هويدا صالح
روائية ومترجمة وأكاديمية مصرية
(Howaida Saleh)
الحوار المتمدن-العدد: 8391 - 2025 / 7 / 2 - 08:38
المحور:
الادب والفن
كيف تُبنى السردية التاريخية في الإعلام الشعبي؟.. حلقة "نهاية الفراعنة" نموذجًا
في عصر المنصات الرقمية والإعلام الجماهيري، يشهد الجمهور العربي تدفقًا هائلًا من المحتوى الذي يقدّم نفسه على أنه "تبسيط علمي"، أو ما يُعرف شعبيًا بمحتوى "Infotainment" (معلومات ترفيهية). غير أن هذا النوع من السرد غالبًا ما يقع في هوّة خطيرة: بناء سردية زائفة، متخيلة، عن التاريخ — لا تنبع من مناهج البحث الأكاديمي الرصين، بل من آليات السوق الإعلامي: الإبهار، والتشويق، وإثارة الدهشة.
حلقة "نهاية الفراعنة" من برنامج "الدحيح" تقدّم مثالًا مثيرًا للتأمل في هذه الظاهرة: كيف يُعاد تشكيل تاريخ معقّد، يمتد آلاف السنين، في قالب قصصي مُصمَّم ليجذب الانتباه في أقل من 50 دقيقة؟
وأي ضريبة معرفية يدفعها الجمهور حين يُستهلك هذا النوع من السرد بلا مساءلة نقدية؟
آليات بناء السردية في الإعلام الشعبي
لكي نفهم ما حدث في هذه الحلقة — وفي غيرها من حلقات التبسيط التاريخي — ينبغي أن نتوقف عند العناصر التالية التي تشكّل "منظومة إنتاج السردية" في الإعلام الشعبي:
. اختزال الزمن: من "التاريخ" إلى "قصة"
التاريخ، في جوهره، ليس مجرد سلسلة وقائع، بل شبكة علاقات زمنية-اجتماعية-ثقافية معقّدة.
لكن السرد الإعلامي يُفرِغ هذا التعقيد إلى "قصة سهلة":
ـ يُسقَط السياق الزمني.
ـ تُدمج عصور متباعدة (الدولة الوسطى، الهكسوس، الكوشيون، الآشوريون، الفرس) في مسار زائف للانهيار الحضاري لمصر القديمة.
ـ يصبح "الملك المصري القديم " شخصية نمطية قابلة لإعادة التدوير.
هكذا تحوّلت آلاف السنين من التاريخ المصري، في حلقة "نهاية الفراعنة", إلى حبكة درامية عن "السقوط الأخير"، متجاهلة ديناميات المقاومة، وإعادة البناء، والتفاعل الثقافي المستمر بين مصر والعالم.
. التحوير الدلالي: من الواقع إلى المبالغة
لأغراض الجذب، تُعتمد تقنيات لغوية تُضخم الإثارة:
ـ الحديث عن "اغتصاب مصر" من قبل الآشوريين — لغة مشحونة، لا تعكس تعقيدات التحالفات السياسية في عصر الأسرة 26.
ـ تصوير الكوشيين كغزاة بدائيين، في حين أنهم كانوا قوة متمصّرة ثقافيًا ودينيًا.
ـ المقارنة الخاطئة بين أهرامات السودان وأهرامات مصر — مثال صارخ على السرد المبالغ فيه لصنع "دهشة إعلامية"، فرغم وجود عدد من الأهرامات في السودان إلا أنها كانت أبنية صغيرة لا تشير إلى التفوق الحضاري والمعماري مقارنة بالأهرامات المصرية التي صمدت آلاف السنين في وجه الزمن. فهذا يمثل مغالطات أثرية ومعمارية، فالمقارنة بين الأهرامات المصرية والأهرامات السودانية يكشف أن :
ـ الأهرامات المصرية (138 هرمًا موثقًا حتى 2024)، خصوصًا في الجيزة وسقارة، تمثّل ذروة الإنجاز المعماري في العالم القديم (راجع Lehner, The Complete Pyramids, 1997).
