الخيار بثلاث دلالات:
1. التدويل الرمزي للهوية المصرية: فالمتحف يخاطب جمهوراً كوكبياً، لا محلياً فحسب.
2. إعادة تأويل التراث بصوت جديد: فالأوبرا لا تلغي المقامات الشرقية، بل تعيد ترجمتها إلى مقامات إنسانية كونية.
3. صناعة الجمال بوصفه خطاباً سياسياً: فالموسيقى هنا تؤدي وظيفة القوة الناعمة، وتُعلن أن مصر قادرة على منافسة أعظم مسارح العالم الفني.
ومع ذلك، أثار هذا الخيار تساؤلات حول "تغريب الصوت المصري" أليست الأوبرا، رغم عظمتها، لغة خارجية على التربة النيلية؟
ربما أراد المخرج أن يقدّم مصر للعالم بلغة يفهمها الجميع، حتى وإن لم تكن لغتها الأصلية. إنها "سياسة ترجمة ثقافية" أكثر من كونها استبدالاً للهوية.
أوركسترات العالم على مسرح الجيزة:
أن تعزف أوركسترات من طوكيو وباريس وريو دي جانيرو ونيويورك وسيدني في قلب الجيزة، فذلك "مشهد رمزي لحوار الحضارات عبر الفن".
فالعازفون المنتمون لثقافات متعددة، إنما يعزفون" أمام تمثال رمسيس"، لا ليُعيدوا إنتاج موسيقى الغرب، بل ليُعيدوا اكتشاف صوت الشرق. هذا الحضور العالمي للموسيقى يعكس تحول المتحف إلى "منصة كونية للحوار الثقافي"، حيث يصبح التراث المصري مرآة يرى فيها الآخرون أنفسهم.
لكن في العمق، يظل السؤال قائماً:
هل تحتاج مصر إلى صوت الآخر كي يُسمِع العالم حضارتها؟ أم أن الآخر هو من جاء ليستمع إليها بعد صمت طويل؟
في الحالتين، ينجح الحفل في ترسيخ "مبدأ المشاركة الجمالية في الإرث الإنساني".

العرض البصري والهوية المتحوّلة:
استخدم الحفل تقنيات الإضاءة ثلاثية الأبعاد والدرونز التي رسمت في السماء قناع توت عنخ آمون وأجنحة إيزيس وهي تقف بجوار أوزيريس، محوّلة الرموز القديمة إلى "لغة رقمية جديدة".
بهذا المزج بين التكنولوجيا والأسطورة، أكدت مصر أن هويتها ليست ماضوية بل "متطورة دينامياً"؛ فالرمز لم يعد حِجراً في متحف، بل "بيان ضوئي عابر للقارات".
إنها مصر التي تكتب تاريخها مجدداً بأدوات المستقبل.

من منظور المشاهد

كمشاهد، لا يمكن إلا أن تُصاب بدهشة المشهد:
إضاءة تشقّ ليل الجيزة، تمثال رمسيس الثاني يطلّ كمن يبارك الحداثة، والموسيقى الأوبرالية تملأ الفضاء في تناغم مع نبض المكان.
الحدث بدا دراما حضارية كاملة العناصر، جمعت بين الوقار والمتعة، بين الجمال والهندسة، بين العاطفة والعقل.
ورغم ما أثير من انتقادات حول الطابع الاستعراضي أو غياب الحس الشعبي، فإن "الرهبة الجمالية" تغلبت على الملاحظات.
لقد نجح الحفل في أن يجعل المشاهد يشعر أنه لا يرى متحفاً، بل **يشهد ولادة وعي حضاري جديد**.

