هويدا صالح
روائية ومترجمة وأكاديمية مصرية
(Howaida Saleh)
الحوار المتمدن-العدد: 8499 - 2025 / 10 / 18 - 19:29
المحور:
الادب والفن
عندما نتحدث عن رائدات الحركة النسوية المصرية في القرن العشرين، تتبادر إلى الأذهان فوراً أسماء لامعة مثل هدى شعراوي ونبوية موسى وملك حفني ناصف. لكن خلف هذه الأسماء الكبيرة، وفي ظل الشهرة التي نالتها، تقف عشرات من النساء الرائدات اللواتي أسهمن بقوة في بناء صرح الحركة النسوية المصرية، لكن التاريخ لم ينصفهن بالذكر والتقدير الذي يستحققنه.
منيرة ثابت واحدة من هؤلاء الرائدات ، امرأة حققت إنجازات استثنائية في عصر كان فيه مجرد تعليم المرأة أمراً مثيراً للجدل. فهي ليست فقط أول فتاة مصرية تحصل على ليسانس الحقوق، بل هي أيضاً أول محامية عربية تقيد أمام المحاكم المختلطة، وأول صحفية نقابية في مصر، وأول كاتبة سياسية، وأول رئيسة تحرير لمجلة سياسية
النشأة والتكوين: تحدي الظروف منذ البداية
ولدت منيرة ثابت عام 1906 في أسرة متوسطة الحال، لأب مصري يعمل في وزارة الداخلية وأم تركية. هذا التنوع الثقافي في أسرتها قد يكون قد أثر على تكوينها الفكري وانفتاحها على العالم. بدأت تعليمها في مدرسة إيطالية بالقاهرة حيث تعلمت مبادئ اللغة الإيطالية، ثم انتقلت إلى مدرسة ابتدائية حكومية وواصلت تعليمها حتى حصلت على الشهادة الثانوية عام 1924.
وهنا تبدأ القصة الحقيقية لتحدي منيرة ثابت للمجتمع ولظروف عصرها. ففي عام 1924، لم تكن أبواب التعليم العالي مفتوحة أمام البنات في مصر. الجامعات الحكومية كانت حكراً على الذكور، والمجتمع لم يكن مستعداً لتقبل فكرة المرأة المتعلمة تعليماً عالياً. في هذه الظروف الصعبة، لم تستسلم منيرة للواقع المفروض، بل وجدت طريقها إلى مدرسة الحقوق الفرنسية، التي كانت تضم عدداً قليلاً من البنات بين طلابها.
الريادة في المجال القانوني: كسر الحواجز المهنية
كانت دراسة القانون في حد ذاتها تحدياً كبيراً لفتاة في العشرينيات، لكن منيرة ثابت لم تكتف بمجرد الدراسة. بعد تخرجها، قررت ممارسة المهنة، وهو قرار كان يعتبر ثورياً في ذلك الوقت. لم تكن مجرد أول فتاة مصرية تحصل على ليسانس الحقوق، بل كانت أيضاً أول محامية عربية تقيد أمام المحاكم المختلطة.
هذا الإنجاز لم يكن مجرد لقب أو شرف شخصي، بل كان بمثابة فتح باب جديد أمام النساء المصريات والعربيات للدخول إلى مهنة القانون. كانت منيرة بذلك تمهد الطريق للأجيال التالية من النساء لكي يحذون حذوها ويدخلن مجالات كانت محظورة عليهن.
الدور الصحفي: صوت المرأة في الإعلام
لم تقف طموحات منيرة ثابت عند ممارسة المحاماة، بل امتدت إلى مجال الصحافة، وهو مجال آخر كان يعتبر من اختصاص الرجال. في عام 1926، قُيد اسمها في النقابة الأهلية للصحفيين كصحفية عاملة، لتصبح بذلك أول صحافية نقابية في مصر.
لكن إنجازها الأكبر في مجال الصحافة كان في تولي رئاسة تحرير مجلة سياسية، لتصبح أول امرأة تتولى هذا المنصب في العالم العربي. هذا المنصب مكنها من أن تكون أول كاتبة سياسية تعبر عن آرائها بحرية في القضايا السياسية والاجتماعية المهمة.
من خلال كتاباتها الصحفية، كرست منيرة ثابت إنتاجها لهدفين رئيسيين: مقاومة الاستعمار البريطاني والمطالبة بحقوق المرأة السياسية والاجتماعية. كانت تؤمن بأن تحرير المرأة وتحرير الوطن وجهان لعملة واحدة، وأن النضال من أجل الاستقلال لا يمكن أن يكتمل بدون مشاركة المرأة الكاملة في الحياة السياسية والاجتماعية.
النضال السياسي: من الكتابة إلى العمل
منيرة ثابت لم تكن مجرد كاتبة تنظّر للحقوق السياسية للمرأة من وراء مكتبها، بل كانت ناشطة حقيقية تترجم أفكارها إلى أعمال ملموسة. كانت من أوائل من نادوا بحق المرأة في العمل السياسي، وساهمت في تأسيس الحركات النسوية التي طالبت بالحقوق السياسية للنساء.
في مرحلة تاريخية مهمة، اقتحمت منيرة ثابت البرلمان المصري، ليس كعضو منتخب - فهذا الحق لم تحصل عليه النساء المصريات إلا في وقت متأخر - ولكن كمحتجة ومطالبة بحقوق النساء السياسية. هذا العمل الجريء كان بمثابة رسالة قوية للمجتمع والسلطات السياسية بأن النساء لن يقبلن بالتهميش والإقصاء من الحياة السياسية.