ـ الأهرامات النوبية والسودانية، رغم أهميتها في مسار الثقافة الكوشية، صغيرة الحجم (متوسط الارتفاع: 6-30 مترًا)، وتُبنى على طراز مختلف وظيفيًا (مقابر ملوكية صغيرة، غالبًا لاحقة للعصر المصري المتأخر).
أما سرد دخول "الأسرة الكوشية (الخامسة والعشرون) بوصفه "غزوًا"، فهو تجاهل للبعد الثقافي والديني:
ـ كانت النخبة الكوشية قد تمرّست بعمق في العقيدة المصرية، خاصة عبادة آمون، وقدّموا أنفسهم كموحدين للأراضي المصرية بعد عصر الانقسام (راجع Morkot, The Black Pharaohs: Egypt s Nubian Rulers, 2000).
ـ هذا "التمصّر الثقافي" nuance لا يجوز إغفاله.
ـ إسقاط الهوية المعاصرة: قراءة الحاضر في الماضي:
من الآليات المألوفة في الإعلام الشعبي: "إسقاط أنماط الهوية الوطنية المعاصرة" على سياقات تاريخية قديمة.
فحديثه عن الفساد المالي والإداري و الصراع بين مصر والدول المحيطة وحتى استخدام مصطلح "الشرق الأوسط" فهو "استعمال غير دقيق علميًا". الدراسات الأكاديمية (راجع Van de Mieroop, A History of the Ancient Near East, 2016) تعتمد مصطلح "الشرق الأدنى القديم"، إذ أن مفهوم "الشرق الأوسط" له دلالات حديثة (ما بعد الاستعمار). وكلها تصورات حديثة تسقط على ما يعتقد أنه يحدث في مصر المعاصرة.
ـ كذلك الحديث عن "الملك المصري" واستخدام مصطلح" الفرعون" رغم عدم صحته تاريخيا، فالفرعون المذكور في الكتب المقدسة كان اسما لملك من ملوك الحيثيين الذين حكموا في مصر في فترة من الفترات، ولا يعتبر لقبا لحكام مصر القدماء، كذلك تصوير " الفرعون " باعتباره رمزًا للهوية المصرية، وكأن هذه الهوية قائمة على فكرة "الفرعونية "وحدها، بينما تُظهر الأبحاث الأنثروبولوجية (راجع Assmann, Cultural Memory and Early Civilization) أن المصريين احتفظوا بهويات ثقافية متعددة، تجاوزت نظام ما أشيع خطأ أنه الحكم "الفرعوني " نفسه.
ـ اعتبار الاحتلال الفارسي "نهاية الهوية"، مغالطة كبرى، فالذاكرة الثقافية بقيت نشطة لفترات طويلة بعد ذلك. بل لن نبالغ إن قلنا أنهم يستخدمون اللغة المصرية القديمة بمفرداتها وحتى ببنيتها الصرفية حتى اليوم، فمن يحلل قاموس اللغة العامية المصرية، وأقول اللغة وليس اللهجة، لأن لها نظام صرفي واشتقاقي يختلف عن اللهجات، فمن يقوم بتحليل هذا القاموس يكتشف أن مئات إن لم نقل آلاف من المفردات يتداولها المصري في الألفية الثالثة وهي تمتد في التاريخ اللغوي إلى المصري القديم، ناهيك عن أنظمة الزراعة وطرائق العيش والتاريخ الاجتماعي للمجتمع المصري يعتبر امتدادا لمصر القديمة.
- في العصر الفارسي، ظهرت نصوص مثل "قصة بيتوباستيس" التي تسخر من المحتل، مما يعكس "التمسك بالهوية"(ذكرها "كيم ريهولت" في Political Literature in Ancient Egypt).
وعلم الأنثروبولوجيا الثقافية يؤكد أن "الهوية الثقافية للمصريين القدماء لم تكن مجرّد بناء فوقي للسلطة الحاكمة" بل كانت:
ـ متجذّرة في الطقوس اليومية، في علاقات الناس مع النيل، في شبكة المعاني الرمزية الكثيفة للغة المصرية (راجع Assmann, Cultural Memory and Early Civilization, 2011).
ـ على مدى آلاف السنين، ظلّت العقيدة المتمحورة حول مفاهيم "ماعت" (العدالة، النظام الكوني)، و"كا" (الروح الحيوية)، تشكّل النواة الثقافية للأمة، حتى في ظلّ الاحتلال الفارسي، ثم اليوناني، ثم الروماني.