النسق الثقافي العميق:

الحفل يكشف عن "تحول في خطاب الهوية المصرية":
من هوية تحتفي بذاتها عبر رموز الماضي، إلى هوية تعيد إنتاج نفسها عبر أدوات العصر.
فالأصالة لم تُلغَ، لكنها لم تعد انعزالاً؛ والعولمة لم تبتلع الخصوصية، بل أصبحت وسيلة لتوسيع مداها.
إنها "مصرية كونية" — تتحدث بلغات العالم دون أن تفقد لهجتها الخاصة.
وذلك هو جوهر الثقافة الحية: ألا تُحاصر بين ذاكرةٍ متحفية وحداثةٍ بلا جذور.
المتحف بوصفه بياناً ثقافياً جديداً:
في تلك الليلة، لم تُفتَح أبواب متحف فحسب، بل "أبواب سردية جديدة لمصر في وعي العالم".
من موكب المومياوات الذي جسّد الطقس المقدّس، إلى افتتاح المتحف الذي جسّد الحوار الكوني، تمتدّ خيوط مشروع واحد: "إعادة تعريف الهوية المصرية في زمن الصورة والعولمة".
المتحف ليس مبنى، بل "بيان حضاري متجدّد" يقول:
"نحن لا نعرض تاريخنا للعالم، بل نعرض العالم من خلال تاريخنا."
هكذا أعادت مصر في ليلة واحدة إنتاج علاقتها بالماضي والمستقبل معاً؛ لا كذاكرة تستعاد، بل كحكاية تُروى باستمرار — من اللغة الحجرية إلى النغمة الأوبرالية، ومن الأثر إلى الفكرة، ومن الضفة القديمة للنيل إلى المسرح الكوني المفتوح على الأبد.



#هويدا_صالح (هاشتاغ)       Howaida_Saleh#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صحف عالمية: المتحف المصري الكبير هو الحدث الثقافي العالمي ال ...
- الهرم القيمي والتربية في بردية إنسنجر: من حكمة المصري القديم ...
- دراسات ما بعد الاستعمار ودحض دعوات الأفروسنتريك
- رائدات بين الظل والنور: إيفا حبيب المصري.. تقاطعات نسوية في ...
- رائدات بين الظل والنور.. عميدة الصحفيات المصريات، و-ثورة في ...
- رائدات بين الظل والنور: شريفة رياض(7) مواجهة الاستعمار والمس ...
- رائدات بين الظل والنور.. إحسان القوصي(8) و- المرأة والمجتمع-
- رائدات بين الظل والنور ماري كحيل(6) رائدة العمل النسوي والحو ...
- رائدات في الظل والنور..إستر فانوس شعلة التنوير (5).
- رائدات بين الظل والنور: حواء إدريس(4)
- رائدات بين الظل والنور: لطفية النادي رائدة الطيران المصري(3)
- -رائدات في الظل والنور: سردية مصرية( 1) نبوية موسى الرائدة ا ...
- رائدات في الظل والنور ..(2) سيزا النبراوي صوت المرأة في زمن ...
- -رائدات في الظل والنور: سردية مصرية 1 (نبوية موسى)
- ملامح قصيدة ما بعد الحداثة في ديوان- كل هذا الدفء في عيني مر ...
- الذكاء الاصطناعي والحالة الإنسانية
- تأثير التكنولوجيا على التعليم: بين الثورة والتحديات
- في الرد على مغالطات برنامج -الدحيح-، حلقة - نهاية الفراعنة-
- إشكالية الدين والسياسة في فلسفة ابن رشد
- تأسيس جماليات عربية جديدة: قراءة في تجاوز المركزيات الغربية


المزيد.....




- الجوائز العربية.. والثقافة التي تضيء أفق المستقبل
- كوينتن تارانتينو يعود إلى التمثيل بدور رئيسي
- لونُ اللّونِ الأبيض
- أيقونة صوفية
- تــــابع كل المسلسلات والأفلام الهندي والعربي.. تردد قناة زي ...
- إطلاق ملتقى تورنتو الدولي لفن اليوميات وفلسطين ضيفة الشرف
- افتتاح المتحف المصري الكبير بعد عقدين من الزمن في أرضٍ لا يُ ...
- ماذا حدث عندما ظهر هذا النجم الهوليوودي فجأة بحفل زفاف مستوح ...
- (غموض الأبواب والإشارات السوداء)
- تــــابع كل المسلسلات والأفلام الهندي والعربي.. تردد قناة زي ...


المزيد.....

- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور
- الذين لا يحتفلون كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هويدا صالح - المتحف المصري الكبير بين الأصالة الكونية والهوية المعولمة