الفكر والمواقف: رؤية تقدمية لعصرها
كانت منيرة ثابت مؤمنة بحقوق المرأة السياسية والاجتماعية، لكن إيمانها هذا لم يكن منفصلاً عن السياق الوطني الأوسع. في حوار أجرته مع جريدة الهلال، أشادت بالحركة النسائية وأكدت على أهمية دورها في النهضة المجتمعية. كانت ترى أن تقدم المجتمع لا يمكن أن يتحقق بدون مشاركة كاملة من جميع أفراده، وأن إقصاء النساء من الحياة العامة هو إهدار لنصف طاقات المجتمع.
موقفها من الاستعمار كان واضحاً وحاسماً. كانت تعتبر مقاومة الاستعمار البريطاني واجباً وطنياً، وقد عبرت عن هذا الموقف في كتاباتها الصحفية ومواقفها العلنية. هذا الربط بين النضال النسوي والنضال الوطني كان سمة مميزة لفكرها السياسي.
الإرث الفكري: "ثورة في البرج العاجي"
في عام 1946، نشرت منيرة ثابت كتابها "ثورة في البرج العاجي: مذكراتي في عشرين عاماً عن حقوق المرأة السياسية" عن دار المعارف. هذا الكتاب يعتبر وثيقة تاريخية مهمة، حيث سجلت فيه مذكراتها وتجاربها على مدى عشرين عاماً من النضال من أجل حقوق المرأة، مع التركيز على التعليق على الأحداث السياسية التي عاصرتها.
العنوان نفسه "ثورة في البرج العاجي" يحمل دلالات عميقة. فالبرج العاجي تقليدياً يرمز إلى المكان المنعزل عن الواقع، المكان الذي يلجأ إليه المفكرون والأدباء بعيداً عن صخب الحياة. لكن منيرة ثابت تتحدث عن "ثورة" في هذا البرج العاجي، مما يعني أنها لم تكن راضية بالانعزال والتنظير، بل أرادت أن تحول هذا المكان إلى منطلق للتغيير والثورة على الوضع القائم.
التحديات الشخصية: الصمود رغم المحن
رغم كل إنجازاتها وتأثيرها، لم تسلم منيرة ثابت من التحديات الشخصية الصعبة. في مرحلة من حياتها، أصيبت بمرض في عينيها أدى إلى فقدانها للبصر، وهو ما كان يمكن أن يكون ضربة قاضية لامرأة اعتمدت على القراءة والكتابة في نضالها.
لكن منيرة ثابت، كما كان دأبها في مواجهة التحديات، لم تستسلم. سافرت إلى إسبانيا عام 1964 على نفقة الدولة المصرية لإجراء جراحة في عينيها، وبالفعل عاد إليها بصرها. هذا الحدث يعكس مدى التقدير الذي حظيت به من الدولة المصرية، رغم أن هذا التقدير لم يترجم إلى شهرة واسعة بين الجماهير.
إرث لم ينل حقه
توفيت منيرة ثابت في سبتمبر عام 1967، بعد حياة حافلة بالكفاح والنضال امتدت لأكثر من أربعة عقود. رحلت وقد تركت وراءها إرثاً غنياً من الإنجازات الرائدة، لكن هذا الإرث لم ينل حقه من الاعتراف والتقدير في الوعي الشعبي.
السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا لا نعرف منيرة ثابت كما نعرف هدى شعراوي؟ ولماذا لم تحظ بنفس الشهرة رغم أنها حققت إنجازات لا تقل أهمية؟
الإجابة قد تكمن في طبيعة العمل الذي قامت به. هدى شعراوي، على سبيل المثال، أسست الاتحاد النسائي المصري وقادت حركة جماهيرية واسعة. نبوية موسى كانت رائدة في مجال التعليم وأسست مدارس للبنات. هذه أعمال لها طابع مؤسسي واضح وتأثير جماهيري مباشر.
منيرة ثابت، من ناحية أخرى، كانت رائدة في مجالات أكثر تخصصاً: القانون والصحافة. كانت تكسر الحواجز وتمهد الطريق، لكن عملها كان أكثر فردية وأقل ظهوراً في الإعلام الجماهيري. كما أن المجالات التي برعت فيها - المحاماة والصحافة السياسية - كانت مجالات نخبوية إلى حد كبير في ذلك الوقت.
لكن هذا لا يقلل من أهمية دورها أو من ضرورة إنصافها تاريخياً. منيرة ثابت كانت من الرائدات الحقيقيات اللواتي مهدن الطريق للأجيال التالية من النساء المصريات. كل امرأة تمارس المحاماة اليوم، وكل صحفية تكتب في الشؤون السياسية، وكل امرأة تتولى منصباً قيادياً في الإعلام، تدين بالشكر لمنيرة ثابت وأمثالها من الرائدات.
منيرة ثابت لم تكن مجرد "أول" في مجالات متعددة، بل كانت رمزاً لإمكانية التغيير والتقدم رغم كل الصعوبات والعوائق. قصتها تذكرنا بأن التاريخ ليس فقط تاريخ الأسماء الكبيرة واللامعة، ولكن أيضاً تاريخ الرجال والنساء العاديين الذين اختاروا أن يكونوا استثنائيين في أدوارهم وإنجازاتهم.
#هويدا_صالح (هاشتاغ)
Howaida_Saleh#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