وبالتالي، لم تكن نهاية الدولة المصرية القديمة "نهاية هوية المصريين"، بل انتقالها وتحوّلها إلى أشكال مقاومة ثقافية (راجع Quirke, Exploring Religion in Ancient Egypt, 2014).
تبسيط العلاقات الجيوسياسية
إطلاق عبارات مثل "الآشوريون اغتصبوا مصر" فيه إسقاط معاصر على سياق معقد:
ـ الحقبة كانت مشهدًا إقليميًا مركبًا من تحالفات وصراعات (راجع Kuhrt, The Ancient Near East, 1995).
ـ حضور الأسرة 26 بقيادة بسماتيك الأول مثّل عصرًا من الاستقرار والتجديد الوطني.
أما تصوير بسماتيك الثالث بالخيانة، فهو تشويه تاريخي:
ـ المصادر الأثرية، منها نقش كانوب (راجع Lloyd, *A Companion to Ancient Egypt*, 2010)، تؤكد مقاومته للغزو الفارسي.
ـ لم يكن عامة المصريين يتعلمون الهيروغليفية — بل كانت لغة نخبوية تُدرس في بيوت الحياة(المدارس)، فاللغة الهيروغليفية هي نظام كتابة معقد، فيه أكثر من 700 رمز تصويري في المراحل المتأخرة، وتُستخدم لأغراض رسمية، دينية، ونقشية — في المعابد والمقابر والآثار الملكية. ولم يكن عموم الشعب المصري في العصور الفرعونية يتعلم الهيروغليفية. من كان يتعلمها هم:
ـ الكتبة المحترفون (sesh) الذين تلقوا تعليمًا خاصًا في "بيت الحياة" (Per Ankh)، وهي مؤسسات ملحقة بالمعابد أو القصور الملكية، تشبه ما نسميه الآن المدرسة المتخصصة أو المعهد العالي.
ـ بعض النبلاء أو كبار رجال الدولة، ممن يتطلب منصبهم القدرة على قراءة النصوص الرسمية أو الإشراف على الأعمال الكبرى.
ـ الكهنة، لأن كثيرًا من الطقوس والنصوص الدينية كانت تُكتب أو تُنقش بالهيروغليفية.
ـ اللغة المحكية كانت "المصرية العامية" (demotic)، وكتابة الإدارة اليومية كانت تتم إما بالهيراطيقية (شكل مبسط من الهيروغليفية) أو لاحقًا بالدموطيقية.
ـ لا يوجد دليل على "حرق البرديات" ، كسياسة رسمية أو حتى تسميد الأرض بها ممارسة شائعة.
ـ البرديات تلعب دورًا مركزيًا في معرفتنا بتاريخ مصر اليومية — لا تقل أهمية عن الآثار الحجرية.
بل بالعكس — البرديات كانت:
ـ محفوظة في المعابد، ومكتبات القصور الملكية، و"بيوت الحياة".
ـ تُنسخ وتُتداول بين الأجيال.
ـ تُدفن أحيانًا مع الموتى (خاصة في عصر الدولة الحديثة) في إطار عقائد دينية.
لكن يجب التنبه إلى أن "الظروف البيئية" لعبت دورًا في تآكل البرديات: الرطوبة، الحرارة، النمل الأبيض، وأحيانًا الإهمال البشري أو الغزوات العسكرية لاحقًا (خاصة في العصر اليوناني-الروماني أو الإسلامي المبكر).
واكتشافات مثل "برديات ويلبور"، و"برديات تورين"، و"برديات وستكار"، و"برديات أبيسيرابوليس"، كلها دليل على بقاء كمّ هائل من الوثائق عبر العصور.
أهمية البرديات في تاريخ مصر القديم
ـ البرديات هي "مرآة الثقافة اليومية": فيها عقود بيع وشراء، قوانين، رسائل خاصة، شعر، نصوص طبية، تقاويم فلكية.
ـ من دون البرديات، كنا سنفقد نصف المعرفة بحياة المصريين القدماء خارج البلاط والمعابد.
ـ كتاب " الخروج إلى النهار" المعروف خطأ بـ " كتاب الموتى" نفسه نُسخ غالبًا على برديات.
ـ البرديات أثبتت أن مصر القديمة كانت تملك نظامًا بيروقراطيًا وتنظيميًا متطورًا — يكتب القوانين ويوثق العقود.
. ضعف البنية المرجعية
ما يُميّز الإعلام الشعبي هو "غياب الاعتماد على مراجع علمية رصينة".
في حلقة "نهاية الفراعنة":
ـ لا يُذكر أي مرجع واضح من علم المصريات (Egyptology).
ـ تُؤخذ معلومات منتشرة في مواقع غير متخصصة، أو شائعة في الخطاب العام، وتُقدَّم كحقيقة.
النتائج: صناعة وعي زائف
بهذه الآليات مجتمعة، تنتج الحلقة — وما شابهها — وعيًا زائفًا لدى الجمهور:
ـ صورة اختزالية عن مصر القديمة.
ـ إحساس خاطئ بأن المصريين القدماء فقدوا هويتهم عند سقوط الدولة المصرية القديمة، بينما هوية المصريين ظلت تتطور عبر العصور.
ـ تصوّر خاطئ عن الديناميكيات الحضارية بين مصر وجيرانها.
. التمايز الثقافي أمام الغزاة:
- يشير ”إيان شو" في "The Oxford History of Ancient Egypt" إلى أن المصريين رأوا أنفسهم كشعب مميز (مصطلح *رعيت* أي "الشعب")، بينما وصفوا الأجانب بـ"البرابرة" في النصوص (مثل نصوص اللعنات).
- لكنهم أيضًا استوعبوا عناصر أجنبية عند الضرورة، كما في حالة الهكسوس الذين أدخلوا التقنيات العسكرية (العجلة الحربية).
- تؤكد الباحثة" ديودورا سيقيليتا" أن ملوك كوش مثل "بعنخي"(بيي) قدّموا أنفسهم كحماة للثقافة المصرية، وليس كمحتلين، مما يدل على مرونة الهوية المصرية.
كيف نحمي الحقيقة التاريخية؟
السؤال الأساسي اليوم: كيف نحمي الحقيقة التاريخية في زمن الإعلام السريع؟
ـ أولًا: " التأكيد على أهمية منهجية البحث العلمي". التاريخ ليس قصة درامية، بل علم قائم على تحليل الوثائق، اللغات، الآثار.
ـ ثانيًا: "التمييز بين الإعلام الترفيهي والإعلام المعرفي". لا عيب في الترفيه، لكن تقديمه كـ"حقيقة" يضلل الجمهور.
ـ ثالثًا: ضرورة " إشراك الأكاديميين المتخصصين" في إنتاج هذا النوع من المحتوى.
خاتمة
ما حدث في حلقة "نهاية الفراعنة" ليس مجرد هفوة عرضية. إنه تجلٍّ لمشكلة أوسع: كيف يُعاد تشكيل التاريخ في المنصات الرقمية، حين يُصبح هدف السرد هو الإعجاب، لا الحقيقة.
لا تزال الحضارة المصرية القديمة — بجلالها واتساعها — إحدى الركائز المؤسسة لذاكرة الإنسانية. إلا أن تناول هذا التاريخ العظيم، في زمن المنصات الرقمية والمحتوى السريع، بات في أحيان كثيرة أسيرًا للتبسيط أو التشويه ربما المقصود.
الوعي بالتاريخ مسؤولية جماعية. وحين يُختزل تاريخ مصر العظيم إلى سردية شعبوية سطحية، فإن الخسارة لا تطال الأكاديميين وحدهم، بل تطال وعي الأجيال القادمة. فعلم المصريات (Egyptology) ، شأنه شأن أي حقل أكاديمي راسخ، يعتمد على أدوات صارمة من التحليل التاريخي، الأثري، اللغوي، والأنثروبولوجي، ويُفترض احترام هذه المناهج عند مخاطبة الجمهور، لا السقوط في هوة الترفيه المعرفي غير الموثق.
علينا، إذن، أن نطالب بجودة أعلى، ومراجعة أعمق، كلما وُضع هذا الإرث الحضاري في متناول ملايين العقول عبر الإنترنت.
#هويدا_صالح (هاشتاغ)
Howaida_Saleh#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